البشر وغريزة السفر
لقد وجدت لجواز سفري استعمالات جيدة في الآونة الأخيرة؛ كجعله واقيًا تحت كأس الشراب، أو إقحامه تحت قوائم المائدة لأمنعها من الاهتزاز. أهلًا بكم في جائحة خيبات الأمل! رحلات ملغيّة، أو رحلات لم يخطَّط لها أصلًا خشية أن تُلغى لاحقًا؛ رحلات لمّ شمل العائلة؛ أعوام الدراسة في الخارج؛ إجازات الاسترخاء على الشواطئ.. كلها اختفت جميعًا، وأصبحت في خبر كان. دمّرها فيروس حقير وقائمة طويلة من الدول التي لم تعد ترحّب بحمَلة جواز السفر الأميركي.
ليس من الطبيعي أن نكون مقيمين ومستقرّين على هذا النحو؛ فالسفر من صلب طبيعتنا البشرية. فقد أمضينا معظم المدة التي وُجدنا فيها على الأرض "ونحن نعيش على الصيد وجمع الثمار أثناء الترحال في جماعات صغيرة من الناس ضمّ كلٌّ منها 150 فردًا أو أقل"، هكذا ورد في كتاب "متحضّرون حتى الموت" (Civilized to Death) الذي ألّفه الكاتب "كرستوفر رايان". وكانت حياة البداوة تلك مقصودة؛ فقد جلبت معها فائدة. إذ يقول الكاتب: "ظل الانتقال إلى جماعة أخرى خيارًا متاحًا دائمًا لتحاشي النزاعات الوشيكة أو لمجرّد تغيير المشهد الاجتماعي". أما "روبرت لويس ستيفنسون" فيُعبّر عن الفكرة ببلاغة أكبر قائلًا: "الحركة هي مغامرة البشر العظيمة". ولكن، ماذا لو لم يكن بمقدورنا الحركة؟ ماذا لو لم يكن بمقدورنا الصيد وجمع الثمار؟ ماذا عسى المسافر أن يفعل؟ هناك طرق عديدة للإجابة عن ذلك. لكن "الإحباط" ليس إحداها. فنحن البشر كائنات متأقلمة. إذ إننا نستطيع تحمّل فترات قصيرة من الإقامة الجبرية. نفحةُ من إيهام الذات قد تفيد. نقول لأنفسنا نحن لسنا معاقبين بالحبس في بيوتنا؛ بل نحن ببساطة ننتظر بين رحلتين، كحال مندوب مبيعات ينتظر بين فرصة عمل وأخرى. ونُمضي سحابة يومنا متصفّحين دوريّات سفر ومنشورات قديمة على تطبيق "إنستغرام". ونحدّق في التذكارات. كل ذلك يخفف وطأة الإقامة الجبرية.. إلى حين.
صناعة السفر تعاني؛ وكذلك يفعل المسافرون. تقول "جويل ديدريش"، وهي صحافية تتخذ من باريس مقرًّا لها، بعد أن اضطرت لإلغاء خمس رحلات خلال ربيع عام 2020 وحده: "لقد تفكّرت طويلًا في خيبات أملي حتى أصبح جسمي يتوجّع منها". لدي صديق بـوذي يــدعى "جيمز هوبكينز" ويعيش في كاتماندو، عاصمة نيبــال. أرأيــت شخــصًا كهذا؟ ألا تظنّ أنه سيكون على خير ما يرام خلال فترة الإغلاق العام، فالمكان يمثل له نوعًا من معتكف إجباري للتأمل؟ لقد كان كذلك حقًا؛ ولكن لبعض الوقت فقط.
الأمل يمكن في طبيعة السفر نفسها. فالسفر يستلزم التفكير الحالم. إنه يتطلب وثبة إيمان، ووثبة خيال، كي يركب المرء في طائرة إلى بلاد بعيدة.
إذ إن جيمـز بـدا لي منهـكًا وواهـن العزيمـة خـلال اتصـال مـرئي أجريناه أخيرًا عبر تطبيق "سكايب". وقد اعترف لي أن صبره قد أخذ ينفد، وأنه مشتاق "إلى برنامج السفر إلى 10 دول في العام الواحد" الذي لطالما اعتاده في السابق. وأخبرني أن شيئًا لم ينفع معه؛ إذ قال: "بصرف النظر عن عدد الشمعات التي أشعلت أو عن كمية البخور التي أحرقت، ومع أنني أعيش في أحد أقدس الأماكن في منطقة جنوب آسيا، فإن ذلك لم يغيّر ما دأبت عليه". عندما أنهينا المكالمة، شعرت بالارتياح؛ إذ تبيّن لي أني محقّ في تأفّفي. فالمشكلة ليست فيّ أنا شخصيًا؛ بل هي في الجائحة. لكن ذلك أقلقني كذلك. فإنْ كانت الجائحة قد جعلت بوذيًا يعيش في كاتماندو يفقد صوابه، فكيف حالنا نحن المثبّتين في أماكننا؟ أظن أن الأمل يكمن في طبيعة السفر نفسها. فالسفر يستلزم التفكير الحالم. إنه يتطلب وثبة إيمان، ووثبة خيال، كي يركب المرء في طائرة إلى بلاد بعيدة، راجيًا أن ينعم بشيء يفوق الوصف. والسفر من النشاطات القليلة التي ننخرط فيها من غير أن نعرف نتيجتها سلفًا والتي نستمتع بعنصر المجهول فيها. فلا شيء يَسهُل نسيانه أكثر من رحلة تجري تفاصيلها تمامًا كما خُطِّط لها.
السفر ليس نشاطًا عقلانيًا. إذ من غير المنطقي أن يُقحم المرء نفسه في شيء ضيّق يسمّيه بعض شركات الطيران "مقعدًا" لا لشيء سوى أن يُرمى بسرعة مرعبة إلى بلد بعيد لا يستطيع التحدث بلغة أهله ولا يعرف عاداته. وكل ذلك بمصروف كبير. ولو أننا توقفنا لنجري تحليلًا لمعرفة الكلفة مقابل الفائدة، لما ذهبنا إلى أي وجهة. ومع ذلك، فإننا نسافر. وهذا أحد الأسباب التي تدفعني إلى التفاؤل بشأن مستقبل السفر. بل أزعم أن السفر صناعة ضرورية، ونشاط ضروري؛ قد لا يكون بقدر ضرورة المستشفيات ومتاجر البقالة. لكنه ضروري بقدر ضرورة الكتب والعناق. فهو غذاء للروح. ونحن حاليًا ننتظر بين وجبتين من وجبات غذاء الروح، نتلذذ بذكريات المكان الذي كنا فيه سابقًا، ونتشوّق إلى المكان الذي سنسافر إليه لاحقًا. قد يكون جزيرة زنجبار أو ربما أرض المخيّم التي لطالما رغبت في زيارتها والتي تقع على امتداد الطريق الذي تسكن بجانبه. أما "جيمز أوغلثورب"، وهو مسافر متمرّس، فلا مانع عنده أن يلقي عصا الترحال بعض الوقت ويتأمل "التغيّر البطيء للضوء والغيوم على جبال "بلو ريدج" في ولاية فرجينيا التي يعيش فيها. يقول: "يمكن لذهني أن ينقلني إلى ما تبقى من الطريق حول العالم فما بعد ذلك".
ولا يَكمن التميّز في المكان الذي نزور، بل في ما نُحمّله من مشاعر، وعلى وجه الخصوص في طريقة تفاعلنا معه. فالسفر ليس عن الوجهة ولا عن الرحلة. إنما هو عن العثور على "طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء"، كما وجد الكاتب "هنري ميلر". ولا حاجة لنا إلى السفر بعيدًا لنحظى بمنظور جديد. ولم يكن أحد قد عرف ذلك خيرًا من "هنري ديفيد ثورو"، الذي عاش معظم حياته التي لم تَطُل في مدينة كونكورد بولاية ماساتشوسيتس. وفيها كان يتأمل بحيرة "والدن بوند" من كل منظور يخطر بالبال: من أعلى تلّة، ومن شواطئها، ومن تحت الماء. بل إنه كان أحيانًا ينحني وينظر إليها من خلال ساقيه، متعجبًا لجمال العالم المقلوب. فكتب واصفًا البحيرة: "من المنظور الصحيح، فإن كل عاصفة وكل قطرة فيها هي قوس قزح".
لم يسأم ثورو النظر إلى بحيرته الغالية على قلبه؛ ونحن بدورنا لم يبلغ بنا الضجر والملل مبلغًا يمنعنا من التمتع بجمال العالم الاعتيادي الذي لم يخضع للمعالجة الرقمية التجميلية. فإنْ كان للجائحة من حسنة، فهي أنها أعادت إحياء حبنا لعالمنا الحقيقي. فقد رأينا كيف بدت حياتنا معزولة وجافة على الشاشات الرقمية؛ وهي على كل حال حياة غير مستحبة لدى معظمنا. فالمدرّجات المفتوحة للملاعب الرياضية؛ ودُور الأوركسترا؛ وأزقّة مدننا.. قد اشتقنا إليها جميعًا. لا عجب، فنحن مخلوقات تنجذب إلى الأماكن.. وسنظل كذلك. وكان كثيرون قد تنبّؤوا، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بنهاية السفر الجوي، أو تقلّصه بشدّة على أقل تقدير. لكن الخطوط الجوية تعافت من أزمتها رويدًا رويدًا، وبحلول عام 2017 كانت قد نقلت عددًا قياسيًا من المسافرين بلغ أربعة مليارات راكب إلى وجهاتهم. فبعد أن حُرمنا مؤقتًا من معجزة الطيران، ازددنا تقديرًا لها فأصبحنا اليوم نتحمل الإزعاج المتمثّل في إجراءات المسح الجسدي والتفتيش باليدين عن الأسلحة، لنحظى بشرف نقل أجسامنا إلى مواقع قصيّة حيث نستطيع مجالسة بشر آخرين ومشاركتهم الطعام.
السفر غذاء للروح. ونحن حاليًا ننتظر بين وجبتين من وجبات غذاء الروح؛ نتلذذ بذكريات المكان الذي كنا فيه سابقًا، ونتشوّق إلى المكان الذي سنسافر إليه لاحقًا.
وعندما نستعجل العودة إلى العالم، علينا أن نكون واعين بتأثير السياحة الجماعية على كوكبنا. فالآن وقت تبنّي القيم الأساسية للسياحة المستدامة وجعلها ترشدكم في رحلاتكم المستقبلية. أُخرجوا عن المسارات المتّبعة؛ وامكثوا مدة أطول في الوجهات التي تسافرون إليها؛ وسافروا في غير مواسم السياحة؛ ومدّوا أواصر التواصل مع المجتمعات المحلية التي تزورونها وأنفقوا أموالكم بطرق تدعم سكانها. وتذكروا أن المغزى من السفر إلى أماكن أخرى هو تقبّل الاختلافات التي تجعل العالم غنيًا بالألوان نابضًا بالحياة. تقول "بولين فرومر"، وهي خبيرة سفر ومقدمة برنامج إذاعي: "إن إحدى الفوائد الكبيرة للسفر هي الاجتماع بأناس جدد والاطلاع على وجهات نظر مختلفة". إذن، هيّا خطّطوا لرحلتكم التالية؛ فذلك مفيد لكم، كما يقول باحثون من أمثال "ماثيو كيلينغزورث"، وهو زميل رفيع المستوى لدى "كلية وارتون لإدارة الأعمال" في "جامعة بنسلفانيا". إذ قال في العام الماضي: "يمكن لشوقنا إلى المستقبل أن يكون مصدر سعادة لنا إنْ علمنا بمجيء أشياء جيدة، والسفر على وجه الخصوص شيءٌ يسرّنا التطلّعُ إليه دومًا". وتكاد متعة التخطيط لرحلة ما تقارب متعة تنفيذها. فالشوق في حد ذاته مكافأةٌ. وقد رأيت بأم عيني القشعريرة التي يولّدها الشوق إلى السفر. فزوجتي، التي ليست عادةً من محبّي النظر إلى صور الأسفار، أصبحت تمضي ساعات بأسرها وهي تتأمل الصور المعروضة على "إنستغرام" لمنتجعات في جبال الألب أو لحقول أرز في جزيرة بالي الإندونيسية. سألتها ذات مرة: "ما الذي يجري؟" أجابتني بالقول: "إنها فاتنة للغاية.. إنها تجعلي أتذكر أن هناك عالم كبير جميل بانتظارنا".
كثير من الناس -ولا أستثني نفسي من هؤلاء- كان فيما مضى قد عدّ السفر من المسلّمات. فغدونا كسالى وأصابنا الغرور إذ رأينا في السفر شيئًا مستحقًا.. علمًا أن الكسل والغرور لم يأتيا بخيرٍ يومًا. وقد أخبرني "توم سويك"، وهو كاتب متخصصّ في موضوعات السفر، أنه كان فيما مضى يعدّ السفر من المسلّمات. أما اليوم فيقول: "أتطلّع إلى التمتّع به بوصفه نعمة".
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
البشر وغريزة السفر
لقد وجدت لجواز سفري استعمالات جيدة في الآونة الأخيرة؛ كجعله واقيًا تحت كأس الشراب، أو إقحامه تحت قوائم المائدة لأمنعها من الاهتزاز. أهلًا بكم في جائحة خيبات الأمل! رحلات ملغيّة، أو رحلات لم يخطَّط لها أصلًا خشية أن تُلغى لاحقًا؛ رحلات لمّ شمل العائلة؛ أعوام الدراسة في الخارج؛ إجازات الاسترخاء على الشواطئ.. كلها اختفت جميعًا، وأصبحت في خبر كان. دمّرها فيروس حقير وقائمة طويلة من الدول التي لم تعد ترحّب بحمَلة جواز السفر الأميركي.
ليس من الطبيعي أن نكون مقيمين ومستقرّين على هذا النحو؛ فالسفر من صلب طبيعتنا البشرية. فقد أمضينا معظم المدة التي وُجدنا فيها على الأرض "ونحن نعيش على الصيد وجمع الثمار أثناء الترحال في جماعات صغيرة من الناس ضمّ كلٌّ منها 150 فردًا أو أقل"، هكذا ورد في كتاب "متحضّرون حتى الموت" (Civilized to Death) الذي ألّفه الكاتب "كرستوفر رايان". وكانت حياة البداوة تلك مقصودة؛ فقد جلبت معها فائدة. إذ يقول الكاتب: "ظل الانتقال إلى جماعة أخرى خيارًا متاحًا دائمًا لتحاشي النزاعات الوشيكة أو لمجرّد تغيير المشهد الاجتماعي". أما "روبرت لويس ستيفنسون" فيُعبّر عن الفكرة ببلاغة أكبر قائلًا: "الحركة هي مغامرة البشر العظيمة". ولكن، ماذا لو لم يكن بمقدورنا الحركة؟ ماذا لو لم يكن بمقدورنا الصيد وجمع الثمار؟ ماذا عسى المسافر أن يفعل؟ هناك طرق عديدة للإجابة عن ذلك. لكن "الإحباط" ليس إحداها. فنحن البشر كائنات متأقلمة. إذ إننا نستطيع تحمّل فترات قصيرة من الإقامة الجبرية. نفحةُ من إيهام الذات قد تفيد. نقول لأنفسنا نحن لسنا معاقبين بالحبس في بيوتنا؛ بل نحن ببساطة ننتظر بين رحلتين، كحال مندوب مبيعات ينتظر بين فرصة عمل وأخرى. ونُمضي سحابة يومنا متصفّحين دوريّات سفر ومنشورات قديمة على تطبيق "إنستغرام". ونحدّق في التذكارات. كل ذلك يخفف وطأة الإقامة الجبرية.. إلى حين.
صناعة السفر تعاني؛ وكذلك يفعل المسافرون. تقول "جويل ديدريش"، وهي صحافية تتخذ من باريس مقرًّا لها، بعد أن اضطرت لإلغاء خمس رحلات خلال ربيع عام 2020 وحده: "لقد تفكّرت طويلًا في خيبات أملي حتى أصبح جسمي يتوجّع منها". لدي صديق بـوذي يــدعى "جيمز هوبكينز" ويعيش في كاتماندو، عاصمة نيبــال. أرأيــت شخــصًا كهذا؟ ألا تظنّ أنه سيكون على خير ما يرام خلال فترة الإغلاق العام، فالمكان يمثل له نوعًا من معتكف إجباري للتأمل؟ لقد كان كذلك حقًا؛ ولكن لبعض الوقت فقط.
الأمل يمكن في طبيعة السفر نفسها. فالسفر يستلزم التفكير الحالم. إنه يتطلب وثبة إيمان، ووثبة خيال، كي يركب المرء في طائرة إلى بلاد بعيدة.
إذ إن جيمـز بـدا لي منهـكًا وواهـن العزيمـة خـلال اتصـال مـرئي أجريناه أخيرًا عبر تطبيق "سكايب". وقد اعترف لي أن صبره قد أخذ ينفد، وأنه مشتاق "إلى برنامج السفر إلى 10 دول في العام الواحد" الذي لطالما اعتاده في السابق. وأخبرني أن شيئًا لم ينفع معه؛ إذ قال: "بصرف النظر عن عدد الشمعات التي أشعلت أو عن كمية البخور التي أحرقت، ومع أنني أعيش في أحد أقدس الأماكن في منطقة جنوب آسيا، فإن ذلك لم يغيّر ما دأبت عليه". عندما أنهينا المكالمة، شعرت بالارتياح؛ إذ تبيّن لي أني محقّ في تأفّفي. فالمشكلة ليست فيّ أنا شخصيًا؛ بل هي في الجائحة. لكن ذلك أقلقني كذلك. فإنْ كانت الجائحة قد جعلت بوذيًا يعيش في كاتماندو يفقد صوابه، فكيف حالنا نحن المثبّتين في أماكننا؟ أظن أن الأمل يكمن في طبيعة السفر نفسها. فالسفر يستلزم التفكير الحالم. إنه يتطلب وثبة إيمان، ووثبة خيال، كي يركب المرء في طائرة إلى بلاد بعيدة، راجيًا أن ينعم بشيء يفوق الوصف. والسفر من النشاطات القليلة التي ننخرط فيها من غير أن نعرف نتيجتها سلفًا والتي نستمتع بعنصر المجهول فيها. فلا شيء يَسهُل نسيانه أكثر من رحلة تجري تفاصيلها تمامًا كما خُطِّط لها.
السفر ليس نشاطًا عقلانيًا. إذ من غير المنطقي أن يُقحم المرء نفسه في شيء ضيّق يسمّيه بعض شركات الطيران "مقعدًا" لا لشيء سوى أن يُرمى بسرعة مرعبة إلى بلد بعيد لا يستطيع التحدث بلغة أهله ولا يعرف عاداته. وكل ذلك بمصروف كبير. ولو أننا توقفنا لنجري تحليلًا لمعرفة الكلفة مقابل الفائدة، لما ذهبنا إلى أي وجهة. ومع ذلك، فإننا نسافر. وهذا أحد الأسباب التي تدفعني إلى التفاؤل بشأن مستقبل السفر. بل أزعم أن السفر صناعة ضرورية، ونشاط ضروري؛ قد لا يكون بقدر ضرورة المستشفيات ومتاجر البقالة. لكنه ضروري بقدر ضرورة الكتب والعناق. فهو غذاء للروح. ونحن حاليًا ننتظر بين وجبتين من وجبات غذاء الروح، نتلذذ بذكريات المكان الذي كنا فيه سابقًا، ونتشوّق إلى المكان الذي سنسافر إليه لاحقًا. قد يكون جزيرة زنجبار أو ربما أرض المخيّم التي لطالما رغبت في زيارتها والتي تقع على امتداد الطريق الذي تسكن بجانبه. أما "جيمز أوغلثورب"، وهو مسافر متمرّس، فلا مانع عنده أن يلقي عصا الترحال بعض الوقت ويتأمل "التغيّر البطيء للضوء والغيوم على جبال "بلو ريدج" في ولاية فرجينيا التي يعيش فيها. يقول: "يمكن لذهني أن ينقلني إلى ما تبقى من الطريق حول العالم فما بعد ذلك".
ولا يَكمن التميّز في المكان الذي نزور، بل في ما نُحمّله من مشاعر، وعلى وجه الخصوص في طريقة تفاعلنا معه. فالسفر ليس عن الوجهة ولا عن الرحلة. إنما هو عن العثور على "طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء"، كما وجد الكاتب "هنري ميلر". ولا حاجة لنا إلى السفر بعيدًا لنحظى بمنظور جديد. ولم يكن أحد قد عرف ذلك خيرًا من "هنري ديفيد ثورو"، الذي عاش معظم حياته التي لم تَطُل في مدينة كونكورد بولاية ماساتشوسيتس. وفيها كان يتأمل بحيرة "والدن بوند" من كل منظور يخطر بالبال: من أعلى تلّة، ومن شواطئها، ومن تحت الماء. بل إنه كان أحيانًا ينحني وينظر إليها من خلال ساقيه، متعجبًا لجمال العالم المقلوب. فكتب واصفًا البحيرة: "من المنظور الصحيح، فإن كل عاصفة وكل قطرة فيها هي قوس قزح".
لم يسأم ثورو النظر إلى بحيرته الغالية على قلبه؛ ونحن بدورنا لم يبلغ بنا الضجر والملل مبلغًا يمنعنا من التمتع بجمال العالم الاعتيادي الذي لم يخضع للمعالجة الرقمية التجميلية. فإنْ كان للجائحة من حسنة، فهي أنها أعادت إحياء حبنا لعالمنا الحقيقي. فقد رأينا كيف بدت حياتنا معزولة وجافة على الشاشات الرقمية؛ وهي على كل حال حياة غير مستحبة لدى معظمنا. فالمدرّجات المفتوحة للملاعب الرياضية؛ ودُور الأوركسترا؛ وأزقّة مدننا.. قد اشتقنا إليها جميعًا. لا عجب، فنحن مخلوقات تنجذب إلى الأماكن.. وسنظل كذلك. وكان كثيرون قد تنبّؤوا، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بنهاية السفر الجوي، أو تقلّصه بشدّة على أقل تقدير. لكن الخطوط الجوية تعافت من أزمتها رويدًا رويدًا، وبحلول عام 2017 كانت قد نقلت عددًا قياسيًا من المسافرين بلغ أربعة مليارات راكب إلى وجهاتهم. فبعد أن حُرمنا مؤقتًا من معجزة الطيران، ازددنا تقديرًا لها فأصبحنا اليوم نتحمل الإزعاج المتمثّل في إجراءات المسح الجسدي والتفتيش باليدين عن الأسلحة، لنحظى بشرف نقل أجسامنا إلى مواقع قصيّة حيث نستطيع مجالسة بشر آخرين ومشاركتهم الطعام.
السفر غذاء للروح. ونحن حاليًا ننتظر بين وجبتين من وجبات غذاء الروح؛ نتلذذ بذكريات المكان الذي كنا فيه سابقًا، ونتشوّق إلى المكان الذي سنسافر إليه لاحقًا.
وعندما نستعجل العودة إلى العالم، علينا أن نكون واعين بتأثير السياحة الجماعية على كوكبنا. فالآن وقت تبنّي القيم الأساسية للسياحة المستدامة وجعلها ترشدكم في رحلاتكم المستقبلية. أُخرجوا عن المسارات المتّبعة؛ وامكثوا مدة أطول في الوجهات التي تسافرون إليها؛ وسافروا في غير مواسم السياحة؛ ومدّوا أواصر التواصل مع المجتمعات المحلية التي تزورونها وأنفقوا أموالكم بطرق تدعم سكانها. وتذكروا أن المغزى من السفر إلى أماكن أخرى هو تقبّل الاختلافات التي تجعل العالم غنيًا بالألوان نابضًا بالحياة. تقول "بولين فرومر"، وهي خبيرة سفر ومقدمة برنامج إذاعي: "إن إحدى الفوائد الكبيرة للسفر هي الاجتماع بأناس جدد والاطلاع على وجهات نظر مختلفة". إذن، هيّا خطّطوا لرحلتكم التالية؛ فذلك مفيد لكم، كما يقول باحثون من أمثال "ماثيو كيلينغزورث"، وهو زميل رفيع المستوى لدى "كلية وارتون لإدارة الأعمال" في "جامعة بنسلفانيا". إذ قال في العام الماضي: "يمكن لشوقنا إلى المستقبل أن يكون مصدر سعادة لنا إنْ علمنا بمجيء أشياء جيدة، والسفر على وجه الخصوص شيءٌ يسرّنا التطلّعُ إليه دومًا". وتكاد متعة التخطيط لرحلة ما تقارب متعة تنفيذها. فالشوق في حد ذاته مكافأةٌ. وقد رأيت بأم عيني القشعريرة التي يولّدها الشوق إلى السفر. فزوجتي، التي ليست عادةً من محبّي النظر إلى صور الأسفار، أصبحت تمضي ساعات بأسرها وهي تتأمل الصور المعروضة على "إنستغرام" لمنتجعات في جبال الألب أو لحقول أرز في جزيرة بالي الإندونيسية. سألتها ذات مرة: "ما الذي يجري؟" أجابتني بالقول: "إنها فاتنة للغاية.. إنها تجعلي أتذكر أن هناك عالم كبير جميل بانتظارنا".
كثير من الناس -ولا أستثني نفسي من هؤلاء- كان فيما مضى قد عدّ السفر من المسلّمات. فغدونا كسالى وأصابنا الغرور إذ رأينا في السفر شيئًا مستحقًا.. علمًا أن الكسل والغرور لم يأتيا بخيرٍ يومًا. وقد أخبرني "توم سويك"، وهو كاتب متخصصّ في موضوعات السفر، أنه كان فيما مضى يعدّ السفر من المسلّمات. أما اليوم فيقول: "أتطلّع إلى التمتّع به بوصفه نعمة".