وحيد مع الذئاب
خيّمَت أنوار الصبيحة الزرقاء على صقع من القطب الشمالي، حيث طفقت سبعة ذئاب تتزحلق فوق بركة مياه متجمدة وهي تطارد قطعة جليدية بحجـم قرص الهـوكي. وقد ملأ عواؤها وصرير أقدامها فضاء المكان. كانت البركة البرّاقة في تلك الساعة أشبه بمرآة للكون. فيما بدت الذئاب المغمورة بالسعادة وكأنها تنتمي إلى عالم آخر غير عالمنا. انطلقت أربعة جِراء بسرعة لتلاحق قطعة الجليد تلك ذهابا وإيابا عبر أرجاء البركة، فيما طاردتها ثلاثة ذئاب تكبرها سنا، حتى طرحت أجسامها الصغيرة على العشب المتجمد قرب شط البركة. "خرقاء".. هكذا كتبتُ حينَها في دفتر ملاحظاتي بحروف تكاد تكون غير مقروءة بسبب ارتعاش أناملي من البرد القارس.
كان أكبر تلك الذئاب حجمًا، وهو ذكر عمره عام واحد، يتنمر على البقية بوزنه البالغ 30 كيلوجراما أو نحو ذلك؛ أما أصغرها حجمًا فكانت أنثى مولودة في العام نفسه، بحجم يماثل حجم وسادة صغيرة، وعينين محفوفتين بالسواد. حلّق في السماء زوج من الغربان، ولم يكن ثمة صوت آخر يُسمع في سهوب التُندرا سوى نعيقهما وأصوات الذئاب ونقر مخالبها الحادة على الجليد. في نهاية المطاف، انزلق قرص الجليد واستقر فوق العشب، فلحق به كبير الجراء وحوّله إلى أشلاء صغيرة. وقفَت بقية الجراء تراقب المشهد برؤوس محنية على جانب واحد، كما لو أنها فوجئت بجرأة الجرو الأكبر. بعدها بدأت أنظار الذئاب، واحدا تلو الآخر، تتحول نحوي أنا. إنه إحساس يَجلُّ عن الوصف: أن يكون المرء في مرمى النظرات المُركّزة لقطيع حيوانات مفترسة؛ نظر يطول بما يكفي ليجعل المرء يستمع إلى عشرات من دقات قلبه وهي تهز كيانه. في العادة، لا يكون البشر هدفا مباشرا لمثل هذه النظرات التقييمية، لكن جسمي بدا على دراية فطرية بما يمكن أن يَصدر من هذا الحيوان المفترس؛ لذا وجدتُني أرتجف مرة أخرى.. ليس بردًا. فعلى الرغم من أن هذه الذئاب كانت قبل بضع دقائق كائنات مرحة، إلا أنها تبقى مخلوقات وحشية؛ إذ كانت فراؤها البيضاء لا تزال ملطخة بأثر الدماء. والجيفة التي تغذت عليها، وهي لثور مسك يكبرني حجما عدة مرات، كانت ملقاة في الجوار وقد نتأت منها عظام القفص الصدري مثل مروحة مفتوحة باتجاه السماء.
راقبتـني الذئــاب بصمت، رغم تواصلها مع بعضها بعضا بحركات من آذانها وذيولها. كانت بصدد اتخاذ قراراتٍ ما. بعدها بلحظات قررَت الاقتراب. ما من مكان آخر على الأرض يمكن أن يحدث فيه مشهد كهذا. لهذا السبب سافرتُ إلى جزيرة "إليسمير" في الجزء الكندي من القطب الشمالي، للانضمام إلى طاقم تصوير فيلم وثائقي. إنها منطقة نائية جدا وباردة للغاية شتاءً؛ ما يجعلها عصيَّة على زيارة البشر إلا فيما ندر. على ساحل الجزيرة الغربي، تقع محطة طقس تدعى "يوريكا"، يديرها على مدار العام فريقٌ يتكون من زهاء ثمانية أفراد. وما عدا هؤلاء، فإن أقرب مجتمع بشري إلى هنا (يبلغ تعداده 129 شخصا) يقطن قرية "غرايز فيورد" الواقعة على بعد 400 كيلومتر إلى الجنوب. وراء هذه القرية بنحو 1600 كيلومتر، ينتصب أقرب نبات يمكن للمرء أن يسميه شجرة.
ما تعنيه هذه العزلة، هو أن ذئاب هذا الجزء من إليسمير (وهي من نسل الذئب الرمادي "Canis lupus" الذي يعيش في جبال روكي الشمالية، ومعظم مناطق كندا، وفي جميع أنحاء أوروبا وآسيا بمجموعات صغيرة متناثرة) لم تتعرض يوما للصيد، أو لمخاطر التنمية العمرانية، أو التسميم، أو مصائد المزارعين. كما أن السيارات لا تسحقها على الطرق، وليس ثمة تشريعات متقلبة تحميها في هذا العام ثم تجعلها عرضة للخطر في العام التالي. وكذلك لم تَدرسها سوى فئة قليلة من العلماء. وحتى لدى شعب "إنويت" الذي أعرف -وقد سكن أسلافه المنطقة منذ آلاف السنين- تتمتع هذه الذئاب بوضع خاص. هذا لا يعني أن ذئاب إليسمير لا تصادف البشر على الإطلاق. فابتداءً من عام 1986، أمضى عالم الأحياء الأسطوري "إل. ديفيد ميك" 25 صيفا في مراقبة الذئاب هنا. كما يشاهدها العاملون في محطة الطقس، أحيانًا بمجموعات كبيرة تتجول في الأراضي المحيطة بالمحطة. وقد عاشر أصدقائي من طاقم تصوير الفيلم، في وقت سابق، القطيع الذي تعرفتُ إليه منذ بضعة أسابيع، وتتبَّعوا سكناته وحركاته التي لا يقر لها قرار، مستخدمينَ دراجات نارية رباعية الدفع.
هل جعلها هذا الاتصال البشري بطريقة أو بأخرى أقل وحشية؟ وهل تُقاس وحشية حيوان ما بالمسافة التي يحتفظ بها لنفسه بعيدا عن البشر؟ إن ما يفصل ذئاب إليسمير عن أقاربها التي تعيش في مناطق أقل وحشية إلى الجنوب، مثل ولايتَي "إيداهو" و"مونتانا" الأميركيتين، أكثر بكثير من المسافة. فهنا في إليسمير، لم تُدفع الذئاب قَط إلى حافة الانقراض على يد البشر. وهي ههنا تعيش أبعد ما يكون عن ظل بني البشر، وهي بالضرورة ليست خائفة من هذا الظل أو منا. وعند زيارتها هنا، علينا أن نتخلى عن هيمنتنا وأن نخضع لعالمها.
وحيد مع الذئاب
خيّمَت أنوار الصبيحة الزرقاء على صقع من القطب الشمالي، حيث طفقت سبعة ذئاب تتزحلق فوق بركة مياه متجمدة وهي تطارد قطعة جليدية بحجـم قرص الهـوكي. وقد ملأ عواؤها وصرير أقدامها فضاء المكان. كانت البركة البرّاقة في تلك الساعة أشبه بمرآة للكون. فيما بدت الذئاب المغمورة بالسعادة وكأنها تنتمي إلى عالم آخر غير عالمنا. انطلقت أربعة جِراء بسرعة لتلاحق قطعة الجليد تلك ذهابا وإيابا عبر أرجاء البركة، فيما طاردتها ثلاثة ذئاب تكبرها سنا، حتى طرحت أجسامها الصغيرة على العشب المتجمد قرب شط البركة. "خرقاء".. هكذا كتبتُ حينَها في دفتر ملاحظاتي بحروف تكاد تكون غير مقروءة بسبب ارتعاش أناملي من البرد القارس.
كان أكبر تلك الذئاب حجمًا، وهو ذكر عمره عام واحد، يتنمر على البقية بوزنه البالغ 30 كيلوجراما أو نحو ذلك؛ أما أصغرها حجمًا فكانت أنثى مولودة في العام نفسه، بحجم يماثل حجم وسادة صغيرة، وعينين محفوفتين بالسواد. حلّق في السماء زوج من الغربان، ولم يكن ثمة صوت آخر يُسمع في سهوب التُندرا سوى نعيقهما وأصوات الذئاب ونقر مخالبها الحادة على الجليد. في نهاية المطاف، انزلق قرص الجليد واستقر فوق العشب، فلحق به كبير الجراء وحوّله إلى أشلاء صغيرة. وقفَت بقية الجراء تراقب المشهد برؤوس محنية على جانب واحد، كما لو أنها فوجئت بجرأة الجرو الأكبر. بعدها بدأت أنظار الذئاب، واحدا تلو الآخر، تتحول نحوي أنا. إنه إحساس يَجلُّ عن الوصف: أن يكون المرء في مرمى النظرات المُركّزة لقطيع حيوانات مفترسة؛ نظر يطول بما يكفي ليجعل المرء يستمع إلى عشرات من دقات قلبه وهي تهز كيانه. في العادة، لا يكون البشر هدفا مباشرا لمثل هذه النظرات التقييمية، لكن جسمي بدا على دراية فطرية بما يمكن أن يَصدر من هذا الحيوان المفترس؛ لذا وجدتُني أرتجف مرة أخرى.. ليس بردًا. فعلى الرغم من أن هذه الذئاب كانت قبل بضع دقائق كائنات مرحة، إلا أنها تبقى مخلوقات وحشية؛ إذ كانت فراؤها البيضاء لا تزال ملطخة بأثر الدماء. والجيفة التي تغذت عليها، وهي لثور مسك يكبرني حجما عدة مرات، كانت ملقاة في الجوار وقد نتأت منها عظام القفص الصدري مثل مروحة مفتوحة باتجاه السماء.
راقبتـني الذئــاب بصمت، رغم تواصلها مع بعضها بعضا بحركات من آذانها وذيولها. كانت بصدد اتخاذ قراراتٍ ما. بعدها بلحظات قررَت الاقتراب. ما من مكان آخر على الأرض يمكن أن يحدث فيه مشهد كهذا. لهذا السبب سافرتُ إلى جزيرة "إليسمير" في الجزء الكندي من القطب الشمالي، للانضمام إلى طاقم تصوير فيلم وثائقي. إنها منطقة نائية جدا وباردة للغاية شتاءً؛ ما يجعلها عصيَّة على زيارة البشر إلا فيما ندر. على ساحل الجزيرة الغربي، تقع محطة طقس تدعى "يوريكا"، يديرها على مدار العام فريقٌ يتكون من زهاء ثمانية أفراد. وما عدا هؤلاء، فإن أقرب مجتمع بشري إلى هنا (يبلغ تعداده 129 شخصا) يقطن قرية "غرايز فيورد" الواقعة على بعد 400 كيلومتر إلى الجنوب. وراء هذه القرية بنحو 1600 كيلومتر، ينتصب أقرب نبات يمكن للمرء أن يسميه شجرة.
ما تعنيه هذه العزلة، هو أن ذئاب هذا الجزء من إليسمير (وهي من نسل الذئب الرمادي "Canis lupus" الذي يعيش في جبال روكي الشمالية، ومعظم مناطق كندا، وفي جميع أنحاء أوروبا وآسيا بمجموعات صغيرة متناثرة) لم تتعرض يوما للصيد، أو لمخاطر التنمية العمرانية، أو التسميم، أو مصائد المزارعين. كما أن السيارات لا تسحقها على الطرق، وليس ثمة تشريعات متقلبة تحميها في هذا العام ثم تجعلها عرضة للخطر في العام التالي. وكذلك لم تَدرسها سوى فئة قليلة من العلماء. وحتى لدى شعب "إنويت" الذي أعرف -وقد سكن أسلافه المنطقة منذ آلاف السنين- تتمتع هذه الذئاب بوضع خاص. هذا لا يعني أن ذئاب إليسمير لا تصادف البشر على الإطلاق. فابتداءً من عام 1986، أمضى عالم الأحياء الأسطوري "إل. ديفيد ميك" 25 صيفا في مراقبة الذئاب هنا. كما يشاهدها العاملون في محطة الطقس، أحيانًا بمجموعات كبيرة تتجول في الأراضي المحيطة بالمحطة. وقد عاشر أصدقائي من طاقم تصوير الفيلم، في وقت سابق، القطيع الذي تعرفتُ إليه منذ بضعة أسابيع، وتتبَّعوا سكناته وحركاته التي لا يقر لها قرار، مستخدمينَ دراجات نارية رباعية الدفع.
هل جعلها هذا الاتصال البشري بطريقة أو بأخرى أقل وحشية؟ وهل تُقاس وحشية حيوان ما بالمسافة التي يحتفظ بها لنفسه بعيدا عن البشر؟ إن ما يفصل ذئاب إليسمير عن أقاربها التي تعيش في مناطق أقل وحشية إلى الجنوب، مثل ولايتَي "إيداهو" و"مونتانا" الأميركيتين، أكثر بكثير من المسافة. فهنا في إليسمير، لم تُدفع الذئاب قَط إلى حافة الانقراض على يد البشر. وهي ههنا تعيش أبعد ما يكون عن ظل بني البشر، وهي بالضرورة ليست خائفة من هذا الظل أو منا. وعند زيارتها هنا، علينا أن نتخلى عن هيمنتنا وأن نخضع لعالمها.