عشق السكر (قصة حلاوة لا تخلو من مرارة )
قعر الكأسكان لا بد من إزالة كل هذه الآلات: آلة بيع المشروبات الغازية، وآلة بيع الوجبات الخفيفة، وآلة القلي. ولذا فقد رُفعت كلها وسُحبت عبر الأروقة ثم أُلقيت على حافة الشارع بجانب قمامة...
قعر الكأس
كان لا بد من إزالة كل هذه الآلات: آلة بيع المشروبات الغازية، وآلة بيع الوجبات الخفيفة، وآلة القلي. ولذا فقد رُفعت كلها وسُحبت عبر الأروقة ثم أُلقيت على حافة الشارع بجانب قمامة أخرى خلف مدرسة كوركباتريك الابتدائية، وهي إحدى المدارس الابتدائية القليلة في كلاركسديل بولاية مسيسيبي. كان هذا قبل سبع سنوات عندما أقر المشرفون الإداريون لأول مرة بحدة المشكلة. فمدينة كلاركسديل، وهي إحدى المدن الشهيرة في دلتا المسيسيبي التي أنتجت لنا العصر الزاهي لموسيقى "دلتا بلوز"، بحقولها المزروعة بالقطن على امتداد النهر، وقصورها التي لا تزال تحتفظ ببهائها منذ العهد الفيكتوري، وجدت نفسها في خضم أزمة صحية أميركية كبيرة، إذ سُجلت فيها معدلات عالية من البدانة، ومرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب؛ كلُّ ذلك بسبب تركة السكر، كما يسميها بعض الخبراء. والمعروف أن السكر محصول زراعي جذب أسلاف غالبية سكان كلاركسديل إلى المنطقة وهم يرزحون تحت قيود الرق والعبودية. "كنا نعي بأنه يتعين علينا القيام بشيء ما"، تقول سوزان والتون، ناظرة مدرسة كوركباتريك.
كانت والتون، التي ولدت ونشأت في كلاركسديل، ترافقني داخل المدرسة وتناقش الطرق التي يسعى من خلالها طاقم التدريس إلى مساعدة الطلبة كحثهم على أكل الطعام المخبوز بدل المقلي، والفواكه بدل الحلويات، حيث يتناول أغلبهم وجبتين في اليوم داخل قاعة الأكل. وكانت ترتدي وِزرة تشبه لباس الممرضين أو الجراحين على غرار ما يرتديه كل المدرسين خلال يوم الإثنين لتأكيد التزام المدرسة بالجانب الصحي السليم.
ويتشكل الطلبة من %91 من السود، و%7 من البيض، وثلاثة طلاب من أصول لاتينية (يشكلون نسبة %2 المتبقية). وتوضح والتون الوضع العام قائلة "يأكل هؤلاء الأطفال ما يقدم لهم من أصناف الطعام الأرخص والأشد حلاوة: الكعكات، والقشدة، والحلويات. وقد كان لزاما علينا تغيير كل ذلك، فهذا أمر في صلب العناية بالطلبة".
لنأخذ مثلا حالة نيكولاس سكورلوك الذي كان قد بدأ سنته الأولى في مدرسة أوكهورست الإعدادية. كان نيكولاس، بطول قامته الذي يسمح له بالكاد ركوب لعبة الأفعوانية في مدن الملاهي الكبيرة، يزن 61 كيلوجراما عندما بلغ الحادية عشرة من عمره. تقول والتون "كان هذا الصبي يخاف من حصة الألعاب الرياضية، إذ كان يعاني مشاكل في الجري وفي التنفس... لقد كان يعاني كل شيء".
ثم أضافت والتون ضاحكة وهي تضرب على فخذيها "بطبيعة الحال، لست في وضع يسمح لي بإطلاق أحكام بشأن الآخرين. فأنا امرأة بدينة أيضا".
التقيت نيكولاس في غرفة الأكل حيث كان يجلس بجانب أمه واركيا جونس التي لا يشي مظهرها الجذاب بسنواتها الثمانية والثلاثين. فقد أخبرتني جونس بأنها غيرت عاداتها في الأكل حتى تكون نموذجا يحتذى لابنها نيكولاس، إذ قالت "كنت معتادة على تناول الحلويات الخفيفة طوال النهار لأنني كنت أجلس في مكتب؛ فماذا كان عساي أن أفعل غير ذلك؟ لكنني غيرت عاداتي في الاستهلاك وأصبحت أتناول نبات الكرفس. يقول الناس إنني أقدمت على فعل ذلك إرضاء لصديقي، وأنا أرد عليهم بكوني أريد أن أعيش وأحيا حياة مفعمة بالعافية".
خذ كأسا من الماء، وأضف إليه السكر حتى يطفح، ثم دع السائل يترسب لمدة خمس ساعات. وعند عودتك، سترى بأن بلورات السكر استقرت في قعر الكأس؛ فكذلك مدينة كلاركسديل إذ تشكل قعر المشروب الأميركي، حيث يستقر السكر في أجسام الصبية من أقران نيكولاس سكورلوك، والذي يجسد تركة السكر خير تجسيد. إنها مدينة كبيرة في مقاطعة بها أعلى معدلات البدانة، تنتمي لولاية هي الأكثر بدانة، في بلد هو الأكثر تصنيعا في العالم.
مرزبانيات العرب
في البداية، كان الناس في جزيرة غينيا الجديدة، التي زُرع فيها قصب السكر منذ حوالي 10 آلاف سنة، يلتقطون القصب ويأكلونه في حالته الخام، إذ يمضغون نتفا منه حتى تحس ألسنتهم بمذاقه الحلو. وقد ورد ذكر السكر في الأساطير القديمة لغينيا الجديدة بوصفه نوعا من الإكسير ودواء لكل الآلام وعلاجا لكل الأمزجة والطبائع؛ إذ جاء في إحدى هذه الأساطير أن الرجل الأول عاشر سُويقة قصب السكر فنتج عنه النوع البشري. أما في الاحتفالات الدينية، فقد كان الكهنة يحتسون السائل المُحلى من ثمار جوز الهند، وهو الشراب الذي عُوض في الاحتفالات المقدسة بعلب الكوكاكولا.
وانتقل السكر شيئا فشيئا من جزيرة إلى أخرى، حتى وصل في آخر المطاف إلى القارة الآسيوية حوالي سنة 1000 قبل الميلاد.
وبحلول القرن السادس بعد الميلاد، بدأ السكر يخضع للمعالجة والتحويل إلى مسحوق في الهند وصار يُستخدم دواءً لصداع الرأس وتشنجات المعدة والعجز الجنسي. وطوال سنوات عديدة، ظل تكرير السكر علما خفيا تتوارثه الأجيال من أيادي المتمكنين المهرة إلى المتمرنين. وبحلول عام 600 بعد الميلاد، انتشر هذا الفن/ الصنعة في بلاد فارس حيث كان الحكام يكرمون وفادة ضيوفهم بتشكيلة متنوعة من الحلوى. وعندما فتحت الجيوش العربية هذه المنطقة، حمل الفاتحون معهم المعارف المتعلقة بالسكر فضلا عن الشغف بهذه المادة. فقد انتشر إنتاج السكر كانتشار النار في الهشيم وباتت محاصيل السكر تظهر في كل مكان يُعبد فيه الله. وفي هذا السياق، جاء في كتاب سيدني مينتز "الحلاوة والسلطة" ما يلي: "كان العرب يجلبون معهم منتج السكر وتقنية إنتاجه أينما حلّوا وارتحلوا. فقد أُخبرنا بأن السكر كان يقتفي أثر القرآن".
وأقام الخلفاء المسلمون عروضا فنية عجيبة من السكر. فقد كانت المرزبانية تحظى بالإقبال الشعبي إذ كانت تُصنع من اللوز المطحون والسكر بأشكال متميزة تشي بثراء الدولة. وقد ذكر علي بن عبد الله الغزولي (المتوفى عام 1412 للميلاد) في مؤلف له كيف أن أحد الخلفاء بمصر خلال القرن الحادي عشر أمر بصنع مسجد من السكر بالكامل، ضمن فعاليات احتفالية؛ قبل أن يتصدق به على الفقراء والمساكين ليأكلوه. كما عمل العرب على تحسين تكرير السكر وحولوه إلى صناعة قائمة بذاتها. وقد كان العمل في هذا المجال ينطوي على صعوبات بالغة تبدأ في حرارة الحقول اللافحة، وقطع قصب السكر بالمناجل، والأدخنة المنبعثة من غرف الغلي، والتكسير والسحق في المطاحن. وبحلول عام 1500 ومع تزايد الطلب على مادة السكر، أضحى هذا العمل لا يناسب سوى العمال من ذوي المستوى الاجتماعي المتدني. وكان قسم كبير من عمالة المزارع يتشكل من الأوروبيين الشرقيين الذين وقعوا في الأسر عندما تلاقت جيوش المسلمين والمسيحيين.
وربما كان الجنود الصليبيون البريطانيون والفرنسيون أول الأوروبيين الذين وقعوا في حب السكر عندما يمّموا شطر الشرق لاسترجاع "الأرض المقدسة" من المسلمين. فعادوا إلى بلدانهم وهم يحملون عددا كبيرا من القصص والذكريات حول السكر. وبما أن زراعة قصب السكر لا تحقق إنتاجية كبيرة في المناخ المعتدل لكونها تحتاج إلى الحقول المدارية المشبعة بمياه الأمطار حتى تنمو، فقد استمدت أول تجارة أوروبية قوامها مما تدفق من تعامل تجاري يسير مع المسلمين. ولم يكن يستهلك السكر الذي يصل إلى أوروبا سوى النبلاء إذ كانت تعتبر مادة نادرة حتى عدّها الناس تابلا من التوابل. لكن مع توسع الإمبراطورية العثمانية خلال القرن الخامس عشر، أصبحت التجارة مع الشرق أكثر صعوبة. ولم يكن أمام النخبة الغربية التي أسرها هوى السكر سوى خيارات قليلة: التعامل مع صغار المصنعين في جنوب أوروبا، أو هزم العثمانيين، أو تطوير مصادر جديدة للسكر.
يطلق عليه اسم عصر الاستكشاف، وهو عملية البحث عن الأراضي والجزر التي قادت الأوروبيين إلى العديد من المناطق حول العالم. وفي الواقع، كانت تلك العملية تشبه إلى حد كبير سباقا على الحقول والأراضي التي ستزدهر فيها زراعة قصب السكر. ففي عام 1425، أرسل الأمير البرتغالي المعروف بـ"هنري الملاح" قصب السكر إلى ماديرا مع إحدى أولى مجموعات المستوطنين. وسرعان ما انتقلت هذه المادة إلى جزر أخرى اكتشفت بالقرب من المحيط الأطلسي ومنها جزر الرأس الأخضر وجزر الكناري. وفي عام 1493، عندما اتجه كولومبس خلال رحلته الثانية نحو العالم الجديد، كان يحمل معه قصب السكر. ومن ثم، بزغ فجر عهد جديد تميز بإنتاج السكر على نطاق أوسع، قوامه جزر الكاريبي ومزارع العبيد حيث أفضى كل ذلك مع مرور الوقت إلى بروز معامل التكرير الكبيرة التي تنفث الأدخنة في ضواحي المدن العصرية، وإلى نزعات الاستهلاك المفرط، وإلى ظهور جيل من الآباء والأطفال الذين يعانون من السمنة والبدانة ورجال يلبسون ملابس بمقاسات واسعة ويتجولون في مركبات كهربائية.
عبيد السكر
زرع كريستوف كولومبس أول محصول لقصب السكر في العالم الجديد في جزيرة هيسبانيولا، وهي المكان الذي لم يشهد بمحض الصدفة انطلاق شرارة ثورة العبيد الكبرى (الثورة الهاييتية) بعد بضع مئات من السنين من ذلك. وفي غضون عقود من الزمن، أصبحت المطاحن علامة مميزة لمرتفعات جامايكا وكوبا حيث تم اجتثاث الغابة المطرية وتناقص عدد السكان الأصليين بسبب الأمراض أو الحروب أو العبودية. وقد أنشأ البرتغاليون نموذجا مُحكما لهذا الغرض إذ حولوا البرازيل إلى مستوطنة مزدهرة اقتصاديا بفعل وجود أكثر من 100 ألف من العبيد الذين ينتجون الأطنان من السكر.
ومع تزايد المساحة المزروعة بقصب السكر، انخفضت أسعار هذه المادة وتزايد الطلب عليها؛ ويدعو علماء الاقتصاد هذه العملية بالدائرة الفضلى. (والحال أن من غير المرجح أن يستخدم المرء هذا المصطلح إذا كان في الطرف الخاطئ من المعادلة). ففي أواسط القرن السابع عشر، بدأ السكر يحول موقعه من التوابل الكمالية التي كان يصنف ضمنها إلى جانب جوزة الطيب والهال، إلى مادة أساسية بالنسبة للطبقة الوسطى في مرحلة أولى ثم للفقراء في مرحلة تالية. وبحلول القرن الثامن عشر، أصبح إنتاج السكر مرتبطا ارتباطا وثيقا بالرق. ففي كل بضع سنوات، كانت تستعمر جزيرة جديدة (بورتوريكو، وترينيداد ...) وتُجتث غاباتها وتُملأ بالمزروعات. وعندما يموت السكان الأصليون، كان المزارعون يعمدون إلى وضع العبيد الأفارقة مكانهم. وبعد حصد المحصول وطحنه، كان يكدس داخل مخازن السفن ويشحن إلى لندن وأمستردام وباريس حيث كان يتاجر به مقابل المنتجات المصنعة التي كانت تُنقل بدورها إلى الساحل الغربي لإفريقيا وتُقَدّم مقابل الحصول على المزيد من العبيد. وكان الجانب الدموي في هذه "التجارة الثلاثية" التي كان يموت فيها الملايين من الأفارقة يُعرف باسم الممر الأوسط. فقبل أن تُحظر تجارة الرقيق في بريطانيا في عام 1807، شُحن أكثر من 11 مليون إفريقي باتجاه العالم الجديد حيث كان ينتهي المطاف بأكثر من نصف عددهم إلى حياة الرق في مزارع السكر. ويقول إيريك ويليامس، السياسي والمؤرخ في ترينيداد "لم يولد الرق من رحم العنصرية، بل كانت العنصرية نتيجة مباشرة للرق". فالأفارقة بعبارة أخرى لم يُستعبدوا لأنه كان يُنظر إليهم نظرة دونية، بل كان يُنظر إليهم نظرة دونية لتبرير عملية استعبادهم التي كانت أمرا ضروريا لازدهار تجارة السكر في فترتها الأولى.
كانت باربادوس الجزيرة البريطانية الأولى التي زُرع فيها السكر. كانت هذه الجزيرة مهجورة عند اكتشافها على يد قبطان بريطاني في 14 مايو 1625، ثم انتشرت فيها بوتيرة سريعة مجموعة من المطاحن والمنازل الزراعية والأكواخ. كان التبغ والقطن الزراعتين السائدتين خلال السنوات الأولى من التاريخ الاستعماري لهذه الجزيرة، لكن سرعان ما انتشرت فيها زراعة السكر على نفس المنوال الذي زرعت فيه بجزر الكاريبي حيث لم يمر قرن واحد على ذلك حتى كانت تربة الحقول والمياه الجوفية قد استنزفت. وعند هذه النقطة، غادر المزارعون الأكثر طموحا جزيرة باربادوس بحثا عن استغلال جزر أخرى. وبحلول عام 1720 استلمت جامايكا مشعل زراعة السكر.
كانت الحياة في هذه الجزر تعد جحيما بالنسبة للأفارقة. فقد هلك منهم الملايين في حقول جزر الكاريبي ومعاصرها أو عندما كانوا يحاولون الهرب. ومن ثم أضحى الشعور بالذنب يسود بشكل تدريجي داخل أوروبا من جراء هذه التجارة. فأصبح دعاة الإصلاح يطالبون بمنع الرق، وقاطعت ربات البيوت قصب السكر الذي يزرعه العبيد. فقد أتت إليزابيث أبوت في كتابها "السكر: التاريخ الحلو-المر" على ذكر زعيم جمعية الأصدقاء الدينية أو الكويكرز، ويليام فوكس، الذي قال لجمع من الناس إننا نأكل في كل رطل (حوالي نصف كيلوجرام) من السكر "أونصتين (حوالي 50 جراما) من اللحم البشري". وفي رواية "كانديد" لفولتير، يروي أحد العبيد قصة فقدانه إحدى يديه وإحدى ساقيه إذ يقول "عندما نعمل في مطاحن السكر ويعلق أحد أصابعنا في حجر الرحى، فإنهم يقطعون يدنا؛ وعندما نحاول الهرب، فإنهم يقطعون إحدى ساقينا؛ وقد حدث الأمران لي. هذه هي الكلفة التي نتجشم عناءها حتى تأكلوا السكر في أوروبا". وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتوقف الطفرة التي شهدتها هذه المادة. فقد كان السكر بمنزلة النفط في ذلك الوقت، إذ كلما تذوقت حلاوته، زادت رغبتك في الاستزادة. ففي عام 1700، وصل استهلاك الفرد العادي من السكر في إنجلترا إلى 1.8 كيلوجرام في السنة، ثم ارتفع في عام 1800 إلى 8.2 كيلوجرام. أما في عام 1870، فقد كان حب السكر يدفع بذات الشخص إلى استهلاك 21 كيلوجراما في السنة الواحدة. لكن هل كان ذلك الإنسان قنوعا بتلك الكمية؟ بالطبع لا! فبحلول عام 1900 وصل استهلاك الشخص العادي من السكر إلى 21 كيلوجراما في السنة. وفي غضون هذه الفترة التي لم تتجاوز الثلاثين سنة، انتقل الإنتاج العالمي من قصب السكر والشمندر السكري من 2.5 مليون طن متري في السنة إلى حوالي 12 مليونا. أما اليوم، فإن الأميركي العادي يستهلك 35 كيلوجراما من السكر المضاف في السنة الواحدة أو أكثر من 95 جراما (22 ملعقة شاي) من السكر المضاف في اليوم الواحد.
وإذا ذهب المرء في الوقت الحالي إلى باربادوس، فيمكنه أن يعاين التركة التي خلفها السكر؛ المطاحن المخربة، وشفراتها الخشبية التي تدور بفعل الرياح شاهدة على الزمن الماضي، والقصور المتهاوية، والطرق التي تعلو وتنخفض دون أن يغيب عنها منظر البحر، والفنادق التي تغص بالسياح الذين ملؤوا بطونهم بالمربى والشراب، وتلك المصانع القليلة التي لا يزال قصب السكر يُسحب إلى معاصرها، والسكر الخام الدبق وهو ينساب في قنوات مائلة. وبينما كنت واقفا بالقرب من إحدى المصافي والرجال يتحلقون حولي وهم يلبسون خوذاتهم، لمحت لافتة كتب عليها بخط اليد: أُدعوا الرب أن يمنحهم الحكمة والمنعة والقوة لجمع محاصيلهم.
كان لا بد من إزالة كل هذه الآلات: آلة بيع المشروبات الغازية، وآلة بيع الوجبات الخفيفة، وآلة القلي. ولذا فقد رُفعت كلها وسُحبت عبر الأروقة ثم أُلقيت على حافة الشارع بجانب قمامة أخرى خلف مدرسة كوركباتريك الابتدائية، وهي إحدى المدارس الابتدائية القليلة في كلاركسديل بولاية مسيسيبي. كان هذا قبل سبع سنوات عندما أقر المشرفون الإداريون لأول مرة بحدة المشكلة. فمدينة كلاركسديل، وهي إحدى المدن الشهيرة في دلتا المسيسيبي التي أنتجت لنا العصر الزاهي لموسيقى "دلتا بلوز"، بحقولها المزروعة بالقطن على امتداد النهر، وقصورها التي لا تزال تحتفظ ببهائها منذ العهد الفيكتوري، وجدت نفسها في خضم أزمة صحية أميركية كبيرة، إذ سُجلت فيها معدلات عالية من البدانة، ومرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب؛ كلُّ ذلك بسبب تركة السكر، كما يسميها بعض الخبراء. والمعروف أن السكر محصول زراعي جذب أسلاف غالبية سكان كلاركسديل إلى المنطقة وهم يرزحون تحت قيود الرق والعبودية. "كنا نعي بأنه يتعين علينا القيام بشيء ما"، تقول سوزان والتون، ناظرة مدرسة كوركباتريك.
كانت والتون، التي ولدت ونشأت في كلاركسديل، ترافقني داخل المدرسة وتناقش الطرق التي يسعى من خلالها طاقم التدريس إلى مساعدة الطلبة كحثهم على أكل الطعام المخبوز بدل المقلي، والفواكه بدل الحلويات، حيث يتناول أغلبهم وجبتين في اليوم داخل قاعة الأكل. وكانت ترتدي وِزرة تشبه لباس الممرضين أو الجراحين على غرار ما يرتديه كل المدرسين خلال يوم الإثنين لتأكيد التزام المدرسة بالجانب الصحي السليم.
ويتشكل الطلبة من %91 من السود، و%7 من البيض، وثلاثة طلاب من أصول لاتينية (يشكلون نسبة %2 المتبقية). وتوضح والتون الوضع العام قائلة "يأكل هؤلاء الأطفال ما يقدم لهم من أصناف الطعام الأرخص والأشد حلاوة: الكعكات، والقشدة، والحلويات. وقد كان لزاما علينا تغيير كل ذلك، فهذا أمر في صلب العناية بالطلبة".
لنأخذ مثلا حالة نيكولاس سكورلوك الذي كان قد بدأ سنته الأولى في مدرسة أوكهورست الإعدادية. كان نيكولاس، بطول قامته الذي يسمح له بالكاد ركوب لعبة الأفعوانية في مدن الملاهي الكبيرة، يزن 61 كيلوجراما عندما بلغ الحادية عشرة من عمره. تقول والتون "كان هذا الصبي يخاف من حصة الألعاب الرياضية، إذ كان يعاني مشاكل في الجري وفي التنفس... لقد كان يعاني كل شيء".
ثم أضافت والتون ضاحكة وهي تضرب على فخذيها "بطبيعة الحال، لست في وضع يسمح لي بإطلاق أحكام بشأن الآخرين. فأنا امرأة بدينة أيضا".
التقيت نيكولاس في غرفة الأكل حيث كان يجلس بجانب أمه واركيا جونس التي لا يشي مظهرها الجذاب بسنواتها الثمانية والثلاثين. فقد أخبرتني جونس بأنها غيرت عاداتها في الأكل حتى تكون نموذجا يحتذى لابنها نيكولاس، إذ قالت "كنت معتادة على تناول الحلويات الخفيفة طوال النهار لأنني كنت أجلس في مكتب؛ فماذا كان عساي أن أفعل غير ذلك؟ لكنني غيرت عاداتي في الاستهلاك وأصبحت أتناول نبات الكرفس. يقول الناس إنني أقدمت على فعل ذلك إرضاء لصديقي، وأنا أرد عليهم بكوني أريد أن أعيش وأحيا حياة مفعمة بالعافية".
خذ كأسا من الماء، وأضف إليه السكر حتى يطفح، ثم دع السائل يترسب لمدة خمس ساعات. وعند عودتك، سترى بأن بلورات السكر استقرت في قعر الكأس؛ فكذلك مدينة كلاركسديل إذ تشكل قعر المشروب الأميركي، حيث يستقر السكر في أجسام الصبية من أقران نيكولاس سكورلوك، والذي يجسد تركة السكر خير تجسيد. إنها مدينة كبيرة في مقاطعة بها أعلى معدلات البدانة، تنتمي لولاية هي الأكثر بدانة، في بلد هو الأكثر تصنيعا في العالم.
مرزبانيات العرب
في البداية، كان الناس في جزيرة غينيا الجديدة، التي زُرع فيها قصب السكر منذ حوالي 10 آلاف سنة، يلتقطون القصب ويأكلونه في حالته الخام، إذ يمضغون نتفا منه حتى تحس ألسنتهم بمذاقه الحلو. وقد ورد ذكر السكر في الأساطير القديمة لغينيا الجديدة بوصفه نوعا من الإكسير ودواء لكل الآلام وعلاجا لكل الأمزجة والطبائع؛ إذ جاء في إحدى هذه الأساطير أن الرجل الأول عاشر سُويقة قصب السكر فنتج عنه النوع البشري. أما في الاحتفالات الدينية، فقد كان الكهنة يحتسون السائل المُحلى من ثمار جوز الهند، وهو الشراب الذي عُوض في الاحتفالات المقدسة بعلب الكوكاكولا.
وانتقل السكر شيئا فشيئا من جزيرة إلى أخرى، حتى وصل في آخر المطاف إلى القارة الآسيوية حوالي سنة 1000 قبل الميلاد.
وبحلول القرن السادس بعد الميلاد، بدأ السكر يخضع للمعالجة والتحويل إلى مسحوق في الهند وصار يُستخدم دواءً لصداع الرأس وتشنجات المعدة والعجز الجنسي. وطوال سنوات عديدة، ظل تكرير السكر علما خفيا تتوارثه الأجيال من أيادي المتمكنين المهرة إلى المتمرنين. وبحلول عام 600 بعد الميلاد، انتشر هذا الفن/ الصنعة في بلاد فارس حيث كان الحكام يكرمون وفادة ضيوفهم بتشكيلة متنوعة من الحلوى. وعندما فتحت الجيوش العربية هذه المنطقة، حمل الفاتحون معهم المعارف المتعلقة بالسكر فضلا عن الشغف بهذه المادة. فقد انتشر إنتاج السكر كانتشار النار في الهشيم وباتت محاصيل السكر تظهر في كل مكان يُعبد فيه الله. وفي هذا السياق، جاء في كتاب سيدني مينتز "الحلاوة والسلطة" ما يلي: "كان العرب يجلبون معهم منتج السكر وتقنية إنتاجه أينما حلّوا وارتحلوا. فقد أُخبرنا بأن السكر كان يقتفي أثر القرآن".
وأقام الخلفاء المسلمون عروضا فنية عجيبة من السكر. فقد كانت المرزبانية تحظى بالإقبال الشعبي إذ كانت تُصنع من اللوز المطحون والسكر بأشكال متميزة تشي بثراء الدولة. وقد ذكر علي بن عبد الله الغزولي (المتوفى عام 1412 للميلاد) في مؤلف له كيف أن أحد الخلفاء بمصر خلال القرن الحادي عشر أمر بصنع مسجد من السكر بالكامل، ضمن فعاليات احتفالية؛ قبل أن يتصدق به على الفقراء والمساكين ليأكلوه. كما عمل العرب على تحسين تكرير السكر وحولوه إلى صناعة قائمة بذاتها. وقد كان العمل في هذا المجال ينطوي على صعوبات بالغة تبدأ في حرارة الحقول اللافحة، وقطع قصب السكر بالمناجل، والأدخنة المنبعثة من غرف الغلي، والتكسير والسحق في المطاحن. وبحلول عام 1500 ومع تزايد الطلب على مادة السكر، أضحى هذا العمل لا يناسب سوى العمال من ذوي المستوى الاجتماعي المتدني. وكان قسم كبير من عمالة المزارع يتشكل من الأوروبيين الشرقيين الذين وقعوا في الأسر عندما تلاقت جيوش المسلمين والمسيحيين.
وربما كان الجنود الصليبيون البريطانيون والفرنسيون أول الأوروبيين الذين وقعوا في حب السكر عندما يمّموا شطر الشرق لاسترجاع "الأرض المقدسة" من المسلمين. فعادوا إلى بلدانهم وهم يحملون عددا كبيرا من القصص والذكريات حول السكر. وبما أن زراعة قصب السكر لا تحقق إنتاجية كبيرة في المناخ المعتدل لكونها تحتاج إلى الحقول المدارية المشبعة بمياه الأمطار حتى تنمو، فقد استمدت أول تجارة أوروبية قوامها مما تدفق من تعامل تجاري يسير مع المسلمين. ولم يكن يستهلك السكر الذي يصل إلى أوروبا سوى النبلاء إذ كانت تعتبر مادة نادرة حتى عدّها الناس تابلا من التوابل. لكن مع توسع الإمبراطورية العثمانية خلال القرن الخامس عشر، أصبحت التجارة مع الشرق أكثر صعوبة. ولم يكن أمام النخبة الغربية التي أسرها هوى السكر سوى خيارات قليلة: التعامل مع صغار المصنعين في جنوب أوروبا، أو هزم العثمانيين، أو تطوير مصادر جديدة للسكر.
يطلق عليه اسم عصر الاستكشاف، وهو عملية البحث عن الأراضي والجزر التي قادت الأوروبيين إلى العديد من المناطق حول العالم. وفي الواقع، كانت تلك العملية تشبه إلى حد كبير سباقا على الحقول والأراضي التي ستزدهر فيها زراعة قصب السكر. ففي عام 1425، أرسل الأمير البرتغالي المعروف بـ"هنري الملاح" قصب السكر إلى ماديرا مع إحدى أولى مجموعات المستوطنين. وسرعان ما انتقلت هذه المادة إلى جزر أخرى اكتشفت بالقرب من المحيط الأطلسي ومنها جزر الرأس الأخضر وجزر الكناري. وفي عام 1493، عندما اتجه كولومبس خلال رحلته الثانية نحو العالم الجديد، كان يحمل معه قصب السكر. ومن ثم، بزغ فجر عهد جديد تميز بإنتاج السكر على نطاق أوسع، قوامه جزر الكاريبي ومزارع العبيد حيث أفضى كل ذلك مع مرور الوقت إلى بروز معامل التكرير الكبيرة التي تنفث الأدخنة في ضواحي المدن العصرية، وإلى نزعات الاستهلاك المفرط، وإلى ظهور جيل من الآباء والأطفال الذين يعانون من السمنة والبدانة ورجال يلبسون ملابس بمقاسات واسعة ويتجولون في مركبات كهربائية.
عبيد السكر
زرع كريستوف كولومبس أول محصول لقصب السكر في العالم الجديد في جزيرة هيسبانيولا، وهي المكان الذي لم يشهد بمحض الصدفة انطلاق شرارة ثورة العبيد الكبرى (الثورة الهاييتية) بعد بضع مئات من السنين من ذلك. وفي غضون عقود من الزمن، أصبحت المطاحن علامة مميزة لمرتفعات جامايكا وكوبا حيث تم اجتثاث الغابة المطرية وتناقص عدد السكان الأصليين بسبب الأمراض أو الحروب أو العبودية. وقد أنشأ البرتغاليون نموذجا مُحكما لهذا الغرض إذ حولوا البرازيل إلى مستوطنة مزدهرة اقتصاديا بفعل وجود أكثر من 100 ألف من العبيد الذين ينتجون الأطنان من السكر.
ومع تزايد المساحة المزروعة بقصب السكر، انخفضت أسعار هذه المادة وتزايد الطلب عليها؛ ويدعو علماء الاقتصاد هذه العملية بالدائرة الفضلى. (والحال أن من غير المرجح أن يستخدم المرء هذا المصطلح إذا كان في الطرف الخاطئ من المعادلة). ففي أواسط القرن السابع عشر، بدأ السكر يحول موقعه من التوابل الكمالية التي كان يصنف ضمنها إلى جانب جوزة الطيب والهال، إلى مادة أساسية بالنسبة للطبقة الوسطى في مرحلة أولى ثم للفقراء في مرحلة تالية. وبحلول القرن الثامن عشر، أصبح إنتاج السكر مرتبطا ارتباطا وثيقا بالرق. ففي كل بضع سنوات، كانت تستعمر جزيرة جديدة (بورتوريكو، وترينيداد ...) وتُجتث غاباتها وتُملأ بالمزروعات. وعندما يموت السكان الأصليون، كان المزارعون يعمدون إلى وضع العبيد الأفارقة مكانهم. وبعد حصد المحصول وطحنه، كان يكدس داخل مخازن السفن ويشحن إلى لندن وأمستردام وباريس حيث كان يتاجر به مقابل المنتجات المصنعة التي كانت تُنقل بدورها إلى الساحل الغربي لإفريقيا وتُقَدّم مقابل الحصول على المزيد من العبيد. وكان الجانب الدموي في هذه "التجارة الثلاثية" التي كان يموت فيها الملايين من الأفارقة يُعرف باسم الممر الأوسط. فقبل أن تُحظر تجارة الرقيق في بريطانيا في عام 1807، شُحن أكثر من 11 مليون إفريقي باتجاه العالم الجديد حيث كان ينتهي المطاف بأكثر من نصف عددهم إلى حياة الرق في مزارع السكر. ويقول إيريك ويليامس، السياسي والمؤرخ في ترينيداد "لم يولد الرق من رحم العنصرية، بل كانت العنصرية نتيجة مباشرة للرق". فالأفارقة بعبارة أخرى لم يُستعبدوا لأنه كان يُنظر إليهم نظرة دونية، بل كان يُنظر إليهم نظرة دونية لتبرير عملية استعبادهم التي كانت أمرا ضروريا لازدهار تجارة السكر في فترتها الأولى.
كانت باربادوس الجزيرة البريطانية الأولى التي زُرع فيها السكر. كانت هذه الجزيرة مهجورة عند اكتشافها على يد قبطان بريطاني في 14 مايو 1625، ثم انتشرت فيها بوتيرة سريعة مجموعة من المطاحن والمنازل الزراعية والأكواخ. كان التبغ والقطن الزراعتين السائدتين خلال السنوات الأولى من التاريخ الاستعماري لهذه الجزيرة، لكن سرعان ما انتشرت فيها زراعة السكر على نفس المنوال الذي زرعت فيه بجزر الكاريبي حيث لم يمر قرن واحد على ذلك حتى كانت تربة الحقول والمياه الجوفية قد استنزفت. وعند هذه النقطة، غادر المزارعون الأكثر طموحا جزيرة باربادوس بحثا عن استغلال جزر أخرى. وبحلول عام 1720 استلمت جامايكا مشعل زراعة السكر.
كانت الحياة في هذه الجزر تعد جحيما بالنسبة للأفارقة. فقد هلك منهم الملايين في حقول جزر الكاريبي ومعاصرها أو عندما كانوا يحاولون الهرب. ومن ثم أضحى الشعور بالذنب يسود بشكل تدريجي داخل أوروبا من جراء هذه التجارة. فأصبح دعاة الإصلاح يطالبون بمنع الرق، وقاطعت ربات البيوت قصب السكر الذي يزرعه العبيد. فقد أتت إليزابيث أبوت في كتابها "السكر: التاريخ الحلو-المر" على ذكر زعيم جمعية الأصدقاء الدينية أو الكويكرز، ويليام فوكس، الذي قال لجمع من الناس إننا نأكل في كل رطل (حوالي نصف كيلوجرام) من السكر "أونصتين (حوالي 50 جراما) من اللحم البشري". وفي رواية "كانديد" لفولتير، يروي أحد العبيد قصة فقدانه إحدى يديه وإحدى ساقيه إذ يقول "عندما نعمل في مطاحن السكر ويعلق أحد أصابعنا في حجر الرحى، فإنهم يقطعون يدنا؛ وعندما نحاول الهرب، فإنهم يقطعون إحدى ساقينا؛ وقد حدث الأمران لي. هذه هي الكلفة التي نتجشم عناءها حتى تأكلوا السكر في أوروبا". وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتوقف الطفرة التي شهدتها هذه المادة. فقد كان السكر بمنزلة النفط في ذلك الوقت، إذ كلما تذوقت حلاوته، زادت رغبتك في الاستزادة. ففي عام 1700، وصل استهلاك الفرد العادي من السكر في إنجلترا إلى 1.8 كيلوجرام في السنة، ثم ارتفع في عام 1800 إلى 8.2 كيلوجرام. أما في عام 1870، فقد كان حب السكر يدفع بذات الشخص إلى استهلاك 21 كيلوجراما في السنة الواحدة. لكن هل كان ذلك الإنسان قنوعا بتلك الكمية؟ بالطبع لا! فبحلول عام 1900 وصل استهلاك الشخص العادي من السكر إلى 21 كيلوجراما في السنة. وفي غضون هذه الفترة التي لم تتجاوز الثلاثين سنة، انتقل الإنتاج العالمي من قصب السكر والشمندر السكري من 2.5 مليون طن متري في السنة إلى حوالي 12 مليونا. أما اليوم، فإن الأميركي العادي يستهلك 35 كيلوجراما من السكر المضاف في السنة الواحدة أو أكثر من 95 جراما (22 ملعقة شاي) من السكر المضاف في اليوم الواحد.
وإذا ذهب المرء في الوقت الحالي إلى باربادوس، فيمكنه أن يعاين التركة التي خلفها السكر؛ المطاحن المخربة، وشفراتها الخشبية التي تدور بفعل الرياح شاهدة على الزمن الماضي، والقصور المتهاوية، والطرق التي تعلو وتنخفض دون أن يغيب عنها منظر البحر، والفنادق التي تغص بالسياح الذين ملؤوا بطونهم بالمربى والشراب، وتلك المصانع القليلة التي لا يزال قصب السكر يُسحب إلى معاصرها، والسكر الخام الدبق وهو ينساب في قنوات مائلة. وبينما كنت واقفا بالقرب من إحدى المصافي والرجال يتحلقون حولي وهم يلبسون خوذاتهم، لمحت لافتة كتب عليها بخط اليد: أُدعوا الرب أن يمنحهم الحكمة والمنعة والقوة لجمع محاصيلهم.
عشق السكر (قصة حلاوة لا تخلو من مرارة )
- بقلم:ريتش كوهين عدسة: روبرت كلارك
قعر الكأسكان لا بد من إزالة كل هذه الآلات: آلة بيع المشروبات الغازية، وآلة بيع الوجبات الخفيفة، وآلة القلي. ولذا فقد رُفعت كلها وسُحبت عبر الأروقة ثم أُلقيت على حافة الشارع بجانب قمامة...
قعر الكأس
كان لا بد من إزالة كل هذه الآلات: آلة بيع المشروبات الغازية، وآلة بيع الوجبات الخفيفة، وآلة القلي. ولذا فقد رُفعت كلها وسُحبت عبر الأروقة ثم أُلقيت على حافة الشارع بجانب قمامة أخرى خلف مدرسة كوركباتريك الابتدائية، وهي إحدى المدارس الابتدائية القليلة في كلاركسديل بولاية مسيسيبي. كان هذا قبل سبع سنوات عندما أقر المشرفون الإداريون لأول مرة بحدة المشكلة. فمدينة كلاركسديل، وهي إحدى المدن الشهيرة في دلتا المسيسيبي التي أنتجت لنا العصر الزاهي لموسيقى "دلتا بلوز"، بحقولها المزروعة بالقطن على امتداد النهر، وقصورها التي لا تزال تحتفظ ببهائها منذ العهد الفيكتوري، وجدت نفسها في خضم أزمة صحية أميركية كبيرة، إذ سُجلت فيها معدلات عالية من البدانة، ومرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب؛ كلُّ ذلك بسبب تركة السكر، كما يسميها بعض الخبراء. والمعروف أن السكر محصول زراعي جذب أسلاف غالبية سكان كلاركسديل إلى المنطقة وهم يرزحون تحت قيود الرق والعبودية. "كنا نعي بأنه يتعين علينا القيام بشيء ما"، تقول سوزان والتون، ناظرة مدرسة كوركباتريك.
كانت والتون، التي ولدت ونشأت في كلاركسديل، ترافقني داخل المدرسة وتناقش الطرق التي يسعى من خلالها طاقم التدريس إلى مساعدة الطلبة كحثهم على أكل الطعام المخبوز بدل المقلي، والفواكه بدل الحلويات، حيث يتناول أغلبهم وجبتين في اليوم داخل قاعة الأكل. وكانت ترتدي وِزرة تشبه لباس الممرضين أو الجراحين على غرار ما يرتديه كل المدرسين خلال يوم الإثنين لتأكيد التزام المدرسة بالجانب الصحي السليم.
ويتشكل الطلبة من %91 من السود، و%7 من البيض، وثلاثة طلاب من أصول لاتينية (يشكلون نسبة %2 المتبقية). وتوضح والتون الوضع العام قائلة "يأكل هؤلاء الأطفال ما يقدم لهم من أصناف الطعام الأرخص والأشد حلاوة: الكعكات، والقشدة، والحلويات. وقد كان لزاما علينا تغيير كل ذلك، فهذا أمر في صلب العناية بالطلبة".
لنأخذ مثلا حالة نيكولاس سكورلوك الذي كان قد بدأ سنته الأولى في مدرسة أوكهورست الإعدادية. كان نيكولاس، بطول قامته الذي يسمح له بالكاد ركوب لعبة الأفعوانية في مدن الملاهي الكبيرة، يزن 61 كيلوجراما عندما بلغ الحادية عشرة من عمره. تقول والتون "كان هذا الصبي يخاف من حصة الألعاب الرياضية، إذ كان يعاني مشاكل في الجري وفي التنفس... لقد كان يعاني كل شيء".
ثم أضافت والتون ضاحكة وهي تضرب على فخذيها "بطبيعة الحال، لست في وضع يسمح لي بإطلاق أحكام بشأن الآخرين. فأنا امرأة بدينة أيضا".
التقيت نيكولاس في غرفة الأكل حيث كان يجلس بجانب أمه واركيا جونس التي لا يشي مظهرها الجذاب بسنواتها الثمانية والثلاثين. فقد أخبرتني جونس بأنها غيرت عاداتها في الأكل حتى تكون نموذجا يحتذى لابنها نيكولاس، إذ قالت "كنت معتادة على تناول الحلويات الخفيفة طوال النهار لأنني كنت أجلس في مكتب؛ فماذا كان عساي أن أفعل غير ذلك؟ لكنني غيرت عاداتي في الاستهلاك وأصبحت أتناول نبات الكرفس. يقول الناس إنني أقدمت على فعل ذلك إرضاء لصديقي، وأنا أرد عليهم بكوني أريد أن أعيش وأحيا حياة مفعمة بالعافية".
خذ كأسا من الماء، وأضف إليه السكر حتى يطفح، ثم دع السائل يترسب لمدة خمس ساعات. وعند عودتك، سترى بأن بلورات السكر استقرت في قعر الكأس؛ فكذلك مدينة كلاركسديل إذ تشكل قعر المشروب الأميركي، حيث يستقر السكر في أجسام الصبية من أقران نيكولاس سكورلوك، والذي يجسد تركة السكر خير تجسيد. إنها مدينة كبيرة في مقاطعة بها أعلى معدلات البدانة، تنتمي لولاية هي الأكثر بدانة، في بلد هو الأكثر تصنيعا في العالم.
مرزبانيات العرب
في البداية، كان الناس في جزيرة غينيا الجديدة، التي زُرع فيها قصب السكر منذ حوالي 10 آلاف سنة، يلتقطون القصب ويأكلونه في حالته الخام، إذ يمضغون نتفا منه حتى تحس ألسنتهم بمذاقه الحلو. وقد ورد ذكر السكر في الأساطير القديمة لغينيا الجديدة بوصفه نوعا من الإكسير ودواء لكل الآلام وعلاجا لكل الأمزجة والطبائع؛ إذ جاء في إحدى هذه الأساطير أن الرجل الأول عاشر سُويقة قصب السكر فنتج عنه النوع البشري. أما في الاحتفالات الدينية، فقد كان الكهنة يحتسون السائل المُحلى من ثمار جوز الهند، وهو الشراب الذي عُوض في الاحتفالات المقدسة بعلب الكوكاكولا.
وانتقل السكر شيئا فشيئا من جزيرة إلى أخرى، حتى وصل في آخر المطاف إلى القارة الآسيوية حوالي سنة 1000 قبل الميلاد.
وبحلول القرن السادس بعد الميلاد، بدأ السكر يخضع للمعالجة والتحويل إلى مسحوق في الهند وصار يُستخدم دواءً لصداع الرأس وتشنجات المعدة والعجز الجنسي. وطوال سنوات عديدة، ظل تكرير السكر علما خفيا تتوارثه الأجيال من أيادي المتمكنين المهرة إلى المتمرنين. وبحلول عام 600 بعد الميلاد، انتشر هذا الفن/ الصنعة في بلاد فارس حيث كان الحكام يكرمون وفادة ضيوفهم بتشكيلة متنوعة من الحلوى. وعندما فتحت الجيوش العربية هذه المنطقة، حمل الفاتحون معهم المعارف المتعلقة بالسكر فضلا عن الشغف بهذه المادة. فقد انتشر إنتاج السكر كانتشار النار في الهشيم وباتت محاصيل السكر تظهر في كل مكان يُعبد فيه الله. وفي هذا السياق، جاء في كتاب سيدني مينتز "الحلاوة والسلطة" ما يلي: "كان العرب يجلبون معهم منتج السكر وتقنية إنتاجه أينما حلّوا وارتحلوا. فقد أُخبرنا بأن السكر كان يقتفي أثر القرآن".
وأقام الخلفاء المسلمون عروضا فنية عجيبة من السكر. فقد كانت المرزبانية تحظى بالإقبال الشعبي إذ كانت تُصنع من اللوز المطحون والسكر بأشكال متميزة تشي بثراء الدولة. وقد ذكر علي بن عبد الله الغزولي (المتوفى عام 1412 للميلاد) في مؤلف له كيف أن أحد الخلفاء بمصر خلال القرن الحادي عشر أمر بصنع مسجد من السكر بالكامل، ضمن فعاليات احتفالية؛ قبل أن يتصدق به على الفقراء والمساكين ليأكلوه. كما عمل العرب على تحسين تكرير السكر وحولوه إلى صناعة قائمة بذاتها. وقد كان العمل في هذا المجال ينطوي على صعوبات بالغة تبدأ في حرارة الحقول اللافحة، وقطع قصب السكر بالمناجل، والأدخنة المنبعثة من غرف الغلي، والتكسير والسحق في المطاحن. وبحلول عام 1500 ومع تزايد الطلب على مادة السكر، أضحى هذا العمل لا يناسب سوى العمال من ذوي المستوى الاجتماعي المتدني. وكان قسم كبير من عمالة المزارع يتشكل من الأوروبيين الشرقيين الذين وقعوا في الأسر عندما تلاقت جيوش المسلمين والمسيحيين.
وربما كان الجنود الصليبيون البريطانيون والفرنسيون أول الأوروبيين الذين وقعوا في حب السكر عندما يمّموا شطر الشرق لاسترجاع "الأرض المقدسة" من المسلمين. فعادوا إلى بلدانهم وهم يحملون عددا كبيرا من القصص والذكريات حول السكر. وبما أن زراعة قصب السكر لا تحقق إنتاجية كبيرة في المناخ المعتدل لكونها تحتاج إلى الحقول المدارية المشبعة بمياه الأمطار حتى تنمو، فقد استمدت أول تجارة أوروبية قوامها مما تدفق من تعامل تجاري يسير مع المسلمين. ولم يكن يستهلك السكر الذي يصل إلى أوروبا سوى النبلاء إذ كانت تعتبر مادة نادرة حتى عدّها الناس تابلا من التوابل. لكن مع توسع الإمبراطورية العثمانية خلال القرن الخامس عشر، أصبحت التجارة مع الشرق أكثر صعوبة. ولم يكن أمام النخبة الغربية التي أسرها هوى السكر سوى خيارات قليلة: التعامل مع صغار المصنعين في جنوب أوروبا، أو هزم العثمانيين، أو تطوير مصادر جديدة للسكر.
يطلق عليه اسم عصر الاستكشاف، وهو عملية البحث عن الأراضي والجزر التي قادت الأوروبيين إلى العديد من المناطق حول العالم. وفي الواقع، كانت تلك العملية تشبه إلى حد كبير سباقا على الحقول والأراضي التي ستزدهر فيها زراعة قصب السكر. ففي عام 1425، أرسل الأمير البرتغالي المعروف بـ"هنري الملاح" قصب السكر إلى ماديرا مع إحدى أولى مجموعات المستوطنين. وسرعان ما انتقلت هذه المادة إلى جزر أخرى اكتشفت بالقرب من المحيط الأطلسي ومنها جزر الرأس الأخضر وجزر الكناري. وفي عام 1493، عندما اتجه كولومبس خلال رحلته الثانية نحو العالم الجديد، كان يحمل معه قصب السكر. ومن ثم، بزغ فجر عهد جديد تميز بإنتاج السكر على نطاق أوسع، قوامه جزر الكاريبي ومزارع العبيد حيث أفضى كل ذلك مع مرور الوقت إلى بروز معامل التكرير الكبيرة التي تنفث الأدخنة في ضواحي المدن العصرية، وإلى نزعات الاستهلاك المفرط، وإلى ظهور جيل من الآباء والأطفال الذين يعانون من السمنة والبدانة ورجال يلبسون ملابس بمقاسات واسعة ويتجولون في مركبات كهربائية.
عبيد السكر
زرع كريستوف كولومبس أول محصول لقصب السكر في العالم الجديد في جزيرة هيسبانيولا، وهي المكان الذي لم يشهد بمحض الصدفة انطلاق شرارة ثورة العبيد الكبرى (الثورة الهاييتية) بعد بضع مئات من السنين من ذلك. وفي غضون عقود من الزمن، أصبحت المطاحن علامة مميزة لمرتفعات جامايكا وكوبا حيث تم اجتثاث الغابة المطرية وتناقص عدد السكان الأصليين بسبب الأمراض أو الحروب أو العبودية. وقد أنشأ البرتغاليون نموذجا مُحكما لهذا الغرض إذ حولوا البرازيل إلى مستوطنة مزدهرة اقتصاديا بفعل وجود أكثر من 100 ألف من العبيد الذين ينتجون الأطنان من السكر.
ومع تزايد المساحة المزروعة بقصب السكر، انخفضت أسعار هذه المادة وتزايد الطلب عليها؛ ويدعو علماء الاقتصاد هذه العملية بالدائرة الفضلى. (والحال أن من غير المرجح أن يستخدم المرء هذا المصطلح إذا كان في الطرف الخاطئ من المعادلة). ففي أواسط القرن السابع عشر، بدأ السكر يحول موقعه من التوابل الكمالية التي كان يصنف ضمنها إلى جانب جوزة الطيب والهال، إلى مادة أساسية بالنسبة للطبقة الوسطى في مرحلة أولى ثم للفقراء في مرحلة تالية. وبحلول القرن الثامن عشر، أصبح إنتاج السكر مرتبطا ارتباطا وثيقا بالرق. ففي كل بضع سنوات، كانت تستعمر جزيرة جديدة (بورتوريكو، وترينيداد ...) وتُجتث غاباتها وتُملأ بالمزروعات. وعندما يموت السكان الأصليون، كان المزارعون يعمدون إلى وضع العبيد الأفارقة مكانهم. وبعد حصد المحصول وطحنه، كان يكدس داخل مخازن السفن ويشحن إلى لندن وأمستردام وباريس حيث كان يتاجر به مقابل المنتجات المصنعة التي كانت تُنقل بدورها إلى الساحل الغربي لإفريقيا وتُقَدّم مقابل الحصول على المزيد من العبيد. وكان الجانب الدموي في هذه "التجارة الثلاثية" التي كان يموت فيها الملايين من الأفارقة يُعرف باسم الممر الأوسط. فقبل أن تُحظر تجارة الرقيق في بريطانيا في عام 1807، شُحن أكثر من 11 مليون إفريقي باتجاه العالم الجديد حيث كان ينتهي المطاف بأكثر من نصف عددهم إلى حياة الرق في مزارع السكر. ويقول إيريك ويليامس، السياسي والمؤرخ في ترينيداد "لم يولد الرق من رحم العنصرية، بل كانت العنصرية نتيجة مباشرة للرق". فالأفارقة بعبارة أخرى لم يُستعبدوا لأنه كان يُنظر إليهم نظرة دونية، بل كان يُنظر إليهم نظرة دونية لتبرير عملية استعبادهم التي كانت أمرا ضروريا لازدهار تجارة السكر في فترتها الأولى.
كانت باربادوس الجزيرة البريطانية الأولى التي زُرع فيها السكر. كانت هذه الجزيرة مهجورة عند اكتشافها على يد قبطان بريطاني في 14 مايو 1625، ثم انتشرت فيها بوتيرة سريعة مجموعة من المطاحن والمنازل الزراعية والأكواخ. كان التبغ والقطن الزراعتين السائدتين خلال السنوات الأولى من التاريخ الاستعماري لهذه الجزيرة، لكن سرعان ما انتشرت فيها زراعة السكر على نفس المنوال الذي زرعت فيه بجزر الكاريبي حيث لم يمر قرن واحد على ذلك حتى كانت تربة الحقول والمياه الجوفية قد استنزفت. وعند هذه النقطة، غادر المزارعون الأكثر طموحا جزيرة باربادوس بحثا عن استغلال جزر أخرى. وبحلول عام 1720 استلمت جامايكا مشعل زراعة السكر.
كانت الحياة في هذه الجزر تعد جحيما بالنسبة للأفارقة. فقد هلك منهم الملايين في حقول جزر الكاريبي ومعاصرها أو عندما كانوا يحاولون الهرب. ومن ثم أضحى الشعور بالذنب يسود بشكل تدريجي داخل أوروبا من جراء هذه التجارة. فأصبح دعاة الإصلاح يطالبون بمنع الرق، وقاطعت ربات البيوت قصب السكر الذي يزرعه العبيد. فقد أتت إليزابيث أبوت في كتابها "السكر: التاريخ الحلو-المر" على ذكر زعيم جمعية الأصدقاء الدينية أو الكويكرز، ويليام فوكس، الذي قال لجمع من الناس إننا نأكل في كل رطل (حوالي نصف كيلوجرام) من السكر "أونصتين (حوالي 50 جراما) من اللحم البشري". وفي رواية "كانديد" لفولتير، يروي أحد العبيد قصة فقدانه إحدى يديه وإحدى ساقيه إذ يقول "عندما نعمل في مطاحن السكر ويعلق أحد أصابعنا في حجر الرحى، فإنهم يقطعون يدنا؛ وعندما نحاول الهرب، فإنهم يقطعون إحدى ساقينا؛ وقد حدث الأمران لي. هذه هي الكلفة التي نتجشم عناءها حتى تأكلوا السكر في أوروبا". وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتوقف الطفرة التي شهدتها هذه المادة. فقد كان السكر بمنزلة النفط في ذلك الوقت، إذ كلما تذوقت حلاوته، زادت رغبتك في الاستزادة. ففي عام 1700، وصل استهلاك الفرد العادي من السكر في إنجلترا إلى 1.8 كيلوجرام في السنة، ثم ارتفع في عام 1800 إلى 8.2 كيلوجرام. أما في عام 1870، فقد كان حب السكر يدفع بذات الشخص إلى استهلاك 21 كيلوجراما في السنة الواحدة. لكن هل كان ذلك الإنسان قنوعا بتلك الكمية؟ بالطبع لا! فبحلول عام 1900 وصل استهلاك الشخص العادي من السكر إلى 21 كيلوجراما في السنة. وفي غضون هذه الفترة التي لم تتجاوز الثلاثين سنة، انتقل الإنتاج العالمي من قصب السكر والشمندر السكري من 2.5 مليون طن متري في السنة إلى حوالي 12 مليونا. أما اليوم، فإن الأميركي العادي يستهلك 35 كيلوجراما من السكر المضاف في السنة الواحدة أو أكثر من 95 جراما (22 ملعقة شاي) من السكر المضاف في اليوم الواحد.
وإذا ذهب المرء في الوقت الحالي إلى باربادوس، فيمكنه أن يعاين التركة التي خلفها السكر؛ المطاحن المخربة، وشفراتها الخشبية التي تدور بفعل الرياح شاهدة على الزمن الماضي، والقصور المتهاوية، والطرق التي تعلو وتنخفض دون أن يغيب عنها منظر البحر، والفنادق التي تغص بالسياح الذين ملؤوا بطونهم بالمربى والشراب، وتلك المصانع القليلة التي لا يزال قصب السكر يُسحب إلى معاصرها، والسكر الخام الدبق وهو ينساب في قنوات مائلة. وبينما كنت واقفا بالقرب من إحدى المصافي والرجال يتحلقون حولي وهم يلبسون خوذاتهم، لمحت لافتة كتب عليها بخط اليد: أُدعوا الرب أن يمنحهم الحكمة والمنعة والقوة لجمع محاصيلهم.
كان لا بد من إزالة كل هذه الآلات: آلة بيع المشروبات الغازية، وآلة بيع الوجبات الخفيفة، وآلة القلي. ولذا فقد رُفعت كلها وسُحبت عبر الأروقة ثم أُلقيت على حافة الشارع بجانب قمامة أخرى خلف مدرسة كوركباتريك الابتدائية، وهي إحدى المدارس الابتدائية القليلة في كلاركسديل بولاية مسيسيبي. كان هذا قبل سبع سنوات عندما أقر المشرفون الإداريون لأول مرة بحدة المشكلة. فمدينة كلاركسديل، وهي إحدى المدن الشهيرة في دلتا المسيسيبي التي أنتجت لنا العصر الزاهي لموسيقى "دلتا بلوز"، بحقولها المزروعة بالقطن على امتداد النهر، وقصورها التي لا تزال تحتفظ ببهائها منذ العهد الفيكتوري، وجدت نفسها في خضم أزمة صحية أميركية كبيرة، إذ سُجلت فيها معدلات عالية من البدانة، ومرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب؛ كلُّ ذلك بسبب تركة السكر، كما يسميها بعض الخبراء. والمعروف أن السكر محصول زراعي جذب أسلاف غالبية سكان كلاركسديل إلى المنطقة وهم يرزحون تحت قيود الرق والعبودية. "كنا نعي بأنه يتعين علينا القيام بشيء ما"، تقول سوزان والتون، ناظرة مدرسة كوركباتريك.
كانت والتون، التي ولدت ونشأت في كلاركسديل، ترافقني داخل المدرسة وتناقش الطرق التي يسعى من خلالها طاقم التدريس إلى مساعدة الطلبة كحثهم على أكل الطعام المخبوز بدل المقلي، والفواكه بدل الحلويات، حيث يتناول أغلبهم وجبتين في اليوم داخل قاعة الأكل. وكانت ترتدي وِزرة تشبه لباس الممرضين أو الجراحين على غرار ما يرتديه كل المدرسين خلال يوم الإثنين لتأكيد التزام المدرسة بالجانب الصحي السليم.
ويتشكل الطلبة من %91 من السود، و%7 من البيض، وثلاثة طلاب من أصول لاتينية (يشكلون نسبة %2 المتبقية). وتوضح والتون الوضع العام قائلة "يأكل هؤلاء الأطفال ما يقدم لهم من أصناف الطعام الأرخص والأشد حلاوة: الكعكات، والقشدة، والحلويات. وقد كان لزاما علينا تغيير كل ذلك، فهذا أمر في صلب العناية بالطلبة".
لنأخذ مثلا حالة نيكولاس سكورلوك الذي كان قد بدأ سنته الأولى في مدرسة أوكهورست الإعدادية. كان نيكولاس، بطول قامته الذي يسمح له بالكاد ركوب لعبة الأفعوانية في مدن الملاهي الكبيرة، يزن 61 كيلوجراما عندما بلغ الحادية عشرة من عمره. تقول والتون "كان هذا الصبي يخاف من حصة الألعاب الرياضية، إذ كان يعاني مشاكل في الجري وفي التنفس... لقد كان يعاني كل شيء".
ثم أضافت والتون ضاحكة وهي تضرب على فخذيها "بطبيعة الحال، لست في وضع يسمح لي بإطلاق أحكام بشأن الآخرين. فأنا امرأة بدينة أيضا".
التقيت نيكولاس في غرفة الأكل حيث كان يجلس بجانب أمه واركيا جونس التي لا يشي مظهرها الجذاب بسنواتها الثمانية والثلاثين. فقد أخبرتني جونس بأنها غيرت عاداتها في الأكل حتى تكون نموذجا يحتذى لابنها نيكولاس، إذ قالت "كنت معتادة على تناول الحلويات الخفيفة طوال النهار لأنني كنت أجلس في مكتب؛ فماذا كان عساي أن أفعل غير ذلك؟ لكنني غيرت عاداتي في الاستهلاك وأصبحت أتناول نبات الكرفس. يقول الناس إنني أقدمت على فعل ذلك إرضاء لصديقي، وأنا أرد عليهم بكوني أريد أن أعيش وأحيا حياة مفعمة بالعافية".
خذ كأسا من الماء، وأضف إليه السكر حتى يطفح، ثم دع السائل يترسب لمدة خمس ساعات. وعند عودتك، سترى بأن بلورات السكر استقرت في قعر الكأس؛ فكذلك مدينة كلاركسديل إذ تشكل قعر المشروب الأميركي، حيث يستقر السكر في أجسام الصبية من أقران نيكولاس سكورلوك، والذي يجسد تركة السكر خير تجسيد. إنها مدينة كبيرة في مقاطعة بها أعلى معدلات البدانة، تنتمي لولاية هي الأكثر بدانة، في بلد هو الأكثر تصنيعا في العالم.
مرزبانيات العرب
في البداية، كان الناس في جزيرة غينيا الجديدة، التي زُرع فيها قصب السكر منذ حوالي 10 آلاف سنة، يلتقطون القصب ويأكلونه في حالته الخام، إذ يمضغون نتفا منه حتى تحس ألسنتهم بمذاقه الحلو. وقد ورد ذكر السكر في الأساطير القديمة لغينيا الجديدة بوصفه نوعا من الإكسير ودواء لكل الآلام وعلاجا لكل الأمزجة والطبائع؛ إذ جاء في إحدى هذه الأساطير أن الرجل الأول عاشر سُويقة قصب السكر فنتج عنه النوع البشري. أما في الاحتفالات الدينية، فقد كان الكهنة يحتسون السائل المُحلى من ثمار جوز الهند، وهو الشراب الذي عُوض في الاحتفالات المقدسة بعلب الكوكاكولا.
وانتقل السكر شيئا فشيئا من جزيرة إلى أخرى، حتى وصل في آخر المطاف إلى القارة الآسيوية حوالي سنة 1000 قبل الميلاد.
وبحلول القرن السادس بعد الميلاد، بدأ السكر يخضع للمعالجة والتحويل إلى مسحوق في الهند وصار يُستخدم دواءً لصداع الرأس وتشنجات المعدة والعجز الجنسي. وطوال سنوات عديدة، ظل تكرير السكر علما خفيا تتوارثه الأجيال من أيادي المتمكنين المهرة إلى المتمرنين. وبحلول عام 600 بعد الميلاد، انتشر هذا الفن/ الصنعة في بلاد فارس حيث كان الحكام يكرمون وفادة ضيوفهم بتشكيلة متنوعة من الحلوى. وعندما فتحت الجيوش العربية هذه المنطقة، حمل الفاتحون معهم المعارف المتعلقة بالسكر فضلا عن الشغف بهذه المادة. فقد انتشر إنتاج السكر كانتشار النار في الهشيم وباتت محاصيل السكر تظهر في كل مكان يُعبد فيه الله. وفي هذا السياق، جاء في كتاب سيدني مينتز "الحلاوة والسلطة" ما يلي: "كان العرب يجلبون معهم منتج السكر وتقنية إنتاجه أينما حلّوا وارتحلوا. فقد أُخبرنا بأن السكر كان يقتفي أثر القرآن".
وأقام الخلفاء المسلمون عروضا فنية عجيبة من السكر. فقد كانت المرزبانية تحظى بالإقبال الشعبي إذ كانت تُصنع من اللوز المطحون والسكر بأشكال متميزة تشي بثراء الدولة. وقد ذكر علي بن عبد الله الغزولي (المتوفى عام 1412 للميلاد) في مؤلف له كيف أن أحد الخلفاء بمصر خلال القرن الحادي عشر أمر بصنع مسجد من السكر بالكامل، ضمن فعاليات احتفالية؛ قبل أن يتصدق به على الفقراء والمساكين ليأكلوه. كما عمل العرب على تحسين تكرير السكر وحولوه إلى صناعة قائمة بذاتها. وقد كان العمل في هذا المجال ينطوي على صعوبات بالغة تبدأ في حرارة الحقول اللافحة، وقطع قصب السكر بالمناجل، والأدخنة المنبعثة من غرف الغلي، والتكسير والسحق في المطاحن. وبحلول عام 1500 ومع تزايد الطلب على مادة السكر، أضحى هذا العمل لا يناسب سوى العمال من ذوي المستوى الاجتماعي المتدني. وكان قسم كبير من عمالة المزارع يتشكل من الأوروبيين الشرقيين الذين وقعوا في الأسر عندما تلاقت جيوش المسلمين والمسيحيين.
وربما كان الجنود الصليبيون البريطانيون والفرنسيون أول الأوروبيين الذين وقعوا في حب السكر عندما يمّموا شطر الشرق لاسترجاع "الأرض المقدسة" من المسلمين. فعادوا إلى بلدانهم وهم يحملون عددا كبيرا من القصص والذكريات حول السكر. وبما أن زراعة قصب السكر لا تحقق إنتاجية كبيرة في المناخ المعتدل لكونها تحتاج إلى الحقول المدارية المشبعة بمياه الأمطار حتى تنمو، فقد استمدت أول تجارة أوروبية قوامها مما تدفق من تعامل تجاري يسير مع المسلمين. ولم يكن يستهلك السكر الذي يصل إلى أوروبا سوى النبلاء إذ كانت تعتبر مادة نادرة حتى عدّها الناس تابلا من التوابل. لكن مع توسع الإمبراطورية العثمانية خلال القرن الخامس عشر، أصبحت التجارة مع الشرق أكثر صعوبة. ولم يكن أمام النخبة الغربية التي أسرها هوى السكر سوى خيارات قليلة: التعامل مع صغار المصنعين في جنوب أوروبا، أو هزم العثمانيين، أو تطوير مصادر جديدة للسكر.
يطلق عليه اسم عصر الاستكشاف، وهو عملية البحث عن الأراضي والجزر التي قادت الأوروبيين إلى العديد من المناطق حول العالم. وفي الواقع، كانت تلك العملية تشبه إلى حد كبير سباقا على الحقول والأراضي التي ستزدهر فيها زراعة قصب السكر. ففي عام 1425، أرسل الأمير البرتغالي المعروف بـ"هنري الملاح" قصب السكر إلى ماديرا مع إحدى أولى مجموعات المستوطنين. وسرعان ما انتقلت هذه المادة إلى جزر أخرى اكتشفت بالقرب من المحيط الأطلسي ومنها جزر الرأس الأخضر وجزر الكناري. وفي عام 1493، عندما اتجه كولومبس خلال رحلته الثانية نحو العالم الجديد، كان يحمل معه قصب السكر. ومن ثم، بزغ فجر عهد جديد تميز بإنتاج السكر على نطاق أوسع، قوامه جزر الكاريبي ومزارع العبيد حيث أفضى كل ذلك مع مرور الوقت إلى بروز معامل التكرير الكبيرة التي تنفث الأدخنة في ضواحي المدن العصرية، وإلى نزعات الاستهلاك المفرط، وإلى ظهور جيل من الآباء والأطفال الذين يعانون من السمنة والبدانة ورجال يلبسون ملابس بمقاسات واسعة ويتجولون في مركبات كهربائية.
عبيد السكر
زرع كريستوف كولومبس أول محصول لقصب السكر في العالم الجديد في جزيرة هيسبانيولا، وهي المكان الذي لم يشهد بمحض الصدفة انطلاق شرارة ثورة العبيد الكبرى (الثورة الهاييتية) بعد بضع مئات من السنين من ذلك. وفي غضون عقود من الزمن، أصبحت المطاحن علامة مميزة لمرتفعات جامايكا وكوبا حيث تم اجتثاث الغابة المطرية وتناقص عدد السكان الأصليين بسبب الأمراض أو الحروب أو العبودية. وقد أنشأ البرتغاليون نموذجا مُحكما لهذا الغرض إذ حولوا البرازيل إلى مستوطنة مزدهرة اقتصاديا بفعل وجود أكثر من 100 ألف من العبيد الذين ينتجون الأطنان من السكر.
ومع تزايد المساحة المزروعة بقصب السكر، انخفضت أسعار هذه المادة وتزايد الطلب عليها؛ ويدعو علماء الاقتصاد هذه العملية بالدائرة الفضلى. (والحال أن من غير المرجح أن يستخدم المرء هذا المصطلح إذا كان في الطرف الخاطئ من المعادلة). ففي أواسط القرن السابع عشر، بدأ السكر يحول موقعه من التوابل الكمالية التي كان يصنف ضمنها إلى جانب جوزة الطيب والهال، إلى مادة أساسية بالنسبة للطبقة الوسطى في مرحلة أولى ثم للفقراء في مرحلة تالية. وبحلول القرن الثامن عشر، أصبح إنتاج السكر مرتبطا ارتباطا وثيقا بالرق. ففي كل بضع سنوات، كانت تستعمر جزيرة جديدة (بورتوريكو، وترينيداد ...) وتُجتث غاباتها وتُملأ بالمزروعات. وعندما يموت السكان الأصليون، كان المزارعون يعمدون إلى وضع العبيد الأفارقة مكانهم. وبعد حصد المحصول وطحنه، كان يكدس داخل مخازن السفن ويشحن إلى لندن وأمستردام وباريس حيث كان يتاجر به مقابل المنتجات المصنعة التي كانت تُنقل بدورها إلى الساحل الغربي لإفريقيا وتُقَدّم مقابل الحصول على المزيد من العبيد. وكان الجانب الدموي في هذه "التجارة الثلاثية" التي كان يموت فيها الملايين من الأفارقة يُعرف باسم الممر الأوسط. فقبل أن تُحظر تجارة الرقيق في بريطانيا في عام 1807، شُحن أكثر من 11 مليون إفريقي باتجاه العالم الجديد حيث كان ينتهي المطاف بأكثر من نصف عددهم إلى حياة الرق في مزارع السكر. ويقول إيريك ويليامس، السياسي والمؤرخ في ترينيداد "لم يولد الرق من رحم العنصرية، بل كانت العنصرية نتيجة مباشرة للرق". فالأفارقة بعبارة أخرى لم يُستعبدوا لأنه كان يُنظر إليهم نظرة دونية، بل كان يُنظر إليهم نظرة دونية لتبرير عملية استعبادهم التي كانت أمرا ضروريا لازدهار تجارة السكر في فترتها الأولى.
كانت باربادوس الجزيرة البريطانية الأولى التي زُرع فيها السكر. كانت هذه الجزيرة مهجورة عند اكتشافها على يد قبطان بريطاني في 14 مايو 1625، ثم انتشرت فيها بوتيرة سريعة مجموعة من المطاحن والمنازل الزراعية والأكواخ. كان التبغ والقطن الزراعتين السائدتين خلال السنوات الأولى من التاريخ الاستعماري لهذه الجزيرة، لكن سرعان ما انتشرت فيها زراعة السكر على نفس المنوال الذي زرعت فيه بجزر الكاريبي حيث لم يمر قرن واحد على ذلك حتى كانت تربة الحقول والمياه الجوفية قد استنزفت. وعند هذه النقطة، غادر المزارعون الأكثر طموحا جزيرة باربادوس بحثا عن استغلال جزر أخرى. وبحلول عام 1720 استلمت جامايكا مشعل زراعة السكر.
كانت الحياة في هذه الجزر تعد جحيما بالنسبة للأفارقة. فقد هلك منهم الملايين في حقول جزر الكاريبي ومعاصرها أو عندما كانوا يحاولون الهرب. ومن ثم أضحى الشعور بالذنب يسود بشكل تدريجي داخل أوروبا من جراء هذه التجارة. فأصبح دعاة الإصلاح يطالبون بمنع الرق، وقاطعت ربات البيوت قصب السكر الذي يزرعه العبيد. فقد أتت إليزابيث أبوت في كتابها "السكر: التاريخ الحلو-المر" على ذكر زعيم جمعية الأصدقاء الدينية أو الكويكرز، ويليام فوكس، الذي قال لجمع من الناس إننا نأكل في كل رطل (حوالي نصف كيلوجرام) من السكر "أونصتين (حوالي 50 جراما) من اللحم البشري". وفي رواية "كانديد" لفولتير، يروي أحد العبيد قصة فقدانه إحدى يديه وإحدى ساقيه إذ يقول "عندما نعمل في مطاحن السكر ويعلق أحد أصابعنا في حجر الرحى، فإنهم يقطعون يدنا؛ وعندما نحاول الهرب، فإنهم يقطعون إحدى ساقينا؛ وقد حدث الأمران لي. هذه هي الكلفة التي نتجشم عناءها حتى تأكلوا السكر في أوروبا". وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتوقف الطفرة التي شهدتها هذه المادة. فقد كان السكر بمنزلة النفط في ذلك الوقت، إذ كلما تذوقت حلاوته، زادت رغبتك في الاستزادة. ففي عام 1700، وصل استهلاك الفرد العادي من السكر في إنجلترا إلى 1.8 كيلوجرام في السنة، ثم ارتفع في عام 1800 إلى 8.2 كيلوجرام. أما في عام 1870، فقد كان حب السكر يدفع بذات الشخص إلى استهلاك 21 كيلوجراما في السنة الواحدة. لكن هل كان ذلك الإنسان قنوعا بتلك الكمية؟ بالطبع لا! فبحلول عام 1900 وصل استهلاك الشخص العادي من السكر إلى 21 كيلوجراما في السنة. وفي غضون هذه الفترة التي لم تتجاوز الثلاثين سنة، انتقل الإنتاج العالمي من قصب السكر والشمندر السكري من 2.5 مليون طن متري في السنة إلى حوالي 12 مليونا. أما اليوم، فإن الأميركي العادي يستهلك 35 كيلوجراما من السكر المضاف في السنة الواحدة أو أكثر من 95 جراما (22 ملعقة شاي) من السكر المضاف في اليوم الواحد.
وإذا ذهب المرء في الوقت الحالي إلى باربادوس، فيمكنه أن يعاين التركة التي خلفها السكر؛ المطاحن المخربة، وشفراتها الخشبية التي تدور بفعل الرياح شاهدة على الزمن الماضي، والقصور المتهاوية، والطرق التي تعلو وتنخفض دون أن يغيب عنها منظر البحر، والفنادق التي تغص بالسياح الذين ملؤوا بطونهم بالمربى والشراب، وتلك المصانع القليلة التي لا يزال قصب السكر يُسحب إلى معاصرها، والسكر الخام الدبق وهو ينساب في قنوات مائلة. وبينما كنت واقفا بالقرب من إحدى المصافي والرجال يتحلقون حولي وهم يلبسون خوذاتهم، لمحت لافتة كتب عليها بخط اليد: أُدعوا الرب أن يمنحهم الحكمة والمنعة والقوة لجمع محاصيلهم.