الأهْوار.. بداوة الماء
مع تسلل خيوط الفجر الأولى، تُداعب بشائر شمس الصباح رؤوس نباتات القصب الرفيعة الخضراء المتمايلة بفعل نسائم الريح الباردة الآتية من صوب الشمال. يقترب زورق برتقالي صغير بركابه الثلاثة من إحدى الأجمات، فينطلق فزِعاً سرب طيور سوداء شاقاً كبد السماء مطلقاً زقزقات يتردد صداها في أرجاء المكان مؤذنة ببداية نهار جديد، ويتبدد صوت رقرقة الماء الناتج عن انسياب جسم الزورق الرشيق فوق صفحة المستنقع شديدة الزُرقة.
إنه موسم الحصاد والصيد والسياحة في أهوار جنوب العراق؛ إذ تدبُّ الحياة في شرايين هذه المنطقة النائية عن العمران، فتجتاحها أفواج الصيادين المسلحين ببنادقهم وعشاق الطبيعة المجهزين بكاميراتهم والعمال الزراعيون الموسميون، كلٌ لغاية في نفسه. ومن بين هؤلاء المُريدين، شابٌ ملأ حُب الأهوار قلبه، فما فتئ يتردد إليها منذ سنوات: إنه مصور هذا التحقيق تيسير مهدي.
"عشقي للأهوار حكاية لا تنتهي، بدأت فصولها منذ زيارتي الأولى وترسخت مع مرور الزمن"، يقول تيسير، الذي يشدُّ همّتهُ مع بدء موسم حصاد كل عام، فينطلق بسيارته لزيارة أصدقائه في هور "الجبايش"، في مسيرة تستغرق خمس ساعات عبر طريق تحفّها غابات النخيل والمناظر الطبيعية الخلابة، مصطحباً معه عدّة التصوير وحقيبة ملابس خاصة بأجواء هذه المنطقة الفريدة. لكن زيارته هذه المرة لها طعمٌ خاص؛ فهي تأتي عقب إدراج "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)" -في يوليو الماضي- الأهوار ضمن قائمة التراث العالمي، نظراً لأهميتها الاستثنائية بيئياً وتاريخياً في قلب منطقة الشرق الأوسط.
والأهوار لفظ محلي يُطلق على المستنقعات والسبخات المنتشرة قرب نقطة التقاء نهري دجلة والفرات جنوبي العراق. وهي عبارة عن مسطحات مائية عذبة تغطي منخفضات شاسعة يُقدرها جاسم الأسدي -الخبير البيئي المتخصص في منطقة الأهوار ومدير "منظمة طبيعة العراق" في الجبايش- بزهاء 20 ألف كيلومتر مربع خلال مواسم الفيضان "قبل أن تعود لتنكمش إلى متوسط مساحتها التاريخية البالغة 9650 كيلومتراً مربعاً". وتشمل هذه المنطقة كلاً من هور "الحويزة" الذي يتداخل مع الحدود الإيرانية، و"الحمّار" الممتد بين جنوب الفرات والحدود الكويتية، وأهوار "العودة" و"الناصرية" و"الجبايش" و"السعدية" و"دلماج" و"السويكيه" و"سنية" وغيرها الواقعة جميعها شمالي شط العرب.
تمتدُّ جذور الأهوار الحضارية إلى ما قبل 6000 عام، ويُستدلُّ على ذلك من عشرات المواقع الأثرية القديمة التي عُثر عليها متناثرة في جميع أرجائها. وقد أدت هذه المنطقة أدواراً مهمة في تاريخ بلاد الرافدين، فقد شكّلت تضاريسها الفريدة متاهة مائية مترامية الأطراف، أغرت الفارين والمندحرين من الحروب التي دارت بين إمبراطوريات المنطقة -مثل سومر وبابل وفارس- باللجوء إليها. ومع مرور الزمن، شكلت أعداد الفارين الكبيرة هذه نواة مجموعة بشرية عرفت بالـ"معدان"، اشتهر أفرادها بتربيتهم للجاموس وزراعة الأرز وصيد الأسماك. وقد اختلط المعدان شيئاً فشيئاً مع القبائل العربية التي استوطنت تخوم الأهوار قبيل وغداة الفتح الإسلامي للعراق، وساعد في ذلك تشابه نمط الحياة البدوية التقليدية للطرفين؛ "فالمعدان بدو يعيشون في بطحاء من ماء"، حسبما يقول الأسدي، "ما أنتج مجموعة بشرية فريدة من نوعها، ذات أصول سومرية وأكدية وآرامية وعربية".
الأهْوار.. بداوة الماء
مع تسلل خيوط الفجر الأولى، تُداعب بشائر شمس الصباح رؤوس نباتات القصب الرفيعة الخضراء المتمايلة بفعل نسائم الريح الباردة الآتية من صوب الشمال. يقترب زورق برتقالي صغير بركابه الثلاثة من إحدى الأجمات، فينطلق فزِعاً سرب طيور سوداء شاقاً كبد السماء مطلقاً زقزقات يتردد صداها في أرجاء المكان مؤذنة ببداية نهار جديد، ويتبدد صوت رقرقة الماء الناتج عن انسياب جسم الزورق الرشيق فوق صفحة المستنقع شديدة الزُرقة.
إنه موسم الحصاد والصيد والسياحة في أهوار جنوب العراق؛ إذ تدبُّ الحياة في شرايين هذه المنطقة النائية عن العمران، فتجتاحها أفواج الصيادين المسلحين ببنادقهم وعشاق الطبيعة المجهزين بكاميراتهم والعمال الزراعيون الموسميون، كلٌ لغاية في نفسه. ومن بين هؤلاء المُريدين، شابٌ ملأ حُب الأهوار قلبه، فما فتئ يتردد إليها منذ سنوات: إنه مصور هذا التحقيق تيسير مهدي.
"عشقي للأهوار حكاية لا تنتهي، بدأت فصولها منذ زيارتي الأولى وترسخت مع مرور الزمن"، يقول تيسير، الذي يشدُّ همّتهُ مع بدء موسم حصاد كل عام، فينطلق بسيارته لزيارة أصدقائه في هور "الجبايش"، في مسيرة تستغرق خمس ساعات عبر طريق تحفّها غابات النخيل والمناظر الطبيعية الخلابة، مصطحباً معه عدّة التصوير وحقيبة ملابس خاصة بأجواء هذه المنطقة الفريدة. لكن زيارته هذه المرة لها طعمٌ خاص؛ فهي تأتي عقب إدراج "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)" -في يوليو الماضي- الأهوار ضمن قائمة التراث العالمي، نظراً لأهميتها الاستثنائية بيئياً وتاريخياً في قلب منطقة الشرق الأوسط.
والأهوار لفظ محلي يُطلق على المستنقعات والسبخات المنتشرة قرب نقطة التقاء نهري دجلة والفرات جنوبي العراق. وهي عبارة عن مسطحات مائية عذبة تغطي منخفضات شاسعة يُقدرها جاسم الأسدي -الخبير البيئي المتخصص في منطقة الأهوار ومدير "منظمة طبيعة العراق" في الجبايش- بزهاء 20 ألف كيلومتر مربع خلال مواسم الفيضان "قبل أن تعود لتنكمش إلى متوسط مساحتها التاريخية البالغة 9650 كيلومتراً مربعاً". وتشمل هذه المنطقة كلاً من هور "الحويزة" الذي يتداخل مع الحدود الإيرانية، و"الحمّار" الممتد بين جنوب الفرات والحدود الكويتية، وأهوار "العودة" و"الناصرية" و"الجبايش" و"السعدية" و"دلماج" و"السويكيه" و"سنية" وغيرها الواقعة جميعها شمالي شط العرب.
تمتدُّ جذور الأهوار الحضارية إلى ما قبل 6000 عام، ويُستدلُّ على ذلك من عشرات المواقع الأثرية القديمة التي عُثر عليها متناثرة في جميع أرجائها. وقد أدت هذه المنطقة أدواراً مهمة في تاريخ بلاد الرافدين، فقد شكّلت تضاريسها الفريدة متاهة مائية مترامية الأطراف، أغرت الفارين والمندحرين من الحروب التي دارت بين إمبراطوريات المنطقة -مثل سومر وبابل وفارس- باللجوء إليها. ومع مرور الزمن، شكلت أعداد الفارين الكبيرة هذه نواة مجموعة بشرية عرفت بالـ"معدان"، اشتهر أفرادها بتربيتهم للجاموس وزراعة الأرز وصيد الأسماك. وقد اختلط المعدان شيئاً فشيئاً مع القبائل العربية التي استوطنت تخوم الأهوار قبيل وغداة الفتح الإسلامي للعراق، وساعد في ذلك تشابه نمط الحياة البدوية التقليدية للطرفين؛ "فالمعدان بدو يعيشون في بطحاء من ماء"، حسبما يقول الأسدي، "ما أنتج مجموعة بشرية فريدة من نوعها، ذات أصول سومرية وأكدية وآرامية وعربية".