قلـب إفريقيا المحترق

أحد أحياء العاصمة "بانغي" يتحول إلى أنقاض متفحّمة عام 2014، في أعقاب هجمات شنّتها مليشيات يقودها مسيحيون على متمردين ذوي أغلبية مسلمة كانوا قد أطاحوا بالحكومة. في ما مضى كان أتباع الديانتين يتعايشون في سلام نسبي.
يتطلب الوصولُ إلى منزل فنان الفَراشات، التنقلَ عبر متاهة من المنازل المبنية بالطوب، بمحاذاة نهر "أوبانغي" الواسع ذي المياه البنية اللون. قبل أربع سنوات، شهد الحي حيث يوجد المنزل تقاتلَ المتمردين الإسلاميين والمليشيات المسيحية من أجل السيطرة على مدينة...
يتطلب الوصولُ إلى منزل فنان الفَراشات، التنقلَ عبر متاهة من المنازل المبنية بالطوب، بمحاذاة نهر "أوبانغي" الواسع ذي المياه البنية اللون. قبل أربع سنوات، شهد الحي حيث يوجد المنزل تقاتلَ المتمردين الإسلاميين والمليشيات المسيحية من أجل السيطرة على مدينة "بانغي"، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى. أما اليوم فإن المكانَ يملأه صراخ الأطفال وهم يلعبون كرة القدم، وثرثرات الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم، من فول سوداني وبيض وأفوكادو ومانجو وعسل بري وفلفل. لكن العنف لا يزال يعصف بالمدينة، إذ يبقى الأهالي ههنا في حالة تأهب تام وترقب دائم لأزيز الطلقات النارية وهدير المروحيات العسكرية.
لكن صاحبنا الفنان "فيليب أندي" يتغافل عن ذلك كله. عند وصولي إلى بيته، وجدتُه رجلا هزيل البنية أصلع الرأس. لقيتُه منكبّاً على طاولة مغطاة بأجنحة فراشات بألوان كهربائية متوهجة وأشكال ملتهبة وزخرفات غريبة. لا عجب، فجمهورية إفريقيا الوسطى موطن لـِ597 نوعاً معروفاً من الفراشات، ومن العادي أن يجد المرء نفسه فجأة وسط سحابة من هذه المخلوقات الخافقة في صمت، كما لو أنه يتجول وسط موجة من قصاصات الورق الملون المنثور في الهواء. يصطاد أندي -الذي يعمل مزارعاً- تلك الفراشات في حقله، لكنه كذلك يُرسل الأولاد لاصطيادها في التلال وعلى طول ضفاف نهر أوبانغي.
وبِعناءٍ كبير وجهد جهيد، يستخدم أندي الملاقطَ وشفرة الحلاقة واللصاق المطاطي، لتنسيق أجنحة الفراش الرقيقة وتحويلها إلى مشاهد تفيض إشعاعاً وتوهجاً. جُعل كل مشهد في نافذة مصغرة ذات زجاج ملون. وجميع تلك الأشكال الفنية مستوحى من مظاهر الحياة في جمهورية إفريقيا الوسطى: فهذا مشهد رجلٍ يمسك بسمكة خضراء رقطاء في دوامات النهر ذي المياه الفيروزية؛ وهؤلاء نسوة بفساتين برتقالية اللون وقد ربطن إلى ظهورهن أطفالهن الرضع النيّام وهن يسحقن محصول الكسافا لتحويله إلى دقيق؛ وذاك صبي يتسلق شجرة لجني ثمار جوز الهند. وهناك أيضاً مشاهد لحقول مليئة بمزروعات القطن، وصور لفيلة وغوريلات وببغاوات وظباء؛ بل وحتى قطعة ألماس منحوتة الأوجه.. وهي البضاعة الأشهر التي تصدرها هذه الدولة الإفريقية.
تلكم هي جمهورية إفريقيا الوسطى التي يحلو لأندي رؤيتها عندما يغمض عينيه؛ جمهورية ما قبل عام 2013، أي العام الذي ارتكبت فيه حركة "سيليكا" (Seleka) -وهي تحالف عسكري لمجموعات متمردين ذوي غالبية مسلمة- أعمال نهب واغتصاب وقتل وحرق في جميع أنحاء البلاد. ومن ثم أطاحت بالحكومة الفاسدة التي كان يسيطر عليها المسيحيون، فأشعلت نار حرب أهلية وحشية لا يزال دخان تداعياتها يتصاعد، وقد حصدت أرواح الآلاف، وشرّدت زهاء المليون شخص، وتسببت بشح الغذاء.
الحقيقةُ أن لوحات أندي الفاتنة تجسد بعضاً من انطباعاتي المثالية عن جمهورية إفريقيا الوسطى. فقد شدّ انتباهي هذا البلد عندما رأيته ممثَّلاً بشكل بارز على خريطة للمحافظة على الحياة البرية؛ إذ كانت تبدو جزيرةً مزدانة بالخضرة وذات مساحة تكاد تعادل مساحة فرنسا وتحوي بعضاً من آخر المناطق البرية البكر بإفريقيا.
وقد علمتُ حينها أن مساحات شاسعة من غاباتها لا تزال غير مأهولة بالسكان وتعج بالحياة البرية. وفي بواطن تلك الأراضي الزاخرة بالخيرات، تقبع ثروة من الموارد الطبيعية، تشمل الألماس والذهب واليورانيوم.. وربما النفط أيضاً. وقد بدا لي من المنطقي أن يكون هذا البلد -ذو الكثافة السكانية المنخفضة- غنياً مزدهراً (يبلغ سكان جمهورية إفريقيا الوسطى خمسة ملايين نسمة فقط، مقارنة بفرنسا ذات الـ 65 مليون نسمة). ولكني اكتشفت أنه كان بلداً في طور الفشل. فلماذا ذلك يا ترى؟ ظل هذا السؤال يؤرقني على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، إذ نقلت تقارير إخبارية عمّا يُعرَف لدى مواطني جمهورية إفريقيا الوسطى باسم "الأزمة"، وتعني فترة الحرب الأهلية وما تلاها من فوضى ودمار.

قلـب إفريقيا المحترق

أحد أحياء العاصمة "بانغي" يتحول إلى أنقاض متفحّمة عام 2014، في أعقاب هجمات شنّتها مليشيات يقودها مسيحيون على متمردين ذوي أغلبية مسلمة كانوا قد أطاحوا بالحكومة. في ما مضى كان أتباع الديانتين يتعايشون في سلام نسبي.
يتطلب الوصولُ إلى منزل فنان الفَراشات، التنقلَ عبر متاهة من المنازل المبنية بالطوب، بمحاذاة نهر "أوبانغي" الواسع ذي المياه البنية اللون. قبل أربع سنوات، شهد الحي حيث يوجد المنزل تقاتلَ المتمردين الإسلاميين والمليشيات المسيحية من أجل السيطرة على مدينة...
يتطلب الوصولُ إلى منزل فنان الفَراشات، التنقلَ عبر متاهة من المنازل المبنية بالطوب، بمحاذاة نهر "أوبانغي" الواسع ذي المياه البنية اللون. قبل أربع سنوات، شهد الحي حيث يوجد المنزل تقاتلَ المتمردين الإسلاميين والمليشيات المسيحية من أجل السيطرة على مدينة "بانغي"، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى. أما اليوم فإن المكانَ يملأه صراخ الأطفال وهم يلعبون كرة القدم، وثرثرات الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم، من فول سوداني وبيض وأفوكادو ومانجو وعسل بري وفلفل. لكن العنف لا يزال يعصف بالمدينة، إذ يبقى الأهالي ههنا في حالة تأهب تام وترقب دائم لأزيز الطلقات النارية وهدير المروحيات العسكرية.
لكن صاحبنا الفنان "فيليب أندي" يتغافل عن ذلك كله. عند وصولي إلى بيته، وجدتُه رجلا هزيل البنية أصلع الرأس. لقيتُه منكبّاً على طاولة مغطاة بأجنحة فراشات بألوان كهربائية متوهجة وأشكال ملتهبة وزخرفات غريبة. لا عجب، فجمهورية إفريقيا الوسطى موطن لـِ597 نوعاً معروفاً من الفراشات، ومن العادي أن يجد المرء نفسه فجأة وسط سحابة من هذه المخلوقات الخافقة في صمت، كما لو أنه يتجول وسط موجة من قصاصات الورق الملون المنثور في الهواء. يصطاد أندي -الذي يعمل مزارعاً- تلك الفراشات في حقله، لكنه كذلك يُرسل الأولاد لاصطيادها في التلال وعلى طول ضفاف نهر أوبانغي.
وبِعناءٍ كبير وجهد جهيد، يستخدم أندي الملاقطَ وشفرة الحلاقة واللصاق المطاطي، لتنسيق أجنحة الفراش الرقيقة وتحويلها إلى مشاهد تفيض إشعاعاً وتوهجاً. جُعل كل مشهد في نافذة مصغرة ذات زجاج ملون. وجميع تلك الأشكال الفنية مستوحى من مظاهر الحياة في جمهورية إفريقيا الوسطى: فهذا مشهد رجلٍ يمسك بسمكة خضراء رقطاء في دوامات النهر ذي المياه الفيروزية؛ وهؤلاء نسوة بفساتين برتقالية اللون وقد ربطن إلى ظهورهن أطفالهن الرضع النيّام وهن يسحقن محصول الكسافا لتحويله إلى دقيق؛ وذاك صبي يتسلق شجرة لجني ثمار جوز الهند. وهناك أيضاً مشاهد لحقول مليئة بمزروعات القطن، وصور لفيلة وغوريلات وببغاوات وظباء؛ بل وحتى قطعة ألماس منحوتة الأوجه.. وهي البضاعة الأشهر التي تصدرها هذه الدولة الإفريقية.
تلكم هي جمهورية إفريقيا الوسطى التي يحلو لأندي رؤيتها عندما يغمض عينيه؛ جمهورية ما قبل عام 2013، أي العام الذي ارتكبت فيه حركة "سيليكا" (Seleka) -وهي تحالف عسكري لمجموعات متمردين ذوي غالبية مسلمة- أعمال نهب واغتصاب وقتل وحرق في جميع أنحاء البلاد. ومن ثم أطاحت بالحكومة الفاسدة التي كان يسيطر عليها المسيحيون، فأشعلت نار حرب أهلية وحشية لا يزال دخان تداعياتها يتصاعد، وقد حصدت أرواح الآلاف، وشرّدت زهاء المليون شخص، وتسببت بشح الغذاء.
الحقيقةُ أن لوحات أندي الفاتنة تجسد بعضاً من انطباعاتي المثالية عن جمهورية إفريقيا الوسطى. فقد شدّ انتباهي هذا البلد عندما رأيته ممثَّلاً بشكل بارز على خريطة للمحافظة على الحياة البرية؛ إذ كانت تبدو جزيرةً مزدانة بالخضرة وذات مساحة تكاد تعادل مساحة فرنسا وتحوي بعضاً من آخر المناطق البرية البكر بإفريقيا.
وقد علمتُ حينها أن مساحات شاسعة من غاباتها لا تزال غير مأهولة بالسكان وتعج بالحياة البرية. وفي بواطن تلك الأراضي الزاخرة بالخيرات، تقبع ثروة من الموارد الطبيعية، تشمل الألماس والذهب واليورانيوم.. وربما النفط أيضاً. وقد بدا لي من المنطقي أن يكون هذا البلد -ذو الكثافة السكانية المنخفضة- غنياً مزدهراً (يبلغ سكان جمهورية إفريقيا الوسطى خمسة ملايين نسمة فقط، مقارنة بفرنسا ذات الـ 65 مليون نسمة). ولكني اكتشفت أنه كان بلداً في طور الفشل. فلماذا ذلك يا ترى؟ ظل هذا السؤال يؤرقني على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، إذ نقلت تقارير إخبارية عمّا يُعرَف لدى مواطني جمهورية إفريقيا الوسطى باسم "الأزمة"، وتعني فترة الحرب الأهلية وما تلاها من فوضى ودمار.