لِـــمَ الكذب؟

منتحل الشخصيات: يُـعَـدُّ "فرانك أباغنَيل جونيور" اليومَ من المستشارين الأمنيين المرموقين بالولايات المتحدة؛ لكن مكائده السافرة أيام شبابه بلغت مستوى كبيراً، حتى إنها ألهمت فيلــم "Catch Me if You Can" (أمسكني إن استطعت) الذي أُنتج عام 2002.
في خريف عام 1989، استقبلَ صف المستجَدِّين بجامعة "برينستون" الأميركية شاباً يدعى "أليكسي سانتانا"، بعد أن حظيتْ سيرةُ حياته بإشادة استثنائية من لدن لجنة القبول. لم يكن الشابُّ قد تلقَّى أي تعليم نظامي من قبلُ إلا قليلاً؛ إذ أمضى جل سنين مراهقته وحيداً...
في خريف عام 1989، استقبلَ صف المستجَدِّين بجامعة  "برينستون" الأميركية شاباً يدعى "أليكسي سانتانا"، بعد أن حظيتْ سيرةُ حياته بإشادة استثنائية من لدن لجنة القبول. لم يكن الشابُّ قد تلقَّى أي تعليم نظامي من قبلُ إلا قليلاً؛ إذ أمضى جل سنين مراهقته وحيداً في العراء بولاية "يوتاه"، حيث رعى البقر وربّى الخراف وقرأ كتب الفلسفة؛ كما درّب نفسه بالجري في "صحراء موهافي" ليكون عدّاء مسافات طويلة.
وهكذا، لم يمضِ وقت طويل حتى باتَ سانتانا أشبه بنجم سينمائي في الحرم الجامعي. وعلى الصعيد الأكاديمي كذلك أبلى الشابّ بلاءً حسناً، إذ حصل على درجة التقدير (A) في جل الموادّ الدراسية. وأضفى عليه سلوكه المتحفّظ وسيرته غير المألوفة غموضاً جذّاباً. ذات مرة سأله شريكه في الجناح السكني كيف يحافظ على سريره مرتّباً على الدوام، فأجاب بأنه لا يستخدمه بل ينام على الأرض. فقد بدا منطقياً تماماً أن شخصاً أمضى زمناً طويلاً من حياته وهو ينام في العراء، لا يعير أي اهتمام للأَسرّة.
لكن قصة سانتانا كانت أكذوبة. فبعد 18 شهراً على انخراطه في الدراسة الجامعية، رأته امرأة وتذكّرت أنها كانت قد عرفته سابقاً باسم "جاي. هانتسمان" في مدرسة ثانوية بمدينة "بالو آلتو" بولاية كاليفورنيا قبل ستة أعوام. ولكن حتى ذاك الاسم لم يكن اسمه الحقيقي؛ إذ اكتشف مسؤولو جامعة "برينستون" في وقت لاحق أن اسمه في الواقع هو "جيمس هوغ"، وكان شابّاً يبلغ من العمر 31 عاماً، وقد سبق له أن سُجن في ولاية "يوتاه" لحيازته أدوات وقطع درّاجات مسروقة. عندها، اقتيد صاحبنا إلى خارج الجامعة وهو مقيّد اليدين.
وعلى مرّ السنوات التي تلت ذلك، اعتُقِل جيمس هوغ عدة مرّات بتهمة السرقة. وفي نوفمبر 2016، اعتُقل بمدينة "آسبين" في ولاية كولورادو بتهمة السرقة، فحاول الإفلات من العقوبة بانتحاله صفة شخص آخر.

إن تاريخ البشرية حافلٌ بكذّابين أفّاكين خبراء من أمثال هوغ. وكثيرٌ من هؤلاء مجرمون يختلقون الأكاذيب ويحيكون المكائد ليحصلوا على مكافآت لا يستحقونها، تماماً كما فعل المموِّل "بيرني مادوف" على مرّ سنين طويلة إذ كان ينهب مليارات الدولارات من جيوب المستثمرين بالغشّ، إلى أن انهارت مكيدته القائمة على البيع الهَرَمي (إعطاء المستثمرين الأوائل أرباحاً وهمية من أموال المستثمرين اللاحقين). وبعض هؤلاء الأفّاكين هم سياسيّون يكذبون ليصلوا إلى السلطة أو للتشبّث بها، كما فعل الرئيس الأميركي السابق "ريتشارد نيكسون" عندما أنكر أي دور له في فضيحة "ووتر غَيت" سيئة الصيت.
أحياناً يكذب الناس لتعظيم أنفسهم، أو للتستّر على سلوك سيء، كما فعل السبّاح الأميركي "رايان لوكتي" خلال أولمبياد صيف عام 2016، إذ زعم أنه تعرّض للسرقة تحت تهديد السلاح لدى محطة للوقود؛ والحال أنه وأعضاء فريقه كانوا عائدين من حفلة شربوا خلالها الخمر، فلما توقفوا بالمحطة ألحقوا ضرراً بها وهم سُكارى فتصدّى لهم رجال الأمن المسلّحون، الذين طالبوهم بدفع تعويض عن الضرر. ويمتد حبل الأكاذيب حتى إلى الدوائر العلمية الأكاديمية -حيث يوجد أشخاص نذروا أنفسهم للبحث عن الحقائق- إذ تَبيَّن أن هذه الفئة أيضا تؤوي الكثير من المخادعين، من أمثال الفيزيائي "يان هندريك شون"، الذي ثبُت أن اكتشافاته المزعومة في بحثه عن أشباه النواقل الجزيئية، كانت مزيّفة.
وقد ذاع صيت هؤلاء الكاذبين نظراً لما بلغته أكاذيبهم من فظاعة أو فحش أو ضرر. لكن كذبهم لا يجعل منهم حالات شاذة منحرفة بالقدر الذي نظن؛ إذ إن الأكاذيب التي يستخدمها المحتالون والمخادعون والسياسيّون المتبجّحون، ليست سوى الجزء البارز لجبل جليدي من الأكاذيب التي اتصف بها السلوك البشري عموماً منذ عصور طويلة.
وقد تبيّنَ للباحثين أن الكذبَ أمرٌ يَبرع جل البشر في نسج خيوطــه. فنــحن نكذب بسهولة -أكاذيب صغيرة وكبيرة- عــــلى الغرباء وزمــلاء العمــل والأصــدقاء والأحبــة كــذلك.

لِـــمَ الكذب؟

منتحل الشخصيات: يُـعَـدُّ "فرانك أباغنَيل جونيور" اليومَ من المستشارين الأمنيين المرموقين بالولايات المتحدة؛ لكن مكائده السافرة أيام شبابه بلغت مستوى كبيراً، حتى إنها ألهمت فيلــم "Catch Me if You Can" (أمسكني إن استطعت) الذي أُنتج عام 2002.
في خريف عام 1989، استقبلَ صف المستجَدِّين بجامعة "برينستون" الأميركية شاباً يدعى "أليكسي سانتانا"، بعد أن حظيتْ سيرةُ حياته بإشادة استثنائية من لدن لجنة القبول. لم يكن الشابُّ قد تلقَّى أي تعليم نظامي من قبلُ إلا قليلاً؛ إذ أمضى جل سنين مراهقته وحيداً...
في خريف عام 1989، استقبلَ صف المستجَدِّين بجامعة  "برينستون" الأميركية شاباً يدعى "أليكسي سانتانا"، بعد أن حظيتْ سيرةُ حياته بإشادة استثنائية من لدن لجنة القبول. لم يكن الشابُّ قد تلقَّى أي تعليم نظامي من قبلُ إلا قليلاً؛ إذ أمضى جل سنين مراهقته وحيداً في العراء بولاية "يوتاه"، حيث رعى البقر وربّى الخراف وقرأ كتب الفلسفة؛ كما درّب نفسه بالجري في "صحراء موهافي" ليكون عدّاء مسافات طويلة.
وهكذا، لم يمضِ وقت طويل حتى باتَ سانتانا أشبه بنجم سينمائي في الحرم الجامعي. وعلى الصعيد الأكاديمي كذلك أبلى الشابّ بلاءً حسناً، إذ حصل على درجة التقدير (A) في جل الموادّ الدراسية. وأضفى عليه سلوكه المتحفّظ وسيرته غير المألوفة غموضاً جذّاباً. ذات مرة سأله شريكه في الجناح السكني كيف يحافظ على سريره مرتّباً على الدوام، فأجاب بأنه لا يستخدمه بل ينام على الأرض. فقد بدا منطقياً تماماً أن شخصاً أمضى زمناً طويلاً من حياته وهو ينام في العراء، لا يعير أي اهتمام للأَسرّة.
لكن قصة سانتانا كانت أكذوبة. فبعد 18 شهراً على انخراطه في الدراسة الجامعية، رأته امرأة وتذكّرت أنها كانت قد عرفته سابقاً باسم "جاي. هانتسمان" في مدرسة ثانوية بمدينة "بالو آلتو" بولاية كاليفورنيا قبل ستة أعوام. ولكن حتى ذاك الاسم لم يكن اسمه الحقيقي؛ إذ اكتشف مسؤولو جامعة "برينستون" في وقت لاحق أن اسمه في الواقع هو "جيمس هوغ"، وكان شابّاً يبلغ من العمر 31 عاماً، وقد سبق له أن سُجن في ولاية "يوتاه" لحيازته أدوات وقطع درّاجات مسروقة. عندها، اقتيد صاحبنا إلى خارج الجامعة وهو مقيّد اليدين.
وعلى مرّ السنوات التي تلت ذلك، اعتُقِل جيمس هوغ عدة مرّات بتهمة السرقة. وفي نوفمبر 2016، اعتُقل بمدينة "آسبين" في ولاية كولورادو بتهمة السرقة، فحاول الإفلات من العقوبة بانتحاله صفة شخص آخر.

إن تاريخ البشرية حافلٌ بكذّابين أفّاكين خبراء من أمثال هوغ. وكثيرٌ من هؤلاء مجرمون يختلقون الأكاذيب ويحيكون المكائد ليحصلوا على مكافآت لا يستحقونها، تماماً كما فعل المموِّل "بيرني مادوف" على مرّ سنين طويلة إذ كان ينهب مليارات الدولارات من جيوب المستثمرين بالغشّ، إلى أن انهارت مكيدته القائمة على البيع الهَرَمي (إعطاء المستثمرين الأوائل أرباحاً وهمية من أموال المستثمرين اللاحقين). وبعض هؤلاء الأفّاكين هم سياسيّون يكذبون ليصلوا إلى السلطة أو للتشبّث بها، كما فعل الرئيس الأميركي السابق "ريتشارد نيكسون" عندما أنكر أي دور له في فضيحة "ووتر غَيت" سيئة الصيت.
أحياناً يكذب الناس لتعظيم أنفسهم، أو للتستّر على سلوك سيء، كما فعل السبّاح الأميركي "رايان لوكتي" خلال أولمبياد صيف عام 2016، إذ زعم أنه تعرّض للسرقة تحت تهديد السلاح لدى محطة للوقود؛ والحال أنه وأعضاء فريقه كانوا عائدين من حفلة شربوا خلالها الخمر، فلما توقفوا بالمحطة ألحقوا ضرراً بها وهم سُكارى فتصدّى لهم رجال الأمن المسلّحون، الذين طالبوهم بدفع تعويض عن الضرر. ويمتد حبل الأكاذيب حتى إلى الدوائر العلمية الأكاديمية -حيث يوجد أشخاص نذروا أنفسهم للبحث عن الحقائق- إذ تَبيَّن أن هذه الفئة أيضا تؤوي الكثير من المخادعين، من أمثال الفيزيائي "يان هندريك شون"، الذي ثبُت أن اكتشافاته المزعومة في بحثه عن أشباه النواقل الجزيئية، كانت مزيّفة.
وقد ذاع صيت هؤلاء الكاذبين نظراً لما بلغته أكاذيبهم من فظاعة أو فحش أو ضرر. لكن كذبهم لا يجعل منهم حالات شاذة منحرفة بالقدر الذي نظن؛ إذ إن الأكاذيب التي يستخدمها المحتالون والمخادعون والسياسيّون المتبجّحون، ليست سوى الجزء البارز لجبل جليدي من الأكاذيب التي اتصف بها السلوك البشري عموماً منذ عصور طويلة.
وقد تبيّنَ للباحثين أن الكذبَ أمرٌ يَبرع جل البشر في نسج خيوطــه. فنــحن نكذب بسهولة -أكاذيب صغيرة وكبيرة- عــــلى الغرباء وزمــلاء العمــل والأصــدقاء والأحبــة كــذلك.