سكة لبنان المنسية

في باحة مهجورة من محطة رياق، التي كانت في ما مضى محطة وصل بين بيروت ودمشق، تقف عربة نقل للركاب وقد علاها الصدأ حاملة ركابها الجدد: أشجار حور برية تشرئب من نوافذ اقتُلِعت إطاراتها.
حوالى 125 عاماً، منحت السلطات العثمانية الضوء الأخضر لإحدى الشركات الخاصة لإطلاق أول خط سكة حديد في ما كان يعرف آنذاك بـ"جبل لبنان". وما إن حل عام 1894 حتى كان أول قطار بخاري يشق طريقه ملتوياً بين الجبال والوديان رابطاً بين مدينتي بيروت ودمشق عبر بلدة...
حوالى 125 عاماً، منحت السلطات العثمانية الضوء الأخضر لإحدى الشركات الخاصة لإطلاق أول خط سكة حديد في ما كان يعرف آنذاك بـ"جبل لبنان". وما إن حل عام 1894 حتى كان أول قطار بخاري يشق طريقه ملتوياً بين الجبال والوديان رابطاً بين مدينتي بيروت ودمشق عبر بلدة رياق. ومع مرور السنوات توسعت شبكة الخطوط الحديدية وازدهرت، وامتدت لتشمل تقريباً معظم الأراضي اللبنانية شمالاً وجنوباً وبقاعاً. لكن هذه النهضة "السككية" التي نشرت العمران في ربوع بلاد الأرز مدناً وقرى، ما لبثت أن بدأت تتداعى مع انطلاق شرارة الحرب الأهلية عام 1975، إذ تقطعت أوصال هذه الخطوط وسبلها إلى أن اضمحلت نهائياً ليطويها قطار النسيان.
وقد استرعى هذا الإرث التاريخي العريق انتباه مصور لبناني يدعى إدي شويري -مصور هذه اليوميات- الذي عكف على تتبع ما تبقى من آثار للسكك الحديدية اللبنانية، إلى أن تمكن من جمعها في كتاب حمل عنوان "لبنان على السكة". وفي هذا الصدد يقول شويري: "استغرق توثيق أطلال العصر الذهبي لسكة حديد لبنان 15 عاماً من العمل الدؤوب المتواصل. إذ تحول معظم محطات القطارات إلى مراكز عسكرية، ما تطلب استخراج الكثير من أذونات التصوير التي كانت تتضمن معايير صارمة لجهة أماكن وتوقيتات التصوير. كما طالت السرقات معظم شبكة الخطوط السككية الأرضية التي بيعت كخردة، فيما تآكلت المعدات وهياكل القطارات والمقطورات المعدنية بفعل غياب الصيانة وعوادي الزمن".
أما الدافع وراء هذا الشغف بعالم القطارات "فهو انعاش ذاكرة اللبنانيين بتراث تليد بدأ يتوارى وراء حُجب الطبيعة، في الجبال والمروج وضواحي المدن الكبرى"، حسب شويري الذي يضيف: "طوى النسيان هذا الإرث من ذاكرة جيل كامل من اللبنانيين الذين يجهلون حتى وجود شبكة قطارات في بلادهم، رغم أن سكة حديد لبنان كانت من أوائل الخطوط المشرقية التي أُنشئت. لقد كان القطار في ما مضى عامل انصهار شعبي وطائفي ومناطقي، وفي رأيي فإن من شأن إعادة تشغيله، بصفته وسيلة نقل أكثر أنساً ومودة من وسائل النقل الأخرى، أن يخلق بيئة وطنية حاضنة بين فئات الشعب اللبناني بطوائفه المتعددة".
ويلفت شويري النظر إلى ردة فعل الجمهور حين أقام أول معارضه المصورة، والذي تضمن لقطات لمحطات مهجورة وسكك أرضية خرِبة وقطارات اجتاحتها جحافل الصدأ والنسيان، إذ يقول: "لم أتوقع ردة فعل الناس الايجابية. فقد حضروا بكثافة مصطحبين أبناءهم وأحفادهم، وكانوا يقفون أمام لقطة ما ليبدأوا في رواية قصصهم الشخصية القديمة مع القطار". ومنذ معرضه الأول، ما فتئ شويري يتلقى الطلب تلو الطلب لاستضافة معرضه المصور في أكثر من منطقة لبنانية، لا بل وصل صدى أعماله إلى "معهد العالم العربي" في باريس حيث تصدَّر كتابه معرضاً ضخماً كان محوره الرئيس "خط الحجاز" القديم.
المثير في علاقة شويري بقطارات لبنان أنها اقتصرت على رحلة واحدة لا غير عام 1991 بين منطقتي الدورة وجونيه، استغرقت دقائق معدودة. حينها قررت الحكومة اللبنانية تسيير ما لُقِّب آنذاك بـ"قطار السلام" إيذاناً بانتهاء الحرب الأهلية. كانت مجرد رحلة يتيمة، لكنها كانت كافية لوقوع مصور هذه اليوميات في حب هذه الآلات الحديدية الهادرة التي كانت يوماً ما سيدة وسائل النقل في لبنان بلا منازع.
قطار لبنان ترجّل عن سكته.. لكن إدي شويري يأبى إلا تخليد ذكراه ولو في صورة.

سكة لبنان المنسية

في باحة مهجورة من محطة رياق، التي كانت في ما مضى محطة وصل بين بيروت ودمشق، تقف عربة نقل للركاب وقد علاها الصدأ حاملة ركابها الجدد: أشجار حور برية تشرئب من نوافذ اقتُلِعت إطاراتها.
حوالى 125 عاماً، منحت السلطات العثمانية الضوء الأخضر لإحدى الشركات الخاصة لإطلاق أول خط سكة حديد في ما كان يعرف آنذاك بـ"جبل لبنان". وما إن حل عام 1894 حتى كان أول قطار بخاري يشق طريقه ملتوياً بين الجبال والوديان رابطاً بين مدينتي بيروت ودمشق عبر بلدة...
حوالى 125 عاماً، منحت السلطات العثمانية الضوء الأخضر لإحدى الشركات الخاصة لإطلاق أول خط سكة حديد في ما كان يعرف آنذاك بـ"جبل لبنان". وما إن حل عام 1894 حتى كان أول قطار بخاري يشق طريقه ملتوياً بين الجبال والوديان رابطاً بين مدينتي بيروت ودمشق عبر بلدة رياق. ومع مرور السنوات توسعت شبكة الخطوط الحديدية وازدهرت، وامتدت لتشمل تقريباً معظم الأراضي اللبنانية شمالاً وجنوباً وبقاعاً. لكن هذه النهضة "السككية" التي نشرت العمران في ربوع بلاد الأرز مدناً وقرى، ما لبثت أن بدأت تتداعى مع انطلاق شرارة الحرب الأهلية عام 1975، إذ تقطعت أوصال هذه الخطوط وسبلها إلى أن اضمحلت نهائياً ليطويها قطار النسيان.
وقد استرعى هذا الإرث التاريخي العريق انتباه مصور لبناني يدعى إدي شويري -مصور هذه اليوميات- الذي عكف على تتبع ما تبقى من آثار للسكك الحديدية اللبنانية، إلى أن تمكن من جمعها في كتاب حمل عنوان "لبنان على السكة". وفي هذا الصدد يقول شويري: "استغرق توثيق أطلال العصر الذهبي لسكة حديد لبنان 15 عاماً من العمل الدؤوب المتواصل. إذ تحول معظم محطات القطارات إلى مراكز عسكرية، ما تطلب استخراج الكثير من أذونات التصوير التي كانت تتضمن معايير صارمة لجهة أماكن وتوقيتات التصوير. كما طالت السرقات معظم شبكة الخطوط السككية الأرضية التي بيعت كخردة، فيما تآكلت المعدات وهياكل القطارات والمقطورات المعدنية بفعل غياب الصيانة وعوادي الزمن".
أما الدافع وراء هذا الشغف بعالم القطارات "فهو انعاش ذاكرة اللبنانيين بتراث تليد بدأ يتوارى وراء حُجب الطبيعة، في الجبال والمروج وضواحي المدن الكبرى"، حسب شويري الذي يضيف: "طوى النسيان هذا الإرث من ذاكرة جيل كامل من اللبنانيين الذين يجهلون حتى وجود شبكة قطارات في بلادهم، رغم أن سكة حديد لبنان كانت من أوائل الخطوط المشرقية التي أُنشئت. لقد كان القطار في ما مضى عامل انصهار شعبي وطائفي ومناطقي، وفي رأيي فإن من شأن إعادة تشغيله، بصفته وسيلة نقل أكثر أنساً ومودة من وسائل النقل الأخرى، أن يخلق بيئة وطنية حاضنة بين فئات الشعب اللبناني بطوائفه المتعددة".
ويلفت شويري النظر إلى ردة فعل الجمهور حين أقام أول معارضه المصورة، والذي تضمن لقطات لمحطات مهجورة وسكك أرضية خرِبة وقطارات اجتاحتها جحافل الصدأ والنسيان، إذ يقول: "لم أتوقع ردة فعل الناس الايجابية. فقد حضروا بكثافة مصطحبين أبناءهم وأحفادهم، وكانوا يقفون أمام لقطة ما ليبدأوا في رواية قصصهم الشخصية القديمة مع القطار". ومنذ معرضه الأول، ما فتئ شويري يتلقى الطلب تلو الطلب لاستضافة معرضه المصور في أكثر من منطقة لبنانية، لا بل وصل صدى أعماله إلى "معهد العالم العربي" في باريس حيث تصدَّر كتابه معرضاً ضخماً كان محوره الرئيس "خط الحجاز" القديم.
المثير في علاقة شويري بقطارات لبنان أنها اقتصرت على رحلة واحدة لا غير عام 1991 بين منطقتي الدورة وجونيه، استغرقت دقائق معدودة. حينها قررت الحكومة اللبنانية تسيير ما لُقِّب آنذاك بـ"قطار السلام" إيذاناً بانتهاء الحرب الأهلية. كانت مجرد رحلة يتيمة، لكنها كانت كافية لوقوع مصور هذه اليوميات في حب هذه الآلات الحديدية الهادرة التي كانت يوماً ما سيدة وسائل النقل في لبنان بلا منازع.
قطار لبنان ترجّل عن سكته.. لكن إدي شويري يأبى إلا تخليد ذكراه ولو في صورة.