شياطين أدمغتنا في قمقم العلم

تَدرس "آنا روز تشيلدريس" -عالمة متخصصّة بعلم الأعصاب السريري، وبروفيسورة لدى "جامعة بنسلفانيا"-كيف أن الإشارات التنبيهية للمخدرات في العقل الباطن تثير نظام المكافآت في الدماغ وتسهم في الانتكاسات التي تحدث بعد توقيف الإدمان، وذلك بتحليلها الصور الملتقطة...
ضحك "باتريك بيروتي" باستهزاء عندما أخبرته أمه عن طبيب يستعمل الموجات الكهرومغناطيسية لمعالجة إدمان المخدرات. يقول بيروتي مستذكراً ذلك الموقف: "ظننت أنه دَجّال نصّاب".يبلــغ هـذا الـرجـل مـن العمـر 38 عاماً ويعيش في مدينة جنوة الإيطالية، وكان قد بدأ...
ضحك "باتريك بيروتي" باستهزاء عندما أخبرته أمه عن طبيب يستعمل الموجات الكهرومغناطيسية لمعالجة إدمان المخدرات. يقول بيروتي مستذكراً ذلك الموقف: "ظننت أنه دَجّال نصّاب".
يبلــغ هـذا الـرجـل مـن العمـر 38 عاماً ويعيش في مدينة جنوة الإيطالية، وكان قد بدأ تعاطي الكوكايين في سنّ السابعة عشرة؛ إذ كان فتى غنياً يعشق الحفلات الصاخبة. وقد تحوّل انغماسه في الملذّات شيئاً فشيئاً إلى عادة يومية، ثم إلى قهرٍ استنزف كل كيانه. ولقد عشق امرأة وأنجبت منه ولداً، وافتتح مطعماً؛ ولكن كلاً من عائلته وعمله انهارا بنهاية المطاف تحت وطأة إدمانه.
وصحيحٌ أنه كان قد أمضى ثلاثة أشهر وهو يعالَج لدى مركز للتأهيل، إلاّ أنه عاد وانتكس بعد 36 ساعة فقط على مغادرته المركز. ثم أمضى ثمانية أشهر وهو يخضع إلى برنامج آخر للمعالجة، ولكنه في اليوم الذي عاد إلى منزله، قابل تاجر المخدرات الذي يتعامل معه وحصل سريعاً على مصدر النشوة التي ينشدها. يقول: "أخذتُ أتعاطى الكوكايين بشدّة؛ فأصبحت مصاباً بجنون الارتياب ومهووساً وهائجاً؛ ولم أرَ طريقة لأتوقّف عن ذلك".
ولكن عندما ألحّت أمه عليه بأن يتصل بالطبيب الذي يستعمل الموجات الكهرومغناطيسية، انصاع بيروتي لأوامرها أخيراً. وقد أخبرَته أن كل ما عليه فِعله هو الجلوس في كرسي شبيهٍ بكرسي طبيب الأسنان، ثم يسمح للطبيب "لويجي غاليمبيرتي" بأن يُشغِّلَ جهازاً على مقربة من الجانب الأيمن من رأسه، لأن ذلك قد يساعد -نظرياً- على كبت شهوته للكوكايين . ويستذكر الرجل حالَه آنذاك فيقول: "بلغ وضعي درجة من السوء جعلتني أختار: إما الانتحار أو علاج الدكتور غاليمبيرتي".
غاليمبيرتي طبيب نفسي وعالم سموم، اشتعل رأسه شيباً؛ وقد تمرّس بمعالجة الإدمان على مدى 30 عاماً. وللطبيب عيادة في مدينة "بادوا". وكان قد قرر تجريبَ تلك التقنية -وتُسمَّى "التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة" (TMS)- نتيجة للتطوّرات الثورية التي حدثت في علم الإدمان؛ وكذلك بسبب خيبة أمله في وسائل العلاج التقليدية. فالعقاقير يمكنها أن تساعد الناس على الإقلاع عن معاقرة الخمور أو التدخين أو تعاطي الهيروين؛ لكن الانتكاسات تظل شائعة، وليس هناك من علاج طبي ناجع لمنبّهات من قبيل الكوكايين. وعن ذلك يقول غاليمبيرتي "إن معالجة هؤلاء المرضى صعبة جداً جداً".
وكل عام، يموت أكثر من 200 ألف إنسان على مستوى العالم، نتيجة تناول جرعات مفرطة من المخدرات أو نتيجة أمراض ذات صلة بتعاطي المخدرات، مثل مرض الإيدز، وفقاً لِـ"مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة". أما الذين يموتون نتيجة التدخين ومعاقرة الخمور فأعدادهم تفوق ذلك بكثير. ويوجد أكثر من مليار مدخّن، والتبغ مسؤول عن المسبِّبات الأساسية الخمسة للموت: أمراض القلب والجلطات والالتهابات التنفسية وداء الانسداد الرئوي المزمن وسرطان الرئتين. ووفقاً لحسابات تقريبية، فإن شخصاً واحداً من أصل كل 20 شخصاً حول العالم يُعاقر الخمور. ولم يَقم أحدٌ حتى الآن بإحصاء عدد المدمنين على القمار وغيره من الأنشطة القهرية (أي التي لا تُقاوَم)، والتي بدأ المجتمع العلمي مؤخراً يرى أنها أنواع حقيقية من الإدمان.
وفي الولايات المتحدة، ما زال استشراء إدمان أشباه الأفيونيّات يزداد سوءاً على سوء. فقد أعلنت "مراكز مكافحة الأمراض واتّقائها" تسجيل رقم قياسي عام 2015 في عدد الوفَيات الناتجة عن تناول جرعات مفرطة من المخدّرات (بما فيها المسكّنات أفيونية المفعول والموصوفة طبياً، والهيروين)، إذ بلغت 33091 وفاة؛ أي بزيادة 16 بالمئة عن الرقم القياسي السابق المسجّل عام 2014. وتجاوباً مع هذه الأزمة، أصدرت وزارة الصحة الأميركية أول تقرير على الإطلاق بشأن الإدمان، في نوفمبر من عام 2016. وقد خلص التقرير إلى أن 21 مليون أميركي مدمنون على المخدرات أو الخمور، ما يجعل هذه الآفة أكثر انتشاراً من مرض السرطان في أميركا.

شياطين أدمغتنا في قمقم العلم

تَدرس "آنا روز تشيلدريس" -عالمة متخصصّة بعلم الأعصاب السريري، وبروفيسورة لدى "جامعة بنسلفانيا"-كيف أن الإشارات التنبيهية للمخدرات في العقل الباطن تثير نظام المكافآت في الدماغ وتسهم في الانتكاسات التي تحدث بعد توقيف الإدمان، وذلك بتحليلها الصور الملتقطة...
ضحك "باتريك بيروتي" باستهزاء عندما أخبرته أمه عن طبيب يستعمل الموجات الكهرومغناطيسية لمعالجة إدمان المخدرات. يقول بيروتي مستذكراً ذلك الموقف: "ظننت أنه دَجّال نصّاب".يبلــغ هـذا الـرجـل مـن العمـر 38 عاماً ويعيش في مدينة جنوة الإيطالية، وكان قد بدأ...
ضحك "باتريك بيروتي" باستهزاء عندما أخبرته أمه عن طبيب يستعمل الموجات الكهرومغناطيسية لمعالجة إدمان المخدرات. يقول بيروتي مستذكراً ذلك الموقف: "ظننت أنه دَجّال نصّاب".
يبلــغ هـذا الـرجـل مـن العمـر 38 عاماً ويعيش في مدينة جنوة الإيطالية، وكان قد بدأ تعاطي الكوكايين في سنّ السابعة عشرة؛ إذ كان فتى غنياً يعشق الحفلات الصاخبة. وقد تحوّل انغماسه في الملذّات شيئاً فشيئاً إلى عادة يومية، ثم إلى قهرٍ استنزف كل كيانه. ولقد عشق امرأة وأنجبت منه ولداً، وافتتح مطعماً؛ ولكن كلاً من عائلته وعمله انهارا بنهاية المطاف تحت وطأة إدمانه.
وصحيحٌ أنه كان قد أمضى ثلاثة أشهر وهو يعالَج لدى مركز للتأهيل، إلاّ أنه عاد وانتكس بعد 36 ساعة فقط على مغادرته المركز. ثم أمضى ثمانية أشهر وهو يخضع إلى برنامج آخر للمعالجة، ولكنه في اليوم الذي عاد إلى منزله، قابل تاجر المخدرات الذي يتعامل معه وحصل سريعاً على مصدر النشوة التي ينشدها. يقول: "أخذتُ أتعاطى الكوكايين بشدّة؛ فأصبحت مصاباً بجنون الارتياب ومهووساً وهائجاً؛ ولم أرَ طريقة لأتوقّف عن ذلك".
ولكن عندما ألحّت أمه عليه بأن يتصل بالطبيب الذي يستعمل الموجات الكهرومغناطيسية، انصاع بيروتي لأوامرها أخيراً. وقد أخبرَته أن كل ما عليه فِعله هو الجلوس في كرسي شبيهٍ بكرسي طبيب الأسنان، ثم يسمح للطبيب "لويجي غاليمبيرتي" بأن يُشغِّلَ جهازاً على مقربة من الجانب الأيمن من رأسه، لأن ذلك قد يساعد -نظرياً- على كبت شهوته للكوكايين . ويستذكر الرجل حالَه آنذاك فيقول: "بلغ وضعي درجة من السوء جعلتني أختار: إما الانتحار أو علاج الدكتور غاليمبيرتي".
غاليمبيرتي طبيب نفسي وعالم سموم، اشتعل رأسه شيباً؛ وقد تمرّس بمعالجة الإدمان على مدى 30 عاماً. وللطبيب عيادة في مدينة "بادوا". وكان قد قرر تجريبَ تلك التقنية -وتُسمَّى "التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة" (TMS)- نتيجة للتطوّرات الثورية التي حدثت في علم الإدمان؛ وكذلك بسبب خيبة أمله في وسائل العلاج التقليدية. فالعقاقير يمكنها أن تساعد الناس على الإقلاع عن معاقرة الخمور أو التدخين أو تعاطي الهيروين؛ لكن الانتكاسات تظل شائعة، وليس هناك من علاج طبي ناجع لمنبّهات من قبيل الكوكايين. وعن ذلك يقول غاليمبيرتي "إن معالجة هؤلاء المرضى صعبة جداً جداً".
وكل عام، يموت أكثر من 200 ألف إنسان على مستوى العالم، نتيجة تناول جرعات مفرطة من المخدرات أو نتيجة أمراض ذات صلة بتعاطي المخدرات، مثل مرض الإيدز، وفقاً لِـ"مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة". أما الذين يموتون نتيجة التدخين ومعاقرة الخمور فأعدادهم تفوق ذلك بكثير. ويوجد أكثر من مليار مدخّن، والتبغ مسؤول عن المسبِّبات الأساسية الخمسة للموت: أمراض القلب والجلطات والالتهابات التنفسية وداء الانسداد الرئوي المزمن وسرطان الرئتين. ووفقاً لحسابات تقريبية، فإن شخصاً واحداً من أصل كل 20 شخصاً حول العالم يُعاقر الخمور. ولم يَقم أحدٌ حتى الآن بإحصاء عدد المدمنين على القمار وغيره من الأنشطة القهرية (أي التي لا تُقاوَم)، والتي بدأ المجتمع العلمي مؤخراً يرى أنها أنواع حقيقية من الإدمان.
وفي الولايات المتحدة، ما زال استشراء إدمان أشباه الأفيونيّات يزداد سوءاً على سوء. فقد أعلنت "مراكز مكافحة الأمراض واتّقائها" تسجيل رقم قياسي عام 2015 في عدد الوفَيات الناتجة عن تناول جرعات مفرطة من المخدّرات (بما فيها المسكّنات أفيونية المفعول والموصوفة طبياً، والهيروين)، إذ بلغت 33091 وفاة؛ أي بزيادة 16 بالمئة عن الرقم القياسي السابق المسجّل عام 2014. وتجاوباً مع هذه الأزمة، أصدرت وزارة الصحة الأميركية أول تقرير على الإطلاق بشأن الإدمان، في نوفمبر من عام 2016. وقد خلص التقرير إلى أن 21 مليون أميركي مدمنون على المخدرات أو الخمور، ما يجعل هذه الآفة أكثر انتشاراً من مرض السرطان في أميركا.