تمخّض اليأس.. فولد الـ"كولبار"

مهربان يأخذان قسطاً من الراحة قبيل بدء عاصفة ثلجية. ينقل المهربون المعروفون باسم "كولبار" على ظهورهم، عبوات من الوقود المكرر، سعة الواحدة منها حوالى 30 لتراً إلى مدينة "المالكية" في محافظة الحسكة السورية.
"اتبعوا الكلب فهو يعرف مواضع الألغام، ويعلم كيفية تجنب مواقع حرس الحدود". هكذا نصح مسؤول ميداني كردي، أفواج المهربين لدى اقترابهم من حدود كردستان العراق مع إيران.التزم المهربون بتعليمات المسؤول، وكذلك فعل "آرام كريم" -المصور الذي وثَّق هذه اليوميات-...
"اتبعوا الكلب فهو يعرف مواضع الألغام، ويعلم كيفية تجنب مواقع حرس الحدود". هكذا نصح مسؤول ميداني كردي، أفواج المهربين لدى اقترابهم من حدود كردستان العراق مع إيران.

التزم المهربون بتعليمات المسؤول، وكذلك فعل "آرام كريم" -المصور الذي وثَّق هذه اليوميات- وما إن شق نور الفجر طريقه إلى كبد السماء حتى انسَّلت صفوف من الرجال والفتيان عابرة المسالك الجبلية الوعرة باتجاه الأراضي الإيرانية، وقد حملوا رزماً ثقيلة غالبا ما ترتفع الواحدة منها أكثر من متر واحد فوق أكتافهم، وقد غُلِّفت بعناية حتى لا تتسرب إليها مياه الأمطار. أما الرزم الثقيلة-الثمينة فكانت تضم، من بين ما تضم، سجائر وأدوات تجميل وهوائيات أقمار صناعية وعبوات وقود ومشروبات كحولية، وهي مواد تحظر إيران استيرادها.
لطالما جمعت المعابر الحدودية الجبلية الوعرة لإقليم "كردستان العراق" المحاذية لكل من إيران وتركيا وسورية بين متناقضين؛ فهي شريان حياة للإقليم تمده بالمواد الغذائية والحيوية تارة، أو خط تماس تعبره الجيوش الغازية تارة أخرى. على أن التطورات الجيوسياسية المتلاحقة في هذه المنطقة الملتهبة -وليس آخرها تنظيم استفتاء للانفصال عن العراق- أضافت بُعداً ثالثاً إلى مشهد الإقليم المعقد: التهريب.
يقول كريم -الذي أمضى خمسة أعوام كاملة في توثيق عمليات التهريب الحدودية- إن رأس المال الوحيد المطلوب توفره لدى أي "كولبار" (ومعناها المهرِّب-الحمّال باللغة الكردية) هو قدرته على تحمل الألم والمخاطر. أما عدة العمل فبسيطة كل البساطة: حبل متين يُثبِّت الأمتعة بالكتفين، وقطعة قماش سميكة تُلفُّ حول الحبل للتخفيف من وطأة آلامه لدى احتكاكه مع الصدر والكتفين.
تعود أصول ظاهرة التهريب في إقليم كردستان العراق إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي. في ذلك الوقت قطعت حكومة بغداد طرق الإمداد الرئيسة إلى الإقليم في ما عُرف باسم "حملة الأنفال"، ما دفع سكان المناطق الحدودية الى تهريب المواد الحيوية الأساسية بأنواعها من الجانب الإيراني، عن طريق "القجق" أي الممرات غير القانونية.
يقول المصور البالغ 39 عاماً والذي يعيش اليوم لاجئاً قانونياً في فرنسا: "يعد التهريب مهنة من لا مهنة له، وما أكثرهم في المناطق الحدودية المهمّشة. فهو مصدر الرزق الوحيد لآلاف الذكور الذين يُقدمون على هذا العمل الخطر والمرهق في سبيل تحصيل لقمة العيش". سألته عما يقصده تحديداً بعبارة "لقمة العيش" فأجابني بأن المهرب يقوم بزهاء ثلاث رحلات يومياً -تستغرق الواحدة منها حوالى 5 ساعات- ويكسب نحو ثمانية دولارات في الرحلة الواحدة.
استفسرت من كريم عن سبب إحجام المهربين عن استخدام الدواب في عمليات التهريب، فأوضح لي أنهم كانوا يستعينون في السابق بالخيل والبغال لنقل المواد المراد تهريبها، لكن الحكومة الإيرانية ولغرض كبح عمليات تهريب السلاح خصوصا، منعت اقتناء هذه الحيوانات في المناطق الحدودية للحد من ظاهرة التهريب. لكن ومع استمرار تدفق المواد الممنوعة المهربة لجأ حرس الحدود الإيراني إلى إعدام الدواب، وتعمدوا ترك جيفها فترات طويلة في العراء لإثارة الاشمئزاز ونشر الروائح الكريهة، ولجذب الضباع المتوحشة، تذكيراً للمهربين بمحاذير التنقل بين ضفتي الحدود.
في جعبة المصور كريم -الذي اضطر لبيع كاميرته بثمن بخس لتمويل رحلة لجوئه إلى فرنسا- الكثير من القصص التي تستحق الإصغاء، من بينها تكتيكات الـ"كولبار" للتملص من مضايقات حرس حدود الدول المجاورة والميليشيات الكردية المحلية على حد سواء. "في إحدى المرات كنت أوثق عملية تهريب"، يقول كريم "وبينما نحن عائدون إلى ديارنا، إذ بكمين لحرس الحدود يطبق علينا من جميع الجهات. لم يكن معنا أي بضاعة في رحلة العودة. لذلك عمد الحرس إلى تفتيشنا بشكل ذاتي ودقيق بحثاً عن أي أموال تقاضيناها نظير عملية التهريب، بغية مصادرتها. فوجئت بعدم عثور رجال الحرس على أي مبلغ مالي مع الكولبار خلال المداهمة. بعد إطلاقنا في حال سبيلنا، سألت أحد المهربين عما حل بالأموال التي شاهدتهم يتلقونها نظير حمولتهم. ضحك الجميع بصوت عالٍ، قبل أن يخبرني أحدهم 'ابتلعناها'. وعندما رفعت حاجباي دلالة على عدم استيعابي لكلمته، كشف لي أحدهم أنهم اعتادوا لف النقود داخل أكياس بلاستيكية صغيرة تحسباً لموقف كهذا، وأن طبيعة الجسم البشري كفيلة باسترداد ما ابتلعوه".. طبعاً بعد تنظيفه من الشوائب والرواسب.
لا توجد إحصاءات رسمية حول عدد المهربين الذين يُقتلون أو يُعتقلون خلال عبورهم الحدود بسبب الطبيعة غير القانونية لنشاطهم، لكن تقارير المنظمات الحقوقية تفيد بسقوط عشرات الإصابات القاتلة وغير القاتلة برصاص حراس الحدود بين الفينة والأخرى. ولا يفرِّق الكولبار بين رصاصة تقتل وأخرى تجرح؛ ذلك أن الإعاقة هي بمنزلة "شهادة وفاة" لأي مهرب لا يقدر على عبور الحدود بحمولته الكاملة.
مع غروب كل يوم، يَشخصُ أبناء الـ"كولبار" ونساؤهم بأنظارهم باتجاه الحدود انتظاراً لطيف رب العائلة الذي أنهكته رحلة العبور. يُفكِّر الطيف القادم من بعيد بمغامرة الغد وما تحمله من أقدار، فرحلة اليوم ليست الأخيرة. يضع حبله المتين حول كتفيه المتعبتين، يتنسّم الرائحة الزكية المنبعثة من حُلَّة العشاء الذي أعدته زوجته.. إنها لقمة العيش المغمّسة بالدم والعرق.

تمخّض اليأس.. فولد الـ"كولبار"

مهربان يأخذان قسطاً من الراحة قبيل بدء عاصفة ثلجية. ينقل المهربون المعروفون باسم "كولبار" على ظهورهم، عبوات من الوقود المكرر، سعة الواحدة منها حوالى 30 لتراً إلى مدينة "المالكية" في محافظة الحسكة السورية.
"اتبعوا الكلب فهو يعرف مواضع الألغام، ويعلم كيفية تجنب مواقع حرس الحدود". هكذا نصح مسؤول ميداني كردي، أفواج المهربين لدى اقترابهم من حدود كردستان العراق مع إيران.التزم المهربون بتعليمات المسؤول، وكذلك فعل "آرام كريم" -المصور الذي وثَّق هذه اليوميات-...
"اتبعوا الكلب فهو يعرف مواضع الألغام، ويعلم كيفية تجنب مواقع حرس الحدود". هكذا نصح مسؤول ميداني كردي، أفواج المهربين لدى اقترابهم من حدود كردستان العراق مع إيران.

التزم المهربون بتعليمات المسؤول، وكذلك فعل "آرام كريم" -المصور الذي وثَّق هذه اليوميات- وما إن شق نور الفجر طريقه إلى كبد السماء حتى انسَّلت صفوف من الرجال والفتيان عابرة المسالك الجبلية الوعرة باتجاه الأراضي الإيرانية، وقد حملوا رزماً ثقيلة غالبا ما ترتفع الواحدة منها أكثر من متر واحد فوق أكتافهم، وقد غُلِّفت بعناية حتى لا تتسرب إليها مياه الأمطار. أما الرزم الثقيلة-الثمينة فكانت تضم، من بين ما تضم، سجائر وأدوات تجميل وهوائيات أقمار صناعية وعبوات وقود ومشروبات كحولية، وهي مواد تحظر إيران استيرادها.
لطالما جمعت المعابر الحدودية الجبلية الوعرة لإقليم "كردستان العراق" المحاذية لكل من إيران وتركيا وسورية بين متناقضين؛ فهي شريان حياة للإقليم تمده بالمواد الغذائية والحيوية تارة، أو خط تماس تعبره الجيوش الغازية تارة أخرى. على أن التطورات الجيوسياسية المتلاحقة في هذه المنطقة الملتهبة -وليس آخرها تنظيم استفتاء للانفصال عن العراق- أضافت بُعداً ثالثاً إلى مشهد الإقليم المعقد: التهريب.
يقول كريم -الذي أمضى خمسة أعوام كاملة في توثيق عمليات التهريب الحدودية- إن رأس المال الوحيد المطلوب توفره لدى أي "كولبار" (ومعناها المهرِّب-الحمّال باللغة الكردية) هو قدرته على تحمل الألم والمخاطر. أما عدة العمل فبسيطة كل البساطة: حبل متين يُثبِّت الأمتعة بالكتفين، وقطعة قماش سميكة تُلفُّ حول الحبل للتخفيف من وطأة آلامه لدى احتكاكه مع الصدر والكتفين.
تعود أصول ظاهرة التهريب في إقليم كردستان العراق إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي. في ذلك الوقت قطعت حكومة بغداد طرق الإمداد الرئيسة إلى الإقليم في ما عُرف باسم "حملة الأنفال"، ما دفع سكان المناطق الحدودية الى تهريب المواد الحيوية الأساسية بأنواعها من الجانب الإيراني، عن طريق "القجق" أي الممرات غير القانونية.
يقول المصور البالغ 39 عاماً والذي يعيش اليوم لاجئاً قانونياً في فرنسا: "يعد التهريب مهنة من لا مهنة له، وما أكثرهم في المناطق الحدودية المهمّشة. فهو مصدر الرزق الوحيد لآلاف الذكور الذين يُقدمون على هذا العمل الخطر والمرهق في سبيل تحصيل لقمة العيش". سألته عما يقصده تحديداً بعبارة "لقمة العيش" فأجابني بأن المهرب يقوم بزهاء ثلاث رحلات يومياً -تستغرق الواحدة منها حوالى 5 ساعات- ويكسب نحو ثمانية دولارات في الرحلة الواحدة.
استفسرت من كريم عن سبب إحجام المهربين عن استخدام الدواب في عمليات التهريب، فأوضح لي أنهم كانوا يستعينون في السابق بالخيل والبغال لنقل المواد المراد تهريبها، لكن الحكومة الإيرانية ولغرض كبح عمليات تهريب السلاح خصوصا، منعت اقتناء هذه الحيوانات في المناطق الحدودية للحد من ظاهرة التهريب. لكن ومع استمرار تدفق المواد الممنوعة المهربة لجأ حرس الحدود الإيراني إلى إعدام الدواب، وتعمدوا ترك جيفها فترات طويلة في العراء لإثارة الاشمئزاز ونشر الروائح الكريهة، ولجذب الضباع المتوحشة، تذكيراً للمهربين بمحاذير التنقل بين ضفتي الحدود.
في جعبة المصور كريم -الذي اضطر لبيع كاميرته بثمن بخس لتمويل رحلة لجوئه إلى فرنسا- الكثير من القصص التي تستحق الإصغاء، من بينها تكتيكات الـ"كولبار" للتملص من مضايقات حرس حدود الدول المجاورة والميليشيات الكردية المحلية على حد سواء. "في إحدى المرات كنت أوثق عملية تهريب"، يقول كريم "وبينما نحن عائدون إلى ديارنا، إذ بكمين لحرس الحدود يطبق علينا من جميع الجهات. لم يكن معنا أي بضاعة في رحلة العودة. لذلك عمد الحرس إلى تفتيشنا بشكل ذاتي ودقيق بحثاً عن أي أموال تقاضيناها نظير عملية التهريب، بغية مصادرتها. فوجئت بعدم عثور رجال الحرس على أي مبلغ مالي مع الكولبار خلال المداهمة. بعد إطلاقنا في حال سبيلنا، سألت أحد المهربين عما حل بالأموال التي شاهدتهم يتلقونها نظير حمولتهم. ضحك الجميع بصوت عالٍ، قبل أن يخبرني أحدهم 'ابتلعناها'. وعندما رفعت حاجباي دلالة على عدم استيعابي لكلمته، كشف لي أحدهم أنهم اعتادوا لف النقود داخل أكياس بلاستيكية صغيرة تحسباً لموقف كهذا، وأن طبيعة الجسم البشري كفيلة باسترداد ما ابتلعوه".. طبعاً بعد تنظيفه من الشوائب والرواسب.
لا توجد إحصاءات رسمية حول عدد المهربين الذين يُقتلون أو يُعتقلون خلال عبورهم الحدود بسبب الطبيعة غير القانونية لنشاطهم، لكن تقارير المنظمات الحقوقية تفيد بسقوط عشرات الإصابات القاتلة وغير القاتلة برصاص حراس الحدود بين الفينة والأخرى. ولا يفرِّق الكولبار بين رصاصة تقتل وأخرى تجرح؛ ذلك أن الإعاقة هي بمنزلة "شهادة وفاة" لأي مهرب لا يقدر على عبور الحدود بحمولته الكاملة.
مع غروب كل يوم، يَشخصُ أبناء الـ"كولبار" ونساؤهم بأنظارهم باتجاه الحدود انتظاراً لطيف رب العائلة الذي أنهكته رحلة العبور. يُفكِّر الطيف القادم من بعيد بمغامرة الغد وما تحمله من أقدار، فرحلة اليوم ليست الأخيرة. يضع حبله المتين حول كتفيه المتعبتين، يتنسّم الرائحة الزكية المنبعثة من حُلَّة العشاء الذي أعدته زوجته.. إنها لقمة العيش المغمّسة بالدم والعرق.