هجرات أسطورية
بينما كانت الشمس تغرب عن "خليج ثايمز" في نيوزيلندا، كانت عشراتٌ من طيور البقويقة مخططة الذيل تجرّ خُطاها بكسل على حافّة الخليج والريحُ تداعب ريشها.كان المدّ يتقدّم، غامراً المسطحات الطينية حيث كانت الطيور تتغذى بغرز مناقيرها الطويلة في التربة الطرية...
بينما كانت الشمس تغرب عن "خليج ثايمز" في نيوزيلندا، كانت عشراتٌ من طيور البقويقة مخططة الذيل تجرّ خُطاها بكسل على حافّة الخليج والريحُ تداعب ريشها.
كان المدّ يتقدّم، غامراً المسطحات الطينية حيث كانت الطيور تتغذى بغرز مناقيرها الطويلة في التربة الطرية للتنقيب عن الديدان والسرطانات. ازداد تقدّم المدّ فأوقفت الطيور بحثها عن غذائها وعادت باتجاه الشاطئ خائضة في المياه، وهي تحمل أجسامها السمينة المكتنزة بلا أناقة على سيقانها الشبيهة بالعيدان. ليس في طيور البقويقة هذه ما يلفت النظر، فمظهرها بسيط غير جذّاب وكساؤها الريشي أسمر شاحب، ما يجعلها تبدو طيوراً عادية جداً. لمّا اتشحت السماء بلون برتقالي، أخذت الطيور تستعد لتجثم في أعشاشها أخيراً. والناظر إليها وهي تستريح هكذا ساعات طويلة بلا حراك، قد يحسبها طيوراً مستقرةً غير مهاجرة.
ولكنْ ما أبعد ذلك عن الواقع! فقبل ستة شهور على هذا المشهد، كانت هذه الطيور قد انطلقت في رحلة طيران ملحميّة من ولاية ألاسكا بالولايات المتحدة لتصل إلى هذا المكان في "خليج ثايمز" بنيوزلندا. والمدهش هو أنها لم تتوقف للاستراحة طيلة الرحلة، إذ ظلّت تطير على مدار ثمانية أيام أو تسعة توالياً، خافقةً أجنحتها طيلة الطريق؛ على طول ما يقارب 11500 كيلومتر، أي أكثر من ربع المسافة حول الأرض.
ولدى وصول طيور البقويقة هذه إلى هنا، كانت ضامرة وحالتها رثّة متّسخة. أما الآن فقد سَمُنت استعداداً لرحلة العودة إلى ألاسكا حيث ستتكاثر خلال الصيف. إذ ستطير نحو 10 آلاف كيلومتر إلى البحر الأصفر. وهناك ستُمضي نحو ستة أسابيع على طول ساحل تتقاسمه الصين وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، فتتغذى وتستريح فيه قبل أن تتابع الطيران مسافة 6500 كيلومتر إضافية.
ولقد دأبت طيور البقويقة مخططة الذيل على إتمام هذه الهجرة منذ آلاف السنين، ولكن لم تتشكّل صورة واضحة عن رحلاتها سوى في العقود القليلة الماضية.
فعلى الرغم من أن هجرات الطيور ظلّت تثير العجب في البشر قروناً طويلة، إلا أننا لم نبدأ بفهمها إلا مؤخراً، بفضل المكتَشفات العلمية الجديدة التي كان من شأنها كذلك أن زادت من تقديرنا لهذه الإنجازات المذهلة.
وفي الوقت نفسه، فقد بدأ العلماء يكتشفون كيف أن النشاط البشري والتغيّر المناخي يشوّشان على مسار هذه الرحلات الموغلة في القِدَم بل وربما يعرّضانها للخطر.
وكان الاختفاء السنوي لطيور البقويقة من نيوزيلندا خلال شهور تكاثرها قد دفع شعب "ماوري" (الشعب الأصلي للجزر) إلى عدّ طيور البقويقة -التي يَدعونها باسم "كواكا"- طيوراً غامضة. ونرى أثر ذلك في مَـثَــلٍ متداولٍ لدى الماوري عن الأشياء التي لا يمكن الحصول عليها، إذ يقول المثل: "مَـن ذا الذي طال بيضة كواكا؟". ومع حلول سبعينيات القرن الماضي، كان مراقبو الطيور وعلماء الأحياء قد شكّوا بأن طيور البقويقة في نيوزيلندا هي نفسها تلك التي كانت تعشّش في ألاسكا. لكن العلماء لم يتمكنوا من تحديد خطوط هجرتها إلا في عام 2007.
وقد كان "بوب غيل" و"لي تيبيتس" -عالِما أحياء برية لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي"- ضمن فريق بحثي أمسك بعدد قليل من طيور البقويقة وزرعَ جهاز إرسال دقيق داخل إحدى حُويصلات الهواء في بطن كل منها، مع ترك هوائي الجهاز ناتئاً خارج الجسم (وقد تطلّب الأمر تخدير الطيور وإجراء جراحة لها). وبين شهري مارس ومايو، راح هؤلاء الباحثون يتعقّبون مجموعة منها وهي تنطلق في رحلة هجرتها الشمالية. ولم يكن متوقعاً لبطاريات أجهزة الإرسال أن يطول أمدها إلى ما بعد فصل الصيف؛ وبالفعل أخذت الأجهزة تتوقف عن العمل، الواحد تلو الآخر باستثناء جهاز واحد. ففي 30 أغسطس من عام 2007، كان طائر بقويقة -سمّاه الباحثون "ئِي 7"- قد غادر ألاسكا وجهاز إرساله ما يزال يرسل رسائل تُفيد بموقعه.
عندئذٍ تابع الباحثون تقدّم هذا الطائر بشوق متزايد وهو يطير مجتازاً جزر هاواي أولاً، فجزر فيجي، ثم الحافّة الشمالية الغربية لنيوزيلندا في السابع من سبتمبر. وتستذكر "لي تيبيتس" ذلكَ قائلة: "كانت تجربة مثيرة للأعصاب لأن البطارية كانت تضعف". في تلك الليلة، حطّ الطائر "ئِي 7" في "خليج ثايمز". وبِطيرانه ثمانية أيام وثماني ليالٍ وقطعه 11500 كيلومتر، يكون قد أتمّ أطول رحلة طيران بلا توقف لطائر مهاجر حتى الآن، وفقاً للسجلّات العلمية. وتعليقاً على ذلك، يقول "بوب غيل"، الذي صار اليوم عالِماً متقاعداً لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي": "إنه لإنجاز محيِّر ومثير للذهول والدهشة".
وكان من شأن تعقّب "ئِي 7" أن زاد من فضولنا الذي لطالما أثارته هجرات الطيور؛ والذي تغذيه أسئلة من قبيل: أين تذهب؟ كيف تستطيع أن تطير قاطعة كل تلك المسافات؟ كيف يمكنها أن تجد طريقها إلى المشاتي والمصايف نفسها عاماً بعد عام؟ لقد استطاع الباحثون بفضل التطوّرات التي حدثت في تقنيات التعقّب بالأقمار الصناعية وغيرها من التقنيات، أن يستكشفوا أجوبة تلك الأسئلة بتفاصيل غير مسبوقة.
كان المدّ يتقدّم، غامراً المسطحات الطينية حيث كانت الطيور تتغذى بغرز مناقيرها الطويلة في التربة الطرية للتنقيب عن الديدان والسرطانات. ازداد تقدّم المدّ فأوقفت الطيور بحثها عن غذائها وعادت باتجاه الشاطئ خائضة في المياه، وهي تحمل أجسامها السمينة المكتنزة بلا أناقة على سيقانها الشبيهة بالعيدان. ليس في طيور البقويقة هذه ما يلفت النظر، فمظهرها بسيط غير جذّاب وكساؤها الريشي أسمر شاحب، ما يجعلها تبدو طيوراً عادية جداً. لمّا اتشحت السماء بلون برتقالي، أخذت الطيور تستعد لتجثم في أعشاشها أخيراً. والناظر إليها وهي تستريح هكذا ساعات طويلة بلا حراك، قد يحسبها طيوراً مستقرةً غير مهاجرة.
ولكنْ ما أبعد ذلك عن الواقع! فقبل ستة شهور على هذا المشهد، كانت هذه الطيور قد انطلقت في رحلة طيران ملحميّة من ولاية ألاسكا بالولايات المتحدة لتصل إلى هذا المكان في "خليج ثايمز" بنيوزلندا. والمدهش هو أنها لم تتوقف للاستراحة طيلة الرحلة، إذ ظلّت تطير على مدار ثمانية أيام أو تسعة توالياً، خافقةً أجنحتها طيلة الطريق؛ على طول ما يقارب 11500 كيلومتر، أي أكثر من ربع المسافة حول الأرض.
ولدى وصول طيور البقويقة هذه إلى هنا، كانت ضامرة وحالتها رثّة متّسخة. أما الآن فقد سَمُنت استعداداً لرحلة العودة إلى ألاسكا حيث ستتكاثر خلال الصيف. إذ ستطير نحو 10 آلاف كيلومتر إلى البحر الأصفر. وهناك ستُمضي نحو ستة أسابيع على طول ساحل تتقاسمه الصين وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، فتتغذى وتستريح فيه قبل أن تتابع الطيران مسافة 6500 كيلومتر إضافية.
ولقد دأبت طيور البقويقة مخططة الذيل على إتمام هذه الهجرة منذ آلاف السنين، ولكن لم تتشكّل صورة واضحة عن رحلاتها سوى في العقود القليلة الماضية.
فعلى الرغم من أن هجرات الطيور ظلّت تثير العجب في البشر قروناً طويلة، إلا أننا لم نبدأ بفهمها إلا مؤخراً، بفضل المكتَشفات العلمية الجديدة التي كان من شأنها كذلك أن زادت من تقديرنا لهذه الإنجازات المذهلة.
وفي الوقت نفسه، فقد بدأ العلماء يكتشفون كيف أن النشاط البشري والتغيّر المناخي يشوّشان على مسار هذه الرحلات الموغلة في القِدَم بل وربما يعرّضانها للخطر.
وكان الاختفاء السنوي لطيور البقويقة من نيوزيلندا خلال شهور تكاثرها قد دفع شعب "ماوري" (الشعب الأصلي للجزر) إلى عدّ طيور البقويقة -التي يَدعونها باسم "كواكا"- طيوراً غامضة. ونرى أثر ذلك في مَـثَــلٍ متداولٍ لدى الماوري عن الأشياء التي لا يمكن الحصول عليها، إذ يقول المثل: "مَـن ذا الذي طال بيضة كواكا؟". ومع حلول سبعينيات القرن الماضي، كان مراقبو الطيور وعلماء الأحياء قد شكّوا بأن طيور البقويقة في نيوزيلندا هي نفسها تلك التي كانت تعشّش في ألاسكا. لكن العلماء لم يتمكنوا من تحديد خطوط هجرتها إلا في عام 2007.
وقد كان "بوب غيل" و"لي تيبيتس" -عالِما أحياء برية لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي"- ضمن فريق بحثي أمسك بعدد قليل من طيور البقويقة وزرعَ جهاز إرسال دقيق داخل إحدى حُويصلات الهواء في بطن كل منها، مع ترك هوائي الجهاز ناتئاً خارج الجسم (وقد تطلّب الأمر تخدير الطيور وإجراء جراحة لها). وبين شهري مارس ومايو، راح هؤلاء الباحثون يتعقّبون مجموعة منها وهي تنطلق في رحلة هجرتها الشمالية. ولم يكن متوقعاً لبطاريات أجهزة الإرسال أن يطول أمدها إلى ما بعد فصل الصيف؛ وبالفعل أخذت الأجهزة تتوقف عن العمل، الواحد تلو الآخر باستثناء جهاز واحد. ففي 30 أغسطس من عام 2007، كان طائر بقويقة -سمّاه الباحثون "ئِي 7"- قد غادر ألاسكا وجهاز إرساله ما يزال يرسل رسائل تُفيد بموقعه.
عندئذٍ تابع الباحثون تقدّم هذا الطائر بشوق متزايد وهو يطير مجتازاً جزر هاواي أولاً، فجزر فيجي، ثم الحافّة الشمالية الغربية لنيوزيلندا في السابع من سبتمبر. وتستذكر "لي تيبيتس" ذلكَ قائلة: "كانت تجربة مثيرة للأعصاب لأن البطارية كانت تضعف". في تلك الليلة، حطّ الطائر "ئِي 7" في "خليج ثايمز". وبِطيرانه ثمانية أيام وثماني ليالٍ وقطعه 11500 كيلومتر، يكون قد أتمّ أطول رحلة طيران بلا توقف لطائر مهاجر حتى الآن، وفقاً للسجلّات العلمية. وتعليقاً على ذلك، يقول "بوب غيل"، الذي صار اليوم عالِماً متقاعداً لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي": "إنه لإنجاز محيِّر ومثير للذهول والدهشة".
وكان من شأن تعقّب "ئِي 7" أن زاد من فضولنا الذي لطالما أثارته هجرات الطيور؛ والذي تغذيه أسئلة من قبيل: أين تذهب؟ كيف تستطيع أن تطير قاطعة كل تلك المسافات؟ كيف يمكنها أن تجد طريقها إلى المشاتي والمصايف نفسها عاماً بعد عام؟ لقد استطاع الباحثون بفضل التطوّرات التي حدثت في تقنيات التعقّب بالأقمار الصناعية وغيرها من التقنيات، أن يستكشفوا أجوبة تلك الأسئلة بتفاصيل غير مسبوقة.
هجرات أسطورية
- ستيفن ويلكس
بينما كانت الشمس تغرب عن "خليج ثايمز" في نيوزيلندا، كانت عشراتٌ من طيور البقويقة مخططة الذيل تجرّ خُطاها بكسل على حافّة الخليج والريحُ تداعب ريشها.كان المدّ يتقدّم، غامراً المسطحات الطينية حيث كانت الطيور تتغذى بغرز مناقيرها الطويلة في التربة الطرية...
بينما كانت الشمس تغرب عن "خليج ثايمز" في نيوزيلندا، كانت عشراتٌ من طيور البقويقة مخططة الذيل تجرّ خُطاها بكسل على حافّة الخليج والريحُ تداعب ريشها.
كان المدّ يتقدّم، غامراً المسطحات الطينية حيث كانت الطيور تتغذى بغرز مناقيرها الطويلة في التربة الطرية للتنقيب عن الديدان والسرطانات. ازداد تقدّم المدّ فأوقفت الطيور بحثها عن غذائها وعادت باتجاه الشاطئ خائضة في المياه، وهي تحمل أجسامها السمينة المكتنزة بلا أناقة على سيقانها الشبيهة بالعيدان. ليس في طيور البقويقة هذه ما يلفت النظر، فمظهرها بسيط غير جذّاب وكساؤها الريشي أسمر شاحب، ما يجعلها تبدو طيوراً عادية جداً. لمّا اتشحت السماء بلون برتقالي، أخذت الطيور تستعد لتجثم في أعشاشها أخيراً. والناظر إليها وهي تستريح هكذا ساعات طويلة بلا حراك، قد يحسبها طيوراً مستقرةً غير مهاجرة.
ولكنْ ما أبعد ذلك عن الواقع! فقبل ستة شهور على هذا المشهد، كانت هذه الطيور قد انطلقت في رحلة طيران ملحميّة من ولاية ألاسكا بالولايات المتحدة لتصل إلى هذا المكان في "خليج ثايمز" بنيوزلندا. والمدهش هو أنها لم تتوقف للاستراحة طيلة الرحلة، إذ ظلّت تطير على مدار ثمانية أيام أو تسعة توالياً، خافقةً أجنحتها طيلة الطريق؛ على طول ما يقارب 11500 كيلومتر، أي أكثر من ربع المسافة حول الأرض.
ولدى وصول طيور البقويقة هذه إلى هنا، كانت ضامرة وحالتها رثّة متّسخة. أما الآن فقد سَمُنت استعداداً لرحلة العودة إلى ألاسكا حيث ستتكاثر خلال الصيف. إذ ستطير نحو 10 آلاف كيلومتر إلى البحر الأصفر. وهناك ستُمضي نحو ستة أسابيع على طول ساحل تتقاسمه الصين وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، فتتغذى وتستريح فيه قبل أن تتابع الطيران مسافة 6500 كيلومتر إضافية.
ولقد دأبت طيور البقويقة مخططة الذيل على إتمام هذه الهجرة منذ آلاف السنين، ولكن لم تتشكّل صورة واضحة عن رحلاتها سوى في العقود القليلة الماضية.
فعلى الرغم من أن هجرات الطيور ظلّت تثير العجب في البشر قروناً طويلة، إلا أننا لم نبدأ بفهمها إلا مؤخراً، بفضل المكتَشفات العلمية الجديدة التي كان من شأنها كذلك أن زادت من تقديرنا لهذه الإنجازات المذهلة.
وفي الوقت نفسه، فقد بدأ العلماء يكتشفون كيف أن النشاط البشري والتغيّر المناخي يشوّشان على مسار هذه الرحلات الموغلة في القِدَم بل وربما يعرّضانها للخطر.
وكان الاختفاء السنوي لطيور البقويقة من نيوزيلندا خلال شهور تكاثرها قد دفع شعب "ماوري" (الشعب الأصلي للجزر) إلى عدّ طيور البقويقة -التي يَدعونها باسم "كواكا"- طيوراً غامضة. ونرى أثر ذلك في مَـثَــلٍ متداولٍ لدى الماوري عن الأشياء التي لا يمكن الحصول عليها، إذ يقول المثل: "مَـن ذا الذي طال بيضة كواكا؟". ومع حلول سبعينيات القرن الماضي، كان مراقبو الطيور وعلماء الأحياء قد شكّوا بأن طيور البقويقة في نيوزيلندا هي نفسها تلك التي كانت تعشّش في ألاسكا. لكن العلماء لم يتمكنوا من تحديد خطوط هجرتها إلا في عام 2007.
وقد كان "بوب غيل" و"لي تيبيتس" -عالِما أحياء برية لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي"- ضمن فريق بحثي أمسك بعدد قليل من طيور البقويقة وزرعَ جهاز إرسال دقيق داخل إحدى حُويصلات الهواء في بطن كل منها، مع ترك هوائي الجهاز ناتئاً خارج الجسم (وقد تطلّب الأمر تخدير الطيور وإجراء جراحة لها). وبين شهري مارس ومايو، راح هؤلاء الباحثون يتعقّبون مجموعة منها وهي تنطلق في رحلة هجرتها الشمالية. ولم يكن متوقعاً لبطاريات أجهزة الإرسال أن يطول أمدها إلى ما بعد فصل الصيف؛ وبالفعل أخذت الأجهزة تتوقف عن العمل، الواحد تلو الآخر باستثناء جهاز واحد. ففي 30 أغسطس من عام 2007، كان طائر بقويقة -سمّاه الباحثون "ئِي 7"- قد غادر ألاسكا وجهاز إرساله ما يزال يرسل رسائل تُفيد بموقعه.
عندئذٍ تابع الباحثون تقدّم هذا الطائر بشوق متزايد وهو يطير مجتازاً جزر هاواي أولاً، فجزر فيجي، ثم الحافّة الشمالية الغربية لنيوزيلندا في السابع من سبتمبر. وتستذكر "لي تيبيتس" ذلكَ قائلة: "كانت تجربة مثيرة للأعصاب لأن البطارية كانت تضعف". في تلك الليلة، حطّ الطائر "ئِي 7" في "خليج ثايمز". وبِطيرانه ثمانية أيام وثماني ليالٍ وقطعه 11500 كيلومتر، يكون قد أتمّ أطول رحلة طيران بلا توقف لطائر مهاجر حتى الآن، وفقاً للسجلّات العلمية. وتعليقاً على ذلك، يقول "بوب غيل"، الذي صار اليوم عالِماً متقاعداً لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي": "إنه لإنجاز محيِّر ومثير للذهول والدهشة".
وكان من شأن تعقّب "ئِي 7" أن زاد من فضولنا الذي لطالما أثارته هجرات الطيور؛ والذي تغذيه أسئلة من قبيل: أين تذهب؟ كيف تستطيع أن تطير قاطعة كل تلك المسافات؟ كيف يمكنها أن تجد طريقها إلى المشاتي والمصايف نفسها عاماً بعد عام؟ لقد استطاع الباحثون بفضل التطوّرات التي حدثت في تقنيات التعقّب بالأقمار الصناعية وغيرها من التقنيات، أن يستكشفوا أجوبة تلك الأسئلة بتفاصيل غير مسبوقة.
كان المدّ يتقدّم، غامراً المسطحات الطينية حيث كانت الطيور تتغذى بغرز مناقيرها الطويلة في التربة الطرية للتنقيب عن الديدان والسرطانات. ازداد تقدّم المدّ فأوقفت الطيور بحثها عن غذائها وعادت باتجاه الشاطئ خائضة في المياه، وهي تحمل أجسامها السمينة المكتنزة بلا أناقة على سيقانها الشبيهة بالعيدان. ليس في طيور البقويقة هذه ما يلفت النظر، فمظهرها بسيط غير جذّاب وكساؤها الريشي أسمر شاحب، ما يجعلها تبدو طيوراً عادية جداً. لمّا اتشحت السماء بلون برتقالي، أخذت الطيور تستعد لتجثم في أعشاشها أخيراً. والناظر إليها وهي تستريح هكذا ساعات طويلة بلا حراك، قد يحسبها طيوراً مستقرةً غير مهاجرة.
ولكنْ ما أبعد ذلك عن الواقع! فقبل ستة شهور على هذا المشهد، كانت هذه الطيور قد انطلقت في رحلة طيران ملحميّة من ولاية ألاسكا بالولايات المتحدة لتصل إلى هذا المكان في "خليج ثايمز" بنيوزلندا. والمدهش هو أنها لم تتوقف للاستراحة طيلة الرحلة، إذ ظلّت تطير على مدار ثمانية أيام أو تسعة توالياً، خافقةً أجنحتها طيلة الطريق؛ على طول ما يقارب 11500 كيلومتر، أي أكثر من ربع المسافة حول الأرض.
ولدى وصول طيور البقويقة هذه إلى هنا، كانت ضامرة وحالتها رثّة متّسخة. أما الآن فقد سَمُنت استعداداً لرحلة العودة إلى ألاسكا حيث ستتكاثر خلال الصيف. إذ ستطير نحو 10 آلاف كيلومتر إلى البحر الأصفر. وهناك ستُمضي نحو ستة أسابيع على طول ساحل تتقاسمه الصين وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، فتتغذى وتستريح فيه قبل أن تتابع الطيران مسافة 6500 كيلومتر إضافية.
ولقد دأبت طيور البقويقة مخططة الذيل على إتمام هذه الهجرة منذ آلاف السنين، ولكن لم تتشكّل صورة واضحة عن رحلاتها سوى في العقود القليلة الماضية.
فعلى الرغم من أن هجرات الطيور ظلّت تثير العجب في البشر قروناً طويلة، إلا أننا لم نبدأ بفهمها إلا مؤخراً، بفضل المكتَشفات العلمية الجديدة التي كان من شأنها كذلك أن زادت من تقديرنا لهذه الإنجازات المذهلة.
وفي الوقت نفسه، فقد بدأ العلماء يكتشفون كيف أن النشاط البشري والتغيّر المناخي يشوّشان على مسار هذه الرحلات الموغلة في القِدَم بل وربما يعرّضانها للخطر.
وكان الاختفاء السنوي لطيور البقويقة من نيوزيلندا خلال شهور تكاثرها قد دفع شعب "ماوري" (الشعب الأصلي للجزر) إلى عدّ طيور البقويقة -التي يَدعونها باسم "كواكا"- طيوراً غامضة. ونرى أثر ذلك في مَـثَــلٍ متداولٍ لدى الماوري عن الأشياء التي لا يمكن الحصول عليها، إذ يقول المثل: "مَـن ذا الذي طال بيضة كواكا؟". ومع حلول سبعينيات القرن الماضي، كان مراقبو الطيور وعلماء الأحياء قد شكّوا بأن طيور البقويقة في نيوزيلندا هي نفسها تلك التي كانت تعشّش في ألاسكا. لكن العلماء لم يتمكنوا من تحديد خطوط هجرتها إلا في عام 2007.
وقد كان "بوب غيل" و"لي تيبيتس" -عالِما أحياء برية لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي"- ضمن فريق بحثي أمسك بعدد قليل من طيور البقويقة وزرعَ جهاز إرسال دقيق داخل إحدى حُويصلات الهواء في بطن كل منها، مع ترك هوائي الجهاز ناتئاً خارج الجسم (وقد تطلّب الأمر تخدير الطيور وإجراء جراحة لها). وبين شهري مارس ومايو، راح هؤلاء الباحثون يتعقّبون مجموعة منها وهي تنطلق في رحلة هجرتها الشمالية. ولم يكن متوقعاً لبطاريات أجهزة الإرسال أن يطول أمدها إلى ما بعد فصل الصيف؛ وبالفعل أخذت الأجهزة تتوقف عن العمل، الواحد تلو الآخر باستثناء جهاز واحد. ففي 30 أغسطس من عام 2007، كان طائر بقويقة -سمّاه الباحثون "ئِي 7"- قد غادر ألاسكا وجهاز إرساله ما يزال يرسل رسائل تُفيد بموقعه.
عندئذٍ تابع الباحثون تقدّم هذا الطائر بشوق متزايد وهو يطير مجتازاً جزر هاواي أولاً، فجزر فيجي، ثم الحافّة الشمالية الغربية لنيوزيلندا في السابع من سبتمبر. وتستذكر "لي تيبيتس" ذلكَ قائلة: "كانت تجربة مثيرة للأعصاب لأن البطارية كانت تضعف". في تلك الليلة، حطّ الطائر "ئِي 7" في "خليج ثايمز". وبِطيرانه ثمانية أيام وثماني ليالٍ وقطعه 11500 كيلومتر، يكون قد أتمّ أطول رحلة طيران بلا توقف لطائر مهاجر حتى الآن، وفقاً للسجلّات العلمية. وتعليقاً على ذلك، يقول "بوب غيل"، الذي صار اليوم عالِماً متقاعداً لدى "هيئة المسح الجيولوجي الأميركي": "إنه لإنجاز محيِّر ومثير للذهول والدهشة".
وكان من شأن تعقّب "ئِي 7" أن زاد من فضولنا الذي لطالما أثارته هجرات الطيور؛ والذي تغذيه أسئلة من قبيل: أين تذهب؟ كيف تستطيع أن تطير قاطعة كل تلك المسافات؟ كيف يمكنها أن تجد طريقها إلى المشاتي والمصايف نفسها عاماً بعد عام؟ لقد استطاع الباحثون بفضل التطوّرات التي حدثت في تقنيات التعقّب بالأقمار الصناعية وغيرها من التقنيات، أن يستكشفوا أجوبة تلك الأسئلة بتفاصيل غير مسبوقة.