أميركا البيضاء.. خائفة

تقف "فيليسا ريكو" لدى بيت عائلتها الواقع في مدينة "هيزلتون" بولاية بنسلفانيا، حيث تعيش مع أمها "كيلي" وزوج أمها "جيسي بورتانوفا".
حتى بعد أن أُغلقت مناجم الفحم واختفت الوظائف في المعامل، وبدأت المؤسسات والمتاجر تزيل اللافتات التي تحمل أسماءها إيذاناً بتوقّفها عن العمل في شارع "برود ستريت"، وحتى بعد أن أخذ الأهالي يتناقصون شيئاً فشيئاً وكان المستشفى المحلّي على وشك الإفلاس.. فإن...

حتى بعد أن أُغلقت مناجم الفحم واختفت الوظائف في المعامل، وبدأت المؤسسات والمتاجر تزيل اللافتات التي تحمل أسماءها إيذاناً بتوقّفها عن العمل في شارع "برود ستريت"، وحتى بعد أن أخذ الأهالي يتناقصون شيئاً فشيئاً وكان المستشفى المحلّي على وشك الإفلاس.. فإن سكّان مدينة "هيزلتون" الواقعة بولاية بنسلفانيا ظلّوا يفدون إلى مركز المدينة لحضور مهرجان "فَان فِيست" السنوي. ودأبتْ "سالي ييل" منذ سنوات على المشاركة في الموكب الخريفي للمهرجان، وهي تقود مركبة جُعلَت في شكل فنجان شاي عملاق مزوّد بمحرّك. وكانت مركبتها المميزة تلك تنفث أبخرة من الثلج الجافّ، تمثّل الدعاية المثالية للمقهى الفاخر الذي تمتلكه. تبلغ ييل من العمر 53 عاماً، لكن وجهها يشرق سروراً كوجه طفل عندما تتحدّث عن المهرجان.. عن تصفيق الجمهور.. عن مغتربي المدينة الذين كانوا يعودون إليها خصّيصاً لحضور الفعاليات. وكذلك عن "الأطعمة"، كما تقول ييل وهي ترفع حاجبيها وتقلّب ناظريها تعبيراً عن مدى لذة الأطباق التي كانت تُعرَض في المهرجان؛ ومنها معجّنات "كانولّي" وزلابية "بيروغي"، والنقانق والكعكات القِمعيّة.. وهي ملذّات كانت تمثّل موجات المهاجرين الأوروبيين الذين كانوا قد ألقوا عصا الترحال على تلال هيزلتون المتموّجة. ثم تغيَّر كل شيء. فقد أصبح مهرجان "فَان فِيست" في نظر سالي ييل شديد الرّعب؛ وشديد الإزعاج.. وبصراحة، شديد السُّمرة. تقول: "إذا فكر أحدنا بزيارة فعالية عامة فإنه يعرف سلفاً أن أعداد الآخرين ستفوق أعداد بني جلدته؛ يعرف أنه سيمثّل الأقلية، فهل سيرغب بالذهاب؟". بالنسبة إلى ييل فالجواب على ذلك التساؤل هو: لا. أُثيرت كلمة "التفوق العددي" كثيراً عندما تحدّثت إلى السكّان البيض لهذه المدينة الواقعة شرق ولاية بنسلفانيا: فللآخرين تفوق عددي في غرفة الانتظار لدى العيادة الطبية؛ وتفوق عددي في المصرف؛ وتفوق عددي لدى متاجر التسوق الكبرى، حيث يستمتع أمين الصندوق بتجاذب أطراف الحديث بالإسبانية مع هؤلاء الآخرين.. سكّان هيزلتون الجدد. كانت هيزلتون مدينة أخرى في قائمة مدن تعدين الفحم السابقة التي كانت تنزلق نحو الهاوية، إلى أن وصلت إليها موجة بشرية من الأميركيين اللاتينيين. وليس من المبالغة أن نقول إنها كانت موجة بشرية عاتية؛ إذ إنه في عام 2000، كان 95 بالمئة من سكّان هيزلتون -البالغ عددهم آنذاك 23399 نسمة- من البيض غير الأميركيين اللاتينيين، في حين لم تشكّل الفئة الأخرى سوى خمسة بالمئة من السكّان. ولكن مع حلول عام 2016، كان الأميركيون اللاتينيون قد أصبحوا الأغلبية، فشكّلوا 52 بالمئة من السكّان؛ في حين تضاءلت نسبة البيض "الأصليين" إلى 44 بالمئة. وتعليقاً على ذلك، "يقول بوب ساكو"، الذي يعمل ساقياً لدى حانة تقع في شارعٍ أصبح مُلاّك جُلّ المتاجر فيه من الأميركيين اللاتينيين: "إننا نتناول الموضوع كما لو كان دعابة، ونقول إننا أصبحنا من الأقلية؛ فلقد احتلوا المدينة. نتعامل مع الأمر كما لو كان دعابة، ولكنه أكبر من أن يكون كذلك". هذه النقلة الديموغرافية النوعية التي تصيب المرء بالدُّوار هي تجسيدٌ متطرّفٌ للتغيّرات البشرية التي تشهدها الأمة الأميركية. وقد توقّع "مكتب التعداد السكّاني للولايات المتحدة" بأن تقلّ نسبة البيض من غير الأميركيين اللاتينيين عن 50 بالمئة من السكّان في أفق عام 2044، وهو تغيّر من المستبعد جداً أن يحدث من دون أن يعيد صياغة العلاقات العرقية في المجتمع الأميركي ودور الأميركيين البيض، الذين لطالما كانوا الأغلبية وبهامش مريح عن أقرب منافسيهم. إن تجربة مدينة هيزلتون تعطينا لمحة إلى مستقبلٍ سيواجِه فيه الأميركيون البيض نهايةَ وضعهم بصفتهم الأغلبية، ذاك الوضع الذي كثيراً ما ظل يعني أن تراثهم وتقاليدهم وأذواقهم وفلسفتهم الثقافية الخاصة بالقيم الجمالية كانت تُعدّ جوهر الهوية الأميركية. وقد بات هذا حديثاً ذائعاً عبر أرجاء البلد، إذ يَصدر غضبٌ وقلق عن بعض الأميركيين البيض (في المنتديات الإلكترونية وفي المظاهرات المحتجّة على إزالة نُصُب رموز الولايات الكونفدرالية الأميركية) لشعورهم بأن أسلوبهم في الحياة قد بات مهدداً. وأصبح الموضوع يستحوذ على عناوين الصحافة ويثير المواجهات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ولكنه يتمظهر بطرق حاذقة ولا تكاد تُلاحَظ في قاعات الدراسة وغرف الاستراحة وأروقة المصانع والمراكز التجارية، حيث وصل ذلك المستقبل الديموغرافي قبل موعده المرتقب. فمنذ عام 2000، ظلت أعداد الأقليات تزداد حتى فاقت أعداد البيض غير الأميركيين اللاتينيين في مقاطعات مثل "سوفولك" بولاية ماساتشوسيتس، و"مونتغومري" بولاية ماريلاند، و"ميك لينبرغ" بولاية كارولينا الشمالية، فضلاً عن مقاطعات في كاليفورنيا وكولورادو وفلوريدا ونيوجيرسي وتكساس.

أميركا البيضاء.. خائفة

تقف "فيليسا ريكو" لدى بيت عائلتها الواقع في مدينة "هيزلتون" بولاية بنسلفانيا، حيث تعيش مع أمها "كيلي" وزوج أمها "جيسي بورتانوفا".
حتى بعد أن أُغلقت مناجم الفحم واختفت الوظائف في المعامل، وبدأت المؤسسات والمتاجر تزيل اللافتات التي تحمل أسماءها إيذاناً بتوقّفها عن العمل في شارع "برود ستريت"، وحتى بعد أن أخذ الأهالي يتناقصون شيئاً فشيئاً وكان المستشفى المحلّي على وشك الإفلاس.. فإن...

حتى بعد أن أُغلقت مناجم الفحم واختفت الوظائف في المعامل، وبدأت المؤسسات والمتاجر تزيل اللافتات التي تحمل أسماءها إيذاناً بتوقّفها عن العمل في شارع "برود ستريت"، وحتى بعد أن أخذ الأهالي يتناقصون شيئاً فشيئاً وكان المستشفى المحلّي على وشك الإفلاس.. فإن سكّان مدينة "هيزلتون" الواقعة بولاية بنسلفانيا ظلّوا يفدون إلى مركز المدينة لحضور مهرجان "فَان فِيست" السنوي. ودأبتْ "سالي ييل" منذ سنوات على المشاركة في الموكب الخريفي للمهرجان، وهي تقود مركبة جُعلَت في شكل فنجان شاي عملاق مزوّد بمحرّك. وكانت مركبتها المميزة تلك تنفث أبخرة من الثلج الجافّ، تمثّل الدعاية المثالية للمقهى الفاخر الذي تمتلكه. تبلغ ييل من العمر 53 عاماً، لكن وجهها يشرق سروراً كوجه طفل عندما تتحدّث عن المهرجان.. عن تصفيق الجمهور.. عن مغتربي المدينة الذين كانوا يعودون إليها خصّيصاً لحضور الفعاليات. وكذلك عن "الأطعمة"، كما تقول ييل وهي ترفع حاجبيها وتقلّب ناظريها تعبيراً عن مدى لذة الأطباق التي كانت تُعرَض في المهرجان؛ ومنها معجّنات "كانولّي" وزلابية "بيروغي"، والنقانق والكعكات القِمعيّة.. وهي ملذّات كانت تمثّل موجات المهاجرين الأوروبيين الذين كانوا قد ألقوا عصا الترحال على تلال هيزلتون المتموّجة. ثم تغيَّر كل شيء. فقد أصبح مهرجان "فَان فِيست" في نظر سالي ييل شديد الرّعب؛ وشديد الإزعاج.. وبصراحة، شديد السُّمرة. تقول: "إذا فكر أحدنا بزيارة فعالية عامة فإنه يعرف سلفاً أن أعداد الآخرين ستفوق أعداد بني جلدته؛ يعرف أنه سيمثّل الأقلية، فهل سيرغب بالذهاب؟". بالنسبة إلى ييل فالجواب على ذلك التساؤل هو: لا. أُثيرت كلمة "التفوق العددي" كثيراً عندما تحدّثت إلى السكّان البيض لهذه المدينة الواقعة شرق ولاية بنسلفانيا: فللآخرين تفوق عددي في غرفة الانتظار لدى العيادة الطبية؛ وتفوق عددي في المصرف؛ وتفوق عددي لدى متاجر التسوق الكبرى، حيث يستمتع أمين الصندوق بتجاذب أطراف الحديث بالإسبانية مع هؤلاء الآخرين.. سكّان هيزلتون الجدد. كانت هيزلتون مدينة أخرى في قائمة مدن تعدين الفحم السابقة التي كانت تنزلق نحو الهاوية، إلى أن وصلت إليها موجة بشرية من الأميركيين اللاتينيين. وليس من المبالغة أن نقول إنها كانت موجة بشرية عاتية؛ إذ إنه في عام 2000، كان 95 بالمئة من سكّان هيزلتون -البالغ عددهم آنذاك 23399 نسمة- من البيض غير الأميركيين اللاتينيين، في حين لم تشكّل الفئة الأخرى سوى خمسة بالمئة من السكّان. ولكن مع حلول عام 2016، كان الأميركيون اللاتينيون قد أصبحوا الأغلبية، فشكّلوا 52 بالمئة من السكّان؛ في حين تضاءلت نسبة البيض "الأصليين" إلى 44 بالمئة. وتعليقاً على ذلك، "يقول بوب ساكو"، الذي يعمل ساقياً لدى حانة تقع في شارعٍ أصبح مُلاّك جُلّ المتاجر فيه من الأميركيين اللاتينيين: "إننا نتناول الموضوع كما لو كان دعابة، ونقول إننا أصبحنا من الأقلية؛ فلقد احتلوا المدينة. نتعامل مع الأمر كما لو كان دعابة، ولكنه أكبر من أن يكون كذلك". هذه النقلة الديموغرافية النوعية التي تصيب المرء بالدُّوار هي تجسيدٌ متطرّفٌ للتغيّرات البشرية التي تشهدها الأمة الأميركية. وقد توقّع "مكتب التعداد السكّاني للولايات المتحدة" بأن تقلّ نسبة البيض من غير الأميركيين اللاتينيين عن 50 بالمئة من السكّان في أفق عام 2044، وهو تغيّر من المستبعد جداً أن يحدث من دون أن يعيد صياغة العلاقات العرقية في المجتمع الأميركي ودور الأميركيين البيض، الذين لطالما كانوا الأغلبية وبهامش مريح عن أقرب منافسيهم. إن تجربة مدينة هيزلتون تعطينا لمحة إلى مستقبلٍ سيواجِه فيه الأميركيون البيض نهايةَ وضعهم بصفتهم الأغلبية، ذاك الوضع الذي كثيراً ما ظل يعني أن تراثهم وتقاليدهم وأذواقهم وفلسفتهم الثقافية الخاصة بالقيم الجمالية كانت تُعدّ جوهر الهوية الأميركية. وقد بات هذا حديثاً ذائعاً عبر أرجاء البلد، إذ يَصدر غضبٌ وقلق عن بعض الأميركيين البيض (في المنتديات الإلكترونية وفي المظاهرات المحتجّة على إزالة نُصُب رموز الولايات الكونفدرالية الأميركية) لشعورهم بأن أسلوبهم في الحياة قد بات مهدداً. وأصبح الموضوع يستحوذ على عناوين الصحافة ويثير المواجهات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ولكنه يتمظهر بطرق حاذقة ولا تكاد تُلاحَظ في قاعات الدراسة وغرف الاستراحة وأروقة المصانع والمراكز التجارية، حيث وصل ذلك المستقبل الديموغرافي قبل موعده المرتقب. فمنذ عام 2000، ظلت أعداد الأقليات تزداد حتى فاقت أعداد البيض غير الأميركيين اللاتينيين في مقاطعات مثل "سوفولك" بولاية ماساتشوسيتس، و"مونتغومري" بولاية ماريلاند، و"ميك لينبرغ" بولاية كارولينا الشمالية، فضلاً عن مقاطعات في كاليفورنيا وكولورادو وفلوريدا ونيوجيرسي وتكساس.