خرافة العِـرق
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان من بين أبرز علماء أميركا طبيبٌ يُدعى "صامويل مورتون". عاش هذا الرجل في مدينة فيلادلفيا، وقد كان يجمع الجماجم.كان مورتون لا يُدقِّق في هوية مورِّديه، إذ كان يقبل الجماجم التي يُؤتى بها من ساحات القتال والتي...
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان من بين أبرز علماء أميركا طبيبٌ يُدعى "صامويل مورتون". عاش هذا الرجل في مدينة فيلادلفيا، وقد كان يجمع الجماجم.
كان مورتون لا يُدقِّق في هوية مورِّديه، إذ كان يقبل الجماجم التي يُؤتى بها من ساحات القتال والتي تُنتشَل من سراديب الموتى. وكانت إحدى أشهر الجماجم التي وضع يده عليها تعود لشخص أيرلندي كان قد رُحِّل إلى جزيرة "تسمانيا" بصفته مُداناً (وشُنق في نهاية المطاف لقتله مُدانين آخرين وأكله جثثهم). وكان مورتون يتبع إجراءً معيناً مع كل جمجمة؛ إذ كان يحشوها ببذور الفلفل الأسود (قبل أن يعمد في وقت لاحق إلى حشوها بخردق الرصاص)، التي ينزعها بعد ذلك للتأكد من حجم القِحْف الذي يحوي الدماغ.
ولقد اعتقد مورتون أنه يمكن تقسيم البشر إلى خمسة أعراق تمثل أنواعاً خلقها الله بشكل منفصل؛ وأن لتلك الأعراق خاصيات مميزة تتطابق مع المرتبة التي تُصنَّف فيها وفق تسلسل هرمي محدد من عند الله. وكان قِياسُ القِحْف -حسب مورتون- يُظهر بأن البِيض، أو "القوقازيين"، هم الأكثر ذكاءً من بين كل تلك الأعراق. أما الشرق آسيويون (كان مورتون يستخدم في وصفهم مصطلح "المنغوليون")، وعلى الرغم من كونهم "أذكياء" و"لديهم قابلية التعلم والتحضر"، فقد كانوا يصنَّفون في المرتبة الثانية ضمن التسلسل الهرمي المذكور. ثم يأتي بعدهم سكان جنوب شرق آسيا، يليهم الأميركيون الأصليون. ويقبع السود أو "الإثيوبيون" في أسفل الهرم. وسرعان ما لاقت أفكار مورتون القبول والاستحسان لدى المدافعين عن الرق خلال العقود التي سبقت الحرب الأهلية الأميركية (1865-1861).
وفي ذلك يقول "بول وولف ميتشل"، عالم الأنثروبولوجيا لدى "جامعة بنسلفانيا" الأميركية، الذي أراني تلك المجموعة من الجماجم التي تُحفظ حالياً في "متحف بنسلفانيا": "لقد أثّرت أفكاره في العديد من الناس، لاسيما في الجنوب الأميركي". عندها كنّا -أنا وميتشل- ننظر إلى قِحف يعود لرجل هولندي ذي رأس كبيرة؛ وقد أسهم هذا القِحف بتعزيز ما وصل إليه مورتون من استنتاجات بشأن قدرات الذكاء لدى القوقازيين. وعندما توفي الرجل عام 1851، أشادت به "دورية تشارلستون الطبية" التي كانت تصدر بولاية كارولينا الجنوبية؛ لكونه "وضع الزنجي في مقامَه الحقيقي بوصفه عِرقاً أدنى".
واليوم يُعرَف صاحبنا ذاك بكونه الأب الروحي للعنصرية العلمية. ويرجع أساس كثير من الأهوال التي شهدتها القرون القليلة الماضية إلى فكرة مؤداها أن عرقاً معيناً أقل شأناً من عرق آخر؛ حتى إن الاطلاع على مجموعة مورتون في المتحف يخلف في نفس الزائر شعوراً بالانزعاج البالغ. بل إن تلك الفكرة بلغت مستويات لا تبعث على الارتياح، إذ لا تزال بصمات التركة التي خلّفها مورتون واضحة للعيان مع ما نشهده اليومَ (في الولايات المتحدة وبعض الأقطار الأخرى) من تمييز عرقي يهيمن على السياسة والأحياء السكنية.. وحتى على وعي الناس بذواتها.
ذاك هو واقع الحال، على أن ما يخبرنا به العلم فعلياً عن العِرق هو عكس ما كان يدعيه مورتون. فلقد كان مورتون يعتقد أنه توصل إلى تحديد اختلافات ثابتة ومتوارثة بين الناس، ولكن في الوقت الذي كان يعمل فيه (قبل وقت قصير من طرح "تشارلز داروين" نظريته المتعلقة بالتطور وقبل فترة طويلة من اكتشاف الحمض النووي)، لم يكن للعلماء أدنى فكرة عن كيفية انتقال السمات الوراثية. والحال أن الباحثين الذين درسوا الإنسان على مستوى علم الوراثة خلال العقود الأخيرة يؤكدون الآن أن مفهوم العرق قد أُسيء فهمه. والواقع أن العلماء عندما بدؤوا العمل على تجميع أول جينوم بشري كامل، عمدوا إلى تجميع عينات من أشخاص مختلفين عرَّفوا أنفسهم بكونهم ينتمون إلى أعراق متباينة. وعندما أعلنت النتائج أثناء حفل أقيم في البيت الأبيض بواشنطن في يونيو من عام 2000، أبدى "كريغ فينتر"، وهو أحد الخبراء الرواد في تسلسل الحمض النووي، ملاحظة تفيد بأنه "ليس لمفهوم العرق أي أساس وراثي أو علمي".
وعلى مرّ العقود القليلة الماضية، كشفت الأبحاث الوراثية حقيقتين اثنتين عميقتين عن البشر؛ تفيد أولاهما بأننا جميعاً متماثلون وراثياً إلى درجة كبيرة، بل إننا نفوق في ذلك قردة الشمبانزي جميعها، على الرغم من أن عدد البشر يفوق أعدادها بكثير في الوقت الحالي (لم يتبق منها سوى 250 ألف تقريبا). فلكل شخص العدد نفسه من المورثات، لكنّ لكلٍّ منا (باستثناء التوائم المتطابقة) نسخاً من بعض هذه المورثات تختلف اختلافاً طفيفاً عن مورثات غيرنا. وقد تمكن العلماء بفضل الدراسات التي أُجريت على هذا التنوع الوراثي، من إعادة بناء ما يشبه شجرة العائلة للمجموعات البشرية. وقد أفضت هذه الحقيقة إلى الحقيقة العميقة الثانية وهي أن كل البشر الأحياء هم في الواقع.. أفارقة.
كان مورتون لا يُدقِّق في هوية مورِّديه، إذ كان يقبل الجماجم التي يُؤتى بها من ساحات القتال والتي تُنتشَل من سراديب الموتى. وكانت إحدى أشهر الجماجم التي وضع يده عليها تعود لشخص أيرلندي كان قد رُحِّل إلى جزيرة "تسمانيا" بصفته مُداناً (وشُنق في نهاية المطاف لقتله مُدانين آخرين وأكله جثثهم). وكان مورتون يتبع إجراءً معيناً مع كل جمجمة؛ إذ كان يحشوها ببذور الفلفل الأسود (قبل أن يعمد في وقت لاحق إلى حشوها بخردق الرصاص)، التي ينزعها بعد ذلك للتأكد من حجم القِحْف الذي يحوي الدماغ.
ولقد اعتقد مورتون أنه يمكن تقسيم البشر إلى خمسة أعراق تمثل أنواعاً خلقها الله بشكل منفصل؛ وأن لتلك الأعراق خاصيات مميزة تتطابق مع المرتبة التي تُصنَّف فيها وفق تسلسل هرمي محدد من عند الله. وكان قِياسُ القِحْف -حسب مورتون- يُظهر بأن البِيض، أو "القوقازيين"، هم الأكثر ذكاءً من بين كل تلك الأعراق. أما الشرق آسيويون (كان مورتون يستخدم في وصفهم مصطلح "المنغوليون")، وعلى الرغم من كونهم "أذكياء" و"لديهم قابلية التعلم والتحضر"، فقد كانوا يصنَّفون في المرتبة الثانية ضمن التسلسل الهرمي المذكور. ثم يأتي بعدهم سكان جنوب شرق آسيا، يليهم الأميركيون الأصليون. ويقبع السود أو "الإثيوبيون" في أسفل الهرم. وسرعان ما لاقت أفكار مورتون القبول والاستحسان لدى المدافعين عن الرق خلال العقود التي سبقت الحرب الأهلية الأميركية (1865-1861).
وفي ذلك يقول "بول وولف ميتشل"، عالم الأنثروبولوجيا لدى "جامعة بنسلفانيا" الأميركية، الذي أراني تلك المجموعة من الجماجم التي تُحفظ حالياً في "متحف بنسلفانيا": "لقد أثّرت أفكاره في العديد من الناس، لاسيما في الجنوب الأميركي". عندها كنّا -أنا وميتشل- ننظر إلى قِحف يعود لرجل هولندي ذي رأس كبيرة؛ وقد أسهم هذا القِحف بتعزيز ما وصل إليه مورتون من استنتاجات بشأن قدرات الذكاء لدى القوقازيين. وعندما توفي الرجل عام 1851، أشادت به "دورية تشارلستون الطبية" التي كانت تصدر بولاية كارولينا الجنوبية؛ لكونه "وضع الزنجي في مقامَه الحقيقي بوصفه عِرقاً أدنى".
واليوم يُعرَف صاحبنا ذاك بكونه الأب الروحي للعنصرية العلمية. ويرجع أساس كثير من الأهوال التي شهدتها القرون القليلة الماضية إلى فكرة مؤداها أن عرقاً معيناً أقل شأناً من عرق آخر؛ حتى إن الاطلاع على مجموعة مورتون في المتحف يخلف في نفس الزائر شعوراً بالانزعاج البالغ. بل إن تلك الفكرة بلغت مستويات لا تبعث على الارتياح، إذ لا تزال بصمات التركة التي خلّفها مورتون واضحة للعيان مع ما نشهده اليومَ (في الولايات المتحدة وبعض الأقطار الأخرى) من تمييز عرقي يهيمن على السياسة والأحياء السكنية.. وحتى على وعي الناس بذواتها.
ذاك هو واقع الحال، على أن ما يخبرنا به العلم فعلياً عن العِرق هو عكس ما كان يدعيه مورتون. فلقد كان مورتون يعتقد أنه توصل إلى تحديد اختلافات ثابتة ومتوارثة بين الناس، ولكن في الوقت الذي كان يعمل فيه (قبل وقت قصير من طرح "تشارلز داروين" نظريته المتعلقة بالتطور وقبل فترة طويلة من اكتشاف الحمض النووي)، لم يكن للعلماء أدنى فكرة عن كيفية انتقال السمات الوراثية. والحال أن الباحثين الذين درسوا الإنسان على مستوى علم الوراثة خلال العقود الأخيرة يؤكدون الآن أن مفهوم العرق قد أُسيء فهمه. والواقع أن العلماء عندما بدؤوا العمل على تجميع أول جينوم بشري كامل، عمدوا إلى تجميع عينات من أشخاص مختلفين عرَّفوا أنفسهم بكونهم ينتمون إلى أعراق متباينة. وعندما أعلنت النتائج أثناء حفل أقيم في البيت الأبيض بواشنطن في يونيو من عام 2000، أبدى "كريغ فينتر"، وهو أحد الخبراء الرواد في تسلسل الحمض النووي، ملاحظة تفيد بأنه "ليس لمفهوم العرق أي أساس وراثي أو علمي".
وعلى مرّ العقود القليلة الماضية، كشفت الأبحاث الوراثية حقيقتين اثنتين عميقتين عن البشر؛ تفيد أولاهما بأننا جميعاً متماثلون وراثياً إلى درجة كبيرة، بل إننا نفوق في ذلك قردة الشمبانزي جميعها، على الرغم من أن عدد البشر يفوق أعدادها بكثير في الوقت الحالي (لم يتبق منها سوى 250 ألف تقريبا). فلكل شخص العدد نفسه من المورثات، لكنّ لكلٍّ منا (باستثناء التوائم المتطابقة) نسخاً من بعض هذه المورثات تختلف اختلافاً طفيفاً عن مورثات غيرنا. وقد تمكن العلماء بفضل الدراسات التي أُجريت على هذا التنوع الوراثي، من إعادة بناء ما يشبه شجرة العائلة للمجموعات البشرية. وقد أفضت هذه الحقيقة إلى الحقيقة العميقة الثانية وهي أن كل البشر الأحياء هم في الواقع.. أفارقة.
خرافة العِـرق
- إليزابيث كولبريت
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان من بين أبرز علماء أميركا طبيبٌ يُدعى "صامويل مورتون". عاش هذا الرجل في مدينة فيلادلفيا، وقد كان يجمع الجماجم.كان مورتون لا يُدقِّق في هوية مورِّديه، إذ كان يقبل الجماجم التي يُؤتى بها من ساحات القتال والتي...
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان من بين أبرز علماء أميركا طبيبٌ يُدعى "صامويل مورتون". عاش هذا الرجل في مدينة فيلادلفيا، وقد كان يجمع الجماجم.
كان مورتون لا يُدقِّق في هوية مورِّديه، إذ كان يقبل الجماجم التي يُؤتى بها من ساحات القتال والتي تُنتشَل من سراديب الموتى. وكانت إحدى أشهر الجماجم التي وضع يده عليها تعود لشخص أيرلندي كان قد رُحِّل إلى جزيرة "تسمانيا" بصفته مُداناً (وشُنق في نهاية المطاف لقتله مُدانين آخرين وأكله جثثهم). وكان مورتون يتبع إجراءً معيناً مع كل جمجمة؛ إذ كان يحشوها ببذور الفلفل الأسود (قبل أن يعمد في وقت لاحق إلى حشوها بخردق الرصاص)، التي ينزعها بعد ذلك للتأكد من حجم القِحْف الذي يحوي الدماغ.
ولقد اعتقد مورتون أنه يمكن تقسيم البشر إلى خمسة أعراق تمثل أنواعاً خلقها الله بشكل منفصل؛ وأن لتلك الأعراق خاصيات مميزة تتطابق مع المرتبة التي تُصنَّف فيها وفق تسلسل هرمي محدد من عند الله. وكان قِياسُ القِحْف -حسب مورتون- يُظهر بأن البِيض، أو "القوقازيين"، هم الأكثر ذكاءً من بين كل تلك الأعراق. أما الشرق آسيويون (كان مورتون يستخدم في وصفهم مصطلح "المنغوليون")، وعلى الرغم من كونهم "أذكياء" و"لديهم قابلية التعلم والتحضر"، فقد كانوا يصنَّفون في المرتبة الثانية ضمن التسلسل الهرمي المذكور. ثم يأتي بعدهم سكان جنوب شرق آسيا، يليهم الأميركيون الأصليون. ويقبع السود أو "الإثيوبيون" في أسفل الهرم. وسرعان ما لاقت أفكار مورتون القبول والاستحسان لدى المدافعين عن الرق خلال العقود التي سبقت الحرب الأهلية الأميركية (1865-1861).
وفي ذلك يقول "بول وولف ميتشل"، عالم الأنثروبولوجيا لدى "جامعة بنسلفانيا" الأميركية، الذي أراني تلك المجموعة من الجماجم التي تُحفظ حالياً في "متحف بنسلفانيا": "لقد أثّرت أفكاره في العديد من الناس، لاسيما في الجنوب الأميركي". عندها كنّا -أنا وميتشل- ننظر إلى قِحف يعود لرجل هولندي ذي رأس كبيرة؛ وقد أسهم هذا القِحف بتعزيز ما وصل إليه مورتون من استنتاجات بشأن قدرات الذكاء لدى القوقازيين. وعندما توفي الرجل عام 1851، أشادت به "دورية تشارلستون الطبية" التي كانت تصدر بولاية كارولينا الجنوبية؛ لكونه "وضع الزنجي في مقامَه الحقيقي بوصفه عِرقاً أدنى".
واليوم يُعرَف صاحبنا ذاك بكونه الأب الروحي للعنصرية العلمية. ويرجع أساس كثير من الأهوال التي شهدتها القرون القليلة الماضية إلى فكرة مؤداها أن عرقاً معيناً أقل شأناً من عرق آخر؛ حتى إن الاطلاع على مجموعة مورتون في المتحف يخلف في نفس الزائر شعوراً بالانزعاج البالغ. بل إن تلك الفكرة بلغت مستويات لا تبعث على الارتياح، إذ لا تزال بصمات التركة التي خلّفها مورتون واضحة للعيان مع ما نشهده اليومَ (في الولايات المتحدة وبعض الأقطار الأخرى) من تمييز عرقي يهيمن على السياسة والأحياء السكنية.. وحتى على وعي الناس بذواتها.
ذاك هو واقع الحال، على أن ما يخبرنا به العلم فعلياً عن العِرق هو عكس ما كان يدعيه مورتون. فلقد كان مورتون يعتقد أنه توصل إلى تحديد اختلافات ثابتة ومتوارثة بين الناس، ولكن في الوقت الذي كان يعمل فيه (قبل وقت قصير من طرح "تشارلز داروين" نظريته المتعلقة بالتطور وقبل فترة طويلة من اكتشاف الحمض النووي)، لم يكن للعلماء أدنى فكرة عن كيفية انتقال السمات الوراثية. والحال أن الباحثين الذين درسوا الإنسان على مستوى علم الوراثة خلال العقود الأخيرة يؤكدون الآن أن مفهوم العرق قد أُسيء فهمه. والواقع أن العلماء عندما بدؤوا العمل على تجميع أول جينوم بشري كامل، عمدوا إلى تجميع عينات من أشخاص مختلفين عرَّفوا أنفسهم بكونهم ينتمون إلى أعراق متباينة. وعندما أعلنت النتائج أثناء حفل أقيم في البيت الأبيض بواشنطن في يونيو من عام 2000، أبدى "كريغ فينتر"، وهو أحد الخبراء الرواد في تسلسل الحمض النووي، ملاحظة تفيد بأنه "ليس لمفهوم العرق أي أساس وراثي أو علمي".
وعلى مرّ العقود القليلة الماضية، كشفت الأبحاث الوراثية حقيقتين اثنتين عميقتين عن البشر؛ تفيد أولاهما بأننا جميعاً متماثلون وراثياً إلى درجة كبيرة، بل إننا نفوق في ذلك قردة الشمبانزي جميعها، على الرغم من أن عدد البشر يفوق أعدادها بكثير في الوقت الحالي (لم يتبق منها سوى 250 ألف تقريبا). فلكل شخص العدد نفسه من المورثات، لكنّ لكلٍّ منا (باستثناء التوائم المتطابقة) نسخاً من بعض هذه المورثات تختلف اختلافاً طفيفاً عن مورثات غيرنا. وقد تمكن العلماء بفضل الدراسات التي أُجريت على هذا التنوع الوراثي، من إعادة بناء ما يشبه شجرة العائلة للمجموعات البشرية. وقد أفضت هذه الحقيقة إلى الحقيقة العميقة الثانية وهي أن كل البشر الأحياء هم في الواقع.. أفارقة.
كان مورتون لا يُدقِّق في هوية مورِّديه، إذ كان يقبل الجماجم التي يُؤتى بها من ساحات القتال والتي تُنتشَل من سراديب الموتى. وكانت إحدى أشهر الجماجم التي وضع يده عليها تعود لشخص أيرلندي كان قد رُحِّل إلى جزيرة "تسمانيا" بصفته مُداناً (وشُنق في نهاية المطاف لقتله مُدانين آخرين وأكله جثثهم). وكان مورتون يتبع إجراءً معيناً مع كل جمجمة؛ إذ كان يحشوها ببذور الفلفل الأسود (قبل أن يعمد في وقت لاحق إلى حشوها بخردق الرصاص)، التي ينزعها بعد ذلك للتأكد من حجم القِحْف الذي يحوي الدماغ.
ولقد اعتقد مورتون أنه يمكن تقسيم البشر إلى خمسة أعراق تمثل أنواعاً خلقها الله بشكل منفصل؛ وأن لتلك الأعراق خاصيات مميزة تتطابق مع المرتبة التي تُصنَّف فيها وفق تسلسل هرمي محدد من عند الله. وكان قِياسُ القِحْف -حسب مورتون- يُظهر بأن البِيض، أو "القوقازيين"، هم الأكثر ذكاءً من بين كل تلك الأعراق. أما الشرق آسيويون (كان مورتون يستخدم في وصفهم مصطلح "المنغوليون")، وعلى الرغم من كونهم "أذكياء" و"لديهم قابلية التعلم والتحضر"، فقد كانوا يصنَّفون في المرتبة الثانية ضمن التسلسل الهرمي المذكور. ثم يأتي بعدهم سكان جنوب شرق آسيا، يليهم الأميركيون الأصليون. ويقبع السود أو "الإثيوبيون" في أسفل الهرم. وسرعان ما لاقت أفكار مورتون القبول والاستحسان لدى المدافعين عن الرق خلال العقود التي سبقت الحرب الأهلية الأميركية (1865-1861).
وفي ذلك يقول "بول وولف ميتشل"، عالم الأنثروبولوجيا لدى "جامعة بنسلفانيا" الأميركية، الذي أراني تلك المجموعة من الجماجم التي تُحفظ حالياً في "متحف بنسلفانيا": "لقد أثّرت أفكاره في العديد من الناس، لاسيما في الجنوب الأميركي". عندها كنّا -أنا وميتشل- ننظر إلى قِحف يعود لرجل هولندي ذي رأس كبيرة؛ وقد أسهم هذا القِحف بتعزيز ما وصل إليه مورتون من استنتاجات بشأن قدرات الذكاء لدى القوقازيين. وعندما توفي الرجل عام 1851، أشادت به "دورية تشارلستون الطبية" التي كانت تصدر بولاية كارولينا الجنوبية؛ لكونه "وضع الزنجي في مقامَه الحقيقي بوصفه عِرقاً أدنى".
واليوم يُعرَف صاحبنا ذاك بكونه الأب الروحي للعنصرية العلمية. ويرجع أساس كثير من الأهوال التي شهدتها القرون القليلة الماضية إلى فكرة مؤداها أن عرقاً معيناً أقل شأناً من عرق آخر؛ حتى إن الاطلاع على مجموعة مورتون في المتحف يخلف في نفس الزائر شعوراً بالانزعاج البالغ. بل إن تلك الفكرة بلغت مستويات لا تبعث على الارتياح، إذ لا تزال بصمات التركة التي خلّفها مورتون واضحة للعيان مع ما نشهده اليومَ (في الولايات المتحدة وبعض الأقطار الأخرى) من تمييز عرقي يهيمن على السياسة والأحياء السكنية.. وحتى على وعي الناس بذواتها.
ذاك هو واقع الحال، على أن ما يخبرنا به العلم فعلياً عن العِرق هو عكس ما كان يدعيه مورتون. فلقد كان مورتون يعتقد أنه توصل إلى تحديد اختلافات ثابتة ومتوارثة بين الناس، ولكن في الوقت الذي كان يعمل فيه (قبل وقت قصير من طرح "تشارلز داروين" نظريته المتعلقة بالتطور وقبل فترة طويلة من اكتشاف الحمض النووي)، لم يكن للعلماء أدنى فكرة عن كيفية انتقال السمات الوراثية. والحال أن الباحثين الذين درسوا الإنسان على مستوى علم الوراثة خلال العقود الأخيرة يؤكدون الآن أن مفهوم العرق قد أُسيء فهمه. والواقع أن العلماء عندما بدؤوا العمل على تجميع أول جينوم بشري كامل، عمدوا إلى تجميع عينات من أشخاص مختلفين عرَّفوا أنفسهم بكونهم ينتمون إلى أعراق متباينة. وعندما أعلنت النتائج أثناء حفل أقيم في البيت الأبيض بواشنطن في يونيو من عام 2000، أبدى "كريغ فينتر"، وهو أحد الخبراء الرواد في تسلسل الحمض النووي، ملاحظة تفيد بأنه "ليس لمفهوم العرق أي أساس وراثي أو علمي".
وعلى مرّ العقود القليلة الماضية، كشفت الأبحاث الوراثية حقيقتين اثنتين عميقتين عن البشر؛ تفيد أولاهما بأننا جميعاً متماثلون وراثياً إلى درجة كبيرة، بل إننا نفوق في ذلك قردة الشمبانزي جميعها، على الرغم من أن عدد البشر يفوق أعدادها بكثير في الوقت الحالي (لم يتبق منها سوى 250 ألف تقريبا). فلكل شخص العدد نفسه من المورثات، لكنّ لكلٍّ منا (باستثناء التوائم المتطابقة) نسخاً من بعض هذه المورثات تختلف اختلافاً طفيفاً عن مورثات غيرنا. وقد تمكن العلماء بفضل الدراسات التي أُجريت على هذا التنوع الوراثي، من إعادة بناء ما يشبه شجرة العائلة للمجموعات البشرية. وقد أفضت هذه الحقيقة إلى الحقيقة العميقة الثانية وهي أن كل البشر الأحياء هم في الواقع.. أفارقة.