أهل الإسلام في بلاد العم سام
لم يكن ثمة من شيء يُمكن فعله سوى النظر إلى المبنى ذي القبة النحاسية وهو يحترق في بلدة "فكتوريا" النفطية جنوب ولاية تكساس.فلقد اندثر المسجد الذي شهد تكريم ابنة "آيب عجرمي" -عاشقة المغنية الأميركية الشهيرة "بيونسيه"- وثلة من خريجي الثانوية.. المسجد الذي...
لم يكن ثمة من شيء يُمكن فعله سوى النظر إلى المبنى ذي القبة النحاسية وهو يحترق في بلدة "فكتوريا" النفطية جنوب ولاية تكساس.
فلقد اندثر المسجد الذي شهد تكريم ابنة "آيب عجرمي" -عاشقة المغنية الأميركية الشهيرة "بيونسيه"- وثلة من خريجي الثانوية.. المسجد الذي كان أبناء هذا الرجل يتلقون فيه الدروس الدينية.. المسجد الذي كان يقصده رفقة العائلة أيام الجُمَعِ لأداء الصلاة والتحلق حول وجبة جماعية من سبع صلصات وأطباق "برياني" متبلة.
آنذاك هُرع عجرمي -الأميركي من أصل فلسطيني- إلى المسجد بعدما تلقى مكالمة هاتفية في جوف الليل. يقول مستذكراً تلك اللحظات: "كنت أحاول التماسك حتى لا أنهار". قصَّ على مسمعي تجربته تلك ونحن بغرفة المعيشة في بيته، حيث جلسَت إلى يمينه زوجته "هايدي" -الأميركية التي اعتنقت الإسلام- وإلى شماله ابنتيه "هَنا" و"جنين"، فيما غَطَّ ابنه "رامي" في النوم بالطابق العلوي.
ذكَّرتني هذه العائلة بعائلتي؛ إذ قَدِم والدِي -ذو الأصل اللبناني- إلى الولايات المتحدة طلباً للعلم ومستقبل مشرق، تماماً كما فعل عجرمي. وكانت أمي تعتنق العقيدة "الخلاصية الوحدوية" (Unitarian Universalism) -شأنها كشأن هايدي- والتقـت زوجَ المستقبـل في الجـامـعة واعـتنقت الإسلام. ربَّى والديَّ هذان خمسةَ أبناء أميركيين مسلمين ذوي بشرة داكنة لا تَشي بأصلهم.
وُلد عجرمي لعائلة فقيرة في قطاع غزة، ولم يسمح له الوضع المادي هناك سوى بدراسة التمريض. في عام 1994 ساعده صديق في الحصول على تأشيرة ومنحة للدراسة في "كلية كلاركسون" بمدينة أوماها في ولاية نبراسكا؛ وهناك التقى هايدي، التي وُلدت في تكساس لجندي في الجيش الأميركي. نشأت بينهما علاقة حب وعاشا فترة من البهجة سادتها كثرة النُّزَه والنكت التي كان يحكيها عجرمي. ثم انتقل الحبيبان إلى بلدة فكتوريا لتعمل هايدي مدرِّسة لغة إنجليزية في الكلية، وصار عجرمي مديراً لقسم التمريض في أحد المستشفيات. أمّا اليوم فقد بات صاحبنا يمتلك ويُدير شركة للدعم الطبي، وتعيش عائلته الصغيرة في بيت فسيح يحوي حمام سباحة. وللدِّين حضورٌ كبير في حياتهم، تماماً كما هو حال جل أهالي هذه البلدة.
شهد عجرمي وآخرون من هذا المجتمع الإسلامي الصغير احتراق ذلك المسجد ليلاً بتاريخ 28 يناير 2017. ذرفوا الدمع وتعانقوا ورفعوا أكفَّهم بالدعاء. سويعات قبل ذلك، كان الرئيس "دونالد ترامب" قد بَرَّ بوعدٍ قطَعه خلال حملته الانتخابية الرئاسية لمنع بعض المسلمين من دخول الولايات المتحدة؛ إذ أصدر أمراً تنفيذيا يقضي بمنع أي وافد من سبع دول ذات أغلبية مسلمة.
انهارت أجزاء من المسجد بسبب الحريق الذي أضرمه شخص اتُّهم بجريمة الكراهية، ولم تَسلَم سوى القباب النحاسية والألواح الرخامية التي نقشت عليها آيات قرآنية. التقط عجرمي صوراً ونشرها على الإنترنت مشفوعة بهذا التعليق: "بالحُبِّ، سنعيد البناء". انتشرت الصور بسرعة البرق، وفي غضون أيام جُمِعت للمسجد تبرعات قدرها مليون دولار. فلقد هَبَّت البلدة بأكملها لمساندتهم، وما زالوا إلى اليوم يتلقون شيكات عبر البريد.
في رماد المسجد، رأى عجرمي بجلاء المهمة التي تنتظره. يقول: "لم أرغب أن تُختَزل هويتي في وصف 'مسلم'. لكن ذلك الحريق حتَّم علينا أن نكون في الواجهة". وضع عجرمي نفسه رهن إشارة وسائل الإعلام، وألقى محاضرات عن ديانته الإسلامية، وصار ناطقا رسميا رغم هواجسه.
يقول: "على المرء في لحظة من اللحظات أن يأخذ نفَساً عميقا فيُسائل نفسه: لِمَ أفعل هذا؟ لِمَ علي أن أُثبت للآخرين حُسن سيرتي؟".
يُقدَّر عدد مسلمي أميركا اليوم بنحو 3.45 مليون نسمة، يعيشون في جو يسوده العداء تّجاههم؛ إذ يتعرض دينُهم للتشويه من قِبل المتشددين العنيفين، من جهة؛ ولحملات كراهية تشنها حركة معادية للمسلمين، من جهة ثانية. ويؤججُ العداءَ خطابٌ متشدد يتبناه المعلقون والسياسيون المحسوبون على التيار المحافظ، ومنهم الرئيس ترامب نفسه الذي وصف الإسلام غير ما مرة بأنه يشكل تهديداً، وأعاد نشر مقاطع فيديو لجماعة بريطانية تكره المسلمين؛ فضلاً عن ذلك فإنه أصدر قراراً بوقف تقليد عشاء رمضان في البيت الأبيض لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً.
فلقد اندثر المسجد الذي شهد تكريم ابنة "آيب عجرمي" -عاشقة المغنية الأميركية الشهيرة "بيونسيه"- وثلة من خريجي الثانوية.. المسجد الذي كان أبناء هذا الرجل يتلقون فيه الدروس الدينية.. المسجد الذي كان يقصده رفقة العائلة أيام الجُمَعِ لأداء الصلاة والتحلق حول وجبة جماعية من سبع صلصات وأطباق "برياني" متبلة.
آنذاك هُرع عجرمي -الأميركي من أصل فلسطيني- إلى المسجد بعدما تلقى مكالمة هاتفية في جوف الليل. يقول مستذكراً تلك اللحظات: "كنت أحاول التماسك حتى لا أنهار". قصَّ على مسمعي تجربته تلك ونحن بغرفة المعيشة في بيته، حيث جلسَت إلى يمينه زوجته "هايدي" -الأميركية التي اعتنقت الإسلام- وإلى شماله ابنتيه "هَنا" و"جنين"، فيما غَطَّ ابنه "رامي" في النوم بالطابق العلوي.
ذكَّرتني هذه العائلة بعائلتي؛ إذ قَدِم والدِي -ذو الأصل اللبناني- إلى الولايات المتحدة طلباً للعلم ومستقبل مشرق، تماماً كما فعل عجرمي. وكانت أمي تعتنق العقيدة "الخلاصية الوحدوية" (Unitarian Universalism) -شأنها كشأن هايدي- والتقـت زوجَ المستقبـل في الجـامـعة واعـتنقت الإسلام. ربَّى والديَّ هذان خمسةَ أبناء أميركيين مسلمين ذوي بشرة داكنة لا تَشي بأصلهم.
وُلد عجرمي لعائلة فقيرة في قطاع غزة، ولم يسمح له الوضع المادي هناك سوى بدراسة التمريض. في عام 1994 ساعده صديق في الحصول على تأشيرة ومنحة للدراسة في "كلية كلاركسون" بمدينة أوماها في ولاية نبراسكا؛ وهناك التقى هايدي، التي وُلدت في تكساس لجندي في الجيش الأميركي. نشأت بينهما علاقة حب وعاشا فترة من البهجة سادتها كثرة النُّزَه والنكت التي كان يحكيها عجرمي. ثم انتقل الحبيبان إلى بلدة فكتوريا لتعمل هايدي مدرِّسة لغة إنجليزية في الكلية، وصار عجرمي مديراً لقسم التمريض في أحد المستشفيات. أمّا اليوم فقد بات صاحبنا يمتلك ويُدير شركة للدعم الطبي، وتعيش عائلته الصغيرة في بيت فسيح يحوي حمام سباحة. وللدِّين حضورٌ كبير في حياتهم، تماماً كما هو حال جل أهالي هذه البلدة.
شهد عجرمي وآخرون من هذا المجتمع الإسلامي الصغير احتراق ذلك المسجد ليلاً بتاريخ 28 يناير 2017. ذرفوا الدمع وتعانقوا ورفعوا أكفَّهم بالدعاء. سويعات قبل ذلك، كان الرئيس "دونالد ترامب" قد بَرَّ بوعدٍ قطَعه خلال حملته الانتخابية الرئاسية لمنع بعض المسلمين من دخول الولايات المتحدة؛ إذ أصدر أمراً تنفيذيا يقضي بمنع أي وافد من سبع دول ذات أغلبية مسلمة.
انهارت أجزاء من المسجد بسبب الحريق الذي أضرمه شخص اتُّهم بجريمة الكراهية، ولم تَسلَم سوى القباب النحاسية والألواح الرخامية التي نقشت عليها آيات قرآنية. التقط عجرمي صوراً ونشرها على الإنترنت مشفوعة بهذا التعليق: "بالحُبِّ، سنعيد البناء". انتشرت الصور بسرعة البرق، وفي غضون أيام جُمِعت للمسجد تبرعات قدرها مليون دولار. فلقد هَبَّت البلدة بأكملها لمساندتهم، وما زالوا إلى اليوم يتلقون شيكات عبر البريد.
في رماد المسجد، رأى عجرمي بجلاء المهمة التي تنتظره. يقول: "لم أرغب أن تُختَزل هويتي في وصف 'مسلم'. لكن ذلك الحريق حتَّم علينا أن نكون في الواجهة". وضع عجرمي نفسه رهن إشارة وسائل الإعلام، وألقى محاضرات عن ديانته الإسلامية، وصار ناطقا رسميا رغم هواجسه.
يقول: "على المرء في لحظة من اللحظات أن يأخذ نفَساً عميقا فيُسائل نفسه: لِمَ أفعل هذا؟ لِمَ علي أن أُثبت للآخرين حُسن سيرتي؟".
يُقدَّر عدد مسلمي أميركا اليوم بنحو 3.45 مليون نسمة، يعيشون في جو يسوده العداء تّجاههم؛ إذ يتعرض دينُهم للتشويه من قِبل المتشددين العنيفين، من جهة؛ ولحملات كراهية تشنها حركة معادية للمسلمين، من جهة ثانية. ويؤججُ العداءَ خطابٌ متشدد يتبناه المعلقون والسياسيون المحسوبون على التيار المحافظ، ومنهم الرئيس ترامب نفسه الذي وصف الإسلام غير ما مرة بأنه يشكل تهديداً، وأعاد نشر مقاطع فيديو لجماعة بريطانية تكره المسلمين؛ فضلاً عن ذلك فإنه أصدر قراراً بوقف تقليد عشاء رمضان في البيت الأبيض لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً.
أهل الإسلام في بلاد العم سام
- ليلى فاضـــل
لم يكن ثمة من شيء يُمكن فعله سوى النظر إلى المبنى ذي القبة النحاسية وهو يحترق في بلدة "فكتوريا" النفطية جنوب ولاية تكساس.فلقد اندثر المسجد الذي شهد تكريم ابنة "آيب عجرمي" -عاشقة المغنية الأميركية الشهيرة "بيونسيه"- وثلة من خريجي الثانوية.. المسجد الذي...
لم يكن ثمة من شيء يُمكن فعله سوى النظر إلى المبنى ذي القبة النحاسية وهو يحترق في بلدة "فكتوريا" النفطية جنوب ولاية تكساس.
فلقد اندثر المسجد الذي شهد تكريم ابنة "آيب عجرمي" -عاشقة المغنية الأميركية الشهيرة "بيونسيه"- وثلة من خريجي الثانوية.. المسجد الذي كان أبناء هذا الرجل يتلقون فيه الدروس الدينية.. المسجد الذي كان يقصده رفقة العائلة أيام الجُمَعِ لأداء الصلاة والتحلق حول وجبة جماعية من سبع صلصات وأطباق "برياني" متبلة.
آنذاك هُرع عجرمي -الأميركي من أصل فلسطيني- إلى المسجد بعدما تلقى مكالمة هاتفية في جوف الليل. يقول مستذكراً تلك اللحظات: "كنت أحاول التماسك حتى لا أنهار". قصَّ على مسمعي تجربته تلك ونحن بغرفة المعيشة في بيته، حيث جلسَت إلى يمينه زوجته "هايدي" -الأميركية التي اعتنقت الإسلام- وإلى شماله ابنتيه "هَنا" و"جنين"، فيما غَطَّ ابنه "رامي" في النوم بالطابق العلوي.
ذكَّرتني هذه العائلة بعائلتي؛ إذ قَدِم والدِي -ذو الأصل اللبناني- إلى الولايات المتحدة طلباً للعلم ومستقبل مشرق، تماماً كما فعل عجرمي. وكانت أمي تعتنق العقيدة "الخلاصية الوحدوية" (Unitarian Universalism) -شأنها كشأن هايدي- والتقـت زوجَ المستقبـل في الجـامـعة واعـتنقت الإسلام. ربَّى والديَّ هذان خمسةَ أبناء أميركيين مسلمين ذوي بشرة داكنة لا تَشي بأصلهم.
وُلد عجرمي لعائلة فقيرة في قطاع غزة، ولم يسمح له الوضع المادي هناك سوى بدراسة التمريض. في عام 1994 ساعده صديق في الحصول على تأشيرة ومنحة للدراسة في "كلية كلاركسون" بمدينة أوماها في ولاية نبراسكا؛ وهناك التقى هايدي، التي وُلدت في تكساس لجندي في الجيش الأميركي. نشأت بينهما علاقة حب وعاشا فترة من البهجة سادتها كثرة النُّزَه والنكت التي كان يحكيها عجرمي. ثم انتقل الحبيبان إلى بلدة فكتوريا لتعمل هايدي مدرِّسة لغة إنجليزية في الكلية، وصار عجرمي مديراً لقسم التمريض في أحد المستشفيات. أمّا اليوم فقد بات صاحبنا يمتلك ويُدير شركة للدعم الطبي، وتعيش عائلته الصغيرة في بيت فسيح يحوي حمام سباحة. وللدِّين حضورٌ كبير في حياتهم، تماماً كما هو حال جل أهالي هذه البلدة.
شهد عجرمي وآخرون من هذا المجتمع الإسلامي الصغير احتراق ذلك المسجد ليلاً بتاريخ 28 يناير 2017. ذرفوا الدمع وتعانقوا ورفعوا أكفَّهم بالدعاء. سويعات قبل ذلك، كان الرئيس "دونالد ترامب" قد بَرَّ بوعدٍ قطَعه خلال حملته الانتخابية الرئاسية لمنع بعض المسلمين من دخول الولايات المتحدة؛ إذ أصدر أمراً تنفيذيا يقضي بمنع أي وافد من سبع دول ذات أغلبية مسلمة.
انهارت أجزاء من المسجد بسبب الحريق الذي أضرمه شخص اتُّهم بجريمة الكراهية، ولم تَسلَم سوى القباب النحاسية والألواح الرخامية التي نقشت عليها آيات قرآنية. التقط عجرمي صوراً ونشرها على الإنترنت مشفوعة بهذا التعليق: "بالحُبِّ، سنعيد البناء". انتشرت الصور بسرعة البرق، وفي غضون أيام جُمِعت للمسجد تبرعات قدرها مليون دولار. فلقد هَبَّت البلدة بأكملها لمساندتهم، وما زالوا إلى اليوم يتلقون شيكات عبر البريد.
في رماد المسجد، رأى عجرمي بجلاء المهمة التي تنتظره. يقول: "لم أرغب أن تُختَزل هويتي في وصف 'مسلم'. لكن ذلك الحريق حتَّم علينا أن نكون في الواجهة". وضع عجرمي نفسه رهن إشارة وسائل الإعلام، وألقى محاضرات عن ديانته الإسلامية، وصار ناطقا رسميا رغم هواجسه.
يقول: "على المرء في لحظة من اللحظات أن يأخذ نفَساً عميقا فيُسائل نفسه: لِمَ أفعل هذا؟ لِمَ علي أن أُثبت للآخرين حُسن سيرتي؟".
يُقدَّر عدد مسلمي أميركا اليوم بنحو 3.45 مليون نسمة، يعيشون في جو يسوده العداء تّجاههم؛ إذ يتعرض دينُهم للتشويه من قِبل المتشددين العنيفين، من جهة؛ ولحملات كراهية تشنها حركة معادية للمسلمين، من جهة ثانية. ويؤججُ العداءَ خطابٌ متشدد يتبناه المعلقون والسياسيون المحسوبون على التيار المحافظ، ومنهم الرئيس ترامب نفسه الذي وصف الإسلام غير ما مرة بأنه يشكل تهديداً، وأعاد نشر مقاطع فيديو لجماعة بريطانية تكره المسلمين؛ فضلاً عن ذلك فإنه أصدر قراراً بوقف تقليد عشاء رمضان في البيت الأبيض لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً.
فلقد اندثر المسجد الذي شهد تكريم ابنة "آيب عجرمي" -عاشقة المغنية الأميركية الشهيرة "بيونسيه"- وثلة من خريجي الثانوية.. المسجد الذي كان أبناء هذا الرجل يتلقون فيه الدروس الدينية.. المسجد الذي كان يقصده رفقة العائلة أيام الجُمَعِ لأداء الصلاة والتحلق حول وجبة جماعية من سبع صلصات وأطباق "برياني" متبلة.
آنذاك هُرع عجرمي -الأميركي من أصل فلسطيني- إلى المسجد بعدما تلقى مكالمة هاتفية في جوف الليل. يقول مستذكراً تلك اللحظات: "كنت أحاول التماسك حتى لا أنهار". قصَّ على مسمعي تجربته تلك ونحن بغرفة المعيشة في بيته، حيث جلسَت إلى يمينه زوجته "هايدي" -الأميركية التي اعتنقت الإسلام- وإلى شماله ابنتيه "هَنا" و"جنين"، فيما غَطَّ ابنه "رامي" في النوم بالطابق العلوي.
ذكَّرتني هذه العائلة بعائلتي؛ إذ قَدِم والدِي -ذو الأصل اللبناني- إلى الولايات المتحدة طلباً للعلم ومستقبل مشرق، تماماً كما فعل عجرمي. وكانت أمي تعتنق العقيدة "الخلاصية الوحدوية" (Unitarian Universalism) -شأنها كشأن هايدي- والتقـت زوجَ المستقبـل في الجـامـعة واعـتنقت الإسلام. ربَّى والديَّ هذان خمسةَ أبناء أميركيين مسلمين ذوي بشرة داكنة لا تَشي بأصلهم.
وُلد عجرمي لعائلة فقيرة في قطاع غزة، ولم يسمح له الوضع المادي هناك سوى بدراسة التمريض. في عام 1994 ساعده صديق في الحصول على تأشيرة ومنحة للدراسة في "كلية كلاركسون" بمدينة أوماها في ولاية نبراسكا؛ وهناك التقى هايدي، التي وُلدت في تكساس لجندي في الجيش الأميركي. نشأت بينهما علاقة حب وعاشا فترة من البهجة سادتها كثرة النُّزَه والنكت التي كان يحكيها عجرمي. ثم انتقل الحبيبان إلى بلدة فكتوريا لتعمل هايدي مدرِّسة لغة إنجليزية في الكلية، وصار عجرمي مديراً لقسم التمريض في أحد المستشفيات. أمّا اليوم فقد بات صاحبنا يمتلك ويُدير شركة للدعم الطبي، وتعيش عائلته الصغيرة في بيت فسيح يحوي حمام سباحة. وللدِّين حضورٌ كبير في حياتهم، تماماً كما هو حال جل أهالي هذه البلدة.
شهد عجرمي وآخرون من هذا المجتمع الإسلامي الصغير احتراق ذلك المسجد ليلاً بتاريخ 28 يناير 2017. ذرفوا الدمع وتعانقوا ورفعوا أكفَّهم بالدعاء. سويعات قبل ذلك، كان الرئيس "دونالد ترامب" قد بَرَّ بوعدٍ قطَعه خلال حملته الانتخابية الرئاسية لمنع بعض المسلمين من دخول الولايات المتحدة؛ إذ أصدر أمراً تنفيذيا يقضي بمنع أي وافد من سبع دول ذات أغلبية مسلمة.
انهارت أجزاء من المسجد بسبب الحريق الذي أضرمه شخص اتُّهم بجريمة الكراهية، ولم تَسلَم سوى القباب النحاسية والألواح الرخامية التي نقشت عليها آيات قرآنية. التقط عجرمي صوراً ونشرها على الإنترنت مشفوعة بهذا التعليق: "بالحُبِّ، سنعيد البناء". انتشرت الصور بسرعة البرق، وفي غضون أيام جُمِعت للمسجد تبرعات قدرها مليون دولار. فلقد هَبَّت البلدة بأكملها لمساندتهم، وما زالوا إلى اليوم يتلقون شيكات عبر البريد.
في رماد المسجد، رأى عجرمي بجلاء المهمة التي تنتظره. يقول: "لم أرغب أن تُختَزل هويتي في وصف 'مسلم'. لكن ذلك الحريق حتَّم علينا أن نكون في الواجهة". وضع عجرمي نفسه رهن إشارة وسائل الإعلام، وألقى محاضرات عن ديانته الإسلامية، وصار ناطقا رسميا رغم هواجسه.
يقول: "على المرء في لحظة من اللحظات أن يأخذ نفَساً عميقا فيُسائل نفسه: لِمَ أفعل هذا؟ لِمَ علي أن أُثبت للآخرين حُسن سيرتي؟".
يُقدَّر عدد مسلمي أميركا اليوم بنحو 3.45 مليون نسمة، يعيشون في جو يسوده العداء تّجاههم؛ إذ يتعرض دينُهم للتشويه من قِبل المتشددين العنيفين، من جهة؛ ولحملات كراهية تشنها حركة معادية للمسلمين، من جهة ثانية. ويؤججُ العداءَ خطابٌ متشدد يتبناه المعلقون والسياسيون المحسوبون على التيار المحافظ، ومنهم الرئيس ترامب نفسه الذي وصف الإسلام غير ما مرة بأنه يشكل تهديداً، وأعاد نشر مقاطع فيديو لجماعة بريطانية تكره المسلمين؛ فضلاً عن ذلك فإنه أصدر قراراً بوقف تقليد عشاء رمضان في البيت الأبيض لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً.