من رمز محبوب إلــى آفــة
تقفز كنغر أم رفقة صغيرها عبر الشارع الرئيس للاقتيات من حشائش جافة نمت على رقعة أرض مجاورة لمضخة بنزين.
كان الوقت ليلا في يوم ربيعي بارد لدى "وايت كليفس"، وهي بلدة غير عادية تقع في ولاية "نيو ساوث ويلز" الأسترالية وتوجد فيها مناجم حجر الأوبال. يعيش أهالي هذه البلدة بأسلوب يشبه الذي لدى "الهوبيت" (عرق خرافي من أشباه البشر قصار القامة) داخل مساكن محفورة تحت الأرض تتخللها ثقوب وفتحات مهوَّاة. تطفح الأرض الجرداء ههنا بالآلاف من مداخل المناجم كما لو كانت نُدبَ طفح جلدي. لكن هذه الكنغر الأم وصغيرها -وهما من نوع "الكنغر الرمادي الشرقي"- يبقيان المنظر الأكثر غرابة في هذا المكان. "لم يسبق لي أن رأيتها هنا على هذا النحو. أتساءل إن كان أحدٌ ما قد استأنسها"؛ كان هذا قول "جورج ويلسون"، أستاذ علم البيئة الذي ظل يَدرس حيوان الكنغر زُهاء خمسة عقود من الزمن. كان السياح يشيرون بأصابعهم إلى هذين الكنغرين ويطيلون النظر إليهما، فيما الأطفال يهللون بإعجاب لرؤيتهما. عندما بدأت الشمس تميل نحو المغيب، انسحبت الأم وصغيرها إلى خارج البلدة. بعد فترة وجيزة، فرغ شابٌ من احتساء شرابه في الحانة المحلية للبلدة ثم أدى ثمن شرابه وانصرف إلى شاحنة بيضاء اللون ثُبِّتت في جزئها الخلفي مجموعةُ خطّافات، ثم انطلق بها. كان عمله في تلك الليلة هو قتل أكبر عدد ممكن من حيوانات الكنغر.
تربط أستراليا ورمزها الوطني علاقةٌ مركّبة. فالكنغر يُعدّ من بين أكثر الحيوانات شهرة وروعة في العالم؛ وهو من الرموز الحية والمفعمة بالحيوية التي تقف شاهداً على التنوع البيولوجي الفريد في هذا البلد. إنه مخلوق جميل للغاية يثير منظره الضحك لكنه يظل محبباً إلى القلب والنفس. ومن ثم فإنه يُعد أعجوبة من منظور تطور الأنواع، بوصفه الحيوان الضخم الوحيد الذي يتنقّل عن طريق النط والقفز. ويفتخر الأستراليون بالكنغر أيما افتخار. إذ يمثل أدوار البطولة في الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، والأشعار، وكتب الأطفال. وتزيِّن صورُه عملةَ البلد وشعار نبالتها، وخطوطها الجوية التجارية، وسفنها البحرية، وشاراتها الأولمبية، وأزياءها الرياضية. أما الأجانب، فيعدّون هذا المخلوق ذا الأقدام الكبيرة والذيل المنتفخ والآذان الطويلة، الصورة البديلة التي ترمز للبلد نفسه. فأستراليا هي الكنغر، والكنغر هو أستراليا؛ إذ يندر وجود مثل هذا الترابط من حيث الدلالات الرمزية بين أي حيوان وبلد آخر.
لكن وفقاً للإحصائيات الرسمية في أستراليا، فإن حيوانات الكنغر تَفُوق من حيث عددها عددَ السكان بأكثر من الضعف، حتى إن كثيراً من الأستراليين يرونها آفات. إذ يقول مُلاك المزارع إن حيوانات الكنغر -التي يقدر عددها في البلد بـ 50 مليون رأس- تُتلف محاصيلهم وتُنافس ماشيتهم على الموارد الطبيعية المحدودة. وتَذكر التقارير الصادرة عن قطاع التأمين في أستراليا، أن الكنغر يتسبب بأكثر من 80 بالمئة من حوادث الاصطدام بين المركبات والحيوانات التي تُسجَّل سنوياً، ويفوق عددها 20 ألف حادثة. ففي المناطق الداخلية القاحلة ذات الكثافة السكانية المنخفضة، يسود اعتقاد بأن أعداد الكنغر تنامت بقدر كبير حتى بلغت "مستويات وبائية". وفي غياب مفترسات تقليدية مثل الكلاب البرية الأسترالية، وكذا الصيادين من السكان الأصليين، فإن قتل حيوانات الكنغر -حسب الفكرة التي يروجها كثيرٌ من الخبراء- يُعد أمراً أساسياً لتحقيق التوازن في البيئة.
كما أن لذلك أهمية بالغة في تعزيز اقتصاد الأرياف، حيث نشأت صناعةٌ مدعومة من الحكومة الأسترالية تقوم على "الاستغلال التجاري" للحوم الكنغر وفرائه؛ إذ صُدِّر من هذه المنتجات ما قيمته 29 مليون دولار في عام 2017. وتوفر هذه الصناعة نحو 4000 فرصة عمل. وفي الوقت الحالي، يصدَّر اللحم والفراء والجلد من أربعة أنواع غير مهددة بخطر الانقراض (وهي الكنغر الشرقي الرمادي، والكنغر الغربي الرمادي، والكنغر الأحمر، وكنغر الوولارو الشائع) إلى 56 دولة. وتعمل العلامات التجارية العالمية -مثل نايكي وبوما وأديداس- على شراء جلد الكنغر المتين والمرن وتطويعه لصنع المعدات الرياضية. كما أن لحم الكنغر، الذي كان يُباع في الأساس بوصفه غذاء للحيوانات الأليفة، أضحى يُباع حالياً في عدد متزايد من متاجر البقالة والمطاعم الراقية.
اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab
من رمز محبوب إلــى آفــة
تقفز كنغر أم رفقة صغيرها عبر الشارع الرئيس للاقتيات من حشائش جافة نمت على رقعة أرض مجاورة لمضخة بنزين.
كان الوقت ليلا في يوم ربيعي بارد لدى "وايت كليفس"، وهي بلدة غير عادية تقع في ولاية "نيو ساوث ويلز" الأسترالية وتوجد فيها مناجم حجر الأوبال. يعيش أهالي هذه البلدة بأسلوب يشبه الذي لدى "الهوبيت" (عرق خرافي من أشباه البشر قصار القامة) داخل مساكن محفورة تحت الأرض تتخللها ثقوب وفتحات مهوَّاة. تطفح الأرض الجرداء ههنا بالآلاف من مداخل المناجم كما لو كانت نُدبَ طفح جلدي. لكن هذه الكنغر الأم وصغيرها -وهما من نوع "الكنغر الرمادي الشرقي"- يبقيان المنظر الأكثر غرابة في هذا المكان. "لم يسبق لي أن رأيتها هنا على هذا النحو. أتساءل إن كان أحدٌ ما قد استأنسها"؛ كان هذا قول "جورج ويلسون"، أستاذ علم البيئة الذي ظل يَدرس حيوان الكنغر زُهاء خمسة عقود من الزمن. كان السياح يشيرون بأصابعهم إلى هذين الكنغرين ويطيلون النظر إليهما، فيما الأطفال يهللون بإعجاب لرؤيتهما. عندما بدأت الشمس تميل نحو المغيب، انسحبت الأم وصغيرها إلى خارج البلدة. بعد فترة وجيزة، فرغ شابٌ من احتساء شرابه في الحانة المحلية للبلدة ثم أدى ثمن شرابه وانصرف إلى شاحنة بيضاء اللون ثُبِّتت في جزئها الخلفي مجموعةُ خطّافات، ثم انطلق بها. كان عمله في تلك الليلة هو قتل أكبر عدد ممكن من حيوانات الكنغر.
تربط أستراليا ورمزها الوطني علاقةٌ مركّبة. فالكنغر يُعدّ من بين أكثر الحيوانات شهرة وروعة في العالم؛ وهو من الرموز الحية والمفعمة بالحيوية التي تقف شاهداً على التنوع البيولوجي الفريد في هذا البلد. إنه مخلوق جميل للغاية يثير منظره الضحك لكنه يظل محبباً إلى القلب والنفس. ومن ثم فإنه يُعد أعجوبة من منظور تطور الأنواع، بوصفه الحيوان الضخم الوحيد الذي يتنقّل عن طريق النط والقفز. ويفتخر الأستراليون بالكنغر أيما افتخار. إذ يمثل أدوار البطولة في الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، والأشعار، وكتب الأطفال. وتزيِّن صورُه عملةَ البلد وشعار نبالتها، وخطوطها الجوية التجارية، وسفنها البحرية، وشاراتها الأولمبية، وأزياءها الرياضية. أما الأجانب، فيعدّون هذا المخلوق ذا الأقدام الكبيرة والذيل المنتفخ والآذان الطويلة، الصورة البديلة التي ترمز للبلد نفسه. فأستراليا هي الكنغر، والكنغر هو أستراليا؛ إذ يندر وجود مثل هذا الترابط من حيث الدلالات الرمزية بين أي حيوان وبلد آخر.
لكن وفقاً للإحصائيات الرسمية في أستراليا، فإن حيوانات الكنغر تَفُوق من حيث عددها عددَ السكان بأكثر من الضعف، حتى إن كثيراً من الأستراليين يرونها آفات. إذ يقول مُلاك المزارع إن حيوانات الكنغر -التي يقدر عددها في البلد بـ 50 مليون رأس- تُتلف محاصيلهم وتُنافس ماشيتهم على الموارد الطبيعية المحدودة. وتَذكر التقارير الصادرة عن قطاع التأمين في أستراليا، أن الكنغر يتسبب بأكثر من 80 بالمئة من حوادث الاصطدام بين المركبات والحيوانات التي تُسجَّل سنوياً، ويفوق عددها 20 ألف حادثة. ففي المناطق الداخلية القاحلة ذات الكثافة السكانية المنخفضة، يسود اعتقاد بأن أعداد الكنغر تنامت بقدر كبير حتى بلغت "مستويات وبائية". وفي غياب مفترسات تقليدية مثل الكلاب البرية الأسترالية، وكذا الصيادين من السكان الأصليين، فإن قتل حيوانات الكنغر -حسب الفكرة التي يروجها كثيرٌ من الخبراء- يُعد أمراً أساسياً لتحقيق التوازن في البيئة.
كما أن لذلك أهمية بالغة في تعزيز اقتصاد الأرياف، حيث نشأت صناعةٌ مدعومة من الحكومة الأسترالية تقوم على "الاستغلال التجاري" للحوم الكنغر وفرائه؛ إذ صُدِّر من هذه المنتجات ما قيمته 29 مليون دولار في عام 2017. وتوفر هذه الصناعة نحو 4000 فرصة عمل. وفي الوقت الحالي، يصدَّر اللحم والفراء والجلد من أربعة أنواع غير مهددة بخطر الانقراض (وهي الكنغر الشرقي الرمادي، والكنغر الغربي الرمادي، والكنغر الأحمر، وكنغر الوولارو الشائع) إلى 56 دولة. وتعمل العلامات التجارية العالمية -مثل نايكي وبوما وأديداس- على شراء جلد الكنغر المتين والمرن وتطويعه لصنع المعدات الرياضية. كما أن لحم الكنغر، الذي كان يُباع في الأساس بوصفه غذاء للحيوانات الأليفة، أضحى يُباع حالياً في عدد متزايد من متاجر البقالة والمطاعم الراقية.