دبـي تفتــح نافذتها للعالـم

شكل "خور دبي" أهم الطرق التجارية والسياحية في الإمارة؛ وسكنت على ضفافه عائلة آل مكتوم الحاكمة. وقد تمت توسعته في عهد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله. وانطلقت أولى المبادلات التجارية عبره في عام 1961. وفي عام 1963 تم بناء "جسر آل مكتوم" ليكون أول...
"ها قد اقتربنا"..هذا ما اعتاد والدي قوله لنا ما إن يَلمح "برج راشد" في الأفق كنقطة بعيدة. كانت إشارته تلك تتكرر في كل زياراتنا لإمارة دبي؛ لتعلن انطلاق "مسابقة عائلية" من نوع خاص. هنالك نبدأ في تحريك رؤوسنا الصغيرة يمنة باتجاه يده التي يشير بها إلى تلك...
"ها قد اقتربنا"..

هذا ما اعتاد والدي قوله لنا ما إن يَلمح "برج راشد" في الأفق كنقطة بعيدة. كانت إشارته تلك تتكرر في كل زياراتنا لإمارة دبي؛ لتعلن انطلاق "مسابقة عائلية" من نوع خاص. هنالك نبدأ في تحريك رؤوسنا الصغيرة يمنة باتجاه يده التي يشير بها إلى تلك النقطة البعيدة، قابضا بيُسراه مِقود سيارته الـ "نيسان" زرقاء اللون (طراز داتسون 1982).
فلقد كنا -أنا وإخوتي- ندخل منافسة: مَن سيلحظ البرج أولًا؟ كان الأمر في غاية الإمتاع فيُنسينا عناءَ الطريق ومَلَلها الذي كان يُضنينا طوال رحلة الـ 140 كيلومترًا أو نحو ذلك، قادمين من إمارة أبوظبي. لم يكن يُرى خلال الرحلة أي شيء يثير إعجاب أطفال صغار.. فقط صحراء ذات رمال ذهبية تنشر بريقها على جانبي طريق إسفلتية بالكاد تكفي مركبتين، وبضع أشجار صحراوية تتناثر هنا وهناك. استفقت من ذكرايَ تلك على وقع عبارة: "ذاك هو برج راشد" التي قالتها امرأة إماراتية -بدت في الثلاثينات من العمر- لطفلها وهي تشير بيدها صوبَ "مركز دبي التجاري العالمي". كنت حينهَا أقف لدى الجهة الجنوبية من "برواز دبي" (Dubai Frame) الذي ينتصب شامخًا في قلب "حديقة زعبيل" وسط المدينة. ابتسمت في وجه المرأة وعُدت بنظري إلى البرج القابع وسط "غابة" غنّاء من مبانٍ أراها قمة في الفخامة وغاية في الإثارة، وأنا أحاول من جديد استذكار ذلك الزمن العائد إلى ما يقرب من أربعة عقود.
في كل مرة أزور مدينة دبي، أحاول جاهدة إلقاء نظرة إلى هذا المبنى الذي يكاد ينصهر وسط كل ناطحات السحاب الفارهة التي تحيطه من كل نحو وصوب على مشارف "شارع الشيخ زايد". فههنا أسعى جاهدة إلى استعادة مَشاهد من شريط ذكريات طفولتي. كنت حينها على أعتاب العاشرة من عمري. ولمّا كنت أكبر إخوتي،  فقد منحني ذلك امتياز الجلوس مباشرة لدى نافذة السيارة، حيث يَشرئب عنقي الصغير وأنا أتطلع ببصري إلى عنان السماء لعلّه يدرك أبعاد هذا المبنى الضخم الشاهق.. بمعايير ذلك الزمان. وها أنا اليوم أيضا أحاول استيعاب هذه المدينة عبر النظر في امتدادها من شرفات "برواز دبي" الواسعة؛ هذا المعلم الذي يُعدّ أحدث التحف المعمارية في المدينة، بعد افتتاحه في شهر يناير من عام 2018. عادةً ما أجدُنِي أَعقد مقارنات بين البرواز وبرج راشد الذي تم إنجازه عام 1979 ليكون المبنى الأعلى على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط، إلى أن بزغ نجم "برج العرب" عام 1999. منذ أن بدأت أعي هذه النهضة العمرانية العظيمة وأنا أعدّ برج راشد المنارةَ التي ألوذ بها لالتقاط أنفاسي، وكأنّي بحّار فقد بوصلته في خضم هذا الموج العمراني العارم. إنه النقطة التي بدأ منها الحلم كله، والمرجع الأساس الذي يؤرخ لنهضة عمرانية هي الأكثر إثارة للإعجاب والدهشة في العصر الحديث. والآن ما من نافذة أبهى وأوسع وأشمل من "برواز دبي" المهيب، يمكن أن تتيح لأهل دبي وزوارها استكشاف ملامح تلك النهضة وملاحمها.

البهية المبهرة
في الثاني من شهر ديسمبر من هذا العام تحتفل إمارة دبي -كباقي إمارات الدولة- باليوم الوطني الثامن والأربعين لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ إذ تتحول هذه العروس "البهية المبهرة" (هكذا أدعوها؛ وعندي لكل إمارة لقب خاص يليق بفرادتها في عِقد الإمارات الغالي) إلى حورية حسناء بهية في هذه المناسبة التي عادة ما يكون لها بُعد عالمي يعرفه كل المقيمين والزوار، كون معالمها الفريدة تحظى باهتمام خاص في احتفالات اليوم الوطني والمناسبات الأخرى. وإنها حقًّا لمدينة بهية ومبهرة! وستظل مثار إعجاب وانبهار، وحنين كذلك؛ فكلما حللتَ بها ومهما تقاربت زياراتُك لها، فستجد فيها دائما ما يُلهمك ويسلب لبّك، وربما ما يثير شيئا من حيرتك وقلقك أيضا، أو هكذا أعتقد.
إذ كلما كان لي موعد عمل في دبي، أتيقّنُ من أنني سأخوض قبل الوصول تحديًا في غاية القلق والحنق أحيانا! ليس ذلك فحسب لعدم قدرتي على السياقة مسافات طويلة وجهلي التام بشبكة الطرق في هذه المدينة وارتباكي المفرط أمام تعقيدات شوارعها وتفرعاتها، بل أيضا بسبب عجزي عن ضبط الزمن المتوقع لبلوغ أي وجهة فيها. وكيف لي أن أعرف ذلك وأنا ابنة مدينة "بني ياس" في ضواحي إمارة أبوظبي الهادئة، التي لا نشهد فيها ازدحامًا مفرطًا و أوقات ذروة في العادة!
خبرتُ كل ذلك في أحدث زيارةٍ لي لدبي. إذ خرجتُ من منزلي في الساعة الثامنة صباحا للقاء الدكتورة "حصة لوتاه"، أستاذة الإعلام سابقًا لدى "جامعة الإمارات العربية المتحدة".
كان الموعد في تمام الساعة الحادية عشرة، غير أني ولسوء تقديري كالعادة وصلت إلى منزلها في منطقة "الممزر" قبل الموعد بساعة ونصف الساعة! لم تكن تلك زيارتي الأولى لمنزل حصة، لكنها كانت الأولى التي أزور فيها تلك المنطقة في ذلك الوقت المبكر؛ مما أتاح لي معرفة جانب آخر من دبي الساكنة الهادئة: مجموعة فلل ذات عَمارة تجمع بين الرقي والبساطة، وعصافير تملأ بزقزقتها أجواء المكان. فالمنطقة بعيدة عن أي شارع رئيس مزدحم، فضلا عن أن الباحة المنبسطة أمام الفلل -والتي يظهر في أفقها من بعيد "برج خليفة"- كانت خالية من السيارات، التي لا شك نقلت أصحابَها كلٌّ إلى وجهته الخاصة. ولكن أكثر شيء أثار إعجابي ودهشتي هناك هو مشهد البوابة الخارجية لمنزل حصة وهي مشرعة على مصراعيها من دون حرس؛ فتساءلت في نفسي حينها: "هل هناك خطب ما!".
إنه السلوك ذاته في منزل عائلتي، إذ لا اذكر أني رأيت مفتاحا لبوابتنا، فنادرا ما يمر أغراب بجوارنا؛ غير أني استغربت ذلك في مدينة دبي التي يقطنها نحو أربعة ملايين نسمة، جلهم من زُهاء 200 جنسية. قالت حصة، تعليقًا على ملاحظتي: "لقد اعتدنا ذلك منذ الصغر وفي كل البيوت التي سكنّاها في مناطق متعددة بمدينة دبي". وتَذكر حصة أن البداية كانت في "سكة الخيل" إلى جوار "سوق الذهب" و"الراس"، ومن ثم منطقة "نايف". غير أنه ومنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، تسكن هذه المرأة في الممزر التي كانت منطقة سكنية حديثة في ذلك الوقت، بعدما عُرفَت سابقا بأنها ملاذ -أو مَصيف- لأهل دبي من "القيظ"، لطقسها المعتدل وقربها من البحر. تقول حصة: "لقد انتقلت معنا طِباعنا الاجتماعية في كل تنقلاتنا؛ ومنها ترك البوابة الخارجية مشرعة تعبيرًا عن دعوة ضمنية للتواصل الحميم مع جيراننا".
"لقد تأثرنا بالوافدين إلى ديارنا، حتى إن الأمر كان يختلط علينا في الصغر٬ باعتقادنا أن احتفالاتهم جزء من تقاليدنا". - الدكتورة "حصة لوتاه"، أستاذة الإعلام سابقًا

تقع هذه المناطق الثلاث التي عاشت فيها حصة داخل المجال الإداري لـ "ديرة" بالجزء الشمالي لمدينة دبي، حيث يفصلها "خور دبي" عن "بر دبي" الواقعة جنوبًا. وثمة خمسة معابر (أربعة جسور ونفق واحد) تربط بين هاتين الضفتين اللتين تشكلان، فضلًا عن منطقة "الشندغة"، ما يسمى "دبي القديمة". وههنا كان الخور قلبًا نابضًا وصِلة وصل بين سكان المدينة وسكان العالم القادمين إليها عبر الخليج العربي، الذي يتغلغل لسانُه في أعماقها ممتدًا بطول 15 كيلومترًا.
أسهمت منطقة ديرة بحيويتها وخورها إسهامًا كبيرًا في سعة صدر أهل دبي وصفاء أنفسهم؛ فقد "بلورت تكويننا النفسي تجاه قبول الآخر"، كما تقول حصة التي ترى أن لجغرافيا المكان دورًا في التأثير في الطبيعة السكانية والعلاقات الاجتماعية لأهل المنطقة وقبولهم بالآخر والتسامح معه؛ "ما جعل من دبي عبر الأزمنة المتتالية حاضنة للوافدين من شتى بقاع العالم على اختلاف ثقافاتهم وأطيافهم ومشاربهم، وملتقى ومركزا للنشاط التجاري". وتستطرد حصة قائلة: "لقد تأثرنا كثيرًا بالوافدين إلى ديارنا ولا سيما بتقاليدهم وأعرافهم وطقوسهم ذات الطابع الاحتفالي؛ حتى إن الأمر لكان يختلط علينا في الصغر، باعتقادنا أن احتفالاتهم تلك جزء من تقاليدنا".
في دبي تجد كل العالم من دون أن تترك أرضك؛ وهذا ما شاهدتُه عيانًا لدى زيارتي تلك لـ "برواز دبي". فههنا صديقتان آسيويتان تتحدثان باللغة اليابانية؛ وهناك شاب يغير مؤشر الجهاز التفاعلي الخاص بـ "بانوراما دبي" إلى اللغة الفرنسية؛ وذاك رجل أشيب هندوسي "حافي القدمين" بزيه التقليدي وهو يمشي الهوينا على الأرضية الزجاجية الشفافة للبرواز ، فيما تسجل له عائلته مقطع فيديو للذكرى. يعج المكان بفسيفساء بشرية من كل القارات. كنت أنا وتلك المرأة -والدة الطفل- فقط من أهل الإمارات. بادرتُها بالحديث فعرفت أنها من إمارة الشارقة وتزور البرواز أول مرة. كان حديثا سريعا خاطفًا، وبدا عليها الخجل. اعتقدَتْ أني موظفة لدى إدارة هذا المَعلم، وخصوصا لمّا رحّبتُ بها بلهجتنا المحلية قائلةً: "نوَّرتي المكان"، فردَّت: "الله يقويكم".
وإنــه حقيقــةً لمــن دواعي البهجة أن يعمل المرءُ في مكان بهــذه الحيويــة والإثــارة؛ إذ لا شك أن أجواء العمل هنا ستلقي بظلالهـــا على حيــاته. وكــذلك كانت حال الشاب المصري "ياسر"، دليلي أثناء زيارة البرواز. إذ بدا فخورا جدا بما يفعل، حتى ظننت إنه شارك في إنشاء هذا الصرح الذي بلغ عدد العمال الذين شيّدوه 3600 شخص، ما بين مهندس ومقاول وحِرَفي وخبير. والحال أن ياسر بدأ عملَه هنا منذ اليوم الأول لافتتاح البرواز.
ولا يختلف ياسر -الذي يقطن مدينة العين بإمارة أبوظبي- في حماسه عن غيره من الشبان العرب المعجبين بالتجربة الإماراتية، ودبي على وجه الخصوص. فقد أظهرت نتائج استطلاع أُجـرِي في شهر أبريل من العام الجاري من قِبَل "أصداء بي سي دبليو" -وكالة العلاقات العامة الرائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- أنه وللعام الثامن تواليًا، يرى الشبابُ العربي الإماراتَ العربية المتحدة نموذجًا يحتذى للدول الأخرى، والدولة المفضلة للعيش. بل تقدمت الإمارات في ذلك حتى على دول كبرى مثل الولايات المتحدة وكندا.
راحَ "ياسر محمد راشد" (وقد تعمَّد ذكر اسمه الثلاثي اعتزازًا باسم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي) يعرض لي معلومات عن المعلَم بدقة ونشاط منقطعَي النظير، وهو ينظر إلـي في كل مرة منتظرا أن يرى علامات الذهول عـلى وجـهي، ويَـردُّ بين الفينة والأخرى باللغة الألمانية على استفسارات متكررة لسائح ألماني. ويُجيد ياسر كذلك اللغة الإنجليزية؛ فهو خريج كلية ألسن وقد علق على قميصه أسود اللون أعلامَ الدول التي يتحدث لغاتها؛ ضمن إجراء ذكي يُسهل على أي سائح اختيار الدليل الأنسب.

بين التضاد والتطابق
كانت عيون ياسر تلمع كلما دخلنا مرفقًا من مرافق البرواز: في القاعة الأولى حيث "دبي القديمة" وروائح التوابل الزكية الطافحة بعبق التاريخ والأصالة ضمن نموذج مصغر من "سوق الراس"؛ وفي المصاعد البانورامية التي تسافر بك إلى "دبي الحاضر" على ارتفاع 150 مترا في 55 ثانية، حيث يتراءى "ميناء راشد" و"متحف الاتحاد" الذي شهد أول اجتماع للقادة المؤسسين للدولة الاتحادية عام 1971؛ وفي الصالة الموجودة بالأسفل، حيث "دبي المستقبل" بناطحات سحابها وبناياتها الشاهقة الرائقة.
هناك، رأيت الزوار من كل الفئات العمرية: الصغار والشبان والمسنين، كُلٌّ يتسابق باندهاش على مشاهدة تلك المرافق ومحتوياتها الأخّاذة التي تقدم طبقًا شهيًا يجمع بين التراث والتاريخ والأصالة، وبين ازدهار الحاضر وتطلعات المستقبل إلى الريادة. كان الأمر مدروسا منذ بزوغ فكرة إنشاء المَعلمَ. إذ يخبرني المهندس "حسين لوتاه"، مدير عام بلدية دبي سابقا، عن هذه الميزة في البرواز بكل اعتزاز قائلًا: "التميّز المعماري في معالم المدينة كان سعينا الرئيس في أغلب المشروعات؛ فالجذب السياحي أحد مرتكزات اقتصاد المدينة، وتنمية الثقافة هي مفتاح لاستراتيجية السياحة فيها". وقد أسهم لوتاه في بلورة منجزات عمرانية كثيرة بالمدينة منذ أن بدأ عمله مديرًا لإدارة الصرف الصحي بالبلدية قبل 35 عامًا. ويُسهم البرواز في تجسيد استراتيجية السياحة من أوجه عدة؛ لا سيما من خلال فرادة تصميمه وجماليتها، والمحتوى الثقافي والسياحي الذي يقدَّم للزوار في قالب فائق التقنية.
وثمة في دبي نقطتان في غاية التضاد.. والتطابق. فسواء أكنت زائرًا من داخل الدولة أم سائحًا أجنبيا، تبدو لك الصورة مربكة للوهلة الأولى، فترى المعالم متداخلة؛ ولكن الأمر لا يدوم طويلا. فما إن تبدأ في شحذ تركيزك حتى تدرك تماما أنك في مدينة تجيد لعبة التخفي والظهور بمهارة عالية. فهذا "برج خليفة" بارتفاعه البالغ 828 مترًا الذي يتصدر قائمة أعلى أبراج العالم منذ افتتاحه قبل عشرة أعوام؛ وذاك "برج دوار الساعة" الذي بُنيَ عام 1963 وأشرف عليه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وقد صنفته صحيفة "التلغراف" البريطانية عام 2017 ضمن أجمل 17 برجًا للساعات على مستوى العالم؛ وذلك "حصن الفهيدي" الذي يعود تاريخ تشييده إلى عام 1787 وقد تحول إلى متحف. ثم يظهر للناظر ما سيكون أَحدثَ مَعلم بالمدينة، وهو "متحف المستقبل" الذي لم يُفتتح بعد ولكن تبدو معالمه الخارجية شبه مكتملة؛ وفي خلفيته تلوح "أبراج الإمارات" الشاهقة بتصميمها العمراني غير المسبوق.
كل ذلك تجدهُ في مدينة غير مسبوقة، تحتضن أطول برج سكني وأكبر جزيرة صناعية وأكبر فندق وأكبر ميناء وأكبر مجمع تجاري وأول فندق عائم، وغيرها من الأرقام التي دوّنتها "موسوعة غينيس" وبوّأتها الريادة على المستوى العربي.

من جديد، حضرت موعدي مبكرا جدا، خوفا من ظروف الطريق. ولذا بادرت بسؤال الدكتور "عبد الخالق عبد الله"، أستاذ العلوم السياسية سابقًا لدى جامعة الإمارات، ما إن التقيته -كونه حضر في الموعد المحدد تمامًا: "كم مرة تستخدم تطبيق "خرائط غوغل" في طرقات المدينة المعقدة والأشبه بلعبة "أين الطريق؟"، فأجاب: "بعدد مرات الساعة في اليوم!".
بالتأكيد كان الوضع ليكون مختلفا لولا هذه التقنية، ولكن رغم ذلك، لا يفتأ سكان دبي يبدون تعجبهم من عدم قدرتنا -نحن أهل أبوظبي- على التنقل بسهولة في شوارع مدينتهم؛ إذ هم على ثقة أن الانتقال من أول نقطة داخلها إلى آخر نقطة لا يستغرق أكثر من 30 دقيقة! والحقيقة أن دبي منحت الثقة لكثير من قاطنيها ليس بشأن هذا الأمر فقط، إذ يقول عبد الله: "إن ما هو أكثر حضورا وقوة في كل ما يوجد حولنا ولا تراه العين، لشيءٌ أكبر من برج خليفة.. إنه الثقة". فلدى الإماراتيين اليوم ثقة بأنفسهم أكثر من أي وقت مضى. لقد عززت منجزاتنا لدى أبناء الجيل الجديد ثقة هائلة بأنهم قادرون على تحقيق المستحيل.
ولا أدل على ذلك من النجاحات المتتالية والتميز العالمي المُحرَز خلال الخمسة عشر عاما الماضية؛ والتي "منحت للإماراتيين -ولكل الشباب العربي- ثقة بالمستقبل وقناعة كبيرة بامتلاكهم قدرة لا محدودة على تحقيق أي شيء مهما بدا صعبا"، على حد تعبيره.
الثقة أيضا ميزةٌ يحتاج إليها زوار "برواز دبي" الذين بلغ عددهم مليون زائر في عامه الأول فقط؛ لا بسبب علو المكان (أطول من قمة "هرم خوفو" البالغ ارتفاعه 139 مترًا)، وإنما بسبب الممر الزجاجي الشفاف الذي يتوسط الإطار الأفقي للبرواز. لذلك سترى وأنت هناك أن أغلب الزوار يكتفون بوضع أقدامهم على أطرافه.
هنالك أدركتُ لماذا كان ياسر يسألني هل أعاني رهاب الأماكن المرتفعة. وقد ابتسم غير مصدّق عندما أخبرته أني أعشق ذلك. عندها هَمَمتُ بعبور الممشى حاملةً هاتفي لتصوير هذا "الانتصار الشخصي". يتكوّن الممر من زجاج شديد المقاومة ويبدو أبيض اللون، لكن ما إن تطأه قدمك حتى يزول لونه ويَظهر صفاؤه البلّوري الشفاف ليكشف لك المدينة أسفله من على ارتفاع 48 طابقا.
أما الواجهة الخارجية للبرواز فهي مستَلهَمة من شعار معرض "إكسبو 2020" الذي ستحتضنه المدينة في 20 أكتوبر من العام المقبل. يستعد كل من في دولة الإمارات تقريبا لهذا الحدث. فمنذ أن أُعلن في نوفمبر عام 2013 فوز دولة الإمارات بحق تنظيمه، ورافعات البناء لم تهدأ في دبي.. بل إنها لم تهدأ أساسًا منذ عقود في هذه المدينة، حتى إن بعضهم يتندر بالقول إن الرافعة هي رمز دبي على الصعيد الوطني.
لدى الإماراتيين اليوم ثقة بأنفسهم أكثر من أي وقت مضى. لقد عززت هذه النجاحات لدى أبناء الجيل الجديد ثقة هائلة بأنهم قادرون على تحقيق المستحيل..

يدرك الجيل الجديد من الإماراتيين دلالة ذلك جيدا وهم يعددون المنجزات: إنجاز جديد، فرقم قياسي جديد، فمسؤولية جديدة، فتحدٍّ جديد؛ ولكنها تحديات لا تنسلخ عن الماضي بل مستمَدة من جوهره. وتلك معادلة يصعب إدراكها على كثير من زوار دبي؛ إذ لا يمكن ملاحظتها متجسدةً إلا إذا كان لك صديق من أهل هذه المدينة. وهذا ما شهدته لدى منزل الدكتورة حصة؛ فرغم كل ما يحيطه من عصرنة، شعرت أني في بيت يشبه الأرض الأصلية التي أُقيمَ عليها؛ ابتداء بالباب الخارجي المشرَّع، والأحرف العربية المنقوشة على زجاج الباب الداخلي، ومقاعد الأرابيسك، والمرايا الكلاسيكية، ولوحات الآيات القرآنية والخط العربي، ورائحة بخور اللبان، و"دلة" القهوة، وسلة السبحات التي تعلوها على الجدار لوحة للسيدة مريم العذراء، وليس انتهاءً بمكتبتها التي تلف جدران غرفة مليئة بعشق الدكتورة حصة للمعرفة والفن والانفتاح.
هكذا هي دبي.. المدينة المُعولَمة التي فرعُها في عنان الحداثة وأصلها ضارب في عمق التاريخ والأصالة.
يَدرس "فارس"، حفيد حصة البِكر، هندسة علوم فضاء في عامه الأول لدى "جامعة خليفة" بأبوظبي. إنه شاب يحب الاطلاع والمطالعة هو وأختُه "حمدة"، ما يُسعد جدته كثيرًا. تقول عنهما وإخوتهما "إنهم يتحدثون اللغة الإنجليزية بطلاقة، ولكن ليس معنا في المنزل. فالحفاظ على الروابط العائلية والعادات الاجتماعية الطيبة هو ما نراهن عليه لصون هوية أبنائنا. ولابد لنا من تسليحهم بما يلزم للمستقبل".
ولدى الدكتور عبد الخالق عبد الله القناعة نفسها؛ إذ يرى أن العولمة ليست أمرًا طارئا أو دخيلا على دبي، والتي يتمتع أهلها بحصانة كافية للتعامل مع رياح الحداثة؛ وما التفاعل الإيجابي مع مبادرة "عيال زايد"، التي ترسخ قيم وأخلاق القادة المؤسسين لدولة الإمارات، إلا تأكيد على ذلك. فصحيحٌ أن المواطن الإماراتي عمومًا شخصٌ يعيش وفق المعايير العالمية في كل ما هو مادي، ولكنه إلى جانب ذلك يستمد خصال التسامح والانفتاح من خُلُق آبائه وأجداده ومن هويته المتجسِّدة في ملبسه وعاداته التي هي محل احترام وتقدير.
أَضِف إلى ذلك مسألة اللغة بوصفها مقوِّمًا من مقوّمات الهوية. فصحيحٌ أن اللغة الإنجليزية شائعة الاستخدام في دبي، إلا أن اللغة العربية حاضرة بقوة في كل المعاملات الحكومية، وفي المنشآت المعمارية حيث تتجسد بحروفُها الجميلة في الآياتٍ القرآنية أو الأبيات الشعرية. ولعل خير مثال على ذلك هو تلك الخطوط العربية الفاتنة التي تزين واجهة "متحف المستقبل"، وغيرها من المعالم في دبي.

 

دبـي تفتــح نافذتها للعالـم

شكل "خور دبي" أهم الطرق التجارية والسياحية في الإمارة؛ وسكنت على ضفافه عائلة آل مكتوم الحاكمة. وقد تمت توسعته في عهد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله. وانطلقت أولى المبادلات التجارية عبره في عام 1961. وفي عام 1963 تم بناء "جسر آل مكتوم" ليكون أول...
"ها قد اقتربنا"..هذا ما اعتاد والدي قوله لنا ما إن يَلمح "برج راشد" في الأفق كنقطة بعيدة. كانت إشارته تلك تتكرر في كل زياراتنا لإمارة دبي؛ لتعلن انطلاق "مسابقة عائلية" من نوع خاص. هنالك نبدأ في تحريك رؤوسنا الصغيرة يمنة باتجاه يده التي يشير بها إلى تلك...
"ها قد اقتربنا"..

هذا ما اعتاد والدي قوله لنا ما إن يَلمح "برج راشد" في الأفق كنقطة بعيدة. كانت إشارته تلك تتكرر في كل زياراتنا لإمارة دبي؛ لتعلن انطلاق "مسابقة عائلية" من نوع خاص. هنالك نبدأ في تحريك رؤوسنا الصغيرة يمنة باتجاه يده التي يشير بها إلى تلك النقطة البعيدة، قابضا بيُسراه مِقود سيارته الـ "نيسان" زرقاء اللون (طراز داتسون 1982).
فلقد كنا -أنا وإخوتي- ندخل منافسة: مَن سيلحظ البرج أولًا؟ كان الأمر في غاية الإمتاع فيُنسينا عناءَ الطريق ومَلَلها الذي كان يُضنينا طوال رحلة الـ 140 كيلومترًا أو نحو ذلك، قادمين من إمارة أبوظبي. لم يكن يُرى خلال الرحلة أي شيء يثير إعجاب أطفال صغار.. فقط صحراء ذات رمال ذهبية تنشر بريقها على جانبي طريق إسفلتية بالكاد تكفي مركبتين، وبضع أشجار صحراوية تتناثر هنا وهناك. استفقت من ذكرايَ تلك على وقع عبارة: "ذاك هو برج راشد" التي قالتها امرأة إماراتية -بدت في الثلاثينات من العمر- لطفلها وهي تشير بيدها صوبَ "مركز دبي التجاري العالمي". كنت حينهَا أقف لدى الجهة الجنوبية من "برواز دبي" (Dubai Frame) الذي ينتصب شامخًا في قلب "حديقة زعبيل" وسط المدينة. ابتسمت في وجه المرأة وعُدت بنظري إلى البرج القابع وسط "غابة" غنّاء من مبانٍ أراها قمة في الفخامة وغاية في الإثارة، وأنا أحاول من جديد استذكار ذلك الزمن العائد إلى ما يقرب من أربعة عقود.
في كل مرة أزور مدينة دبي، أحاول جاهدة إلقاء نظرة إلى هذا المبنى الذي يكاد ينصهر وسط كل ناطحات السحاب الفارهة التي تحيطه من كل نحو وصوب على مشارف "شارع الشيخ زايد". فههنا أسعى جاهدة إلى استعادة مَشاهد من شريط ذكريات طفولتي. كنت حينها على أعتاب العاشرة من عمري. ولمّا كنت أكبر إخوتي،  فقد منحني ذلك امتياز الجلوس مباشرة لدى نافذة السيارة، حيث يَشرئب عنقي الصغير وأنا أتطلع ببصري إلى عنان السماء لعلّه يدرك أبعاد هذا المبنى الضخم الشاهق.. بمعايير ذلك الزمان. وها أنا اليوم أيضا أحاول استيعاب هذه المدينة عبر النظر في امتدادها من شرفات "برواز دبي" الواسعة؛ هذا المعلم الذي يُعدّ أحدث التحف المعمارية في المدينة، بعد افتتاحه في شهر يناير من عام 2018. عادةً ما أجدُنِي أَعقد مقارنات بين البرواز وبرج راشد الذي تم إنجازه عام 1979 ليكون المبنى الأعلى على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط، إلى أن بزغ نجم "برج العرب" عام 1999. منذ أن بدأت أعي هذه النهضة العمرانية العظيمة وأنا أعدّ برج راشد المنارةَ التي ألوذ بها لالتقاط أنفاسي، وكأنّي بحّار فقد بوصلته في خضم هذا الموج العمراني العارم. إنه النقطة التي بدأ منها الحلم كله، والمرجع الأساس الذي يؤرخ لنهضة عمرانية هي الأكثر إثارة للإعجاب والدهشة في العصر الحديث. والآن ما من نافذة أبهى وأوسع وأشمل من "برواز دبي" المهيب، يمكن أن تتيح لأهل دبي وزوارها استكشاف ملامح تلك النهضة وملاحمها.

البهية المبهرة
في الثاني من شهر ديسمبر من هذا العام تحتفل إمارة دبي -كباقي إمارات الدولة- باليوم الوطني الثامن والأربعين لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ إذ تتحول هذه العروس "البهية المبهرة" (هكذا أدعوها؛ وعندي لكل إمارة لقب خاص يليق بفرادتها في عِقد الإمارات الغالي) إلى حورية حسناء بهية في هذه المناسبة التي عادة ما يكون لها بُعد عالمي يعرفه كل المقيمين والزوار، كون معالمها الفريدة تحظى باهتمام خاص في احتفالات اليوم الوطني والمناسبات الأخرى. وإنها حقًّا لمدينة بهية ومبهرة! وستظل مثار إعجاب وانبهار، وحنين كذلك؛ فكلما حللتَ بها ومهما تقاربت زياراتُك لها، فستجد فيها دائما ما يُلهمك ويسلب لبّك، وربما ما يثير شيئا من حيرتك وقلقك أيضا، أو هكذا أعتقد.
إذ كلما كان لي موعد عمل في دبي، أتيقّنُ من أنني سأخوض قبل الوصول تحديًا في غاية القلق والحنق أحيانا! ليس ذلك فحسب لعدم قدرتي على السياقة مسافات طويلة وجهلي التام بشبكة الطرق في هذه المدينة وارتباكي المفرط أمام تعقيدات شوارعها وتفرعاتها، بل أيضا بسبب عجزي عن ضبط الزمن المتوقع لبلوغ أي وجهة فيها. وكيف لي أن أعرف ذلك وأنا ابنة مدينة "بني ياس" في ضواحي إمارة أبوظبي الهادئة، التي لا نشهد فيها ازدحامًا مفرطًا و أوقات ذروة في العادة!
خبرتُ كل ذلك في أحدث زيارةٍ لي لدبي. إذ خرجتُ من منزلي في الساعة الثامنة صباحا للقاء الدكتورة "حصة لوتاه"، أستاذة الإعلام سابقًا لدى "جامعة الإمارات العربية المتحدة".
كان الموعد في تمام الساعة الحادية عشرة، غير أني ولسوء تقديري كالعادة وصلت إلى منزلها في منطقة "الممزر" قبل الموعد بساعة ونصف الساعة! لم تكن تلك زيارتي الأولى لمنزل حصة، لكنها كانت الأولى التي أزور فيها تلك المنطقة في ذلك الوقت المبكر؛ مما أتاح لي معرفة جانب آخر من دبي الساكنة الهادئة: مجموعة فلل ذات عَمارة تجمع بين الرقي والبساطة، وعصافير تملأ بزقزقتها أجواء المكان. فالمنطقة بعيدة عن أي شارع رئيس مزدحم، فضلا عن أن الباحة المنبسطة أمام الفلل -والتي يظهر في أفقها من بعيد "برج خليفة"- كانت خالية من السيارات، التي لا شك نقلت أصحابَها كلٌّ إلى وجهته الخاصة. ولكن أكثر شيء أثار إعجابي ودهشتي هناك هو مشهد البوابة الخارجية لمنزل حصة وهي مشرعة على مصراعيها من دون حرس؛ فتساءلت في نفسي حينها: "هل هناك خطب ما!".
إنه السلوك ذاته في منزل عائلتي، إذ لا اذكر أني رأيت مفتاحا لبوابتنا، فنادرا ما يمر أغراب بجوارنا؛ غير أني استغربت ذلك في مدينة دبي التي يقطنها نحو أربعة ملايين نسمة، جلهم من زُهاء 200 جنسية. قالت حصة، تعليقًا على ملاحظتي: "لقد اعتدنا ذلك منذ الصغر وفي كل البيوت التي سكنّاها في مناطق متعددة بمدينة دبي". وتَذكر حصة أن البداية كانت في "سكة الخيل" إلى جوار "سوق الذهب" و"الراس"، ومن ثم منطقة "نايف". غير أنه ومنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، تسكن هذه المرأة في الممزر التي كانت منطقة سكنية حديثة في ذلك الوقت، بعدما عُرفَت سابقا بأنها ملاذ -أو مَصيف- لأهل دبي من "القيظ"، لطقسها المعتدل وقربها من البحر. تقول حصة: "لقد انتقلت معنا طِباعنا الاجتماعية في كل تنقلاتنا؛ ومنها ترك البوابة الخارجية مشرعة تعبيرًا عن دعوة ضمنية للتواصل الحميم مع جيراننا".
"لقد تأثرنا بالوافدين إلى ديارنا، حتى إن الأمر كان يختلط علينا في الصغر٬ باعتقادنا أن احتفالاتهم جزء من تقاليدنا". - الدكتورة "حصة لوتاه"، أستاذة الإعلام سابقًا

تقع هذه المناطق الثلاث التي عاشت فيها حصة داخل المجال الإداري لـ "ديرة" بالجزء الشمالي لمدينة دبي، حيث يفصلها "خور دبي" عن "بر دبي" الواقعة جنوبًا. وثمة خمسة معابر (أربعة جسور ونفق واحد) تربط بين هاتين الضفتين اللتين تشكلان، فضلًا عن منطقة "الشندغة"، ما يسمى "دبي القديمة". وههنا كان الخور قلبًا نابضًا وصِلة وصل بين سكان المدينة وسكان العالم القادمين إليها عبر الخليج العربي، الذي يتغلغل لسانُه في أعماقها ممتدًا بطول 15 كيلومترًا.
أسهمت منطقة ديرة بحيويتها وخورها إسهامًا كبيرًا في سعة صدر أهل دبي وصفاء أنفسهم؛ فقد "بلورت تكويننا النفسي تجاه قبول الآخر"، كما تقول حصة التي ترى أن لجغرافيا المكان دورًا في التأثير في الطبيعة السكانية والعلاقات الاجتماعية لأهل المنطقة وقبولهم بالآخر والتسامح معه؛ "ما جعل من دبي عبر الأزمنة المتتالية حاضنة للوافدين من شتى بقاع العالم على اختلاف ثقافاتهم وأطيافهم ومشاربهم، وملتقى ومركزا للنشاط التجاري". وتستطرد حصة قائلة: "لقد تأثرنا كثيرًا بالوافدين إلى ديارنا ولا سيما بتقاليدهم وأعرافهم وطقوسهم ذات الطابع الاحتفالي؛ حتى إن الأمر لكان يختلط علينا في الصغر، باعتقادنا أن احتفالاتهم تلك جزء من تقاليدنا".
في دبي تجد كل العالم من دون أن تترك أرضك؛ وهذا ما شاهدتُه عيانًا لدى زيارتي تلك لـ "برواز دبي". فههنا صديقتان آسيويتان تتحدثان باللغة اليابانية؛ وهناك شاب يغير مؤشر الجهاز التفاعلي الخاص بـ "بانوراما دبي" إلى اللغة الفرنسية؛ وذاك رجل أشيب هندوسي "حافي القدمين" بزيه التقليدي وهو يمشي الهوينا على الأرضية الزجاجية الشفافة للبرواز ، فيما تسجل له عائلته مقطع فيديو للذكرى. يعج المكان بفسيفساء بشرية من كل القارات. كنت أنا وتلك المرأة -والدة الطفل- فقط من أهل الإمارات. بادرتُها بالحديث فعرفت أنها من إمارة الشارقة وتزور البرواز أول مرة. كان حديثا سريعا خاطفًا، وبدا عليها الخجل. اعتقدَتْ أني موظفة لدى إدارة هذا المَعلم، وخصوصا لمّا رحّبتُ بها بلهجتنا المحلية قائلةً: "نوَّرتي المكان"، فردَّت: "الله يقويكم".
وإنــه حقيقــةً لمــن دواعي البهجة أن يعمل المرءُ في مكان بهــذه الحيويــة والإثــارة؛ إذ لا شك أن أجواء العمل هنا ستلقي بظلالهـــا على حيــاته. وكــذلك كانت حال الشاب المصري "ياسر"، دليلي أثناء زيارة البرواز. إذ بدا فخورا جدا بما يفعل، حتى ظننت إنه شارك في إنشاء هذا الصرح الذي بلغ عدد العمال الذين شيّدوه 3600 شخص، ما بين مهندس ومقاول وحِرَفي وخبير. والحال أن ياسر بدأ عملَه هنا منذ اليوم الأول لافتتاح البرواز.
ولا يختلف ياسر -الذي يقطن مدينة العين بإمارة أبوظبي- في حماسه عن غيره من الشبان العرب المعجبين بالتجربة الإماراتية، ودبي على وجه الخصوص. فقد أظهرت نتائج استطلاع أُجـرِي في شهر أبريل من العام الجاري من قِبَل "أصداء بي سي دبليو" -وكالة العلاقات العامة الرائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- أنه وللعام الثامن تواليًا، يرى الشبابُ العربي الإماراتَ العربية المتحدة نموذجًا يحتذى للدول الأخرى، والدولة المفضلة للعيش. بل تقدمت الإمارات في ذلك حتى على دول كبرى مثل الولايات المتحدة وكندا.
راحَ "ياسر محمد راشد" (وقد تعمَّد ذكر اسمه الثلاثي اعتزازًا باسم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي) يعرض لي معلومات عن المعلَم بدقة ونشاط منقطعَي النظير، وهو ينظر إلـي في كل مرة منتظرا أن يرى علامات الذهول عـلى وجـهي، ويَـردُّ بين الفينة والأخرى باللغة الألمانية على استفسارات متكررة لسائح ألماني. ويُجيد ياسر كذلك اللغة الإنجليزية؛ فهو خريج كلية ألسن وقد علق على قميصه أسود اللون أعلامَ الدول التي يتحدث لغاتها؛ ضمن إجراء ذكي يُسهل على أي سائح اختيار الدليل الأنسب.

بين التضاد والتطابق
كانت عيون ياسر تلمع كلما دخلنا مرفقًا من مرافق البرواز: في القاعة الأولى حيث "دبي القديمة" وروائح التوابل الزكية الطافحة بعبق التاريخ والأصالة ضمن نموذج مصغر من "سوق الراس"؛ وفي المصاعد البانورامية التي تسافر بك إلى "دبي الحاضر" على ارتفاع 150 مترا في 55 ثانية، حيث يتراءى "ميناء راشد" و"متحف الاتحاد" الذي شهد أول اجتماع للقادة المؤسسين للدولة الاتحادية عام 1971؛ وفي الصالة الموجودة بالأسفل، حيث "دبي المستقبل" بناطحات سحابها وبناياتها الشاهقة الرائقة.
هناك، رأيت الزوار من كل الفئات العمرية: الصغار والشبان والمسنين، كُلٌّ يتسابق باندهاش على مشاهدة تلك المرافق ومحتوياتها الأخّاذة التي تقدم طبقًا شهيًا يجمع بين التراث والتاريخ والأصالة، وبين ازدهار الحاضر وتطلعات المستقبل إلى الريادة. كان الأمر مدروسا منذ بزوغ فكرة إنشاء المَعلمَ. إذ يخبرني المهندس "حسين لوتاه"، مدير عام بلدية دبي سابقا، عن هذه الميزة في البرواز بكل اعتزاز قائلًا: "التميّز المعماري في معالم المدينة كان سعينا الرئيس في أغلب المشروعات؛ فالجذب السياحي أحد مرتكزات اقتصاد المدينة، وتنمية الثقافة هي مفتاح لاستراتيجية السياحة فيها". وقد أسهم لوتاه في بلورة منجزات عمرانية كثيرة بالمدينة منذ أن بدأ عمله مديرًا لإدارة الصرف الصحي بالبلدية قبل 35 عامًا. ويُسهم البرواز في تجسيد استراتيجية السياحة من أوجه عدة؛ لا سيما من خلال فرادة تصميمه وجماليتها، والمحتوى الثقافي والسياحي الذي يقدَّم للزوار في قالب فائق التقنية.
وثمة في دبي نقطتان في غاية التضاد.. والتطابق. فسواء أكنت زائرًا من داخل الدولة أم سائحًا أجنبيا، تبدو لك الصورة مربكة للوهلة الأولى، فترى المعالم متداخلة؛ ولكن الأمر لا يدوم طويلا. فما إن تبدأ في شحذ تركيزك حتى تدرك تماما أنك في مدينة تجيد لعبة التخفي والظهور بمهارة عالية. فهذا "برج خليفة" بارتفاعه البالغ 828 مترًا الذي يتصدر قائمة أعلى أبراج العالم منذ افتتاحه قبل عشرة أعوام؛ وذاك "برج دوار الساعة" الذي بُنيَ عام 1963 وأشرف عليه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وقد صنفته صحيفة "التلغراف" البريطانية عام 2017 ضمن أجمل 17 برجًا للساعات على مستوى العالم؛ وذلك "حصن الفهيدي" الذي يعود تاريخ تشييده إلى عام 1787 وقد تحول إلى متحف. ثم يظهر للناظر ما سيكون أَحدثَ مَعلم بالمدينة، وهو "متحف المستقبل" الذي لم يُفتتح بعد ولكن تبدو معالمه الخارجية شبه مكتملة؛ وفي خلفيته تلوح "أبراج الإمارات" الشاهقة بتصميمها العمراني غير المسبوق.
كل ذلك تجدهُ في مدينة غير مسبوقة، تحتضن أطول برج سكني وأكبر جزيرة صناعية وأكبر فندق وأكبر ميناء وأكبر مجمع تجاري وأول فندق عائم، وغيرها من الأرقام التي دوّنتها "موسوعة غينيس" وبوّأتها الريادة على المستوى العربي.

من جديد، حضرت موعدي مبكرا جدا، خوفا من ظروف الطريق. ولذا بادرت بسؤال الدكتور "عبد الخالق عبد الله"، أستاذ العلوم السياسية سابقًا لدى جامعة الإمارات، ما إن التقيته -كونه حضر في الموعد المحدد تمامًا: "كم مرة تستخدم تطبيق "خرائط غوغل" في طرقات المدينة المعقدة والأشبه بلعبة "أين الطريق؟"، فأجاب: "بعدد مرات الساعة في اليوم!".
بالتأكيد كان الوضع ليكون مختلفا لولا هذه التقنية، ولكن رغم ذلك، لا يفتأ سكان دبي يبدون تعجبهم من عدم قدرتنا -نحن أهل أبوظبي- على التنقل بسهولة في شوارع مدينتهم؛ إذ هم على ثقة أن الانتقال من أول نقطة داخلها إلى آخر نقطة لا يستغرق أكثر من 30 دقيقة! والحقيقة أن دبي منحت الثقة لكثير من قاطنيها ليس بشأن هذا الأمر فقط، إذ يقول عبد الله: "إن ما هو أكثر حضورا وقوة في كل ما يوجد حولنا ولا تراه العين، لشيءٌ أكبر من برج خليفة.. إنه الثقة". فلدى الإماراتيين اليوم ثقة بأنفسهم أكثر من أي وقت مضى. لقد عززت منجزاتنا لدى أبناء الجيل الجديد ثقة هائلة بأنهم قادرون على تحقيق المستحيل.
ولا أدل على ذلك من النجاحات المتتالية والتميز العالمي المُحرَز خلال الخمسة عشر عاما الماضية؛ والتي "منحت للإماراتيين -ولكل الشباب العربي- ثقة بالمستقبل وقناعة كبيرة بامتلاكهم قدرة لا محدودة على تحقيق أي شيء مهما بدا صعبا"، على حد تعبيره.
الثقة أيضا ميزةٌ يحتاج إليها زوار "برواز دبي" الذين بلغ عددهم مليون زائر في عامه الأول فقط؛ لا بسبب علو المكان (أطول من قمة "هرم خوفو" البالغ ارتفاعه 139 مترًا)، وإنما بسبب الممر الزجاجي الشفاف الذي يتوسط الإطار الأفقي للبرواز. لذلك سترى وأنت هناك أن أغلب الزوار يكتفون بوضع أقدامهم على أطرافه.
هنالك أدركتُ لماذا كان ياسر يسألني هل أعاني رهاب الأماكن المرتفعة. وقد ابتسم غير مصدّق عندما أخبرته أني أعشق ذلك. عندها هَمَمتُ بعبور الممشى حاملةً هاتفي لتصوير هذا "الانتصار الشخصي". يتكوّن الممر من زجاج شديد المقاومة ويبدو أبيض اللون، لكن ما إن تطأه قدمك حتى يزول لونه ويَظهر صفاؤه البلّوري الشفاف ليكشف لك المدينة أسفله من على ارتفاع 48 طابقا.
أما الواجهة الخارجية للبرواز فهي مستَلهَمة من شعار معرض "إكسبو 2020" الذي ستحتضنه المدينة في 20 أكتوبر من العام المقبل. يستعد كل من في دولة الإمارات تقريبا لهذا الحدث. فمنذ أن أُعلن في نوفمبر عام 2013 فوز دولة الإمارات بحق تنظيمه، ورافعات البناء لم تهدأ في دبي.. بل إنها لم تهدأ أساسًا منذ عقود في هذه المدينة، حتى إن بعضهم يتندر بالقول إن الرافعة هي رمز دبي على الصعيد الوطني.
لدى الإماراتيين اليوم ثقة بأنفسهم أكثر من أي وقت مضى. لقد عززت هذه النجاحات لدى أبناء الجيل الجديد ثقة هائلة بأنهم قادرون على تحقيق المستحيل..

يدرك الجيل الجديد من الإماراتيين دلالة ذلك جيدا وهم يعددون المنجزات: إنجاز جديد، فرقم قياسي جديد، فمسؤولية جديدة، فتحدٍّ جديد؛ ولكنها تحديات لا تنسلخ عن الماضي بل مستمَدة من جوهره. وتلك معادلة يصعب إدراكها على كثير من زوار دبي؛ إذ لا يمكن ملاحظتها متجسدةً إلا إذا كان لك صديق من أهل هذه المدينة. وهذا ما شهدته لدى منزل الدكتورة حصة؛ فرغم كل ما يحيطه من عصرنة، شعرت أني في بيت يشبه الأرض الأصلية التي أُقيمَ عليها؛ ابتداء بالباب الخارجي المشرَّع، والأحرف العربية المنقوشة على زجاج الباب الداخلي، ومقاعد الأرابيسك، والمرايا الكلاسيكية، ولوحات الآيات القرآنية والخط العربي، ورائحة بخور اللبان، و"دلة" القهوة، وسلة السبحات التي تعلوها على الجدار لوحة للسيدة مريم العذراء، وليس انتهاءً بمكتبتها التي تلف جدران غرفة مليئة بعشق الدكتورة حصة للمعرفة والفن والانفتاح.
هكذا هي دبي.. المدينة المُعولَمة التي فرعُها في عنان الحداثة وأصلها ضارب في عمق التاريخ والأصالة.
يَدرس "فارس"، حفيد حصة البِكر، هندسة علوم فضاء في عامه الأول لدى "جامعة خليفة" بأبوظبي. إنه شاب يحب الاطلاع والمطالعة هو وأختُه "حمدة"، ما يُسعد جدته كثيرًا. تقول عنهما وإخوتهما "إنهم يتحدثون اللغة الإنجليزية بطلاقة، ولكن ليس معنا في المنزل. فالحفاظ على الروابط العائلية والعادات الاجتماعية الطيبة هو ما نراهن عليه لصون هوية أبنائنا. ولابد لنا من تسليحهم بما يلزم للمستقبل".
ولدى الدكتور عبد الخالق عبد الله القناعة نفسها؛ إذ يرى أن العولمة ليست أمرًا طارئا أو دخيلا على دبي، والتي يتمتع أهلها بحصانة كافية للتعامل مع رياح الحداثة؛ وما التفاعل الإيجابي مع مبادرة "عيال زايد"، التي ترسخ قيم وأخلاق القادة المؤسسين لدولة الإمارات، إلا تأكيد على ذلك. فصحيحٌ أن المواطن الإماراتي عمومًا شخصٌ يعيش وفق المعايير العالمية في كل ما هو مادي، ولكنه إلى جانب ذلك يستمد خصال التسامح والانفتاح من خُلُق آبائه وأجداده ومن هويته المتجسِّدة في ملبسه وعاداته التي هي محل احترام وتقدير.
أَضِف إلى ذلك مسألة اللغة بوصفها مقوِّمًا من مقوّمات الهوية. فصحيحٌ أن اللغة الإنجليزية شائعة الاستخدام في دبي، إلا أن اللغة العربية حاضرة بقوة في كل المعاملات الحكومية، وفي المنشآت المعمارية حيث تتجسد بحروفُها الجميلة في الآياتٍ القرآنية أو الأبيات الشعرية. ولعل خير مثال على ذلك هو تلك الخطوط العربية الفاتنة التي تزين واجهة "متحف المستقبل"، وغيرها من المعالم في دبي.