عجـائـب جـرثـوميـة

يمكن أن تتسبب "الإشريكية القولونية" (Escherichia coli)، الظاهرة في شكل عصيّات صفراء تحتشد فوق ركائز أرجوانية، في التسمم الغذائي. لكن جل سلالاتها لا يتسم بكونه غير ضار فحسب، بل إنه مفيد أيضًا. وتستوطن الإشريكية القولونية الأمعاءَ البشرية وتؤدي وظائف...
كلما بحث العلماء في الجراثيم التي تعيش بداخلنا، ازدادوا معرفة بالتأثير المذهل لهذه الكائنات الدقيقة في شكلنا وسلوكنا وتفكيرنا وشعورنا. فهل فِعلا للبكتيريا والفيروسات والفطريات والأواليات (الكائنات وحيدة الخلية) -التي تعيش داخل أمعائنا ورئتينا وعلى...
كلما بحث العلماء في الجراثيم التي تعيش بداخلنا، ازدادوا معرفة بالتأثير المذهل لهذه الكائنات الدقيقة في شكلنا وسلوكنا وتفكيرنا وشعورنا. فهل فِعلا للبكتيريا والفيروسات والفطريات والأواليات (الكائنات وحيدة الخلية) -التي تعيش داخل أمعائنا ورئتينا وعلى بشرتنا وعلى مُقَل عيوننا- إسهامات في تحسين صحتنا وعافيتنا؟ قد يستعصي علينا إدراك الدور الحيوي لهذه الكائنات التي نحملها معنا أينما ارتحلنا، في طبيعة الحياة البشرية.

يشكل هذا النظام البكتيري -المعروف باسم "الميكروبيوم" (Microbiome)- مستودعًا لتشكيلة متنوعة من كائنات حية دقيقة يمكن أن تكون لها تأثيرات عميقة قد تبدأ في وقت مبكر جدا من حياة الإنسان. فقد بيَّن العلماء في دراسة نُشرت عام 2019 أن ما يُفترض أنها سِمات فطرية -مثل مزاج الطفل- قد تكون ذات صلة بمدى انتماء بكتيريا أمعاء الطفل في معظمها إلى جنس بعينه؛ ألا وهو: "بيفيدوبكتيريوم" (Bifidobacterium). فكلما زاد هذا الجنس من البكتيريا، كان مزاج الرضيع أفضل.
وتستند هذه الملاحظة التي توصلَت إليها "آنا كاترينا آتسينكي" وزملاؤها لدى "جامعة توركو" في فنلندا، إلى تحليل لِعيِّنات براز استخلصت من 301 رضيع. فالرضع الذين كانت لديهم في سن الشهرين أعلى نسبة من بكتيريا "بيفيدوبكتريوم"، أصبحت لديهم في سن الستة أشهر فرصة أكبر لامتلاك ميزة أطلق عليها الباحثون "الوجدان الإيجابي".
ولا يزال علم الميكروبيوم في بداياته الأولى نسبيًا. فلم تنطلق البحوث الجادة في هذا المجال إلا منذ 15 عامًا، ما يعني أن جل الدراسات التي أُجريت حتى الآن اتسمت بطابعها التمهيدي ونطاقها الصغير؛ إذ لم تشمل إلا نحو اثني عشر فأرًا أو إنسانًا. فقد وجد العلماء اقترانًا بين الميكروبيوم والأمراض، لكنهم لم يتمكنوا بعد من استخلاص استنتاجات واضحة تربط بين المسببات والنتائج بشأن مخزوننا الهائل من هذه الكائنات الدقيقة وما يعنيه كل ذلك لنا بوصفنا أجسامًا مضيِّفة. على أن هذا المخزون نفسه يظل أمرًا مذهلا ومحيرًا للعقول، إذ يُعتقد الآن أنه يحوي نحو 38 تريليون جرثومة لدى شاب بالغ نموذجي، أي أكثر بقليل من عدد الخلايا البشرية الفعلية. وينطوي تسخير هذا المخزون على إمكانات واعدة.
ويرى أكثر الباحثين تفاؤلا وحماسًا أن تقديم جرعة من الجراثيم الصحية سيصبح في المستقبل غير البعيد أمرًا اعتياديًا، سواء أكان في شكل "بريبايوتيك" (Prebiotics؛ أي المُرَكّبات التي تشكل أساسًا لنمو الجراثيم المفيدة)، أو "بروبايوتيك" (Probiotics'؛ أي الجراثيم المفيدة نفسها)، أو من خلال زرع البراز (براز غني بالجراثيم ومستخلَص من متبرعين أصحاء). إذ سيساعد ذلكَ أجسامَنا على العمل بأقصى نجاعة ممكنة، من الداخل إلى الخارج.
عندما نَذكر الميكروبيوم، نتحدث في المقام الأول عن القناة الهضمية التي يستوطنها أكثر من 90 بالمئة من الكائنات الحية الدقيقة في الجسم. لكن ثمة أجزاء أخرى تعج بهذه الأشكال من الحياة أيضًا. فالجراثيم تستعمر كل منطقة يلتقي فيها الجزء الداخلي من الجسم الأجزاءَ الخارجية: العينين والأذنين والأنف والفم والمهبل والشرج والمسالك البولية. كما تعيش الجراثيم في كل سنتيمتر من البشرة، مع تركزها بأعداد كبيرة في الإبطين، والأربية، وبين أصابع القدمين، وفي سرة البطن.
وإليكم الأمر المذهل حقًا: فلكل إنسان خليطه الخاص من الجراثيم الذي يختلف عن خليط أي شخص آخر. فاستنادًا إلى الملاحظات الحالية، من الممكن أن ينعدم أي تشابه بين شخصين من حيث أنواع الجراثيم التي يؤيها جسماهما، كما يقول "روب نايت" من مركز الابتكار في الميكروبيوم لدى "جامعة كاليفورنيا، سان دييغو"، بل إن الطبيعة الفريدة للجراثيم المنتشرة في كل جسم يمكن أن يكون لها تطبيقات في مجال الطب الجنائي؛ إذ يضيف نايت قائلا: "يمكننا تعقب الأشياء أو الأسطح التي لمسها الناس إلى أن نصل إلى الشخص المعني من خلال مطابقة آثار جراثيم الجلد". فربما سيدخل محققو الشرطة في يوم من الأيام إلى مسرح الجريمة لأخذ عينات من جراثيم الجلد، على غرار الطريقة التي يعتمدونها حاليًا في مسح بصمات الأصابع.
وهاكُم بعض النقاط البارزة ممّا يتوصل إليه العلماء بشأن تأثير الميكروبيوم فينا طوال حياتنا.. من الطفولة إلى الشيخوخة.

عجـائـب جـرثـوميـة

يمكن أن تتسبب "الإشريكية القولونية" (Escherichia coli)، الظاهرة في شكل عصيّات صفراء تحتشد فوق ركائز أرجوانية، في التسمم الغذائي. لكن جل سلالاتها لا يتسم بكونه غير ضار فحسب، بل إنه مفيد أيضًا. وتستوطن الإشريكية القولونية الأمعاءَ البشرية وتؤدي وظائف...
كلما بحث العلماء في الجراثيم التي تعيش بداخلنا، ازدادوا معرفة بالتأثير المذهل لهذه الكائنات الدقيقة في شكلنا وسلوكنا وتفكيرنا وشعورنا. فهل فِعلا للبكتيريا والفيروسات والفطريات والأواليات (الكائنات وحيدة الخلية) -التي تعيش داخل أمعائنا ورئتينا وعلى...
كلما بحث العلماء في الجراثيم التي تعيش بداخلنا، ازدادوا معرفة بالتأثير المذهل لهذه الكائنات الدقيقة في شكلنا وسلوكنا وتفكيرنا وشعورنا. فهل فِعلا للبكتيريا والفيروسات والفطريات والأواليات (الكائنات وحيدة الخلية) -التي تعيش داخل أمعائنا ورئتينا وعلى بشرتنا وعلى مُقَل عيوننا- إسهامات في تحسين صحتنا وعافيتنا؟ قد يستعصي علينا إدراك الدور الحيوي لهذه الكائنات التي نحملها معنا أينما ارتحلنا، في طبيعة الحياة البشرية.

يشكل هذا النظام البكتيري -المعروف باسم "الميكروبيوم" (Microbiome)- مستودعًا لتشكيلة متنوعة من كائنات حية دقيقة يمكن أن تكون لها تأثيرات عميقة قد تبدأ في وقت مبكر جدا من حياة الإنسان. فقد بيَّن العلماء في دراسة نُشرت عام 2019 أن ما يُفترض أنها سِمات فطرية -مثل مزاج الطفل- قد تكون ذات صلة بمدى انتماء بكتيريا أمعاء الطفل في معظمها إلى جنس بعينه؛ ألا وهو: "بيفيدوبكتيريوم" (Bifidobacterium). فكلما زاد هذا الجنس من البكتيريا، كان مزاج الرضيع أفضل.
وتستند هذه الملاحظة التي توصلَت إليها "آنا كاترينا آتسينكي" وزملاؤها لدى "جامعة توركو" في فنلندا، إلى تحليل لِعيِّنات براز استخلصت من 301 رضيع. فالرضع الذين كانت لديهم في سن الشهرين أعلى نسبة من بكتيريا "بيفيدوبكتريوم"، أصبحت لديهم في سن الستة أشهر فرصة أكبر لامتلاك ميزة أطلق عليها الباحثون "الوجدان الإيجابي".
ولا يزال علم الميكروبيوم في بداياته الأولى نسبيًا. فلم تنطلق البحوث الجادة في هذا المجال إلا منذ 15 عامًا، ما يعني أن جل الدراسات التي أُجريت حتى الآن اتسمت بطابعها التمهيدي ونطاقها الصغير؛ إذ لم تشمل إلا نحو اثني عشر فأرًا أو إنسانًا. فقد وجد العلماء اقترانًا بين الميكروبيوم والأمراض، لكنهم لم يتمكنوا بعد من استخلاص استنتاجات واضحة تربط بين المسببات والنتائج بشأن مخزوننا الهائل من هذه الكائنات الدقيقة وما يعنيه كل ذلك لنا بوصفنا أجسامًا مضيِّفة. على أن هذا المخزون نفسه يظل أمرًا مذهلا ومحيرًا للعقول، إذ يُعتقد الآن أنه يحوي نحو 38 تريليون جرثومة لدى شاب بالغ نموذجي، أي أكثر بقليل من عدد الخلايا البشرية الفعلية. وينطوي تسخير هذا المخزون على إمكانات واعدة.
ويرى أكثر الباحثين تفاؤلا وحماسًا أن تقديم جرعة من الجراثيم الصحية سيصبح في المستقبل غير البعيد أمرًا اعتياديًا، سواء أكان في شكل "بريبايوتيك" (Prebiotics؛ أي المُرَكّبات التي تشكل أساسًا لنمو الجراثيم المفيدة)، أو "بروبايوتيك" (Probiotics'؛ أي الجراثيم المفيدة نفسها)، أو من خلال زرع البراز (براز غني بالجراثيم ومستخلَص من متبرعين أصحاء). إذ سيساعد ذلكَ أجسامَنا على العمل بأقصى نجاعة ممكنة، من الداخل إلى الخارج.
عندما نَذكر الميكروبيوم، نتحدث في المقام الأول عن القناة الهضمية التي يستوطنها أكثر من 90 بالمئة من الكائنات الحية الدقيقة في الجسم. لكن ثمة أجزاء أخرى تعج بهذه الأشكال من الحياة أيضًا. فالجراثيم تستعمر كل منطقة يلتقي فيها الجزء الداخلي من الجسم الأجزاءَ الخارجية: العينين والأذنين والأنف والفم والمهبل والشرج والمسالك البولية. كما تعيش الجراثيم في كل سنتيمتر من البشرة، مع تركزها بأعداد كبيرة في الإبطين، والأربية، وبين أصابع القدمين، وفي سرة البطن.
وإليكم الأمر المذهل حقًا: فلكل إنسان خليطه الخاص من الجراثيم الذي يختلف عن خليط أي شخص آخر. فاستنادًا إلى الملاحظات الحالية، من الممكن أن ينعدم أي تشابه بين شخصين من حيث أنواع الجراثيم التي يؤيها جسماهما، كما يقول "روب نايت" من مركز الابتكار في الميكروبيوم لدى "جامعة كاليفورنيا، سان دييغو"، بل إن الطبيعة الفريدة للجراثيم المنتشرة في كل جسم يمكن أن يكون لها تطبيقات في مجال الطب الجنائي؛ إذ يضيف نايت قائلا: "يمكننا تعقب الأشياء أو الأسطح التي لمسها الناس إلى أن نصل إلى الشخص المعني من خلال مطابقة آثار جراثيم الجلد". فربما سيدخل محققو الشرطة في يوم من الأيام إلى مسرح الجريمة لأخذ عينات من جراثيم الجلد، على غرار الطريقة التي يعتمدونها حاليًا في مسح بصمات الأصابع.
وهاكُم بعض النقاط البارزة ممّا يتوصل إليه العلماء بشأن تأثير الميكروبيوم فينا طوال حياتنا.. من الطفولة إلى الشيخوخة.