علم الإزعاج
صَوْتُ علكة يطقطقُها أحدُهم في فمه؛ طنينُ ذباب مزعج؛ تأخر موعد رحلة جوية؛ مكالمات آلية؛ إعلانات تسويقية تعمل تلقائيا.. ألا يكفي هذا ليُشعرك بالانزعاج؟تَخيَّل نفسك عند بوابة المغادرين بالمطار والمكان مزدحم غاص بالمسافرين. تأخَّرَت رحلتُك عشرين دقيقة،...
صَوْتُ علكة يطقطقُها أحدُهم في فمه؛ طنينُ ذباب مزعج؛ تأخر موعد رحلة جوية؛ مكالمات آلية؛ إعلانات تسويقية تعمل تلقائيا..
ألا يكفي هذا ليُشعرك بالانزعاج؟
تَخيَّل نفسك عند بوابة المغادرين بالمطار والمكان مزدحم غاص بالمسافرين. تأخَّرَت رحلتُك عشرين دقيقة، رغم أن العلامة المضيئة لا تزال تشير إلى أن الرحلة في موعدها المحدد.
سَيِّدةٌ إلى يسارك تأكل طعامًا ذا رائحة مقرفة وتُصدر صوتًا مقززا أثناء الأكل. التلفزيون المعلَّق يعرض برنامجا عن أسرار المشاهير: أحاديث لا تنقطع عن مغنيين وممثلين ورياضيين. أما الرجل الذي إلى يمينك فلا ينفك يتحدث ويتحدث بصوت خشن أجش على هاتفه النقال، وإلى جواره مسافر بصدد القيام بشيء لتزجية الوقت.. فهل تدرون ماذا كان ذلك الشيء؟! إنه مقص تقليم أظافر القدم!
ما لم تكن قدّيسًا أو فاقدًا للوعي، فإن بعضًا من هذه المشاهد -أو كثيرًا منها أو كلها- لا بد سيُشعرك بالضيق والإزعاج. إننا نعرف أن شيئًا ما مزعجٌ عندما نَخبَره ونعيشه فعلًا؛ ولكنْ ما قول العلم في أسئلة من قبيل: فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مثيرا للإزعاج؟ وهل ثمة أمور مزعجة لجميع الناس في العالم، وأخرى لا تزعج سوى أشخاص بعينهم؟ وهل تقدم الأبحاث العلمية ما يجنبنا مسبّبات الإزعاج التي تنغص علينا حياتنا؟ الإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة تواليًا هي: لا نعلم؛ لا نعلم؛ كَلَّا.
فلربما يكون الانزعاج أكثر الأشياء شيوعًا في العالم، وأيضًا الأقل دراسةً من بين كل المشاعر الإنسانية. فعلى أي أساس أرتكز في ادّعائي هذا؟ إنه ادّعاءٌ كنا -أنا وزميلتي الصحافية "فلورا ليختمان"- قد طرحناه قبل عقد من الزمن في كتاب بعنوان "الإزعاج: الأساس العلمي لما يضايقنا"؛ ومرت أعوام على نشر الكتاب من دون أن يُجادلنا أحدٌ في مضمونه.
بعدما أشرنا إلى غياب دراسات بشأن الإزعاج، انتظرنا أن يدلي هذا العالم أو ذاك بدلوه في الموضوع؛ أو تبادر هذه الجامعة أو تلك باستحداث شعبة لتدريس الإزعاج من منظور علمي، أو تخصص كرسيا للبحث المستمر بشأن الإزعاج، أو حتى استحداث تخصص فرعي في دراسة الموضوع. لكن هيهات هيهات!
لا يعزى الأمر في ذلك لتقلَّص دائرة الأشياء التي تثير حنَقنا في الأعوام العشرة الأخيرة، بل على العكس تمامًا؛ فحسبك أن ترى كيف استحوذ علينا "تويتر" في عٍقر عقولنا. فبعد أن بدا هذا التطبيق في بدايته منصة تواصل اجتماعي ودودة لطيفة، صار اليوم يقتحم كل شبر في العالم فيغوينا بالاطلاع على أمور لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وهناك أيضا أولئك الأشخاص المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي؛ والمكالمات الآلية غير المرغوبة؛ وغزوات الإعلانات التجارية التلقائية التي تخرق خصوصيتك. أما أنا فهذا أشد ما يزعجني حاليًا: درَّاجات "السكوتر" الكهربائية التي يُشكل ركنها على الرصيف عقبات أمام المارة وتهديدًا لراحتهم. والقائمة تطول وتطول؛ وما عليك سوى مطالعة الردود على استبيان أجرته ناشيونال جيوغرافيك على شبكة الإنترنت بشأن ما يزعج الناس.
فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مزعجًا؟
بيّنا في دراستنا ثلاث صفات تبدو أساسية لتحديد ذلك.
أولا: يجب أن يكون هذا الشيء مزعجا من دون أن يسبب ضررا جسديا. فصوت أزيز الذبابة حول الرأس يضايقك، لكنه حتما لن يقتلك.
ثانيا: يجب أن يكون هذا الشيء غير متوقع، ويتكرر بوتيرة متقطعة. فقد يكون صوت دقات المنبه الصاخبة أو رائحة براز القط أمرا مزعجا في البداية، ولكن مع تكرّره مرة تلو مرة، فإنه لا يصبح ملحوظا أو ذا شأن. وعلماء النفس يطلقون على هذا التحمل التدريجي لمصادر الإزعاج لفظة "التعود". ولكن عندما تسمع ضجيجا مزعجا أو تشم رائحة مقززة من حين إلى آخر، فإن ذلك يصبح مصدر ضيْق لك كلما خبرته.
ذلك أن الطبيعة المتقطعة لمصادر الإزعاج تجعل من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) على المرء توقع الإزعاج وبالتالي التأهب له. فإذا كنت تعرف أنك ستَعلق في حركة المرور، فقد تكون قادرا على التعامل مع الوضع بصدر رحب؛ ولكن عندما لا يكون ذلك متوقعا، فإنه يزعجك قبل أن تتحكم في نفسك.
ألا يكفي هذا ليُشعرك بالانزعاج؟
تَخيَّل نفسك عند بوابة المغادرين بالمطار والمكان مزدحم غاص بالمسافرين. تأخَّرَت رحلتُك عشرين دقيقة، رغم أن العلامة المضيئة لا تزال تشير إلى أن الرحلة في موعدها المحدد.
سَيِّدةٌ إلى يسارك تأكل طعامًا ذا رائحة مقرفة وتُصدر صوتًا مقززا أثناء الأكل. التلفزيون المعلَّق يعرض برنامجا عن أسرار المشاهير: أحاديث لا تنقطع عن مغنيين وممثلين ورياضيين. أما الرجل الذي إلى يمينك فلا ينفك يتحدث ويتحدث بصوت خشن أجش على هاتفه النقال، وإلى جواره مسافر بصدد القيام بشيء لتزجية الوقت.. فهل تدرون ماذا كان ذلك الشيء؟! إنه مقص تقليم أظافر القدم!
ما لم تكن قدّيسًا أو فاقدًا للوعي، فإن بعضًا من هذه المشاهد -أو كثيرًا منها أو كلها- لا بد سيُشعرك بالضيق والإزعاج. إننا نعرف أن شيئًا ما مزعجٌ عندما نَخبَره ونعيشه فعلًا؛ ولكنْ ما قول العلم في أسئلة من قبيل: فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مثيرا للإزعاج؟ وهل ثمة أمور مزعجة لجميع الناس في العالم، وأخرى لا تزعج سوى أشخاص بعينهم؟ وهل تقدم الأبحاث العلمية ما يجنبنا مسبّبات الإزعاج التي تنغص علينا حياتنا؟ الإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة تواليًا هي: لا نعلم؛ لا نعلم؛ كَلَّا.
فلربما يكون الانزعاج أكثر الأشياء شيوعًا في العالم، وأيضًا الأقل دراسةً من بين كل المشاعر الإنسانية. فعلى أي أساس أرتكز في ادّعائي هذا؟ إنه ادّعاءٌ كنا -أنا وزميلتي الصحافية "فلورا ليختمان"- قد طرحناه قبل عقد من الزمن في كتاب بعنوان "الإزعاج: الأساس العلمي لما يضايقنا"؛ ومرت أعوام على نشر الكتاب من دون أن يُجادلنا أحدٌ في مضمونه.
بعدما أشرنا إلى غياب دراسات بشأن الإزعاج، انتظرنا أن يدلي هذا العالم أو ذاك بدلوه في الموضوع؛ أو تبادر هذه الجامعة أو تلك باستحداث شعبة لتدريس الإزعاج من منظور علمي، أو تخصص كرسيا للبحث المستمر بشأن الإزعاج، أو حتى استحداث تخصص فرعي في دراسة الموضوع. لكن هيهات هيهات!
لا يعزى الأمر في ذلك لتقلَّص دائرة الأشياء التي تثير حنَقنا في الأعوام العشرة الأخيرة، بل على العكس تمامًا؛ فحسبك أن ترى كيف استحوذ علينا "تويتر" في عٍقر عقولنا. فبعد أن بدا هذا التطبيق في بدايته منصة تواصل اجتماعي ودودة لطيفة، صار اليوم يقتحم كل شبر في العالم فيغوينا بالاطلاع على أمور لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وهناك أيضا أولئك الأشخاص المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي؛ والمكالمات الآلية غير المرغوبة؛ وغزوات الإعلانات التجارية التلقائية التي تخرق خصوصيتك. أما أنا فهذا أشد ما يزعجني حاليًا: درَّاجات "السكوتر" الكهربائية التي يُشكل ركنها على الرصيف عقبات أمام المارة وتهديدًا لراحتهم. والقائمة تطول وتطول؛ وما عليك سوى مطالعة الردود على استبيان أجرته ناشيونال جيوغرافيك على شبكة الإنترنت بشأن ما يزعج الناس.
فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مزعجًا؟
بيّنا في دراستنا ثلاث صفات تبدو أساسية لتحديد ذلك.
أولا: يجب أن يكون هذا الشيء مزعجا من دون أن يسبب ضررا جسديا. فصوت أزيز الذبابة حول الرأس يضايقك، لكنه حتما لن يقتلك.
ثانيا: يجب أن يكون هذا الشيء غير متوقع، ويتكرر بوتيرة متقطعة. فقد يكون صوت دقات المنبه الصاخبة أو رائحة براز القط أمرا مزعجا في البداية، ولكن مع تكرّره مرة تلو مرة، فإنه لا يصبح ملحوظا أو ذا شأن. وعلماء النفس يطلقون على هذا التحمل التدريجي لمصادر الإزعاج لفظة "التعود". ولكن عندما تسمع ضجيجا مزعجا أو تشم رائحة مقززة من حين إلى آخر، فإن ذلك يصبح مصدر ضيْق لك كلما خبرته.
ذلك أن الطبيعة المتقطعة لمصادر الإزعاج تجعل من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) على المرء توقع الإزعاج وبالتالي التأهب له. فإذا كنت تعرف أنك ستَعلق في حركة المرور، فقد تكون قادرا على التعامل مع الوضع بصدر رحب؛ ولكن عندما لا يكون ذلك متوقعا، فإنه يزعجك قبل أن تتحكم في نفسك.
علم الإزعاج
- جو بالكا
صَوْتُ علكة يطقطقُها أحدُهم في فمه؛ طنينُ ذباب مزعج؛ تأخر موعد رحلة جوية؛ مكالمات آلية؛ إعلانات تسويقية تعمل تلقائيا.. ألا يكفي هذا ليُشعرك بالانزعاج؟تَخيَّل نفسك عند بوابة المغادرين بالمطار والمكان مزدحم غاص بالمسافرين. تأخَّرَت رحلتُك عشرين دقيقة،...
صَوْتُ علكة يطقطقُها أحدُهم في فمه؛ طنينُ ذباب مزعج؛ تأخر موعد رحلة جوية؛ مكالمات آلية؛ إعلانات تسويقية تعمل تلقائيا..
ألا يكفي هذا ليُشعرك بالانزعاج؟
تَخيَّل نفسك عند بوابة المغادرين بالمطار والمكان مزدحم غاص بالمسافرين. تأخَّرَت رحلتُك عشرين دقيقة، رغم أن العلامة المضيئة لا تزال تشير إلى أن الرحلة في موعدها المحدد.
سَيِّدةٌ إلى يسارك تأكل طعامًا ذا رائحة مقرفة وتُصدر صوتًا مقززا أثناء الأكل. التلفزيون المعلَّق يعرض برنامجا عن أسرار المشاهير: أحاديث لا تنقطع عن مغنيين وممثلين ورياضيين. أما الرجل الذي إلى يمينك فلا ينفك يتحدث ويتحدث بصوت خشن أجش على هاتفه النقال، وإلى جواره مسافر بصدد القيام بشيء لتزجية الوقت.. فهل تدرون ماذا كان ذلك الشيء؟! إنه مقص تقليم أظافر القدم!
ما لم تكن قدّيسًا أو فاقدًا للوعي، فإن بعضًا من هذه المشاهد -أو كثيرًا منها أو كلها- لا بد سيُشعرك بالضيق والإزعاج. إننا نعرف أن شيئًا ما مزعجٌ عندما نَخبَره ونعيشه فعلًا؛ ولكنْ ما قول العلم في أسئلة من قبيل: فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مثيرا للإزعاج؟ وهل ثمة أمور مزعجة لجميع الناس في العالم، وأخرى لا تزعج سوى أشخاص بعينهم؟ وهل تقدم الأبحاث العلمية ما يجنبنا مسبّبات الإزعاج التي تنغص علينا حياتنا؟ الإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة تواليًا هي: لا نعلم؛ لا نعلم؛ كَلَّا.
فلربما يكون الانزعاج أكثر الأشياء شيوعًا في العالم، وأيضًا الأقل دراسةً من بين كل المشاعر الإنسانية. فعلى أي أساس أرتكز في ادّعائي هذا؟ إنه ادّعاءٌ كنا -أنا وزميلتي الصحافية "فلورا ليختمان"- قد طرحناه قبل عقد من الزمن في كتاب بعنوان "الإزعاج: الأساس العلمي لما يضايقنا"؛ ومرت أعوام على نشر الكتاب من دون أن يُجادلنا أحدٌ في مضمونه.
بعدما أشرنا إلى غياب دراسات بشأن الإزعاج، انتظرنا أن يدلي هذا العالم أو ذاك بدلوه في الموضوع؛ أو تبادر هذه الجامعة أو تلك باستحداث شعبة لتدريس الإزعاج من منظور علمي، أو تخصص كرسيا للبحث المستمر بشأن الإزعاج، أو حتى استحداث تخصص فرعي في دراسة الموضوع. لكن هيهات هيهات!
لا يعزى الأمر في ذلك لتقلَّص دائرة الأشياء التي تثير حنَقنا في الأعوام العشرة الأخيرة، بل على العكس تمامًا؛ فحسبك أن ترى كيف استحوذ علينا "تويتر" في عٍقر عقولنا. فبعد أن بدا هذا التطبيق في بدايته منصة تواصل اجتماعي ودودة لطيفة، صار اليوم يقتحم كل شبر في العالم فيغوينا بالاطلاع على أمور لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وهناك أيضا أولئك الأشخاص المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي؛ والمكالمات الآلية غير المرغوبة؛ وغزوات الإعلانات التجارية التلقائية التي تخرق خصوصيتك. أما أنا فهذا أشد ما يزعجني حاليًا: درَّاجات "السكوتر" الكهربائية التي يُشكل ركنها على الرصيف عقبات أمام المارة وتهديدًا لراحتهم. والقائمة تطول وتطول؛ وما عليك سوى مطالعة الردود على استبيان أجرته ناشيونال جيوغرافيك على شبكة الإنترنت بشأن ما يزعج الناس.
فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مزعجًا؟
بيّنا في دراستنا ثلاث صفات تبدو أساسية لتحديد ذلك.
أولا: يجب أن يكون هذا الشيء مزعجا من دون أن يسبب ضررا جسديا. فصوت أزيز الذبابة حول الرأس يضايقك، لكنه حتما لن يقتلك.
ثانيا: يجب أن يكون هذا الشيء غير متوقع، ويتكرر بوتيرة متقطعة. فقد يكون صوت دقات المنبه الصاخبة أو رائحة براز القط أمرا مزعجا في البداية، ولكن مع تكرّره مرة تلو مرة، فإنه لا يصبح ملحوظا أو ذا شأن. وعلماء النفس يطلقون على هذا التحمل التدريجي لمصادر الإزعاج لفظة "التعود". ولكن عندما تسمع ضجيجا مزعجا أو تشم رائحة مقززة من حين إلى آخر، فإن ذلك يصبح مصدر ضيْق لك كلما خبرته.
ذلك أن الطبيعة المتقطعة لمصادر الإزعاج تجعل من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) على المرء توقع الإزعاج وبالتالي التأهب له. فإذا كنت تعرف أنك ستَعلق في حركة المرور، فقد تكون قادرا على التعامل مع الوضع بصدر رحب؛ ولكن عندما لا يكون ذلك متوقعا، فإنه يزعجك قبل أن تتحكم في نفسك.
ألا يكفي هذا ليُشعرك بالانزعاج؟
تَخيَّل نفسك عند بوابة المغادرين بالمطار والمكان مزدحم غاص بالمسافرين. تأخَّرَت رحلتُك عشرين دقيقة، رغم أن العلامة المضيئة لا تزال تشير إلى أن الرحلة في موعدها المحدد.
سَيِّدةٌ إلى يسارك تأكل طعامًا ذا رائحة مقرفة وتُصدر صوتًا مقززا أثناء الأكل. التلفزيون المعلَّق يعرض برنامجا عن أسرار المشاهير: أحاديث لا تنقطع عن مغنيين وممثلين ورياضيين. أما الرجل الذي إلى يمينك فلا ينفك يتحدث ويتحدث بصوت خشن أجش على هاتفه النقال، وإلى جواره مسافر بصدد القيام بشيء لتزجية الوقت.. فهل تدرون ماذا كان ذلك الشيء؟! إنه مقص تقليم أظافر القدم!
ما لم تكن قدّيسًا أو فاقدًا للوعي، فإن بعضًا من هذه المشاهد -أو كثيرًا منها أو كلها- لا بد سيُشعرك بالضيق والإزعاج. إننا نعرف أن شيئًا ما مزعجٌ عندما نَخبَره ونعيشه فعلًا؛ ولكنْ ما قول العلم في أسئلة من قبيل: فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مثيرا للإزعاج؟ وهل ثمة أمور مزعجة لجميع الناس في العالم، وأخرى لا تزعج سوى أشخاص بعينهم؟ وهل تقدم الأبحاث العلمية ما يجنبنا مسبّبات الإزعاج التي تنغص علينا حياتنا؟ الإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة تواليًا هي: لا نعلم؛ لا نعلم؛ كَلَّا.
فلربما يكون الانزعاج أكثر الأشياء شيوعًا في العالم، وأيضًا الأقل دراسةً من بين كل المشاعر الإنسانية. فعلى أي أساس أرتكز في ادّعائي هذا؟ إنه ادّعاءٌ كنا -أنا وزميلتي الصحافية "فلورا ليختمان"- قد طرحناه قبل عقد من الزمن في كتاب بعنوان "الإزعاج: الأساس العلمي لما يضايقنا"؛ ومرت أعوام على نشر الكتاب من دون أن يُجادلنا أحدٌ في مضمونه.
بعدما أشرنا إلى غياب دراسات بشأن الإزعاج، انتظرنا أن يدلي هذا العالم أو ذاك بدلوه في الموضوع؛ أو تبادر هذه الجامعة أو تلك باستحداث شعبة لتدريس الإزعاج من منظور علمي، أو تخصص كرسيا للبحث المستمر بشأن الإزعاج، أو حتى استحداث تخصص فرعي في دراسة الموضوع. لكن هيهات هيهات!
لا يعزى الأمر في ذلك لتقلَّص دائرة الأشياء التي تثير حنَقنا في الأعوام العشرة الأخيرة، بل على العكس تمامًا؛ فحسبك أن ترى كيف استحوذ علينا "تويتر" في عٍقر عقولنا. فبعد أن بدا هذا التطبيق في بدايته منصة تواصل اجتماعي ودودة لطيفة، صار اليوم يقتحم كل شبر في العالم فيغوينا بالاطلاع على أمور لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وهناك أيضا أولئك الأشخاص المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي؛ والمكالمات الآلية غير المرغوبة؛ وغزوات الإعلانات التجارية التلقائية التي تخرق خصوصيتك. أما أنا فهذا أشد ما يزعجني حاليًا: درَّاجات "السكوتر" الكهربائية التي يُشكل ركنها على الرصيف عقبات أمام المارة وتهديدًا لراحتهم. والقائمة تطول وتطول؛ وما عليك سوى مطالعة الردود على استبيان أجرته ناشيونال جيوغرافيك على شبكة الإنترنت بشأن ما يزعج الناس.
فما الذي يجعل هذا الأمر أو ذاك مزعجًا؟
بيّنا في دراستنا ثلاث صفات تبدو أساسية لتحديد ذلك.
أولا: يجب أن يكون هذا الشيء مزعجا من دون أن يسبب ضررا جسديا. فصوت أزيز الذبابة حول الرأس يضايقك، لكنه حتما لن يقتلك.
ثانيا: يجب أن يكون هذا الشيء غير متوقع، ويتكرر بوتيرة متقطعة. فقد يكون صوت دقات المنبه الصاخبة أو رائحة براز القط أمرا مزعجا في البداية، ولكن مع تكرّره مرة تلو مرة، فإنه لا يصبح ملحوظا أو ذا شأن. وعلماء النفس يطلقون على هذا التحمل التدريجي لمصادر الإزعاج لفظة "التعود". ولكن عندما تسمع ضجيجا مزعجا أو تشم رائحة مقززة من حين إلى آخر، فإن ذلك يصبح مصدر ضيْق لك كلما خبرته.
ذلك أن الطبيعة المتقطعة لمصادر الإزعاج تجعل من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) على المرء توقع الإزعاج وبالتالي التأهب له. فإذا كنت تعرف أنك ستَعلق في حركة المرور، فقد تكون قادرا على التعامل مع الوضع بصدر رحب؛ ولكن عندما لا يكون ذلك متوقعا، فإنه يزعجك قبل أن تتحكم في نفسك.