كلوتيلدا.. سفينة الرقيق الأخيرة

أصبح عنبر سفينة كلوتيلدا زنزانة جهنمية لـ110 أسرى إفريقيين. توفي اثنان منهم خلال رحلة عبور المحيط الأطلسي التي دامت ستة أسابيع؛ أما الآخرون فكانوا يتوقون للموت سبيلا للخلاص. قال أحد الناجين، واسمه "ريدوتشي"، لمستجوبِه بعد أعوام، إن الرائحة "كانت كافية...
في شهر مايو الماضي، أي بعد 400 عام على وصول أول الأفارقة المستعبَدين إلى مستعمرة فرجينيا الإنجليزية في أميركا، أعلن فريق من علماء الآثار المغمورة بالمياه اكتشاف البقايا المتفحمة الغارقة لسفينة "كلوتيلدا" (Clotilda)، آخر سفينة رقيق معروفة تصل إلى شواطئ...
في شهر مايو الماضي، أي بعد 400 عام على وصول أول الأفارقة المستعبَدين إلى مستعمرة فرجينيا الإنجليزية في أميركا، أعلن فريق من علماء الآثار المغمورة بالمياه اكتشاف البقايا المتفحمة الغارقة لسفينة "كلوتيلدا" (Clotilda)، آخر سفينة رقيق معروفة تصل إلى شواطئ الولايات المتحدة، في مكان قريب من مدينة "موبايل" بولاية ألاباما. ففي عام 1860 -أي بعد 52 عامًا على حظر الولايات المتحدة استيراد الرقيق- استأجر رجلٌ  ثري سفينةً شراعية وربّانَها لتهريب أكثر من مئة أسير إفريقي إلى ألاباما، وهي جريمة كان يُعاقَب عليها بالإعدام. وما إنْ تمت المَهمةُ الشائنة حتى أُحرقت السفينة لتدمير الأدلة. وكان هؤلاء الأسرى آخر أفراد مما يُقدر بـ 307 آلاف إفريقي نُقلوا عبيدًا إلى البر الرئيس لأميركا منذ مطلع القرن السابع عشر وحتى عام 1860؛ فأصبحت بذلك كلوتيلدا خاتمةً سيئة الصيت لما ظل يسمى فترة طويلة، "الخطيئة الأصلية لأميركا". في عام 1865، قال الرئيس "أبرهام لنكولن" إن الحرب الأهلية التي دمرت الأمة كانت عقابًا من الله تعالى على تلك الخطيئة. بعد انتهاء الحرب وحظر العبودية، استوطن أسرى كلوتيلدا الأفارقة في ألاباما بصفتهم أميركيين أحرارًا، لكنهم لم يتخلوا عن هوياتهم الإفريقية؛ إذ استقروا وسط الغابة والمستنقعات باتجاه منبع نهر موبايل، وبنوا منازل بسيطة، وزرعوا البساتين، وربّوا الماشية، ومارسوا القنص والصيد والزراعة. ثم أسسوا كنيسة وبنوا مدرستهم الخاصة، وأنشؤوا مجتمعًا مترابطا ومكتفيا بذاته عُرف باسم "أفريكاتاون". وكثير من أحفادهم لا يزالون يعيشون هناك اليوم. إن قصة هؤلاء الأشخاص الاستثنائيين -بنجاحاتهم وإخفاقاتهم، بمعاناتهم وصمودهم- لهي قصة يفخر أهالي "أفريكاتاون" بتذكّرها وذكرها، وإرث يكافحون من أجل إنقاذه.
الفصل الأول

تجارة القسوة

بحلول عام 1860، أصبح الرقيق أساسَ الاقتصاد الأميركي؛ إذ كانت للأشخاص المستعبَدين قيمة أعلى من كل رأس المال المستثمَر في التصنيع والسكك الحديدية والبنوك، مجتمِعة. يقول "جوشوا روثمان"، مؤرخ الرقيق لدى "جامعة ألاباما"، إن القطن كان يمثل ما بين 35 إلى 40 بالمئة من الصادرات الأميركية. ويضيف قائلًا: "كانت البنوك في الولايات المتحدة وباقي العالم تضخ الأموال في ألاباما ومسيسيبي ولويزيانا، وتستثمر في المزارع والبنوك الجنوبية وفي الرقيق، الذين كانوا يُرهَنون".
كان جلب الرقيق إلى الولايات المتحدة محظورًا منذ عام 1808، وبحلول عام 1859 ارتفع سعر المستعبَدين المحليين كثيرًا، فأدى الأمر إلى تراجع كبير في أرباح المزارعين؛ مما دفع بعض الجهات إلى المطالبة برفع الحظر عن تجارة الرقيق.
كان "تيموثي ميهر" أحد المؤيدين الشرسين لذلك المطلب. وُلد الرجلُ في ولاية ماين لمهاجرَين أيرلنديين، وقد انتقل برفقة كثير من إخوته إلى ألاباما حيث جمعوا ثرواتهم من العمل في بناء السفن وقيادة القوارب النهرية وتجارة الخشب. كما أنهم امتلكوا مساحات شاسعة من الأراضي التي يعمل بها المستعبَدون.
خلال نقاش حاد مع مجموعة من رجال الأعمال الشماليين، أعلنَ ميهر مراهنة جريئة: إذ قال إنه سيُحضر شحنة من الأسرى الأفارقة إلى موبايل، تحت أنظار السلطات الفدرالية ورغم أنفها.
لم يواجه ميهر صعوبة كبيرة في الحصول على مستثمرين لتنفيذ مخططه غير القانوني. كان صديقه وزميله في صناعة السفن، "ويليام فوستر"، قد بنى سفينة شراعية سريعة وأنيقة تدعى "كلوتيلدا" قبل أعوام قليلة، لنقل الأخشاب وغيرها من البضائع حول خليج المكسيك. استأجر ميهر السفينة لقاء 35 ألف دولار ووظف فوستر ليكون ربَّانها.
وفي أواخر شهر فبراير -أو أوائل مارس- من عام 1860، أبحر فوستر وطاقمه نحو ميناء "عويضة" سيء الصيت في بنين بغرب إفريقيا. وهكذا بدأت واحدة من أكثر رحلات الرقيق توثيقًا إلى الولايات المتحدة.
ترك فوستر رواية مكتوبة بخط اليد عن الرحلة، فيما سرد ميهر وكثير من هؤلاء الأفارقة قصصهم في وقت لاحق على أسماع الصحافيين والكتّاب. وظهر اثنان من هؤلاء المستعبَدين السابقين الذين عاشوا إبّان ثلاثينيات القرن الماضي، في أفلام توثيقية قصيرة.

 

كلوتيلدا.. سفينة الرقيق الأخيرة

أصبح عنبر سفينة كلوتيلدا زنزانة جهنمية لـ110 أسرى إفريقيين. توفي اثنان منهم خلال رحلة عبور المحيط الأطلسي التي دامت ستة أسابيع؛ أما الآخرون فكانوا يتوقون للموت سبيلا للخلاص. قال أحد الناجين، واسمه "ريدوتشي"، لمستجوبِه بعد أعوام، إن الرائحة "كانت كافية...
في شهر مايو الماضي، أي بعد 400 عام على وصول أول الأفارقة المستعبَدين إلى مستعمرة فرجينيا الإنجليزية في أميركا، أعلن فريق من علماء الآثار المغمورة بالمياه اكتشاف البقايا المتفحمة الغارقة لسفينة "كلوتيلدا" (Clotilda)، آخر سفينة رقيق معروفة تصل إلى شواطئ...
في شهر مايو الماضي، أي بعد 400 عام على وصول أول الأفارقة المستعبَدين إلى مستعمرة فرجينيا الإنجليزية في أميركا، أعلن فريق من علماء الآثار المغمورة بالمياه اكتشاف البقايا المتفحمة الغارقة لسفينة "كلوتيلدا" (Clotilda)، آخر سفينة رقيق معروفة تصل إلى شواطئ الولايات المتحدة، في مكان قريب من مدينة "موبايل" بولاية ألاباما. ففي عام 1860 -أي بعد 52 عامًا على حظر الولايات المتحدة استيراد الرقيق- استأجر رجلٌ  ثري سفينةً شراعية وربّانَها لتهريب أكثر من مئة أسير إفريقي إلى ألاباما، وهي جريمة كان يُعاقَب عليها بالإعدام. وما إنْ تمت المَهمةُ الشائنة حتى أُحرقت السفينة لتدمير الأدلة. وكان هؤلاء الأسرى آخر أفراد مما يُقدر بـ 307 آلاف إفريقي نُقلوا عبيدًا إلى البر الرئيس لأميركا منذ مطلع القرن السابع عشر وحتى عام 1860؛ فأصبحت بذلك كلوتيلدا خاتمةً سيئة الصيت لما ظل يسمى فترة طويلة، "الخطيئة الأصلية لأميركا". في عام 1865، قال الرئيس "أبرهام لنكولن" إن الحرب الأهلية التي دمرت الأمة كانت عقابًا من الله تعالى على تلك الخطيئة. بعد انتهاء الحرب وحظر العبودية، استوطن أسرى كلوتيلدا الأفارقة في ألاباما بصفتهم أميركيين أحرارًا، لكنهم لم يتخلوا عن هوياتهم الإفريقية؛ إذ استقروا وسط الغابة والمستنقعات باتجاه منبع نهر موبايل، وبنوا منازل بسيطة، وزرعوا البساتين، وربّوا الماشية، ومارسوا القنص والصيد والزراعة. ثم أسسوا كنيسة وبنوا مدرستهم الخاصة، وأنشؤوا مجتمعًا مترابطا ومكتفيا بذاته عُرف باسم "أفريكاتاون". وكثير من أحفادهم لا يزالون يعيشون هناك اليوم. إن قصة هؤلاء الأشخاص الاستثنائيين -بنجاحاتهم وإخفاقاتهم، بمعاناتهم وصمودهم- لهي قصة يفخر أهالي "أفريكاتاون" بتذكّرها وذكرها، وإرث يكافحون من أجل إنقاذه.
الفصل الأول

تجارة القسوة

بحلول عام 1860، أصبح الرقيق أساسَ الاقتصاد الأميركي؛ إذ كانت للأشخاص المستعبَدين قيمة أعلى من كل رأس المال المستثمَر في التصنيع والسكك الحديدية والبنوك، مجتمِعة. يقول "جوشوا روثمان"، مؤرخ الرقيق لدى "جامعة ألاباما"، إن القطن كان يمثل ما بين 35 إلى 40 بالمئة من الصادرات الأميركية. ويضيف قائلًا: "كانت البنوك في الولايات المتحدة وباقي العالم تضخ الأموال في ألاباما ومسيسيبي ولويزيانا، وتستثمر في المزارع والبنوك الجنوبية وفي الرقيق، الذين كانوا يُرهَنون".
كان جلب الرقيق إلى الولايات المتحدة محظورًا منذ عام 1808، وبحلول عام 1859 ارتفع سعر المستعبَدين المحليين كثيرًا، فأدى الأمر إلى تراجع كبير في أرباح المزارعين؛ مما دفع بعض الجهات إلى المطالبة برفع الحظر عن تجارة الرقيق.
كان "تيموثي ميهر" أحد المؤيدين الشرسين لذلك المطلب. وُلد الرجلُ في ولاية ماين لمهاجرَين أيرلنديين، وقد انتقل برفقة كثير من إخوته إلى ألاباما حيث جمعوا ثرواتهم من العمل في بناء السفن وقيادة القوارب النهرية وتجارة الخشب. كما أنهم امتلكوا مساحات شاسعة من الأراضي التي يعمل بها المستعبَدون.
خلال نقاش حاد مع مجموعة من رجال الأعمال الشماليين، أعلنَ ميهر مراهنة جريئة: إذ قال إنه سيُحضر شحنة من الأسرى الأفارقة إلى موبايل، تحت أنظار السلطات الفدرالية ورغم أنفها.
لم يواجه ميهر صعوبة كبيرة في الحصول على مستثمرين لتنفيذ مخططه غير القانوني. كان صديقه وزميله في صناعة السفن، "ويليام فوستر"، قد بنى سفينة شراعية سريعة وأنيقة تدعى "كلوتيلدا" قبل أعوام قليلة، لنقل الأخشاب وغيرها من البضائع حول خليج المكسيك. استأجر ميهر السفينة لقاء 35 ألف دولار ووظف فوستر ليكون ربَّانها.
وفي أواخر شهر فبراير -أو أوائل مارس- من عام 1860، أبحر فوستر وطاقمه نحو ميناء "عويضة" سيء الصيت في بنين بغرب إفريقيا. وهكذا بدأت واحدة من أكثر رحلات الرقيق توثيقًا إلى الولايات المتحدة.
ترك فوستر رواية مكتوبة بخط اليد عن الرحلة، فيما سرد ميهر وكثير من هؤلاء الأفارقة قصصهم في وقت لاحق على أسماع الصحافيين والكتّاب. وظهر اثنان من هؤلاء المستعبَدين السابقين الذين عاشوا إبّان ثلاثينيات القرن الماضي، في أفلام توثيقية قصيرة.