هل يغتال السيركُ مكاكَ اليابان؟

تُظهر عروض "ساروماواشي" التقليدية مروّضًا يقود القردة لأداء حركات بهلوانية مثيرة. أما المسرح الرئيس في حديقة "نيكو سارو غوندان" فيشمل عروضًا فاتنةً ذات تخطيط مسبق، يشارك فيها ما يصل إلى ستة قردة تؤدي حركات متقنة ويتم تغيير أزيائها مرات عديدة. لكن على...
ارتدت القرَدة زي كرة القدم. إنها قرَدة المكاك الياباني (Macaca fuscata). كان عددها ستة وقد انتصبت على سيقانها مثل البشر وهي مربوطة بحبال إلى مروِّضيها، إذ راحت تركل الكرة بانصياع نحو الأعلى والأسفل فوق أرضية الملعب، وسط هتافاتٍ وتشجيعاتٍ من المروّضين...
ارتدت القرَدة زي كرة القدم. إنها قرَدة المكاك الياباني (Macaca fuscata). كان عددها ستة وقد انتصبت على سيقانها مثل البشر وهي مربوطة بحبال إلى مروِّضيها، إذ راحت تركل الكرة بانصياع نحو الأعلى والأسفل فوق أرضية الملعب، وسط هتافاتٍ وتشجيعاتٍ من المروّضين وحشد المشاهدين. إنها مباراة صورية بين منتخب اليابان والبرازيل.
بدت القردة ذات القمصان الزرقاء (اليابان) أقوى بِنية، بذيولها السمينة المتدلية من ثقوب في سراويلها، لكن التشكيلة الصفراء للبرازيل كانت أسرع، خاصة عندما كان اللاعب رقم 10 يتوقف عن لعق يديه. وفجأة، وصلت الكرة إلى هذا اللاعب فركلها مسجلًا هدفا. إنه هدف الفوز! هنالك انحنى فريق اليابان. وانفجر الحشد ضاحكًا.
لم يكن ذلك سوى عرض إحماء تمهيدًا للحدث الرئيس بالمسرح المدرج الداخلي في "نيكو سارو غوندان"، وهي حديقة ملاهي بمدينة نيكو في اليابان. رحتُ أتجول في الفناء الخلفي، فشاهدت قرد مكاك وقد أُلبسَ حفّاظة أطفال وبذلة ترفيهية برتقالية اللون، يلعب هوكي الطاولة ضد طفل زائر يبلغ من العمر خمسة أعوام. كلما وصل القرص إلى القرد، قذف به نحو هدف منافسه. أما قرد آخر فكان يوزع قصاصات ورق على الزوار تقرأ طالع كل منهم. وعلى المنصة الرئيسة بالهواء الطلق، كان ذَكَر مكّاك ببذلة كاراتيه يستعرض عضلاته ويقفز على حواجز عالية.
وسرعان ما حان موعد اصطفاف القردة في المسرح المدرج، حيث كانت امرأة تدعى "يوريا سوزوكي" بصحبة رفيقها المخلص، "ريكو"، يؤديان محاكاة ساخرة لعرض شهير للشرطة اليابانية تتخلله حركات بهلوانية من النوع الذي نراه في السيرك. عندما تظاهرت "الرقيب" سوزوكي بإرسال "النقيب" ريكو إلى مسرح جريمة تم الإبلاغ عنها، ذهب خلف السّتارة ثم عاد بسكين جِزارة -من المطاط- في رأسه. وفي نهاية العرض، قفز ريكو، ببنطلونه الأزرق المنقط وصدريته المنسوجة من الساتان الوردي، عبر هوة بين السلالم ومن ثم وقف متشقلبًا على ذراع واحدة فوق عمود طويل متأرجح.
إن لهذا العرض في "نيكو سارو غوندان" جذورًا ضاربة في الموروث الثقافي لليابان. إذ تطورت هذه الممارسات من أحد أشكال الترفيه المعروفة باسم "ساروماواشي" (وتعني عروض القرَدة)، استنادًا إلى الاعتقاد بأن "سارو" (أي القرد) هو حامي الخيول، والوسيط بين الآلهة والبشر، والقادر على طرد الأرواح الشريرة وتمهيد السبيل للفلاح وحسن الطالع. وقد ظلت عروض "ساروماواشي"، على غرار رقصة "كابوكي" الكلاسيكية، تؤدَّى في المسارح العامة منذ ألف عام.
ولكن في ظل ما تشهده اليابان من تحديث متسارع، فقد تلاشت الأهمية الروحية لهذا الموروث الثقافي.
ذلك أن عروض القردة اليوم تشبه تلك التي نراها في السيرك. إذ قالت "كيكو يامازاكي"، المديرة التنفيذية لدى "معهد بحوث التثقيف بشأن الحيوان" وعضو مجلس إدارة "الائتلاف الياباني لرعاية الحيوان"، إن حيوانات عديدة اليوم تُدرَّب بأسلوب التعزيز الإيجابي والألفة والمودة، ولكن بعضها يخضع لأساليب ضبطية شديدة وقاسية، ومعاملة بدنية سيئة من قبل المروّضين. على أن هذه القردة ذات الحفّاظات التي تؤثث مسارح العرض في اليابان لم تثر القدر نفسه من الانتباه كما تفعل كالدببة، مثلا، التي تركب الدراجات النارية وتؤدي حركات فوق حبال عالية في الصين. صحيحٌ أن القردة الأسيرة محمية بموجب قانون رعاية الحيوان الياباني، ولكن التشريعات تُشدد على طرق معاملة الحيوانات الأليفة الشائعة.
وتعليقًا على ذلك، تقول يامازاكي: "يَحشد كثيرٌ من جماعات رعاية الحيوان جهده لمصلحة صغار القطط والجِراء؛ فهم يريدون لها ملاذات محصَّنة ضد القتل. ونجد أن النساء اللواتي يمتلكن قططا كثيرة يحصلن على متابعين كُثر في مواقع التواصل الاجتماعي. أما غايتنا فهي جعل قانون رعاية الحيوان في اليابان يراعي جميع الحيوانات؛ بما في ذلك حيوانات المزارع، وحيوانات الحدائق، وحيوانات المختبرات".
وتستطرد يامازاكي قائلةً إن لليابان باعًا طويلا في استخدام الحيوانات للترفيه، ولكن الحساسيات تّجاه موروث ثقافي لا يجب أن تقف حائلًا أمام حماية قردة العروض الترفيهية ضد سوء المعاملة. إذ توضح: "إن الأمر مثل السيرك. فعندما نتتبع تاريخ حيوانات الترفيه، نرى أنها ظلت تُروَّض باستخدام طرق مسيئة للغاية، ولم تُستثنَ القردة من ذلك. والحال أن الثقافة تتطور؛ فهي ليست راسخة كالنقش على الحجر".
وتتراوح نُسخ القرن الحادي والعشرين من موروث "ساروماواشي" من عروض القردة المتشقلبة بفساتينها المبهرَجة في مهرجانات الشوارع، إلى قردة "نيكو سارو غوندان" التي تمثل دور طلاب ينجزون حسابات رياضية ويعزفون البيانو في مقاطع فيديو سُجّلت ونُشرت على موقع "يوتيوب". في جولة استمرت تسعة أيام عبر تقاليد ساروماواشي، شاهدتُ مجموعة من العروض وزرت حانةً في مدينة أوتسوانوميا -على بعد ساعتين تقريبًا شمال طوكيو- حيث تقدم القردة للزبائن كؤوس الشراب البارد والمناشف اليدوية الدافئة، وترتدي أقنعة بشرية مضحكة.

هل يغتال السيركُ مكاكَ اليابان؟

تُظهر عروض "ساروماواشي" التقليدية مروّضًا يقود القردة لأداء حركات بهلوانية مثيرة. أما المسرح الرئيس في حديقة "نيكو سارو غوندان" فيشمل عروضًا فاتنةً ذات تخطيط مسبق، يشارك فيها ما يصل إلى ستة قردة تؤدي حركات متقنة ويتم تغيير أزيائها مرات عديدة. لكن على...
ارتدت القرَدة زي كرة القدم. إنها قرَدة المكاك الياباني (Macaca fuscata). كان عددها ستة وقد انتصبت على سيقانها مثل البشر وهي مربوطة بحبال إلى مروِّضيها، إذ راحت تركل الكرة بانصياع نحو الأعلى والأسفل فوق أرضية الملعب، وسط هتافاتٍ وتشجيعاتٍ من المروّضين...
ارتدت القرَدة زي كرة القدم. إنها قرَدة المكاك الياباني (Macaca fuscata). كان عددها ستة وقد انتصبت على سيقانها مثل البشر وهي مربوطة بحبال إلى مروِّضيها، إذ راحت تركل الكرة بانصياع نحو الأعلى والأسفل فوق أرضية الملعب، وسط هتافاتٍ وتشجيعاتٍ من المروّضين وحشد المشاهدين. إنها مباراة صورية بين منتخب اليابان والبرازيل.
بدت القردة ذات القمصان الزرقاء (اليابان) أقوى بِنية، بذيولها السمينة المتدلية من ثقوب في سراويلها، لكن التشكيلة الصفراء للبرازيل كانت أسرع، خاصة عندما كان اللاعب رقم 10 يتوقف عن لعق يديه. وفجأة، وصلت الكرة إلى هذا اللاعب فركلها مسجلًا هدفا. إنه هدف الفوز! هنالك انحنى فريق اليابان. وانفجر الحشد ضاحكًا.
لم يكن ذلك سوى عرض إحماء تمهيدًا للحدث الرئيس بالمسرح المدرج الداخلي في "نيكو سارو غوندان"، وهي حديقة ملاهي بمدينة نيكو في اليابان. رحتُ أتجول في الفناء الخلفي، فشاهدت قرد مكاك وقد أُلبسَ حفّاظة أطفال وبذلة ترفيهية برتقالية اللون، يلعب هوكي الطاولة ضد طفل زائر يبلغ من العمر خمسة أعوام. كلما وصل القرص إلى القرد، قذف به نحو هدف منافسه. أما قرد آخر فكان يوزع قصاصات ورق على الزوار تقرأ طالع كل منهم. وعلى المنصة الرئيسة بالهواء الطلق، كان ذَكَر مكّاك ببذلة كاراتيه يستعرض عضلاته ويقفز على حواجز عالية.
وسرعان ما حان موعد اصطفاف القردة في المسرح المدرج، حيث كانت امرأة تدعى "يوريا سوزوكي" بصحبة رفيقها المخلص، "ريكو"، يؤديان محاكاة ساخرة لعرض شهير للشرطة اليابانية تتخلله حركات بهلوانية من النوع الذي نراه في السيرك. عندما تظاهرت "الرقيب" سوزوكي بإرسال "النقيب" ريكو إلى مسرح جريمة تم الإبلاغ عنها، ذهب خلف السّتارة ثم عاد بسكين جِزارة -من المطاط- في رأسه. وفي نهاية العرض، قفز ريكو، ببنطلونه الأزرق المنقط وصدريته المنسوجة من الساتان الوردي، عبر هوة بين السلالم ومن ثم وقف متشقلبًا على ذراع واحدة فوق عمود طويل متأرجح.
إن لهذا العرض في "نيكو سارو غوندان" جذورًا ضاربة في الموروث الثقافي لليابان. إذ تطورت هذه الممارسات من أحد أشكال الترفيه المعروفة باسم "ساروماواشي" (وتعني عروض القرَدة)، استنادًا إلى الاعتقاد بأن "سارو" (أي القرد) هو حامي الخيول، والوسيط بين الآلهة والبشر، والقادر على طرد الأرواح الشريرة وتمهيد السبيل للفلاح وحسن الطالع. وقد ظلت عروض "ساروماواشي"، على غرار رقصة "كابوكي" الكلاسيكية، تؤدَّى في المسارح العامة منذ ألف عام.
ولكن في ظل ما تشهده اليابان من تحديث متسارع، فقد تلاشت الأهمية الروحية لهذا الموروث الثقافي.
ذلك أن عروض القردة اليوم تشبه تلك التي نراها في السيرك. إذ قالت "كيكو يامازاكي"، المديرة التنفيذية لدى "معهد بحوث التثقيف بشأن الحيوان" وعضو مجلس إدارة "الائتلاف الياباني لرعاية الحيوان"، إن حيوانات عديدة اليوم تُدرَّب بأسلوب التعزيز الإيجابي والألفة والمودة، ولكن بعضها يخضع لأساليب ضبطية شديدة وقاسية، ومعاملة بدنية سيئة من قبل المروّضين. على أن هذه القردة ذات الحفّاظات التي تؤثث مسارح العرض في اليابان لم تثر القدر نفسه من الانتباه كما تفعل كالدببة، مثلا، التي تركب الدراجات النارية وتؤدي حركات فوق حبال عالية في الصين. صحيحٌ أن القردة الأسيرة محمية بموجب قانون رعاية الحيوان الياباني، ولكن التشريعات تُشدد على طرق معاملة الحيوانات الأليفة الشائعة.
وتعليقًا على ذلك، تقول يامازاكي: "يَحشد كثيرٌ من جماعات رعاية الحيوان جهده لمصلحة صغار القطط والجِراء؛ فهم يريدون لها ملاذات محصَّنة ضد القتل. ونجد أن النساء اللواتي يمتلكن قططا كثيرة يحصلن على متابعين كُثر في مواقع التواصل الاجتماعي. أما غايتنا فهي جعل قانون رعاية الحيوان في اليابان يراعي جميع الحيوانات؛ بما في ذلك حيوانات المزارع، وحيوانات الحدائق، وحيوانات المختبرات".
وتستطرد يامازاكي قائلةً إن لليابان باعًا طويلا في استخدام الحيوانات للترفيه، ولكن الحساسيات تّجاه موروث ثقافي لا يجب أن تقف حائلًا أمام حماية قردة العروض الترفيهية ضد سوء المعاملة. إذ توضح: "إن الأمر مثل السيرك. فعندما نتتبع تاريخ حيوانات الترفيه، نرى أنها ظلت تُروَّض باستخدام طرق مسيئة للغاية، ولم تُستثنَ القردة من ذلك. والحال أن الثقافة تتطور؛ فهي ليست راسخة كالنقش على الحجر".
وتتراوح نُسخ القرن الحادي والعشرين من موروث "ساروماواشي" من عروض القردة المتشقلبة بفساتينها المبهرَجة في مهرجانات الشوارع، إلى قردة "نيكو سارو غوندان" التي تمثل دور طلاب ينجزون حسابات رياضية ويعزفون البيانو في مقاطع فيديو سُجّلت ونُشرت على موقع "يوتيوب". في جولة استمرت تسعة أيام عبر تقاليد ساروماواشي، شاهدتُ مجموعة من العروض وزرت حانةً في مدينة أوتسوانوميا -على بعد ساعتين تقريبًا شمال طوكيو- حيث تقدم القردة للزبائن كؤوس الشراب البارد والمناشف اليدوية الدافئة، وترتدي أقنعة بشرية مضحكة.