هل يُنقذ الشباب كوكب الأرض؟

تبلغ "غريتا ثونبيرغ" وهي ناشطة تبلغ من العمر اليوم 17 عامًا، وقد جذبت انتباه العالم بخطابها في مقر "الأمم المتحدة" بمدينة نيويورك خلال سبتمبر 2019. ثم تحدثت في ديسمبر من العام نفسه في مدريد خلال مؤتمر "الأمم المتحدة" بشأن التغير المناخي. أما مُنطلقها...
دليل المتفائلينقبل "غريتا".. كانت كانت "سافيرن".غالبًا ما تظهر صورتاهما معًا جنبًا إلى جنب، لتشكلَا إطارًا زمنيًا للحملة طويلة الأجل التي يقودها شبان وشابات صغار لإقناع الكبار باتخاذ خطوات مهمة لمكافحة التغير المناخي. "غريتا ثونبيرغ"، الناشطة السويدية...
دليل المتفائلين

قبل "غريتا".. كانت كانت "سافيرن".

غالبًا ما تظهر صورتاهما معًا جنبًا إلى جنب، لتشكلَا إطارًا زمنيًا للحملة طويلة الأجل التي يقودها شبان وشابات صغار لإقناع الكبار باتخاذ خطوات مهمة لمكافحة التغير المناخي. "غريتا ثونبيرغ"، الناشطة السويدية المراهقة، هي أحدث طفلة تدق ناقوس الخطر بهذا الشأن؛ أما الأولى فكانت "سافيرن كوليس سوزوكي"، ابنة عالم بيئي من "فانكوفر" بكندا.
في عام 1992، عندما كانت سافيرن تبلغ من العمر 12 عامًا، سافرت مع ثلاث ناشطات صغيرات أخريات إلى مؤتمر "الأمم المتحدة" للمناخ في مدينة ريو دي جانيرو. حينها كان صدى علوم احترار المناخ عالميًا قد بدأ للتو يتردد؛ وكانت "الأمم المتحدة" -قبل أربعة أعوام فقط- قد أنشأت "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي"، التي أصبحت اليوم هي الهيئة الرائدة في علم المناخ؛ ولم يكن قادة العالم قد اعتادوا الاستماع إلى أطفال يلقون عليهم الخُطَب. هنالك أصبحت سافيرن تُعرف باسم "الفتاة التي أسكتت العالم ست دقائق"؛ فشكَّلت بذلك سابقةً للناشطين الشباب للتعبير عن إحساسهم بالهلاك الوشيك، على طريقتهم الصريحة والمباشرة التي لا نجدها سوى لدى الأطفال. صدحت سافيرن في وجه المندوبين خلال ذلك المؤتمر قائلةً: "يجب عليكم تغيير سلوككم. إن خسارتي مستقبلي ليست مثل خسارتكم الانتخابات أو بضع نقاط في سوق الأوراق المالية". وعندما ألقت غريتا خطابها التأنيبي في قمة المناخ لمنظمة "الأمم المتحدة" بمدينة نيويورك في سبتمبر 2019، كانت أوجه التشابه مذهلة. إذ يمكن القول -بكل ثقة- إنه لم يحدث أي شيء على الإطلاق في الأعوام الـ 27 الفاصلة، لتفادي ذلك التهديد الوجودي للإنسانية.
ولكنْ، حدث من التغيير ما يكفي لحث العالم أخيرًا على فعل شيء. فقد ركزت شدة وتسارع كوارث كانت غير موجودة قبل ثلاثة عقود، الاهتمام العالمي على عواقب التغير المناخي. وعلى نحو قوي ومؤثر، خرجت فئة السكان التي ستعيش تلك العواقب إلى الشوارع عام 2019 لتنظيم بعضٍ من أكبر الاحتجاجات البيئية في تاريخ البشرية.
ذلك أن الشبان والشابات هم في موقع جيد ومناسب للضغط من أجل التحرك واتخاذ إجراءات ملائمة، بفضل قوة أعدادهم والقوة التنظيمية لوسائل التواصل الاجتماعي. في جميع أنحاء العالم، ثمة أكثر من ثلاثة مليارات شخص تحت سن الـ 25، أي خُمس مجموع السكان. في الولايات المتحدة خلال الاضطرابات الثقافية في أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل سبعينياته، بلغ عدد الأميركيين الذين تراوحت أعمارهم بين 18 و 29 عامًا 41 مليونًا. واليوم يبلغ عدد الفئة العمرية نفسها 52 مليون شخص. توسعت احتجاجات الشباب أيضًا لتتحول إلى حركة تناضل من أجل مجموعة كبيرة من القضايا الاجتماعية، بما في ذلك العدالة العرقية وتقنين حيازة الأسلحة، مما يحيل إلى مقارنة مع النشاط الاجتماعي الذي حدث في أواخر ستينيات القرن الماضي والذي اجتاح بلدان العالم.
نشأ ملايين الأطفال على مشاهدة ذوبان الصفائح الجليدية وارتفاع درجات الحرارة، وقد سئموا انتظار قادة الحكومات للتصرف حيال ذلك. يقول "ستيفن زونيس"، أستاذ العلوم السياسية لدى "جامعة سان فرنسيسكو": "كانت حرب فيتنام بمنزلة حافز لتطرف جيل من الأميركيين؛ والمناخ سيفعل الأمر نفسه". تشعر "ديلاني رينولدز" بالإحباط المتزايد من عدم اتخاذ إجراءات إزاء المشكلة. تبلغ هذه الفتاة من العمر 20 عامًا وتعيش في فلوريدا، إحدى أكثر الأماكن عرضةً للتغير المناخي. تقول: "إن كثيرًا من البالغين في مراكز القرار اليوم يصبّون كل اهتمامهم على المال والربح. متى استطعنا استبدالهم، فسنستبدلهم". رينولدز اليوم طالبة في "جامعة ميامي"، وقد شبَّت وهي ترى كيف أن مسؤولي فلوريدا لم يتصدوا لتهديدات الفيضانات قبل أن تفضي في نهاية المطاف إلى إعادة تشكيل الساحل الرملي؛ ثم تابعت حاكمَ الولاية، "ريك سكوت"، وهو يروّج لسياسة غير رسمية تستهدف تجنب حتى ذكر عبارة "التغير المناخي". هنالك أسست رينولدز مشروع (Sink or Swim Project) فشرعت في تثقيف سكان فلوريدا بشأن مخاطر ارتفاع مستوى سطح البحر، من خلال إلقائها مئات الخُطب أمام كل من يود الاستماع إليها. تقول: "من المذهل أن يفهم الصغار في رياض الأطفال ذلك الأمر بوصفه مشكلة، فيما لا يستطيع الساسة ذلك". "فيليكس فينكباينر"، ناشط ألماني يبلغ من العمر 22 عامًا، وهو قيدومٌ آخر في الحركة الشبابية الساعية إلى النضال في المجال "المناخي". وقد وجد طريقه إلى هذا النضال عندما كان طفلا في التاسعة من العمر، حين كانت له لعبة دب قطبي محشو. هنالك تأثر بصور دببة قطبية جائعة تكافح بحثًا عن طعامها الذي بات يشح مع ذوبان جليد القطب الشمالي. أراد فينكباينر أن يُسهم في حل المشكلة: فقد زرع شجرة في مدرسته. وهو اليوم يسعى للحصول على درجة الدكتوراه في علم البيئة المناخي، ويرأس منظمة غير ربحية أسسها عام 2007. زرعت هذه المنظمة، التي أسماها "Plant-for-the-Planet" (اِزرع لأجل الكوكب)، ثمانية ملايين شجرة في 73 دولة، ضمن جهد عالمي لزراعة تريليون شجرة. يقول: "ليس ثمة من سبب يُجبر هذه الحركة على أن تنتظر طويلًا، أو أن تكون أمرًا شبابيًا. ما يحدث أمر هائل. قد تكون هذه نقطة التحول التي كنّا نرجوها". التقى فينكباينر في خريف عام 2019 "ليزين موتونكي" وتبادلا النصائح. موتونكي لاعب كرة قدم في نيروبي عمره 15 عامًا كان يزرع شجرة بعد كل هدف يسجله، إسهامًا منه في استعادة كينيا غاباتها. وسَّع موتونكي مشروعه ليشمل الشباب الآخرين الذين يحتفلون بإنجازاتهم من خلال زراعة الأشجار. يقول: "إذا كنت بارعًا في الموسيقى ووصلت إلى نقطة معينة، فيمكنك زرع شجرة احتفاءً بذلك. وإذا حصلت على العلامة (A) في مادة ما، فيمكنك زرع شجرة".
وتجري أطوار أحد أكثر تلك الجهود أهمية، في ردهات محاكم العالم؛ كما يحدث في النرويج وباكستان، حيث يرفع الشباب دعاوى قضائية للظفر بحماية المناخ. وفي قضية ما زالت فصولها مستمرة، قام 21 شابا أميركيا بمقاضاة الحكومة الفدرالية، لدورها في وجود "نظام مناخي خطير".

وبدأ تَشكُّل أحدث موجة من الاحتجاجات المناخية قبل عدة أعوام في أوروبا. فقد نظم النشطاء الشباب في ألمانيا إضرابات مدرسية جذبت أعدادا صغيرة واهتماما قليلا ولكنها ساعدت في إرساء أُسس الحركة التي أشعلها إضراب غريتا ثونبيرغ المدرسي الانفرادي في أغسطس 2018، والذي هزّ العالم أجمع. كانت هذه الفتاة البالغة من العمر 17 عامًا غير معروفة، لَمّا اعتصمت أمام مبنى البرلمان السويدي في ستوكهولم؛ فأصبحت رمزًا لحركة عالمية شهدت إضرابات مدرسية في جل البلدان وفي أكثر من 7000 بلدة ومدينة. ولمّا وصلت غريتا إلى نيويورك، بعد أن أبحرت عبر الأطلسي على متن يخت لا يطلق انبعاثات كربونية، كانت قد حققت شهرة تضاهي شهرة نجوم موسيقى الروك.
ثونبيرغ مفوَّهة وصريحة، وربما يرجع سبب ذلك جزئيا إلى معاناتها "متلازمة أسبرجر" (Asperger's syndrome). فهي لا تستخدم اللغة الملتوية الشائعة جدا في الخطاب السياسي. عندما أدلت بشهادتها أمام الكونغرس الأميركي، قدمت تقريرًا للجنة المناخ التابعة لـ "الأمم المتحدة"، بدلًا من ملاحظات مُعدّة سلفًا. إذ قالت: "لا أريدكم أن تستمعوا إلي، بل أريدكم أن تستمعوا إلى العلماء".
وظلت "إليزابيث ويلسون"، المحامية في مجال حقوق الإنسان والباحثة الزائرة لدى "كلية روتجرز للقانون" في نيوجيرسي، تتابع ناشطين من الشباب وهم يرسخون أقدامهم في مجال النضال. تقول: "أتعجَّب من أننا بينما أقنعنا أنفسنا أننا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، يقول هؤلاء الأطفال: 'نحن نؤمن بالحقائق. نحن نؤمن بالعلم. ما تخبرونا به ليس حقيقة بديلة؛ إنها كذبة'. إنه لَأمرٌ يحبس الأنفاس".
من السهل أن ننسى أنه، وعلى كل مهاراتهم التنظيمية والتكتيكية، لا يزال كثيرٌ من المناضلين في مجال المناخ مجرد أطفال. يعاني كثيرٌ منهم القلقَ والاكتئاب. ويَنصب اهتمامهم على التقارير المزعجة؛ من قبيل تحليل لمنظمة "الأمم المتحدة" عام 2018 خلص إلى أن انبعاثات الكربون يجب أن تُقلَّص إلى النصف تقريبا في أفق عام 2030 للحفاظ على درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية؛ وبحوث أجرتها "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية" ومجلة (Nature) في أواخر عام 2019، حذرت من أن درجات الحرارة التي تتجاوز ذلك الحد ستؤدي إلى تفاقم الأعاصير والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات، وكذلك الكوارث الزراعية التي قد تقلص إمدادات الغذاء في العالم.
"ليس من الصعب أن نجد أطفالًا يقولون إنهم لا يرغبون بالإنجاب، بسبب الفوضى التي يعتقدون أن العالم سيتخبط فيها"، كما تقول "ليز فان سوسترن"، طبيبة نفسانية درست كيف يتعامل الشباب مع التغير المناخي. وتستطرد الطبيبة قائلةً: "إنه زمن متزعزع بالنسبة إلى الأطفال. لقد رأوا كل شيء بأنفسهم. لقد رأوا الحرائق. لقد رأوا العواصف. إنهم ليسوا أغبياء. إنهم غاضبون".
تبلغ "ألكسندريا فيلازينور" من العمر 14 عامًا، وهي لا تحضر إلى المدرسة في أيام الجمعة منذ ديسمبر 2018، لتشارك في إضراب لدى مقر الأمم المتحدة في نيويورك؛ أما "جيمي مارجولين" (18 عامًا) فهي مؤسِّسة منظمة (Zero Hour)، وقد وصفت بصراحة مخاوف الشباب بشأن المستقبل في ندوة خلال الخريف الماضي لدى مكتب "تويتر" بواشنطن العاصمة. قالت فيلازينور إنها قلقة من أنها حينما تصير قادرة على التصويت والإسهام في انتخاب القادة الذين سيتخذون إجراءات بشأن التغير المناخي، سيكون الأوان قد فات. وتحدثت مارجولين عن نوبات اليأس التي دفعتها إلى ملازمة الفراش؛ إذ قالت: "إن القلق والهواجس بشأن المناخ مرض حقيقي بالنسبة إلي".

فهل ستنجح هذه الحركة الشبابية أخيرًا؟ التاريخ يشهد على خلاف ذلك. فعادةً ما تنجح الحركات الاجتماعية التي تشن ضد أشرار معروفين ومحددين، مثل الطغاة. لكن من الصعب إجبار المجتمعات على إجراء تغييرات هيكلية يمكن أن تستغرق عقودا. إنّ إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي لَمَهمةٌ سيزيفية.. أو تكاد.
تقول "كاثلين روجرز"، رئيسة "شبكة يوم الأرض" وناشطة بيئية منذ زمن بعيد: "إن وصفة نجاح أي حركة نضالية هي المواظبة عليها وتحويلها إلى سياسة عامة. فإذا لم نقم بتحويلها إلى قوة سياسية، فسوف تموت".
في أوروبا، غيّر الناشطون الشباب المشهد السياسي بسهولة أكبر مما فعله نظراؤهم في الولايات المتحدة. يقول فينكباينر: "في ألمانيا، حدث تحول أساسي من حيث السياسة والنطاق. فقد فهم كل سياسي ألماني أنه لم يعد بالإمكان الفوز في الانتخابات من دون سنّ سياسات خضراء".
تبلغ سافيرن من العمر اليوم 40 عامًا، وهي لا تخشى أن تتلاشى الحركة النضالية من أجل المناخ. تقول: "ما يصدمني
الآن هو أن الوضع يبدو كما كان في عام 1992. كانت قمة ريو ناجحة. لقد جعلنا جميع القادة يوقّعون على المواثيق. وقد عدنا الآن إلى تلك اللحظة نفسها. تم رفع درجة الوعي. وينبغي لنا الآن ترجمة ذلك إلى ثورة حقيقية".
حصلت سافيرن على شهادة أكاديمية في علم البيئة، وهي تعيش مع زوجها وطفليها في "هيدا غواي"، وهي مجموعة جزر قبالة ساحل كولومبيا البريطانية في كندا. تشتغل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا اللغوية، وتَدرس لغة وثقافة شعب هيدا، وهم سكان أصليون أتاح لهم حسن تدبير بيئتهم الاستمرار أكثر من 10 آلاف عام. رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.

هل يُنقذ الشباب كوكب الأرض؟

تبلغ "غريتا ثونبيرغ" وهي ناشطة تبلغ من العمر اليوم 17 عامًا، وقد جذبت انتباه العالم بخطابها في مقر "الأمم المتحدة" بمدينة نيويورك خلال سبتمبر 2019. ثم تحدثت في ديسمبر من العام نفسه في مدريد خلال مؤتمر "الأمم المتحدة" بشأن التغير المناخي. أما مُنطلقها...
دليل المتفائلينقبل "غريتا".. كانت كانت "سافيرن".غالبًا ما تظهر صورتاهما معًا جنبًا إلى جنب، لتشكلَا إطارًا زمنيًا للحملة طويلة الأجل التي يقودها شبان وشابات صغار لإقناع الكبار باتخاذ خطوات مهمة لمكافحة التغير المناخي. "غريتا ثونبيرغ"، الناشطة السويدية...
دليل المتفائلين

قبل "غريتا".. كانت كانت "سافيرن".

غالبًا ما تظهر صورتاهما معًا جنبًا إلى جنب، لتشكلَا إطارًا زمنيًا للحملة طويلة الأجل التي يقودها شبان وشابات صغار لإقناع الكبار باتخاذ خطوات مهمة لمكافحة التغير المناخي. "غريتا ثونبيرغ"، الناشطة السويدية المراهقة، هي أحدث طفلة تدق ناقوس الخطر بهذا الشأن؛ أما الأولى فكانت "سافيرن كوليس سوزوكي"، ابنة عالم بيئي من "فانكوفر" بكندا.
في عام 1992، عندما كانت سافيرن تبلغ من العمر 12 عامًا، سافرت مع ثلاث ناشطات صغيرات أخريات إلى مؤتمر "الأمم المتحدة" للمناخ في مدينة ريو دي جانيرو. حينها كان صدى علوم احترار المناخ عالميًا قد بدأ للتو يتردد؛ وكانت "الأمم المتحدة" -قبل أربعة أعوام فقط- قد أنشأت "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي"، التي أصبحت اليوم هي الهيئة الرائدة في علم المناخ؛ ولم يكن قادة العالم قد اعتادوا الاستماع إلى أطفال يلقون عليهم الخُطَب. هنالك أصبحت سافيرن تُعرف باسم "الفتاة التي أسكتت العالم ست دقائق"؛ فشكَّلت بذلك سابقةً للناشطين الشباب للتعبير عن إحساسهم بالهلاك الوشيك، على طريقتهم الصريحة والمباشرة التي لا نجدها سوى لدى الأطفال. صدحت سافيرن في وجه المندوبين خلال ذلك المؤتمر قائلةً: "يجب عليكم تغيير سلوككم. إن خسارتي مستقبلي ليست مثل خسارتكم الانتخابات أو بضع نقاط في سوق الأوراق المالية". وعندما ألقت غريتا خطابها التأنيبي في قمة المناخ لمنظمة "الأمم المتحدة" بمدينة نيويورك في سبتمبر 2019، كانت أوجه التشابه مذهلة. إذ يمكن القول -بكل ثقة- إنه لم يحدث أي شيء على الإطلاق في الأعوام الـ 27 الفاصلة، لتفادي ذلك التهديد الوجودي للإنسانية.
ولكنْ، حدث من التغيير ما يكفي لحث العالم أخيرًا على فعل شيء. فقد ركزت شدة وتسارع كوارث كانت غير موجودة قبل ثلاثة عقود، الاهتمام العالمي على عواقب التغير المناخي. وعلى نحو قوي ومؤثر، خرجت فئة السكان التي ستعيش تلك العواقب إلى الشوارع عام 2019 لتنظيم بعضٍ من أكبر الاحتجاجات البيئية في تاريخ البشرية.
ذلك أن الشبان والشابات هم في موقع جيد ومناسب للضغط من أجل التحرك واتخاذ إجراءات ملائمة، بفضل قوة أعدادهم والقوة التنظيمية لوسائل التواصل الاجتماعي. في جميع أنحاء العالم، ثمة أكثر من ثلاثة مليارات شخص تحت سن الـ 25، أي خُمس مجموع السكان. في الولايات المتحدة خلال الاضطرابات الثقافية في أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل سبعينياته، بلغ عدد الأميركيين الذين تراوحت أعمارهم بين 18 و 29 عامًا 41 مليونًا. واليوم يبلغ عدد الفئة العمرية نفسها 52 مليون شخص. توسعت احتجاجات الشباب أيضًا لتتحول إلى حركة تناضل من أجل مجموعة كبيرة من القضايا الاجتماعية، بما في ذلك العدالة العرقية وتقنين حيازة الأسلحة، مما يحيل إلى مقارنة مع النشاط الاجتماعي الذي حدث في أواخر ستينيات القرن الماضي والذي اجتاح بلدان العالم.
نشأ ملايين الأطفال على مشاهدة ذوبان الصفائح الجليدية وارتفاع درجات الحرارة، وقد سئموا انتظار قادة الحكومات للتصرف حيال ذلك. يقول "ستيفن زونيس"، أستاذ العلوم السياسية لدى "جامعة سان فرنسيسكو": "كانت حرب فيتنام بمنزلة حافز لتطرف جيل من الأميركيين؛ والمناخ سيفعل الأمر نفسه". تشعر "ديلاني رينولدز" بالإحباط المتزايد من عدم اتخاذ إجراءات إزاء المشكلة. تبلغ هذه الفتاة من العمر 20 عامًا وتعيش في فلوريدا، إحدى أكثر الأماكن عرضةً للتغير المناخي. تقول: "إن كثيرًا من البالغين في مراكز القرار اليوم يصبّون كل اهتمامهم على المال والربح. متى استطعنا استبدالهم، فسنستبدلهم". رينولدز اليوم طالبة في "جامعة ميامي"، وقد شبَّت وهي ترى كيف أن مسؤولي فلوريدا لم يتصدوا لتهديدات الفيضانات قبل أن تفضي في نهاية المطاف إلى إعادة تشكيل الساحل الرملي؛ ثم تابعت حاكمَ الولاية، "ريك سكوت"، وهو يروّج لسياسة غير رسمية تستهدف تجنب حتى ذكر عبارة "التغير المناخي". هنالك أسست رينولدز مشروع (Sink or Swim Project) فشرعت في تثقيف سكان فلوريدا بشأن مخاطر ارتفاع مستوى سطح البحر، من خلال إلقائها مئات الخُطب أمام كل من يود الاستماع إليها. تقول: "من المذهل أن يفهم الصغار في رياض الأطفال ذلك الأمر بوصفه مشكلة، فيما لا يستطيع الساسة ذلك". "فيليكس فينكباينر"، ناشط ألماني يبلغ من العمر 22 عامًا، وهو قيدومٌ آخر في الحركة الشبابية الساعية إلى النضال في المجال "المناخي". وقد وجد طريقه إلى هذا النضال عندما كان طفلا في التاسعة من العمر، حين كانت له لعبة دب قطبي محشو. هنالك تأثر بصور دببة قطبية جائعة تكافح بحثًا عن طعامها الذي بات يشح مع ذوبان جليد القطب الشمالي. أراد فينكباينر أن يُسهم في حل المشكلة: فقد زرع شجرة في مدرسته. وهو اليوم يسعى للحصول على درجة الدكتوراه في علم البيئة المناخي، ويرأس منظمة غير ربحية أسسها عام 2007. زرعت هذه المنظمة، التي أسماها "Plant-for-the-Planet" (اِزرع لأجل الكوكب)، ثمانية ملايين شجرة في 73 دولة، ضمن جهد عالمي لزراعة تريليون شجرة. يقول: "ليس ثمة من سبب يُجبر هذه الحركة على أن تنتظر طويلًا، أو أن تكون أمرًا شبابيًا. ما يحدث أمر هائل. قد تكون هذه نقطة التحول التي كنّا نرجوها". التقى فينكباينر في خريف عام 2019 "ليزين موتونكي" وتبادلا النصائح. موتونكي لاعب كرة قدم في نيروبي عمره 15 عامًا كان يزرع شجرة بعد كل هدف يسجله، إسهامًا منه في استعادة كينيا غاباتها. وسَّع موتونكي مشروعه ليشمل الشباب الآخرين الذين يحتفلون بإنجازاتهم من خلال زراعة الأشجار. يقول: "إذا كنت بارعًا في الموسيقى ووصلت إلى نقطة معينة، فيمكنك زرع شجرة احتفاءً بذلك. وإذا حصلت على العلامة (A) في مادة ما، فيمكنك زرع شجرة".
وتجري أطوار أحد أكثر تلك الجهود أهمية، في ردهات محاكم العالم؛ كما يحدث في النرويج وباكستان، حيث يرفع الشباب دعاوى قضائية للظفر بحماية المناخ. وفي قضية ما زالت فصولها مستمرة، قام 21 شابا أميركيا بمقاضاة الحكومة الفدرالية، لدورها في وجود "نظام مناخي خطير".

وبدأ تَشكُّل أحدث موجة من الاحتجاجات المناخية قبل عدة أعوام في أوروبا. فقد نظم النشطاء الشباب في ألمانيا إضرابات مدرسية جذبت أعدادا صغيرة واهتماما قليلا ولكنها ساعدت في إرساء أُسس الحركة التي أشعلها إضراب غريتا ثونبيرغ المدرسي الانفرادي في أغسطس 2018، والذي هزّ العالم أجمع. كانت هذه الفتاة البالغة من العمر 17 عامًا غير معروفة، لَمّا اعتصمت أمام مبنى البرلمان السويدي في ستوكهولم؛ فأصبحت رمزًا لحركة عالمية شهدت إضرابات مدرسية في جل البلدان وفي أكثر من 7000 بلدة ومدينة. ولمّا وصلت غريتا إلى نيويورك، بعد أن أبحرت عبر الأطلسي على متن يخت لا يطلق انبعاثات كربونية، كانت قد حققت شهرة تضاهي شهرة نجوم موسيقى الروك.
ثونبيرغ مفوَّهة وصريحة، وربما يرجع سبب ذلك جزئيا إلى معاناتها "متلازمة أسبرجر" (Asperger's syndrome). فهي لا تستخدم اللغة الملتوية الشائعة جدا في الخطاب السياسي. عندما أدلت بشهادتها أمام الكونغرس الأميركي، قدمت تقريرًا للجنة المناخ التابعة لـ "الأمم المتحدة"، بدلًا من ملاحظات مُعدّة سلفًا. إذ قالت: "لا أريدكم أن تستمعوا إلي، بل أريدكم أن تستمعوا إلى العلماء".
وظلت "إليزابيث ويلسون"، المحامية في مجال حقوق الإنسان والباحثة الزائرة لدى "كلية روتجرز للقانون" في نيوجيرسي، تتابع ناشطين من الشباب وهم يرسخون أقدامهم في مجال النضال. تقول: "أتعجَّب من أننا بينما أقنعنا أنفسنا أننا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، يقول هؤلاء الأطفال: 'نحن نؤمن بالحقائق. نحن نؤمن بالعلم. ما تخبرونا به ليس حقيقة بديلة؛ إنها كذبة'. إنه لَأمرٌ يحبس الأنفاس".
من السهل أن ننسى أنه، وعلى كل مهاراتهم التنظيمية والتكتيكية، لا يزال كثيرٌ من المناضلين في مجال المناخ مجرد أطفال. يعاني كثيرٌ منهم القلقَ والاكتئاب. ويَنصب اهتمامهم على التقارير المزعجة؛ من قبيل تحليل لمنظمة "الأمم المتحدة" عام 2018 خلص إلى أن انبعاثات الكربون يجب أن تُقلَّص إلى النصف تقريبا في أفق عام 2030 للحفاظ على درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية؛ وبحوث أجرتها "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية" ومجلة (Nature) في أواخر عام 2019، حذرت من أن درجات الحرارة التي تتجاوز ذلك الحد ستؤدي إلى تفاقم الأعاصير والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات، وكذلك الكوارث الزراعية التي قد تقلص إمدادات الغذاء في العالم.
"ليس من الصعب أن نجد أطفالًا يقولون إنهم لا يرغبون بالإنجاب، بسبب الفوضى التي يعتقدون أن العالم سيتخبط فيها"، كما تقول "ليز فان سوسترن"، طبيبة نفسانية درست كيف يتعامل الشباب مع التغير المناخي. وتستطرد الطبيبة قائلةً: "إنه زمن متزعزع بالنسبة إلى الأطفال. لقد رأوا كل شيء بأنفسهم. لقد رأوا الحرائق. لقد رأوا العواصف. إنهم ليسوا أغبياء. إنهم غاضبون".
تبلغ "ألكسندريا فيلازينور" من العمر 14 عامًا، وهي لا تحضر إلى المدرسة في أيام الجمعة منذ ديسمبر 2018، لتشارك في إضراب لدى مقر الأمم المتحدة في نيويورك؛ أما "جيمي مارجولين" (18 عامًا) فهي مؤسِّسة منظمة (Zero Hour)، وقد وصفت بصراحة مخاوف الشباب بشأن المستقبل في ندوة خلال الخريف الماضي لدى مكتب "تويتر" بواشنطن العاصمة. قالت فيلازينور إنها قلقة من أنها حينما تصير قادرة على التصويت والإسهام في انتخاب القادة الذين سيتخذون إجراءات بشأن التغير المناخي، سيكون الأوان قد فات. وتحدثت مارجولين عن نوبات اليأس التي دفعتها إلى ملازمة الفراش؛ إذ قالت: "إن القلق والهواجس بشأن المناخ مرض حقيقي بالنسبة إلي".

فهل ستنجح هذه الحركة الشبابية أخيرًا؟ التاريخ يشهد على خلاف ذلك. فعادةً ما تنجح الحركات الاجتماعية التي تشن ضد أشرار معروفين ومحددين، مثل الطغاة. لكن من الصعب إجبار المجتمعات على إجراء تغييرات هيكلية يمكن أن تستغرق عقودا. إنّ إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي لَمَهمةٌ سيزيفية.. أو تكاد.
تقول "كاثلين روجرز"، رئيسة "شبكة يوم الأرض" وناشطة بيئية منذ زمن بعيد: "إن وصفة نجاح أي حركة نضالية هي المواظبة عليها وتحويلها إلى سياسة عامة. فإذا لم نقم بتحويلها إلى قوة سياسية، فسوف تموت".
في أوروبا، غيّر الناشطون الشباب المشهد السياسي بسهولة أكبر مما فعله نظراؤهم في الولايات المتحدة. يقول فينكباينر: "في ألمانيا، حدث تحول أساسي من حيث السياسة والنطاق. فقد فهم كل سياسي ألماني أنه لم يعد بالإمكان الفوز في الانتخابات من دون سنّ سياسات خضراء".
تبلغ سافيرن من العمر اليوم 40 عامًا، وهي لا تخشى أن تتلاشى الحركة النضالية من أجل المناخ. تقول: "ما يصدمني
الآن هو أن الوضع يبدو كما كان في عام 1992. كانت قمة ريو ناجحة. لقد جعلنا جميع القادة يوقّعون على المواثيق. وقد عدنا الآن إلى تلك اللحظة نفسها. تم رفع درجة الوعي. وينبغي لنا الآن ترجمة ذلك إلى ثورة حقيقية".
حصلت سافيرن على شهادة أكاديمية في علم البيئة، وهي تعيش مع زوجها وطفليها في "هيدا غواي"، وهي مجموعة جزر قبالة ساحل كولومبيا البريطانية في كندا. تشتغل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا اللغوية، وتَدرس لغة وثقافة شعب هيدا، وهم سكان أصليون أتاح لهم حسن تدبير بيئتهم الاستمرار أكثر من 10 آلاف عام. رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.