غربـة فـي الوطـن

"غوين نوردغرين" تجلس لتُلتقط لها صورة عند حافة المسبح وخلفها الآثار المتفحّمة لمنزلها السابق في مدينة "بارادايس" بولاية كاليفورنيا. وقد سمحت نوردغرين للكاتب والمصوّر "بيت مولر" بأن يرافقها في رحلة العودة لتوديع منزلها هذا الذي كانت تَعُدّه "منزل...
دليل المتشائمينعندما تتغيّر الأماكن التي لطالما أحببناها، فإنّ وقع التغيّر يولّد فينا شعورًا "شبيهًا بالحنين إلى الوطن".بينما تمدّدت مناجم الفحم كالشقوق عبْر "وادي هنتر" الأسترالي، أخذ الهاتف يرنّ في مكتب "غلين آلبريشت". كان ذلك في مطلع الألفية...
دليل المتشائمين

عندما تتغيّر الأماكن التي لطالما أحببناها، فإنّ وقع التغيّر يولّد فينا شعورًا "شبيهًا بالحنين إلى الوطن".

بينما تمدّدت مناجم الفحم كالشقوق عبْر "وادي هنتر" الأسترالي، أخذ الهاتف يرنّ في مكتب "غلين آلبريشت". كان ذلك في مطلع الألفية الثالثة، وكان آلبريشت -وهو أستاذ دراسات بيئية- مهتمًا بالآثار العاطفية للتعدين في المجتمعات المحلية. فقد كانت المنطقة معروفة على مَرّ أجيال بما تضمّه من حقول برسيم حجازي، ومزارع لتربية الخيل، وعرائش عنب. ولطالما كان تعدين الفحم جزءًا من اقتصادها، لكنه شهد نموًا مفاجئًا تلبيةً للطلب العالمي المتزايد على المادّة، كما أن تقنيات الاستخراج الجديدة أثارت موجة جديدة من عمليات التعدين عبر الوادي.
ولمّا ذاع خبر اهتمام آلبريشت بالآثار العاطفية لعمليات التعدين هذه، كان السكّان البائسون توّاقين إلى بث شكواهم إليه عبر الهاتف: إذ تحدّثوا عن الانفجارات المزلزلة، والدويّ المتواصل للآليّات، والوهج غير الطبيعي للمصابيح الصناعية التي كانت تشوش على ظلمة لياليهم، والغبار الأسود الذي اجتاح المنطقة وغطّى البيوت من الداخل والخارج. كانوا قلقين بشأن الهواء الذي يستنشقون والماء الذي يشربون. وكانت مواطنهم تضيع من بين أيديهم، وشعروا بأنهم عاجزون عن وقف عجلة التدمير تلك. وقد شنّ بعض أبناء الوادي معركة قضائية في محاولة منهم لمنع المناجم من الوصول إليهم؛ ولكن كثيرين منهم كانوا يحتاجون إلى الوظائف التي وفّرتها تلك المناجم. وفي المحصلة، سادت مصالح أرباب التعدين الأثرياء، فغدا المشهد -ونصيبٌ كبير من النسيج الاجتماعي الذي عليه- مجرّد أضرار جانبية لعمليات التعدين. وبانتشار المناجم، بدأ آلبريشت يلاحظ وجود موضوع مشترك في تلك الاستجابات التي تلقّاها من بعض سكّان الوادي. إذْ كانوا جميعًا يعلمون أن المناجم هي مصدر تعاستهم؛ لكنهم وجدوا صعوبة في العثور على الكلمات المناسبة والدقيقة للتعبير عن مشاعرهم. وتعليقًا على ذلك، يقول الرجل: "كان الأمر كما لو أن شعورًا شبيهًا بالحنين إلى الوطن قد اعتراهم، علمًا أنه لم يكن أحد منهم قد غادر موطنه".
وقد خلص آلبريشت إلى استنتاجٍ مفاده أن ما كان يحدث هو أن تدهور طبيعة الوادي كان يهدد السلوان الذي كان الناس يشعرون به. وهكذا، إذ أخذت المناجم تُحيل مزيدًا من الحقول الخضراء إلى حقول رمادية، أطلق آلبريشت على الشعور الذي وصفه السكان اسـم "سولاستالجيــا" (Solastalgia)، الذي عرّف به ألم فقدان السلوان الذي يمنحه الوطن لأهله.
وبعد مضي أكثر من عشرة أعوام على ذلك، سمعتُ هذه الكلمة الغريبة أثناء مشاهدتي فيلمًا عن القحط. فسجّلتُها من دون أن أدري كيف تُكتب بالضبط. وبفضل خاصيّة "هل تقصد (كذا)؟" التصويبية لمحرّك البحث "غوغل"، اكتشفت عشرات الآلاف من نتائج البحث ذات الصلة. وتمثّلت النتائج في مقالات أكاديمية ومؤتمرات وقصص إخبارية. بل وكانت فكرة "سولاستالجيا" قد وجدت طريقها كذلك إلى عالم الفن؛ إذ عثرتُ على معرض للمنحوتات في ولاية نيوجرسي، وألبوم للأغاني الشعبية في أستراليا، وكونشترتو كلاسيكي في إستونيا.. وكانت جميعًا مستلهمة من الكلمة التي نحتها آلبريشت.
قال لي آلبريشت عندما زرته في منزله بوادي هنتر: "إنْ لم تكن اللغة غنية بما يكفي لتمكيننا من وصف هذه الأشياء وفهمها كما يجب، فعلينا أن نُوجِـد تلك الكلمة بأنفسنا؛ لِـمَ لا توجد لدينا كلمة واحدة تتوافق مع شعور إنساني؟" وبخاصة إن كان شعورًا "عميقًا وجليًا وينتاب الناس على امتداد العالم في مواقف مختلفة، ومن المرجّح أنه انتاب الناس على مرّ آلاف السنين في ظروف مشابهة". بدا السؤال وجيهًا لي. فعلى مرّ التاريخ، كانت الفيضانات والحرائق المدمرة والزلازل والبراكين، فضلًا عن الحضارات المتوسّعة والجيوش الغازية، قد غيّرت المناظر العزيزة على قلوب الناس ومزّقت المجتمعات تاركةً عليها بصماتها التي لا تُمحى. وقد عاش الأميركيون الأصليون هذه التجربة عندما غيّر الأوروبيون أميركا الشمالية تغييرًا جذريًا. وكان "ساناتا"، زعيم شعب "الكايووا"، قد قال في القرن التاسع عشر: "كانت هذه الأرض لآبائنا، ولكنْ عندما أذهب إلى النهر [نهر أركنساس]، أرى مخيّمات لجنود على ضفتيه. هؤلاء الجنود يقطعون أشجاري، ويقتلون ثيران البيسون التي أمتلك؛ وعندما أرى ذلك، يكاد قلبي ينفطر".
لقد جلبت الثورة الصناعية إلى المناظر التي اعتادها الناس تغيّرات أعمّ، وذلك بانتشار الحواضر المزدهرة والسكك الحديدية والمعامل. وإذْ كان يجري تجريد منطقة "وادي هدسون" بنيويورك من غاباتها لإفساح المجال للزراعة وإطعام العاملين في صناعة الدباغة المزدهرة، كان رسّام القرن التاسع عشر، "توماس كول"، يرثو تلك الغابات الغالية على قلبه التي تعرّضت للتدمير. إذ كان قد كتب تعليقًا على ذلك: "لا يسعني سوى أن أعبّر عن أسايَ على أن جمال هذه المناظر يزول بسرعة. إن الأهوال التي يحملها الفأس تزداد كل يوم؛ فتغدو أرقى المناظر مُقفرة، وكثيرًا ما يحدث ذلك باستهتار ووحشية يصعُب تصديقهما في أمة متحضّرة".
وكانت أمي، في أواسط القرن العشرين، قد خبرت ذلك الشعور، لكن بحدة أقل. نشأت أمي في جزيرة "لونغ بيتش"، وهي رقعة ضيّقة ومعزولة من الرمل قبالة الساحل الجنوبي لولاية نيوجرسي، حيث اكتشفت في الأهوار البكر حبها الذي لازمها مدى الحياة للبيولوجيا والبحر. ولكن في خمسينيات القرن الماضي، تسارع النمو العقاري بفعل شراء أثرياء من البر الرئيس أراضٍ على الجزيرة وبنائهم مساكن لقضاء إجازاتهم فيها. تقول أمي تعليقًا على ذلك: "أحسست فورًا بما يجري. واستشطتُ غضبًا إلى درجة أنني طفقت أقتلع العصيّ التي يستخدمها المسّاحون لترسيم الأراضي". لم يكن الغضب وحده الدافع وراء احتجاجات أمي، بل كذلك مزيج من الخوف والعجز والقلق والحزن إزاء حقيقة أن ما ميّز موطنها كان مهددًا بالزوال. واستمرت أعمال البناء، ولم تكد تمضي بضعة عقود، حتى لم يبقَ لماضي الجزيرة أثـرٌ يُرى سوى أعشاش العقبان النسارية المبنية على أعمدة الكهرباء التي وفّرت الإنارة للمنازل التي حلّت محل البراري.

لطالما حدثت تغيّرات من هذا النوع؛ فهذه هي الطبيعة الديناميكية لجنسنا -نحن البشر- التي تعيد تشكيل المناظر الطبيعية بما يتوافق مع حاجاتنا ورغباتنا. ولكن حجم التحوّلات الجذرية التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، وسرعة هذه التحوّلات، لا سابق لهما في التاريخ. فمع اقتراب مجموع سكان الأرض بسرعة من ثمانية مليارات نسمة، فإن البشر يغيّرون وجه الكوكب أكثر من أي مرحلة في التاريخ المسجّل. إذ ما زلنا نجرّد الأراضي من غاباتها، ونطلق الكربون في الجو، ونلقي بالمواد الكيميائية الصناعية في البر والبحر. ونتيجةً لذلك، فإننا نواجه اليوم عواقب مدمّرة تتمثّل في موجات
الحر، والحرائق الهائلة، وتزايد العواصف، وذوبان الأنهار الجليدية، وارتفاع مستويات البحر، وغيرها من أشكال الخراب البيئي. ويتسبب كل ذلك في اضطرابات سياسية ولوجستية ومالية. كما أنه يولّد تحدّيات وجدانية كثيرًا ما نغفَل عنها.
وحتى عهدٍ قريب، لم يكن العلماء يكرّسون كثيرًا من الوقت والمال لدراسة الطريقة التي يؤثر بها تغيّر البيئة في الصحة النفسية. وفي أكبر دراسة مدعومة بالاختبارات حتى تاريخه، نظر فريقٌ يرأسه باحثون من "معهد ماساتشوسيتس للتقنية" و"جامعة هارفارد" في تأثيرات التغيّرات المناخية في الصحة النفسية لنحو مليوني فرد من سكان الولايات المتحدة كانوا قد اختيروا عشوائيًا بين عامي 2002 و 2012. وقد اكتشف الفريق -فيما اكتشف- أن التعرّض للحرارة الشديدة والقحط ضخّم خطر الانتحار وزاد عدد الزيارات لمستشفيات الأمراض النفسية. علاوةً على ذلك، فإن ضحايا الأعاصير والفيضانات كانوا أكثر عرضة للإصابة باضطراب الكـرب التالي للصـدمة النفسـيـة، والإصابة بالاكتئاب.
وقد يحزّ في قلوب المصدومين نفسيًا جرّاء فقدانهم مشهدَهم الطبيعي، أن يعبّروا عن مشاعرهم؛ "ولا يوجد ألم أشد مضاضة من لوعة فقدان الأرضٍ، إذ تصعُب مشاركة هذه اللوعة مع الآخرين"، كما قالت لي "شانتيل كومارديل" عندما زرت مجتمعها المحلي على ساحل ولاية لويزيانا، حيث يرتفع مستوى البحر بسرعة مرعبة ويفيض على اليابسة: وُلدت كومارديل في "إيل دو جان شارل"، وهي جزيرة مضمحلّةٌ فقدت 98 بالمئة من أرضها منذ عام 1955. وفي العهد الذي عاش فيه جيل والديها، كان سكان الجزيرة (الذين هم في معظمهم من الأميركيين الأصليين) يعملون بالصيد والزراعة. أما اليوم فقد غادر كثير من العوائل الجزيرة، وتقطّعت أوصال المجتمع المحلي. تقول المرأة: "ليس الموقف كفقدان عزيزٍ ولا يشبه شيئًا يمكن لأشخاص آخرين أن يتفهّموه بسهولة".
ولكن في عصر التغيّر المناخي العالمي، ازداد عدد الذين يتفهّمون الموقف حقًا. ففي الوقت الذي أخذت فيه جزيرة "إيل دو جان شارل" تتفكك، قررت كومارديل وغيرها من الزعماء المحليين التواصل مع مجتمعات محلية تواجه تحدّيات مشابهة. تقول: "ثمة مجتمع في ألاسكا يمرّ بالظرف نفسه"، مشيرةً إلى قرية "نيوتوك" التي يسكنها بعض أبناء شعب "اليوبيك" الذين يشْكون كذلك شدّة الانخسافات وفقدانهم أراضيهم. وتستطرد كومارديل قائلة: "تمكّـنا من الجلوس معًا وتحدثنا. واكتشفنا أن الأحاسيس التي انتابتنا والعواطف التي أثيرت فينا كادت تكون واحدة؛ فكان لسان حال كل منا يقول: 'حسنًا، لست وحدي من يعيش هذا الموقف. هذا ليس شيئًا اختلقته في ذهني، بل إن ما مررت به كان حقيقيًا'".

خلال الأعوام القليلة الماضية، سافرتُ إلى أماكن عديدة، من المنطقة القطبية الشمالية إلى جبال الأنديز، حيث خضعت المناظر الطبيعية لتحول جذري هائل. ولم أُرِد بذلك التعمّق في فهم التغيّرات المادية التي تعرّضت لها الأراضي فحسب، بل وكذلك التعمّق في فهم التغيّرات التي تَـردّد صداها في حياة سكّانها. وباستثناء حفنة قليلة من الناس، لم يكن أحد ممن التقيت قد سمع بكلمة "سولاستالجيا"؛ لكن أعدادًا ضخمة منهم نفّسوا عن كربتهم بشروحاتٍ تـقضّ المضاجع.. شروحاتٍ تسعى تلك الكلمة إلى تعريفها. وهؤلاء يواجهون التحديات العملية المهولة الناجمة عن فقدان المشهد الطبيعي وكذلك العبء النفسي المعقّد الذي يخلّفه فقدان إحساسهم بالمكان في هذا العالم.
إلى الآن، لم يَـشِع استعمال كلمة "سولاستالجيا"، ويكاد استعمالها ينحصر في اللغة الإنجليزية. ويأمل آلبريشت أن تظل الكلمة على هذه الحال، إذ يقول: "هي كلمةٌ ينبغي ألا تكون موجودة أصلًا، ولكن كان لا بد من إيجادها بسبب الظروف الصعبة. وقد أصبحت الآن عالمية. وهذا شيء فظيع. لنتخلّص منها.. لنتخلّص من الظروف والقوى التي أوجدت هذه الكلمة".

غربـة فـي الوطـن

"غوين نوردغرين" تجلس لتُلتقط لها صورة عند حافة المسبح وخلفها الآثار المتفحّمة لمنزلها السابق في مدينة "بارادايس" بولاية كاليفورنيا. وقد سمحت نوردغرين للكاتب والمصوّر "بيت مولر" بأن يرافقها في رحلة العودة لتوديع منزلها هذا الذي كانت تَعُدّه "منزل...
دليل المتشائمينعندما تتغيّر الأماكن التي لطالما أحببناها، فإنّ وقع التغيّر يولّد فينا شعورًا "شبيهًا بالحنين إلى الوطن".بينما تمدّدت مناجم الفحم كالشقوق عبْر "وادي هنتر" الأسترالي، أخذ الهاتف يرنّ في مكتب "غلين آلبريشت". كان ذلك في مطلع الألفية...
دليل المتشائمين

عندما تتغيّر الأماكن التي لطالما أحببناها، فإنّ وقع التغيّر يولّد فينا شعورًا "شبيهًا بالحنين إلى الوطن".

بينما تمدّدت مناجم الفحم كالشقوق عبْر "وادي هنتر" الأسترالي، أخذ الهاتف يرنّ في مكتب "غلين آلبريشت". كان ذلك في مطلع الألفية الثالثة، وكان آلبريشت -وهو أستاذ دراسات بيئية- مهتمًا بالآثار العاطفية للتعدين في المجتمعات المحلية. فقد كانت المنطقة معروفة على مَرّ أجيال بما تضمّه من حقول برسيم حجازي، ومزارع لتربية الخيل، وعرائش عنب. ولطالما كان تعدين الفحم جزءًا من اقتصادها، لكنه شهد نموًا مفاجئًا تلبيةً للطلب العالمي المتزايد على المادّة، كما أن تقنيات الاستخراج الجديدة أثارت موجة جديدة من عمليات التعدين عبر الوادي.
ولمّا ذاع خبر اهتمام آلبريشت بالآثار العاطفية لعمليات التعدين هذه، كان السكّان البائسون توّاقين إلى بث شكواهم إليه عبر الهاتف: إذ تحدّثوا عن الانفجارات المزلزلة، والدويّ المتواصل للآليّات، والوهج غير الطبيعي للمصابيح الصناعية التي كانت تشوش على ظلمة لياليهم، والغبار الأسود الذي اجتاح المنطقة وغطّى البيوت من الداخل والخارج. كانوا قلقين بشأن الهواء الذي يستنشقون والماء الذي يشربون. وكانت مواطنهم تضيع من بين أيديهم، وشعروا بأنهم عاجزون عن وقف عجلة التدمير تلك. وقد شنّ بعض أبناء الوادي معركة قضائية في محاولة منهم لمنع المناجم من الوصول إليهم؛ ولكن كثيرين منهم كانوا يحتاجون إلى الوظائف التي وفّرتها تلك المناجم. وفي المحصلة، سادت مصالح أرباب التعدين الأثرياء، فغدا المشهد -ونصيبٌ كبير من النسيج الاجتماعي الذي عليه- مجرّد أضرار جانبية لعمليات التعدين. وبانتشار المناجم، بدأ آلبريشت يلاحظ وجود موضوع مشترك في تلك الاستجابات التي تلقّاها من بعض سكّان الوادي. إذْ كانوا جميعًا يعلمون أن المناجم هي مصدر تعاستهم؛ لكنهم وجدوا صعوبة في العثور على الكلمات المناسبة والدقيقة للتعبير عن مشاعرهم. وتعليقًا على ذلك، يقول الرجل: "كان الأمر كما لو أن شعورًا شبيهًا بالحنين إلى الوطن قد اعتراهم، علمًا أنه لم يكن أحد منهم قد غادر موطنه".
وقد خلص آلبريشت إلى استنتاجٍ مفاده أن ما كان يحدث هو أن تدهور طبيعة الوادي كان يهدد السلوان الذي كان الناس يشعرون به. وهكذا، إذ أخذت المناجم تُحيل مزيدًا من الحقول الخضراء إلى حقول رمادية، أطلق آلبريشت على الشعور الذي وصفه السكان اسـم "سولاستالجيــا" (Solastalgia)، الذي عرّف به ألم فقدان السلوان الذي يمنحه الوطن لأهله.
وبعد مضي أكثر من عشرة أعوام على ذلك، سمعتُ هذه الكلمة الغريبة أثناء مشاهدتي فيلمًا عن القحط. فسجّلتُها من دون أن أدري كيف تُكتب بالضبط. وبفضل خاصيّة "هل تقصد (كذا)؟" التصويبية لمحرّك البحث "غوغل"، اكتشفت عشرات الآلاف من نتائج البحث ذات الصلة. وتمثّلت النتائج في مقالات أكاديمية ومؤتمرات وقصص إخبارية. بل وكانت فكرة "سولاستالجيا" قد وجدت طريقها كذلك إلى عالم الفن؛ إذ عثرتُ على معرض للمنحوتات في ولاية نيوجرسي، وألبوم للأغاني الشعبية في أستراليا، وكونشترتو كلاسيكي في إستونيا.. وكانت جميعًا مستلهمة من الكلمة التي نحتها آلبريشت.
قال لي آلبريشت عندما زرته في منزله بوادي هنتر: "إنْ لم تكن اللغة غنية بما يكفي لتمكيننا من وصف هذه الأشياء وفهمها كما يجب، فعلينا أن نُوجِـد تلك الكلمة بأنفسنا؛ لِـمَ لا توجد لدينا كلمة واحدة تتوافق مع شعور إنساني؟" وبخاصة إن كان شعورًا "عميقًا وجليًا وينتاب الناس على امتداد العالم في مواقف مختلفة، ومن المرجّح أنه انتاب الناس على مرّ آلاف السنين في ظروف مشابهة". بدا السؤال وجيهًا لي. فعلى مرّ التاريخ، كانت الفيضانات والحرائق المدمرة والزلازل والبراكين، فضلًا عن الحضارات المتوسّعة والجيوش الغازية، قد غيّرت المناظر العزيزة على قلوب الناس ومزّقت المجتمعات تاركةً عليها بصماتها التي لا تُمحى. وقد عاش الأميركيون الأصليون هذه التجربة عندما غيّر الأوروبيون أميركا الشمالية تغييرًا جذريًا. وكان "ساناتا"، زعيم شعب "الكايووا"، قد قال في القرن التاسع عشر: "كانت هذه الأرض لآبائنا، ولكنْ عندما أذهب إلى النهر [نهر أركنساس]، أرى مخيّمات لجنود على ضفتيه. هؤلاء الجنود يقطعون أشجاري، ويقتلون ثيران البيسون التي أمتلك؛ وعندما أرى ذلك، يكاد قلبي ينفطر".
لقد جلبت الثورة الصناعية إلى المناظر التي اعتادها الناس تغيّرات أعمّ، وذلك بانتشار الحواضر المزدهرة والسكك الحديدية والمعامل. وإذْ كان يجري تجريد منطقة "وادي هدسون" بنيويورك من غاباتها لإفساح المجال للزراعة وإطعام العاملين في صناعة الدباغة المزدهرة، كان رسّام القرن التاسع عشر، "توماس كول"، يرثو تلك الغابات الغالية على قلبه التي تعرّضت للتدمير. إذ كان قد كتب تعليقًا على ذلك: "لا يسعني سوى أن أعبّر عن أسايَ على أن جمال هذه المناظر يزول بسرعة. إن الأهوال التي يحملها الفأس تزداد كل يوم؛ فتغدو أرقى المناظر مُقفرة، وكثيرًا ما يحدث ذلك باستهتار ووحشية يصعُب تصديقهما في أمة متحضّرة".
وكانت أمي، في أواسط القرن العشرين، قد خبرت ذلك الشعور، لكن بحدة أقل. نشأت أمي في جزيرة "لونغ بيتش"، وهي رقعة ضيّقة ومعزولة من الرمل قبالة الساحل الجنوبي لولاية نيوجرسي، حيث اكتشفت في الأهوار البكر حبها الذي لازمها مدى الحياة للبيولوجيا والبحر. ولكن في خمسينيات القرن الماضي، تسارع النمو العقاري بفعل شراء أثرياء من البر الرئيس أراضٍ على الجزيرة وبنائهم مساكن لقضاء إجازاتهم فيها. تقول أمي تعليقًا على ذلك: "أحسست فورًا بما يجري. واستشطتُ غضبًا إلى درجة أنني طفقت أقتلع العصيّ التي يستخدمها المسّاحون لترسيم الأراضي". لم يكن الغضب وحده الدافع وراء احتجاجات أمي، بل كذلك مزيج من الخوف والعجز والقلق والحزن إزاء حقيقة أن ما ميّز موطنها كان مهددًا بالزوال. واستمرت أعمال البناء، ولم تكد تمضي بضعة عقود، حتى لم يبقَ لماضي الجزيرة أثـرٌ يُرى سوى أعشاش العقبان النسارية المبنية على أعمدة الكهرباء التي وفّرت الإنارة للمنازل التي حلّت محل البراري.

لطالما حدثت تغيّرات من هذا النوع؛ فهذه هي الطبيعة الديناميكية لجنسنا -نحن البشر- التي تعيد تشكيل المناظر الطبيعية بما يتوافق مع حاجاتنا ورغباتنا. ولكن حجم التحوّلات الجذرية التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، وسرعة هذه التحوّلات، لا سابق لهما في التاريخ. فمع اقتراب مجموع سكان الأرض بسرعة من ثمانية مليارات نسمة، فإن البشر يغيّرون وجه الكوكب أكثر من أي مرحلة في التاريخ المسجّل. إذ ما زلنا نجرّد الأراضي من غاباتها، ونطلق الكربون في الجو، ونلقي بالمواد الكيميائية الصناعية في البر والبحر. ونتيجةً لذلك، فإننا نواجه اليوم عواقب مدمّرة تتمثّل في موجات
الحر، والحرائق الهائلة، وتزايد العواصف، وذوبان الأنهار الجليدية، وارتفاع مستويات البحر، وغيرها من أشكال الخراب البيئي. ويتسبب كل ذلك في اضطرابات سياسية ولوجستية ومالية. كما أنه يولّد تحدّيات وجدانية كثيرًا ما نغفَل عنها.
وحتى عهدٍ قريب، لم يكن العلماء يكرّسون كثيرًا من الوقت والمال لدراسة الطريقة التي يؤثر بها تغيّر البيئة في الصحة النفسية. وفي أكبر دراسة مدعومة بالاختبارات حتى تاريخه، نظر فريقٌ يرأسه باحثون من "معهد ماساتشوسيتس للتقنية" و"جامعة هارفارد" في تأثيرات التغيّرات المناخية في الصحة النفسية لنحو مليوني فرد من سكان الولايات المتحدة كانوا قد اختيروا عشوائيًا بين عامي 2002 و 2012. وقد اكتشف الفريق -فيما اكتشف- أن التعرّض للحرارة الشديدة والقحط ضخّم خطر الانتحار وزاد عدد الزيارات لمستشفيات الأمراض النفسية. علاوةً على ذلك، فإن ضحايا الأعاصير والفيضانات كانوا أكثر عرضة للإصابة باضطراب الكـرب التالي للصـدمة النفسـيـة، والإصابة بالاكتئاب.
وقد يحزّ في قلوب المصدومين نفسيًا جرّاء فقدانهم مشهدَهم الطبيعي، أن يعبّروا عن مشاعرهم؛ "ولا يوجد ألم أشد مضاضة من لوعة فقدان الأرضٍ، إذ تصعُب مشاركة هذه اللوعة مع الآخرين"، كما قالت لي "شانتيل كومارديل" عندما زرت مجتمعها المحلي على ساحل ولاية لويزيانا، حيث يرتفع مستوى البحر بسرعة مرعبة ويفيض على اليابسة: وُلدت كومارديل في "إيل دو جان شارل"، وهي جزيرة مضمحلّةٌ فقدت 98 بالمئة من أرضها منذ عام 1955. وفي العهد الذي عاش فيه جيل والديها، كان سكان الجزيرة (الذين هم في معظمهم من الأميركيين الأصليين) يعملون بالصيد والزراعة. أما اليوم فقد غادر كثير من العوائل الجزيرة، وتقطّعت أوصال المجتمع المحلي. تقول المرأة: "ليس الموقف كفقدان عزيزٍ ولا يشبه شيئًا يمكن لأشخاص آخرين أن يتفهّموه بسهولة".
ولكن في عصر التغيّر المناخي العالمي، ازداد عدد الذين يتفهّمون الموقف حقًا. ففي الوقت الذي أخذت فيه جزيرة "إيل دو جان شارل" تتفكك، قررت كومارديل وغيرها من الزعماء المحليين التواصل مع مجتمعات محلية تواجه تحدّيات مشابهة. تقول: "ثمة مجتمع في ألاسكا يمرّ بالظرف نفسه"، مشيرةً إلى قرية "نيوتوك" التي يسكنها بعض أبناء شعب "اليوبيك" الذين يشْكون كذلك شدّة الانخسافات وفقدانهم أراضيهم. وتستطرد كومارديل قائلة: "تمكّـنا من الجلوس معًا وتحدثنا. واكتشفنا أن الأحاسيس التي انتابتنا والعواطف التي أثيرت فينا كادت تكون واحدة؛ فكان لسان حال كل منا يقول: 'حسنًا، لست وحدي من يعيش هذا الموقف. هذا ليس شيئًا اختلقته في ذهني، بل إن ما مررت به كان حقيقيًا'".

خلال الأعوام القليلة الماضية، سافرتُ إلى أماكن عديدة، من المنطقة القطبية الشمالية إلى جبال الأنديز، حيث خضعت المناظر الطبيعية لتحول جذري هائل. ولم أُرِد بذلك التعمّق في فهم التغيّرات المادية التي تعرّضت لها الأراضي فحسب، بل وكذلك التعمّق في فهم التغيّرات التي تَـردّد صداها في حياة سكّانها. وباستثناء حفنة قليلة من الناس، لم يكن أحد ممن التقيت قد سمع بكلمة "سولاستالجيا"؛ لكن أعدادًا ضخمة منهم نفّسوا عن كربتهم بشروحاتٍ تـقضّ المضاجع.. شروحاتٍ تسعى تلك الكلمة إلى تعريفها. وهؤلاء يواجهون التحديات العملية المهولة الناجمة عن فقدان المشهد الطبيعي وكذلك العبء النفسي المعقّد الذي يخلّفه فقدان إحساسهم بالمكان في هذا العالم.
إلى الآن، لم يَـشِع استعمال كلمة "سولاستالجيا"، ويكاد استعمالها ينحصر في اللغة الإنجليزية. ويأمل آلبريشت أن تظل الكلمة على هذه الحال، إذ يقول: "هي كلمةٌ ينبغي ألا تكون موجودة أصلًا، ولكن كان لا بد من إيجادها بسبب الظروف الصعبة. وقد أصبحت الآن عالمية. وهذا شيء فظيع. لنتخلّص منها.. لنتخلّص من الظروف والقوى التي أوجدت هذه الكلمة".