أين ذهبت الحشرات؟
باتت أعداد الحشرات تتناقص بمعدلات مثيرة للقلق؛ ما يمكن أن يفضي إلى نتائج وخيمة على كوكب الأرض.لا تنفك الفراشات عن التردد على هذا المكان. في البدء جاءت بالآلاف، ثم تتالت أعدادها بعشرات الآلاف بل وحتى بمئات الآلاف. كانت أجنحتها بنية اللون في جانبها...
باتت أعداد الحشرات تتناقص بمعدلات مثيرة للقلق؛ ما يمكن أن يفضي إلى نتائج وخيمة على كوكب الأرض.
لا تنفك الفراشات عن التردد على هذا المكان. في البدء جاءت بالآلاف، ثم تتالت أعدادها بعشرات الآلاف بل وحتى بمئات الآلاف. كانت أجنحتها بنية اللون في جانبها السفلي ويعلوها لون برتقالي زاه؛ فكانت تبدو، عندما كانت تطير بالقرب مني، وكأنها قطع من أشعة الشمس. كان المشهد رائعًا ومهيبًا.. ويثير في النفس شيئًا من الحيرة والإرباك.
صادفتُ هذه السحابة المشكَّلة من فراشات "صدفة السلحفاة الكاليفورنية" في يوم صاف من أيام الصيف في سلسلة جبال "سييرا نيفادا" حيث كنت أتنزه برفقة "مات فورستر"، عالم الأحياء لدى "جامعة نيفادا"، في جبل "كاسل بيك" بشمال غرب "بحيرة تاهو". وتُعد فراشات كاسل بيك من بين أكثر مجموعات الحشرات التي تجري مراقبتها من كثب في العالم. فقد خضعت في كل صيف على مر ما يقرب من 45 عامًا لعمليات إحصاء في كل أسبوعين. وكان يتولى جمع جل البيانات مرشد فورستر، "آرت شابيرو"، المتخصص الشغوف بعلم حرشفيات الأجنحة والأستاذ لدى "جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، والذي سجل تلك المعلومات على بطاقات فهرسة.
وبعد أن قام فورستر وفريقه بحوسبة عمليات المسح وتحليلها، وجدوا أن أعداد الفراشات في كاسل بيك بدأت في التناقص منذ عام 2011. كنا نناقش الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، عندما اقتربنا من هذه القمة التي يبلغ ارتفاعها 2775 مترا، حيث أحاط بنا سديم ذو لون برتقالي.
قال فورستر: "إن فكرة معاناة الحشرات تبدو صادمة للناس، وهو أمر أتفهمه". ثم أشار إلى الفراشات التي كانت تتدافع أمامنا بغزارة، قبل أن يمضي قائلا: "تبدو الحشرات على هذا النحو [من الغزارة]؛ لذلك يبدو الأمر صادمًا".
ويُقال إننا نعيش في "عصر الإنسان" (الأنثروبوسين)، وهو الحقبة التي تقترن بالتأثير البشري في الأرض. ومع ذلك فإن الحشرات، وفق مقاييس عديدة، هي التي تهيمن على العالم. ففي كل الأوقات، يقدر عدد الحشرات التي تطير أو تدب أو تحوم أو تمشي أو تختبئ في الجحور أو تسبح بـ 10 كوينتيليون. أما من حيث التنوع، فإن الأرقام تظل مثيرة للإعجاب أيضا؛ إذ تمثل الحشرات ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحيوانات المختلفة. فهي تسهم في الحفاظ على العالم كما نعلم: فمعظم النباتات المزهرة، بدءًا من زهور "البليس" المعمّرة إلى أشجار "القرانيا"، ستتعرض للنفوق والانقراض في غياب الحشرات التي تتولى تلقيحها.
وإذا حدث أن اختفت البشرية فجأة، كما قال عالم الأحياء "إدوارد ويلسون"، فإن العالم "سيعود مجددا إلى حالة التوازن الغنية التي كان عليها قبل عشرة آلاف عام". أما "إذا اختفت الحشرات، فإن البيئة ستنهار وتسقط في فوضى عارمة". لذلك، فإن من المريع والمثير للقلق أن العلماء وجدوا في معظم الأماكن التي بحثوا فيها مؤخرا أن أعداد الحشرات آخذة في التناقص، كما هو الحال في المناطق الزراعية وفي الأماكن البرية مثل كاسل بيك. ومن المحتمل أن يحدث الأمر نفسه في الفناء الخلفي لبيتك.
وتقوم "جمعية كريفيلد لعلم الحشرات" في مدينة كريفيلد الألمانية، غير بعيد عن الحدود الهولندية، بتخزين مجموعاتها من الحشرات داخل مدرسة صغيرة سابقة. فالفصول التي اعتاد الأطفال التململ فيها خلال حصصهم الدراسية أضحت تؤوي حاليًا صناديق مليئة بالقوارير التي مُلئت بدورها بكتل من الحشرات النافقة العائمة في سائل "الإيثانول". ولو جاز لنا أن نحدد نقطةً لمنطلق القلق المتفجر بشأن انخفاض أعداد الحشرات، لكان مبنى المدرسة هو هذه النقطة.
أخبــرني "مارتــن ســورغ"، القيِّم عــلى المجموعة، قائــلًا: "لا نحــصي القواريــر، لأن العدد يتغير كل أسبوع"؛ إذ توجد "عشرات الآلاف"، وفق تقديراته. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شرع سورغ وزملاؤه في البحث في أحوال الحشرات بمختلف أنواع المناطق المحمية في ألمانيا. ومن أجل الوصول إلى فهم واضح لهذه المسألة، قاموا بنصب ما يُعرف باسم "مصائد الإزعاج" التي تبدو مثل الخيام الصغيرة المائلة. والتقطت هذه المصائد كل الحشرات التي دخلت إليها طائرةً، بما في ذلك الذباب والدبابير والعث والنحل والفراشات وأسد المن. وانتهى المآل بكل ما علق في المصيدة بإحدى القوارير.
تواصلت عملية الجمع أكثر من 20 عامًا، في مكان واحد في بادئ الأمر، ثم في موقع آخر يضم 63 منطقة محمية يوجد معظمها في ولاية "شمال الراين-وستفاليا" حيث توجد مدينة كريفيلد. وفي عام 2013، عاد علماء الحشرات هؤلاء إلى موقعين كانوا قد أخذوا منهما عينات أول مرة في عام 1989؛ فكانت كتلة الحشرات التي وقعت في الشرك لا تشكل إلا جزءا بسيطا مما كانت عليه قبل 24 عامًا. ثم عاود العلماء أخذ عينات من هذين الموقعين مرة أخرى عام 2014 وشرعوا في إعادة جمع عينات من أكثر من اثني عشر موقعا آخر. وحيثما جمعوا العينات، كانت النتائج متطابقة. ولتفسير النتائج، استعانت الجمعية بعدد آخر من علماء الحشرات وخبراء الإحصاء الذين تجشموا عناء تمحيص البيانات. وأكد تحليلهم تراجع الكتلة الحيوية للحشرات الطائرة في المناطق المحمية بألمانيا من عام 1989 إلى عام 2016، بنسبة هائلة بلغت 76 بالمئة.
وتصدرت هذه النتيجة التي نُشرت في المجلة العلمية (PLOS One) عناوين الأخبـار في جمـيع أنحـاء العـالم. إذ حـذرت صـحيفة "الغارديان" من وقوع "نهاية عالم إيكولوجية"، وصحيفة "نيويورك تايمز" من "نهاية عالم الحشرات". أما صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، فقد صرحت "بأننا نجد أنفسنا وسط كابوس". ووفقًا لموقع "ألتمتريك" (altmetric.com) -الذي يرصد عدد المرات التي تُذكر فيها الأبحاث المنشورة على الإنترنت- كانت هذه الدراسة سادس بحث علمي يحظى بأكبر قدر من المناقشة في عام 2017. وقد تلقّت جمعية كريفيلد -التي كانت غير معروفة في السابق- سيلًا من الطلبات العلمية والإعلامية، ولا تزال تتقاطر عليها الطلبات حتى يومنا هذا؛ إذ يقول سورغ متنهدًا: "لا نهاية لهذا الأمر".
وقد دأب علماء الحشرات في جميع أنحاء العالم منذ نشر نتائج البحث على تمحيص السجلات والمجموعات. ويدفع بعض العلماء بانعدام الموضوعية في البحث المنشور؛ إذ يقولون إن الدراسة التي تُظهر تغيرات هائلة، تحظى بحظ أوفر للنشر مقارنة مع دراسة لا تفعل ذلك. ومع ذلك، نبهت النتائج إلى بعض الحقائق. فقد وجد الباحثون العاملون في غابة محمية في "نيو هامبشاير" الأميركية أن عدد الخنافس هناك قد انخفض بأكثر من 80 بالمئة منذ منتصف السبعينيات، فيما تناقص تنوعها (أي عدد الأنواع المختلفة) بنسبة 40 بالمئة تقريبا.
ووجدت إحدى الدراسات التي أجريت على الفراشات في هولندا أن أعدادها قد انخفضت بنحو 85 بالمئة منذ نهاية القرن التاسع عشر، فيما وجدت دراسة أخرى عن ذباب "مايو" في الجزء الشمالي من وسط غرب الولايات المتحدة، أن أعداده تراجعت بأكثر من النصف منذ عام 2012. وفي ألمانيا، أكد فريق ثان من الباحثين جوهر النتائج التي توصلت إليها جمعية كريفيلد. إذ وجد هذا الفريق أن عدد أنواع الحشرات في مراعي البلد وغاباته (تم أخذ عينات منها بشكل متكرر في مئات المواقع في ثلاث مناطق محمية متباعدة على نطاق واسع) قد انخفض من عام 2008 إلى عام 2017 بأكثر من 30 بالمئة. "إنه لأمر مرعب"، لكنه "يتناسب مع الصورة المقدَّمة في عدد متزايد من الدراسات"، يقول "وولفغانغ فيسر"، أحد هؤلاء الباحثين ويعمل أستاذًا في "جامعة ميونيخ التقنية".
قد يبتهج الناس لرؤية الفراشات ويكرهون منظر البعوض، لكننا نتجاهل معظم الحشرات في غالب الأحيان. ويكشف هذا الأمر أشياء كثيرة عن المخلوق ذي القدمين (الإنسان) أكثر من المخلوقات ذوات الست أقدام (الحشرات).
وتعد الحشرات إلى حد كبير، الكائنات الأكثر تنوعا على هذا الكوكب؛ حتى إن العلماء لا يزالون يعملون بجد للاستدلال على عدد الأنواع الموجودة. فقد سُمّي نحو مليون نوع من الحشرات، لكن من المتفق عليه عمومًا أنه لم يُستدَل بعدُ على العديد من الأنواع الأخرى (تشير التقديرات الأخيرة إلى نحو أربعة ملايين نوع آخر). ففصيلة واحدة من فصائل الزنابير الطفيلية، وهي "النمسيات" التي تسمى أحيانا "زنابير داروين"، تضم نحو 100 ألف نوع، وهو عدد أكبر من عدد كل الأنواع المعروفة من الأسماك والزواحف والثدييات والبرمائيات والطيور مجتمعة. وتتسم فصائل أخرى من الحشرات بالغزارة أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن يكون ثمة 60 ألف نوع من الفصيلة السوسية الحقيقية والمعروفة باسم "السوسينات".
توجد الحشرات، بحكم تنوعها الهائل، في جل أنواع الموائل الأرضية، بما في ذلك الموائل الأكثر قسوة. فقد سُجل وجود لذباب "الحجر" في جبال الهيمالايا على ارتفاع 5600 متر؛ وحشرات "السمك الفضي" في الكهوف على عمق يتجاوز 900 متر تحت سطح الأرض. ويعيش الذباب "القلوي" في ينابيع "يلوستون" الحارة قرب حواف برك الماء الساخن الحارقة بالولايات المتحدة؛ فيما تتحمل "القمعة معدومة الأجنحة" أجواء البرد بتغشية بيوضها بنوع من الهلام المضاد للتجمد. ولأحد أنواع الذباب المعروف باسم "الهاموشيات" ويستوطن المناطق شبه القاحلة في إفريقيا، يرقات يتقلص حجمها إلى رقائق يابسة في أوقات الجفاف الشديد، إذ تدخل مرحلة من الحياة المتوقفة قبل أن تستعيد حيويتها الطبيعية بعد أكثر من 15 عامًا.
فما الذي يفسر التنوع الهائل للحشرات؟ قُدمت تفسيرات عديدة في هذا الاتجاه، أبسطها قِدم استيطان الحشرات للأرض. فقد كانت من أوائل الحيوانات التي استعمرت الأرض قبل أكثر من 400 مليون عام، أي قبل ظهور الديناصورات الأولى بما يقرب من 200 مليون عام. وقد أتاح هذا التاريخ الممتد للحشرات مراكمة قدر كبير من التنوع مع مرور الوقت. لكن عاملا آخر محتملا قد يفسر أيضا هذا التنوع؛ وهو القدرة على استيطان العديد من البيئات المختلفة. فالحشرات صغيرة بما يمكن لشجرة واحدة أن تكون موطنا لمئات الأنواع منها؛ فيقرض بعضها اللحاء، وقسم آخر يشق طريقه داخل الأوراق، وبعض آخر يتغذى على الجذور. ويتيح هذا النوع من "تقسيم الموارد"، كما يسميه علماء البيئة، للعديد من أنواع الحشرات استيطان المساحة نفسها تقريبا.
ثم هناك حقيقة أخرى مفادها أن الحشرات شهدت، على الأقل تاريخيا، معدلات انقراض منخفضة. فقبل بضعة أعوام، فـحـص باحثـون السجـلَّ الأحفـوري لأكبـر رتيـبة للخـنافـس: الخنافس النهمة، وهي مجموعة تشمل الجعلان، والدودة السلكية، واليراعات. ووجدوا أنه لم تنقرض أي فصيلة في هذه المجموعة طوال تاريخها التطوري بأكمله، حتى خلال الانقراض الجماعي في نهاية العصر الطباشيري، قبل 66 مليون عام. ويجعل هذا الاستنتاج حالات التناقص المسجلة حديثا تبدو منذرة بعواقب أشد خطورة.
في كل فصل خريف، يلتقي آلاف الباحثين في الاجتماع السنوي لـ "جمعية علم الحشرات الأميركية". فقد عُقد اجتماع الخريف الماضي بمدينة سانت لويس، وكانت الجلسة التي حظيت بأكبر عدد من الحاضرين في موضوع: "تراجع أعداد الحشرات خلال عصر الأنثروبوسين". وتعاقب المتحدثون في الاجتماع على تقديم الأدلة المحزنة. فقد تطرق سورغ لعمل مجموعة كريفيلد؛ وناقش فورستر انخفاض أعداد الفراشات في سييرا نيفادا. وعرض "توكي توماس هوي"، الباحث لدى "جامعة آرهوس الدنماركية"، تسلسلا زمنيا لانخفاض أعداد الذباب الذي يتردد على الزهور في شمال شرق غرينلاند؛ وتحدثت "ماي بيرينباوم"، عالمة الحشرات في "جامعة إلينوي"، عن "أزمة الملقّحات العالمية". وكان "ديفـيد فاغنـر"، عالم الحشـرات لـدى "جامعة كونيكتيكت"، قد تولى تنظيم الجلسة. وعندما جاء دوره في الحديث، أشار إلى "معضلة" محيرة. إذ ذكر أنه وإن كان ثمة إجماع للمتحدثين على أن الحشرات تعيش محنة، فإن التوافق بشأن أسبابها على وجه التحديد لم يحصل. فبعضهم نحا باللوم على تغير المناخ، وبعضهم على الممارسات الزراعية أو تعديات أخرى على موائل الحشرات. ولاحظ أنه "من الرائع أن علماء كثيرين ينظرون في هذه المشكلة، لكنهم ليسوا متأكدين بشأن المسببات".
وبعد أسابيع قليلة على تلك الجلسة، قابلتُ فاغنر في "المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي" بنيويورك. يضم هذا المتحف إحدى أكبر المجموعات الشاملة للحشرات في العالم: صفوف من الخزائن المعدنية المليئة بملايين العينات المعلقة. فتح فاغنر بشكل عشوائي خزانة نحل طنان حيث كان يرقد في أحد الأدراج عدد من نحل "بومبوس دالبومي" الطنان (Bombus dahlbomii)، الذي يعد من بين أكبر أنواع النحل في العالم وكان ينتشر في جل أنحاء تشيلي والأرجنتين، لكن أعداده تناقصت كثيرا خلال الأعوام الأخيرة. ومُلئ درج آخر بالنحل الطنان من نوع (Bombus affinis) الذي يتميز برقعة حمراء على ظهره. ويستوطن هذا النوع وسط غرب الولايات المتحدة وشمالها الشرقي، وكان ينتشر بأعداد كبيرة، قبل أن يتناقص كثيرا حتى بات يُدرج حاليا ضمن الأنواع المهددة بالانقراض. يقول فاغنر: "لم يعد أي وجود لهذا النوع". وأوضح أن نوعا آخر من النحل الطنان، وهو النحل "الغجري"، يعيش عن طريق مهاجمة أعشاش أنواع أخرى من النحل الطنان، بما في ذلك النحل الطنان "ذو الرقعة الحمراء"، فيلتهم يرقاتها ويضع يرقاته مكانها. ويضيف فاغنر قائلا: "هذا النحل ماض أيضا إلى الزوال".
سألت فاغنر عن الأسباب التي أدت حسب رأيه إلى تناقص أعداد الحشرات، فقال إن الجواب ظل إلى حد ما بديهيًا: "نتوقع أن ينخفض العدد مع وجود سبعة مليارات شخص على هذا الكوكب". فالناس، في خضم عملية تغذيتهم وملبسهم وإسكانهم ونقلهم، ماضون نحو تغيير الكوكب بصورة جوهرية؛ ومن جملة ما يقترفون: قطع الغابات، وحرث المراعي، واعتماد زراعات المحصول الواحد، ونشر الملوثات في الهواء. ويشكل كل عامل من هذه العوامل ضغطا على الحشرات والحيوانات الأخرى. ومن ثم تتناقص أعداد جل مجموعات الحيوانات. يقول فاغنر: "نحن نعلم أننا نعيش أزمة تنوع بيولوجي".
أما الأمر المحير فهو معدل فقدان الحشرات الذي ورد في الدراسات الحديثة. فالنتائج كتلك الصادرة عن جمعية كريفيلد تشير إلى أن أعداد الحشرات تتناقص بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة تناقص مجموعات الحيوانات الأخرى. فما السبب؟ مبيدات الحشرات هي أحد الأسباب المحتملة؛ فعلى الرغم من أن المواد الكيميائية المكوِّنة لهذه المبيدات تستهدف أنواع "الآفات"، فإنها لا تميز بين الحشرات التي تضر بالمحاصيل وتلك التي تلقحها (بل حتى المناطق المحمية في ألمانيا يمكن أن تتأثر بمبيدات الآفات ما دام العديد من هذه المناطق يتاخم الأراضي الزراعية). لكن في بعض الأماكن التي أُبلغ فيها عن انخفاض حاد في أعداد الحشرات (كسلسلة "جبال وايت" في ولاية نيو هامبشاير، على سبيل المثال)، فإن المبيدات تُستخدم على نطاق محدود للغاية. وهنا مكمن المعضلة. يقول فاغنر: "إن المسألة المطروحة الآن هي معرفة مدى الخطورة التي تواجهها الحشرات أكثر من غيرها من الأنواع الأخرى. وهي مسألة عاجلة ملحّة". ويضيف قائلا: "أعتقـد أنها المرة الأولى الـتي بات النـاس يشعرون فيها بالقلق بشأن خدمات النظم البيئية وكل الأمور التي تقوم بها الحشرات للحفاظ على كوكب الأرض".
وتُسدي الحشرات، تبعًا لتنوعها الهائل، عددًا لا يحصى من الأعمال التي لا يحظى العديد منها بالإشادة. فما يقرب من ثلاثة أرباع النباتات المزهرة تعتمد على الحشرات الملقحة (النحل والنحل الطنان بوجه خاص، بالإضافة إلى الفراشات والدبابير والخنافس). ويحتاج جل محاصيل الفاكهة، من التفاح إلى البطيخ، إلى الحشرات الملقِّحة. والحشرات هي أيضًا ناشرة رئيسة للبذور. فالعديد من النباتات تزود بذورها ببعض الزوائد الصغيرة المليئة بالدهون وغيرها من المكونات المغذية. ويقتلع النمل البذرة ولا يأكل منها سوى الزائدة ويترك الباقي لينبت. وتوفر الحشرات بدورها الغذاءَ لأسماك المياه العذبة وجل أنواع الحيوانات البرية. وتشمل الزواحف الحاشرة (أي التي تتغذى على الحشرات) الوزغات والعظــاءات والسقنقورات؛ ويعد آكلو النمـل وزبابيات الشجـر من الثدييات الحاشرة. وتشمل الطيور التي تتغذى بصورة أساسية على الحشرات، السنونو والهازجة ونقار الخشب والنمنمة. وحتى الطيور التي تصبح من القوارت عند بلوغها سن النضج، غالبا ما تعتمد على الحشرات عندما تكون صغيرة. فطيور "قرقف كارولينا"، على سبيل المثال، لا تطعم صيصانها إلا اليرقات. (تحتاج فراخ عش واحد أكثر من 5000 يرقة لينمو ريشها). وقد وجدت دراسة حديثة عن طيور أميركا الشمالية أن أعدادها تشهد انخفاضًا حادا؛ بنسبة الثلث تقريبا منذ عام 1970. وكانت الأنواع التي يحتوي نظامها الغذائي على قدر كبير من الحشرات من بين أكثر الأنواع تضررًا. وتعد الحشرات أيضا من المحلِّلات الرئيسة؛ إذ تحافظ على دوران عجلة الحياة. فخنافس الروث تساعد على إعادة العناصر الغذائية إلى التربة عن طريق تناول البراز. ويقوم النمل الأبيض بالأمر نفسه عن طريق اقتياته على الخشب. فمن دون الحشرات، ستبدأ المواد العضوية الميتة -بما في ذلك الجثث البشرية- في التراكم. ويمكن للذباب "الأزرق" في ظل ظروف ملائمة أن يلتهم 60 بالمئة من جثة بشرية في غضون أسبوع واحد.
يَصعب تحديد القيمة المالية لكل هذا العمل، لكن عالمين من علماء الحشرات حاولا القيام بذلك في عام 2006. فقد بحثا في أربع فئات من "خدمات الحشرات" (وهي طمر الروث، ومكافحة الآفات، والتلقيح، وتغذية الحياة البرية)، وتوصلا إلى رقم 57 مليار دولار سنويا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحدها.
لا تبعد "محطة لاسيلفا للأبحاث" عن شمال "سان خوسيه"، عاصمة كوستاريكا، إلا 55 كيلومترا، لكن الوصول إليها يتطلب قطع مسافة ساعتين بالسيارة عبر ممر جبلي شديد الانحدار تتخلله منعطفات حادة. وكان من بين أماكن الجذب الليلية في المحطة، جناح صغير مجهز بملاءة بيضاء وضوء أسود لجذب الحشرات. فكانت حشرات عديدة تتجمع على الملاءة؛ فيُمضي زوار المحطة سحابة ليلهم في مشاهدتها حتى طلوع الفجر. لكن هذا العرض أضحى على مدار العقدين الماضيين أقل إثارة؛ فلم تعد تتوفر فيه مقومات الفرجة. فقد أسفرت رحلتان إلى هذا الجناح في ليلتين من ليالي شهر يناير الماضي سادت فيهما أجواء حارة مشبعة بالرطوبة، عن معاينة الحصيلة التالية: ثلاثًا من العثّ، وسوسة واحدة، وفاسياء واحدة، وبعض الحوام.
يقول "لي داير"، عالِم البيئة لدى "جامعة نيفادا"، عن الجناح: "عندما جئت إلى هذا المكان أول مرة، كان بالفعل نقطة جذب. أما الآن، فلا يُرى أي أثر للحشرات؛ ربما هناك واحدة أو اثنتان". ويعمل داير في محطة لاسيلفا منذ عام 1991. ويركز في أبحاثه على التفاعل بين الحشرات والنباتات المضيّفة لها، والتفاعل فيما بين الحشرات. وتعتمد حشرات عديدة في عيشها على الحشرات الأخرى. فمعظم الزنابير الطفيلية، على سبيل المثال، تضع بيوضها في أجسام اليساريع، باستخدام مضيفاتها مخازنَ مؤونة حية: إذ تلتهم يرقات الزنابير اليساريع تدريجيا من الداخل. وتضع حشرات أخرى تُعرف باسم "الطفيليات الفوقية" بيوضها داخل أجسام أشباه الطفيليات أو عليها، بل إن بعض الحشرات يتطفل على الطفيليات الفوقية. ودرج داير على الاستعانة بالطلاب والمتطوعين في جمع اليساريع في محطة لاسيلفا وتربيتها لمعرفة ما سيخرج منها (عث في بعض الحالات، وأشباه طفيليات في حالات أخرى). ولم يبادر داير، على غرار أعضاء جمعية كريفيلد، إلى البحث عن أدلة على انخفاض أعداد الحشرات، بل هي التي بحثت عنه. فقد قامت إحدى طالباته في الدراسات العليا، واسمها "دانييل سالسيدو"، مؤخرًا بفحص البيانات التي جُمعت على مدى عقدين من الزمان، ووجدت أن تنوع اليساريع في لاسيلفا قد تناقص منذ عام 1997 بنسبة 40 بالمئة تقريبا. وتراجع تنوع أشباه الطفيليات بأكثر من ذلك؛ أي نحو 55 بالمئة.
وتساعد أشباه الطفيليات في السيطرة على العديد من اليساريع التي تأكل المحاصيل. فإذا سُجل انخفاض في أعداد أشباه الطفيليات، فمن الممكن أن تزداد الخسائر الزراعية (إذ وجدت سالسيدو أن بعض مجموعات اليساريع المهيَّأة لارتفاع كبير في عددها كانت آخذة في التزايد حتى مع تراجع عدد اليساريع). ويؤشر فقدان أشكال التفاعل بين اليساريع وأشباه الطفيليات أيضا إلى احتمال انهيار سلاسل غذائية بأكملها، قبل أن يحظى البشر في كثير من الحالات بفرصة اكتشافها. قال داير: "كنت متخصصًا في الأدب الإنجليزي. وهذه الأنواع من أشكال التفاعل، وهذه القصص شبيهة بالقصائد". فعندما يضيع كثير منها، "فإن الأمر أشبه ما يكون بحرق مكتبة". وترد معظم البيانات طويلة الأجل حول الحشرات من المنطقة المعتدلة (أي أوروبا أو الولايات المتحدة). لكن ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحشرات يعيش في المناطق المدارية، وهو ما قد يجعل نتائج داير وسالسيدو محمَّلة بدلالات على جانب كبير من الأهمية. فعلى الرغم من أن المناطق الزراعية تحيط بمحطة لاسيلفا -مع ما يجلبه ذلك من مشكلات كانقسام الموائل واستخدام مبيدات الآفات- فإن داير يرى أن تغير المناخ هو أحد العوامل الرئيسة لتراجع أعداد الحشرات. ويشير على وجه الخصوص إلى تزايد عدد الظواهر المناخية الحادة، كالفيضانات. ويقول إن أنواعا كثيرة من الحشرات "معرضة بقدر كبير للظروف المناخية الشديدة، لاسيما في المناطق الاستوائية. فهي لا تتأقلم مع التقلبات الكبيرة".
"دان جانزن" و"ويني هالواكس" عالمان من علماء البيئة الاستوائية لدى "جامعة بنسلفانيا". ويمضيان جزءًا من العام في فيلادلفيا وجزءا آخر في شمال مدينة ليبيريا في غرب كوستاريكا، داخل منزل يتقاسمانه مع أي كائن من الحياة البرية يستقر فيه، بما في ذلك العناكب "السوطية" وخفافيش "الرحيق". وعندما وصل أحد الزوار من لاسيلفا، أشارت هالواكس إلى صرصار بطول سبعة سنتيمترات تحت الحوض. وقال جانزن وهو يشير إلى كومة صغيرة من الورق المقطع في إحدى خزائن الكتب: "أقول للناس إن الكتب لا تعدو أن تكون طعامًا للنمل الأبيض". وتختلف المناظر الطبيعية المحيطة بالمكان اختلافًا تاما عن لاسيلفا (حيث توجد الغابات الاستوائية الجافة، وفي أعلى الجبل غابات السحاب بدلًا من الغابات المطرية المنخفضة). لكن في هذا المكان أيضا سجل جانزن وهالواكس انخفاضا هائلا في عدد الحشرات. وتذكر هالواكس أنه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما حصلا على أحد أوائل الحواسيب الشخصية، كان الضوء المنبعث من الشاشة يجذب في الليل حشرات كثيرة أجبرتهما على نصب خيمة في المنزل والعمل داخلها. ويقول جانزن: "لقد بلغ الحال بي حاليًا إلى وضع كل حشرة تمر بمكتبي في الليل داخل أنبوب بلاستيكي صغير به كحول". وكان جانزن قد عاد إلى كوستاريكا مدة أسبوعين ولم يجمع إلا تسع حشرات.
ويعزو جانزن وهالواكس أيضا انخفاض أعداد الحشرات في جزء كبير منه إلى تغير المناخ؛ إذ قال جانزن -الذي يبلغ من العمر 81 عامًا- إن الفصل الجاف كان يدوم، عندما جاء أول مرة إلى كوستاريكا في عام 1963، أربعة أشهر. ومضى قائلا: "يمتد الفصل الجاف اليوم ستة أشهر، لذلك فإن كل هذه الحشرات التي تنتظم حياتها وفق فصل جاف يستمر أربعة أشهر تواجه الآن آثار شهرين إضافيين. فينفد غذاؤها، وتنفد الإشارات الفصلية التي تتبعها في دورات حياتها، وينهار كل شيء".
فما الذي يمكن فعله لعكس مسار هذه الاتجاهات المنذرة بالسوء؟ يتوقف ذلك بالطبع، عند مستوى معين، على العوامل التي تحركها. فإذا كان محركها هو تغير المناخ في المقام الأول، فيبدو أن اتخاذ تدابير على الصعيد العالمي من أجل خفض الانبعاثات هو الكفيل وحده بإحداث تغيير في هذا الوضع. أما إذا كانت مبيدات الآفات أو فقدان الموائل هو السبب الرئيس، فربما يكون للعمل على النطاق الإقليمي أو المحلي تأثير كبير. وقد قام "الاتحاد الأوروبي"، في سعي منه لحماية الملقِّحات، بحظر معظم مبيدات الآفات التي تحتوي على مركبات "النيونيكوتينويد" والتي قرنتها العديد من الدراسات بتناقص أعداد الحشرات والطيور. فخلال الخريف الماضي، اعتمدت الحكومة الألمانية "برنامج عمل لحماية الحشرات" يدعو إلى إصلاح موائل الحشرات، وحظر استخدام المبيدات في مناطق معينة، والتخلص التدريجي من "الجليفوسات"، وهو مبيد أعشاب ضارة يستخدم على نطاق واسع (إذ من الممكن أن يتسبب الجليفوسات في القضاء على النباتات الرئيسة التي تعتمد عليها الحشرات، وتشير الأبحاث إلى احتمال تعطيله أيضا لنُظُمها المناعية). كما جاء في برنامج العمل، "أننا لا نستطيع الاستغناء عن الحشرات".
وفي الآونة الأخيرة، اقترحت مجموعة مؤلفة من أكثر من 50 عالما من مختلف أنحاء العالم "خريطة طريق" للحفاظ على الحشرات. وأوصت "باتخاذ خطوات صارمة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري"، وتخصيص مزيد من المناطق الطبيعية ملاذات آمنة للحشرات، وفرض ضوابط أكثر صرامة على الأنواع الغريبة (كانت أعداد نحل وافدة من أوروبا هي السبب في تناقص أعداد نحل "بومبوس دالبومي" الطنان في أميركا الجنوبية، وربما النحل الطنان ذي الرقعة الحمراء في أميركا الشمالية). كما دعت المجموعة إلى الحد من استخدام مبيدات الآفات والأسمدة الصناعية. ويقول فاغنر، الذي كان أحد أعضاء هذه المجموعة: "يمكننا القيام بكثير من الممارسات الجيدة، وذلك بصرف النظر عن مآل هذه القضية. وليَتَصدر قائمة تلك الممارسات كل ما له علاقة بالمناخ. وإذا استطعنا الرجوع باستخدام مبيدات الآفات إلى أغراض التشذيب والتجميل التي كانت مقصورة عليها في السابق، كاستخدامها مثلا في صيانة العشب، فإن ذلك سيعود بالنفع على كوكبنا".
من بين المنظمات القليلة في العالم التي تكرس نشاطها لحفظ اللافقاريات، "جمعية زيرسيس" التي يوجد مقرها في بورتلاند بولاية أوريغون (سُمّيت هذه الجمعية على اسم فراشة "زيرسيس الزرقاء" التي كانت تستوطن شبه جزيرة سان فرنسيسكو وانقرضت في أربعينيات القرن الماضي بسبب النمو العمراني). في أحد الأيام التي تلت تَسلُّقي جبل كاسل بيك بوقت قصير، ذهبت برفقة مدير الجمعية، "سكوت بلاك"، لزيارة بعض مشروعاتها التعاونية في سنترال فالي بولاية كاليفورنيا. وبينما كان بلاك يقود سيارته، تذكر إحدى أولى معشوقاته: سيارة "موستانغ" كان قد اشتراها في أيام مراهقته في نبراسكا عام 1979. كان عليه أن يغسلها باستمرار إذ كان يجد عليها حشرات نافقة. أما الآن -على حد قوله- فنادرًا ما يتعين عليه أن يزيل الحشرات النافقة من على سيارته. وقد لوحظت هذه الظاهرة على نطاق واسع إلى درجة أنها أصبحت تُعرف باسم "ظاهرة الزجاج الأمامي".
كانت السيارة تذرع كيلومترات من الحقول المزروعة على نحو متناسق. هز بلاك رأسه. ففي السابق، كانت المزارع في الوادي محفوفة برقع مليئة بالأعشاب الضارة التي كانت الحشرات تلجأ إليها. أما اليوم، فإن الناس -على حد قوله- يميلون إلى زرعها من جانب الطريق إلى الجانب الآخر؛ إذ يقول: "ما أراه هو نقص في الموائل". وصلنا في نهاية المطاف إلى "مزرعة بيكسلر" في بلدة ستوكتون. كانت محاصيل اللوز والتوت الأزرق تمتد على مساحة 520 هكتارًا، وكان مالكوها قد قرروا قبل أعوام قليلة العمل مع جمعية زيرسيس لزرع سياجات من الأشجار والنباتات واستعادة بعض الموائل الأصلية التي فُقدت على مدى نصف قرن من الزراعة المكثفة المتنامية. فقد زُرع أحد السياجات في خندق ري قديم وامتد مسافة تفوق الكيلومتر. وعلى طول هذه المسافة، كانت الشجيرات الطويلة، مثل ورد "وودز" والبلسان البري، تتناوب مع الشجيرات الصغيرة كالمريمية البيضاء والنبات الغربي. كانت أجواء ذلك اليوم من أيام نهاية الصيف مثقلة بالحر والغبار، وكان الظمأ باديًا على جل النباتات. ومع ذلك، كانت تضج بطنين النحل "القارض" ونحل "العرق". هنالك قال بلاك: "لدينا بيانات كثيرة تُظهر أنه عند توافر الموائل، فإن الحشرات ستأتي".
وتابع قائلا: "إن النباتات والحشرات هي نسيج هذا الكوكب. ونحن نمزق هذا النسيج إلى أشلاء. لذا ينبغي لنا رتقه وضم بعضه إلى بعض من جديد".
لا تنفك الفراشات عن التردد على هذا المكان. في البدء جاءت بالآلاف، ثم تتالت أعدادها بعشرات الآلاف بل وحتى بمئات الآلاف. كانت أجنحتها بنية اللون في جانبها السفلي ويعلوها لون برتقالي زاه؛ فكانت تبدو، عندما كانت تطير بالقرب مني، وكأنها قطع من أشعة الشمس. كان المشهد رائعًا ومهيبًا.. ويثير في النفس شيئًا من الحيرة والإرباك.
صادفتُ هذه السحابة المشكَّلة من فراشات "صدفة السلحفاة الكاليفورنية" في يوم صاف من أيام الصيف في سلسلة جبال "سييرا نيفادا" حيث كنت أتنزه برفقة "مات فورستر"، عالم الأحياء لدى "جامعة نيفادا"، في جبل "كاسل بيك" بشمال غرب "بحيرة تاهو". وتُعد فراشات كاسل بيك من بين أكثر مجموعات الحشرات التي تجري مراقبتها من كثب في العالم. فقد خضعت في كل صيف على مر ما يقرب من 45 عامًا لعمليات إحصاء في كل أسبوعين. وكان يتولى جمع جل البيانات مرشد فورستر، "آرت شابيرو"، المتخصص الشغوف بعلم حرشفيات الأجنحة والأستاذ لدى "جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، والذي سجل تلك المعلومات على بطاقات فهرسة.
وبعد أن قام فورستر وفريقه بحوسبة عمليات المسح وتحليلها، وجدوا أن أعداد الفراشات في كاسل بيك بدأت في التناقص منذ عام 2011. كنا نناقش الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، عندما اقتربنا من هذه القمة التي يبلغ ارتفاعها 2775 مترا، حيث أحاط بنا سديم ذو لون برتقالي.
قال فورستر: "إن فكرة معاناة الحشرات تبدو صادمة للناس، وهو أمر أتفهمه". ثم أشار إلى الفراشات التي كانت تتدافع أمامنا بغزارة، قبل أن يمضي قائلا: "تبدو الحشرات على هذا النحو [من الغزارة]؛ لذلك يبدو الأمر صادمًا".
ويُقال إننا نعيش في "عصر الإنسان" (الأنثروبوسين)، وهو الحقبة التي تقترن بالتأثير البشري في الأرض. ومع ذلك فإن الحشرات، وفق مقاييس عديدة، هي التي تهيمن على العالم. ففي كل الأوقات، يقدر عدد الحشرات التي تطير أو تدب أو تحوم أو تمشي أو تختبئ في الجحور أو تسبح بـ 10 كوينتيليون. أما من حيث التنوع، فإن الأرقام تظل مثيرة للإعجاب أيضا؛ إذ تمثل الحشرات ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحيوانات المختلفة. فهي تسهم في الحفاظ على العالم كما نعلم: فمعظم النباتات المزهرة، بدءًا من زهور "البليس" المعمّرة إلى أشجار "القرانيا"، ستتعرض للنفوق والانقراض في غياب الحشرات التي تتولى تلقيحها.
وإذا حدث أن اختفت البشرية فجأة، كما قال عالم الأحياء "إدوارد ويلسون"، فإن العالم "سيعود مجددا إلى حالة التوازن الغنية التي كان عليها قبل عشرة آلاف عام". أما "إذا اختفت الحشرات، فإن البيئة ستنهار وتسقط في فوضى عارمة". لذلك، فإن من المريع والمثير للقلق أن العلماء وجدوا في معظم الأماكن التي بحثوا فيها مؤخرا أن أعداد الحشرات آخذة في التناقص، كما هو الحال في المناطق الزراعية وفي الأماكن البرية مثل كاسل بيك. ومن المحتمل أن يحدث الأمر نفسه في الفناء الخلفي لبيتك.
وتقوم "جمعية كريفيلد لعلم الحشرات" في مدينة كريفيلد الألمانية، غير بعيد عن الحدود الهولندية، بتخزين مجموعاتها من الحشرات داخل مدرسة صغيرة سابقة. فالفصول التي اعتاد الأطفال التململ فيها خلال حصصهم الدراسية أضحت تؤوي حاليًا صناديق مليئة بالقوارير التي مُلئت بدورها بكتل من الحشرات النافقة العائمة في سائل "الإيثانول". ولو جاز لنا أن نحدد نقطةً لمنطلق القلق المتفجر بشأن انخفاض أعداد الحشرات، لكان مبنى المدرسة هو هذه النقطة.
أخبــرني "مارتــن ســورغ"، القيِّم عــلى المجموعة، قائــلًا: "لا نحــصي القواريــر، لأن العدد يتغير كل أسبوع"؛ إذ توجد "عشرات الآلاف"، وفق تقديراته. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شرع سورغ وزملاؤه في البحث في أحوال الحشرات بمختلف أنواع المناطق المحمية في ألمانيا. ومن أجل الوصول إلى فهم واضح لهذه المسألة، قاموا بنصب ما يُعرف باسم "مصائد الإزعاج" التي تبدو مثل الخيام الصغيرة المائلة. والتقطت هذه المصائد كل الحشرات التي دخلت إليها طائرةً، بما في ذلك الذباب والدبابير والعث والنحل والفراشات وأسد المن. وانتهى المآل بكل ما علق في المصيدة بإحدى القوارير.
تواصلت عملية الجمع أكثر من 20 عامًا، في مكان واحد في بادئ الأمر، ثم في موقع آخر يضم 63 منطقة محمية يوجد معظمها في ولاية "شمال الراين-وستفاليا" حيث توجد مدينة كريفيلد. وفي عام 2013، عاد علماء الحشرات هؤلاء إلى موقعين كانوا قد أخذوا منهما عينات أول مرة في عام 1989؛ فكانت كتلة الحشرات التي وقعت في الشرك لا تشكل إلا جزءا بسيطا مما كانت عليه قبل 24 عامًا. ثم عاود العلماء أخذ عينات من هذين الموقعين مرة أخرى عام 2014 وشرعوا في إعادة جمع عينات من أكثر من اثني عشر موقعا آخر. وحيثما جمعوا العينات، كانت النتائج متطابقة. ولتفسير النتائج، استعانت الجمعية بعدد آخر من علماء الحشرات وخبراء الإحصاء الذين تجشموا عناء تمحيص البيانات. وأكد تحليلهم تراجع الكتلة الحيوية للحشرات الطائرة في المناطق المحمية بألمانيا من عام 1989 إلى عام 2016، بنسبة هائلة بلغت 76 بالمئة.
وتصدرت هذه النتيجة التي نُشرت في المجلة العلمية (PLOS One) عناوين الأخبـار في جمـيع أنحـاء العـالم. إذ حـذرت صـحيفة "الغارديان" من وقوع "نهاية عالم إيكولوجية"، وصحيفة "نيويورك تايمز" من "نهاية عالم الحشرات". أما صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، فقد صرحت "بأننا نجد أنفسنا وسط كابوس". ووفقًا لموقع "ألتمتريك" (altmetric.com) -الذي يرصد عدد المرات التي تُذكر فيها الأبحاث المنشورة على الإنترنت- كانت هذه الدراسة سادس بحث علمي يحظى بأكبر قدر من المناقشة في عام 2017. وقد تلقّت جمعية كريفيلد -التي كانت غير معروفة في السابق- سيلًا من الطلبات العلمية والإعلامية، ولا تزال تتقاطر عليها الطلبات حتى يومنا هذا؛ إذ يقول سورغ متنهدًا: "لا نهاية لهذا الأمر".
وقد دأب علماء الحشرات في جميع أنحاء العالم منذ نشر نتائج البحث على تمحيص السجلات والمجموعات. ويدفع بعض العلماء بانعدام الموضوعية في البحث المنشور؛ إذ يقولون إن الدراسة التي تُظهر تغيرات هائلة، تحظى بحظ أوفر للنشر مقارنة مع دراسة لا تفعل ذلك. ومع ذلك، نبهت النتائج إلى بعض الحقائق. فقد وجد الباحثون العاملون في غابة محمية في "نيو هامبشاير" الأميركية أن عدد الخنافس هناك قد انخفض بأكثر من 80 بالمئة منذ منتصف السبعينيات، فيما تناقص تنوعها (أي عدد الأنواع المختلفة) بنسبة 40 بالمئة تقريبا.
ووجدت إحدى الدراسات التي أجريت على الفراشات في هولندا أن أعدادها قد انخفضت بنحو 85 بالمئة منذ نهاية القرن التاسع عشر، فيما وجدت دراسة أخرى عن ذباب "مايو" في الجزء الشمالي من وسط غرب الولايات المتحدة، أن أعداده تراجعت بأكثر من النصف منذ عام 2012. وفي ألمانيا، أكد فريق ثان من الباحثين جوهر النتائج التي توصلت إليها جمعية كريفيلد. إذ وجد هذا الفريق أن عدد أنواع الحشرات في مراعي البلد وغاباته (تم أخذ عينات منها بشكل متكرر في مئات المواقع في ثلاث مناطق محمية متباعدة على نطاق واسع) قد انخفض من عام 2008 إلى عام 2017 بأكثر من 30 بالمئة. "إنه لأمر مرعب"، لكنه "يتناسب مع الصورة المقدَّمة في عدد متزايد من الدراسات"، يقول "وولفغانغ فيسر"، أحد هؤلاء الباحثين ويعمل أستاذًا في "جامعة ميونيخ التقنية".
قد يبتهج الناس لرؤية الفراشات ويكرهون منظر البعوض، لكننا نتجاهل معظم الحشرات في غالب الأحيان. ويكشف هذا الأمر أشياء كثيرة عن المخلوق ذي القدمين (الإنسان) أكثر من المخلوقات ذوات الست أقدام (الحشرات).
وتعد الحشرات إلى حد كبير، الكائنات الأكثر تنوعا على هذا الكوكب؛ حتى إن العلماء لا يزالون يعملون بجد للاستدلال على عدد الأنواع الموجودة. فقد سُمّي نحو مليون نوع من الحشرات، لكن من المتفق عليه عمومًا أنه لم يُستدَل بعدُ على العديد من الأنواع الأخرى (تشير التقديرات الأخيرة إلى نحو أربعة ملايين نوع آخر). ففصيلة واحدة من فصائل الزنابير الطفيلية، وهي "النمسيات" التي تسمى أحيانا "زنابير داروين"، تضم نحو 100 ألف نوع، وهو عدد أكبر من عدد كل الأنواع المعروفة من الأسماك والزواحف والثدييات والبرمائيات والطيور مجتمعة. وتتسم فصائل أخرى من الحشرات بالغزارة أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن يكون ثمة 60 ألف نوع من الفصيلة السوسية الحقيقية والمعروفة باسم "السوسينات".
توجد الحشرات، بحكم تنوعها الهائل، في جل أنواع الموائل الأرضية، بما في ذلك الموائل الأكثر قسوة. فقد سُجل وجود لذباب "الحجر" في جبال الهيمالايا على ارتفاع 5600 متر؛ وحشرات "السمك الفضي" في الكهوف على عمق يتجاوز 900 متر تحت سطح الأرض. ويعيش الذباب "القلوي" في ينابيع "يلوستون" الحارة قرب حواف برك الماء الساخن الحارقة بالولايات المتحدة؛ فيما تتحمل "القمعة معدومة الأجنحة" أجواء البرد بتغشية بيوضها بنوع من الهلام المضاد للتجمد. ولأحد أنواع الذباب المعروف باسم "الهاموشيات" ويستوطن المناطق شبه القاحلة في إفريقيا، يرقات يتقلص حجمها إلى رقائق يابسة في أوقات الجفاف الشديد، إذ تدخل مرحلة من الحياة المتوقفة قبل أن تستعيد حيويتها الطبيعية بعد أكثر من 15 عامًا.
فما الذي يفسر التنوع الهائل للحشرات؟ قُدمت تفسيرات عديدة في هذا الاتجاه، أبسطها قِدم استيطان الحشرات للأرض. فقد كانت من أوائل الحيوانات التي استعمرت الأرض قبل أكثر من 400 مليون عام، أي قبل ظهور الديناصورات الأولى بما يقرب من 200 مليون عام. وقد أتاح هذا التاريخ الممتد للحشرات مراكمة قدر كبير من التنوع مع مرور الوقت. لكن عاملا آخر محتملا قد يفسر أيضا هذا التنوع؛ وهو القدرة على استيطان العديد من البيئات المختلفة. فالحشرات صغيرة بما يمكن لشجرة واحدة أن تكون موطنا لمئات الأنواع منها؛ فيقرض بعضها اللحاء، وقسم آخر يشق طريقه داخل الأوراق، وبعض آخر يتغذى على الجذور. ويتيح هذا النوع من "تقسيم الموارد"، كما يسميه علماء البيئة، للعديد من أنواع الحشرات استيطان المساحة نفسها تقريبا.
ثم هناك حقيقة أخرى مفادها أن الحشرات شهدت، على الأقل تاريخيا، معدلات انقراض منخفضة. فقبل بضعة أعوام، فـحـص باحثـون السجـلَّ الأحفـوري لأكبـر رتيـبة للخـنافـس: الخنافس النهمة، وهي مجموعة تشمل الجعلان، والدودة السلكية، واليراعات. ووجدوا أنه لم تنقرض أي فصيلة في هذه المجموعة طوال تاريخها التطوري بأكمله، حتى خلال الانقراض الجماعي في نهاية العصر الطباشيري، قبل 66 مليون عام. ويجعل هذا الاستنتاج حالات التناقص المسجلة حديثا تبدو منذرة بعواقب أشد خطورة.
في كل فصل خريف، يلتقي آلاف الباحثين في الاجتماع السنوي لـ "جمعية علم الحشرات الأميركية". فقد عُقد اجتماع الخريف الماضي بمدينة سانت لويس، وكانت الجلسة التي حظيت بأكبر عدد من الحاضرين في موضوع: "تراجع أعداد الحشرات خلال عصر الأنثروبوسين". وتعاقب المتحدثون في الاجتماع على تقديم الأدلة المحزنة. فقد تطرق سورغ لعمل مجموعة كريفيلد؛ وناقش فورستر انخفاض أعداد الفراشات في سييرا نيفادا. وعرض "توكي توماس هوي"، الباحث لدى "جامعة آرهوس الدنماركية"، تسلسلا زمنيا لانخفاض أعداد الذباب الذي يتردد على الزهور في شمال شرق غرينلاند؛ وتحدثت "ماي بيرينباوم"، عالمة الحشرات في "جامعة إلينوي"، عن "أزمة الملقّحات العالمية". وكان "ديفـيد فاغنـر"، عالم الحشـرات لـدى "جامعة كونيكتيكت"، قد تولى تنظيم الجلسة. وعندما جاء دوره في الحديث، أشار إلى "معضلة" محيرة. إذ ذكر أنه وإن كان ثمة إجماع للمتحدثين على أن الحشرات تعيش محنة، فإن التوافق بشأن أسبابها على وجه التحديد لم يحصل. فبعضهم نحا باللوم على تغير المناخ، وبعضهم على الممارسات الزراعية أو تعديات أخرى على موائل الحشرات. ولاحظ أنه "من الرائع أن علماء كثيرين ينظرون في هذه المشكلة، لكنهم ليسوا متأكدين بشأن المسببات".
وبعد أسابيع قليلة على تلك الجلسة، قابلتُ فاغنر في "المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي" بنيويورك. يضم هذا المتحف إحدى أكبر المجموعات الشاملة للحشرات في العالم: صفوف من الخزائن المعدنية المليئة بملايين العينات المعلقة. فتح فاغنر بشكل عشوائي خزانة نحل طنان حيث كان يرقد في أحد الأدراج عدد من نحل "بومبوس دالبومي" الطنان (Bombus dahlbomii)، الذي يعد من بين أكبر أنواع النحل في العالم وكان ينتشر في جل أنحاء تشيلي والأرجنتين، لكن أعداده تناقصت كثيرا خلال الأعوام الأخيرة. ومُلئ درج آخر بالنحل الطنان من نوع (Bombus affinis) الذي يتميز برقعة حمراء على ظهره. ويستوطن هذا النوع وسط غرب الولايات المتحدة وشمالها الشرقي، وكان ينتشر بأعداد كبيرة، قبل أن يتناقص كثيرا حتى بات يُدرج حاليا ضمن الأنواع المهددة بالانقراض. يقول فاغنر: "لم يعد أي وجود لهذا النوع". وأوضح أن نوعا آخر من النحل الطنان، وهو النحل "الغجري"، يعيش عن طريق مهاجمة أعشاش أنواع أخرى من النحل الطنان، بما في ذلك النحل الطنان "ذو الرقعة الحمراء"، فيلتهم يرقاتها ويضع يرقاته مكانها. ويضيف فاغنر قائلا: "هذا النحل ماض أيضا إلى الزوال".
سألت فاغنر عن الأسباب التي أدت حسب رأيه إلى تناقص أعداد الحشرات، فقال إن الجواب ظل إلى حد ما بديهيًا: "نتوقع أن ينخفض العدد مع وجود سبعة مليارات شخص على هذا الكوكب". فالناس، في خضم عملية تغذيتهم وملبسهم وإسكانهم ونقلهم، ماضون نحو تغيير الكوكب بصورة جوهرية؛ ومن جملة ما يقترفون: قطع الغابات، وحرث المراعي، واعتماد زراعات المحصول الواحد، ونشر الملوثات في الهواء. ويشكل كل عامل من هذه العوامل ضغطا على الحشرات والحيوانات الأخرى. ومن ثم تتناقص أعداد جل مجموعات الحيوانات. يقول فاغنر: "نحن نعلم أننا نعيش أزمة تنوع بيولوجي".
أما الأمر المحير فهو معدل فقدان الحشرات الذي ورد في الدراسات الحديثة. فالنتائج كتلك الصادرة عن جمعية كريفيلد تشير إلى أن أعداد الحشرات تتناقص بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة تناقص مجموعات الحيوانات الأخرى. فما السبب؟ مبيدات الحشرات هي أحد الأسباب المحتملة؛ فعلى الرغم من أن المواد الكيميائية المكوِّنة لهذه المبيدات تستهدف أنواع "الآفات"، فإنها لا تميز بين الحشرات التي تضر بالمحاصيل وتلك التي تلقحها (بل حتى المناطق المحمية في ألمانيا يمكن أن تتأثر بمبيدات الآفات ما دام العديد من هذه المناطق يتاخم الأراضي الزراعية). لكن في بعض الأماكن التي أُبلغ فيها عن انخفاض حاد في أعداد الحشرات (كسلسلة "جبال وايت" في ولاية نيو هامبشاير، على سبيل المثال)، فإن المبيدات تُستخدم على نطاق محدود للغاية. وهنا مكمن المعضلة. يقول فاغنر: "إن المسألة المطروحة الآن هي معرفة مدى الخطورة التي تواجهها الحشرات أكثر من غيرها من الأنواع الأخرى. وهي مسألة عاجلة ملحّة". ويضيف قائلا: "أعتقـد أنها المرة الأولى الـتي بات النـاس يشعرون فيها بالقلق بشأن خدمات النظم البيئية وكل الأمور التي تقوم بها الحشرات للحفاظ على كوكب الأرض".
وتُسدي الحشرات، تبعًا لتنوعها الهائل، عددًا لا يحصى من الأعمال التي لا يحظى العديد منها بالإشادة. فما يقرب من ثلاثة أرباع النباتات المزهرة تعتمد على الحشرات الملقحة (النحل والنحل الطنان بوجه خاص، بالإضافة إلى الفراشات والدبابير والخنافس). ويحتاج جل محاصيل الفاكهة، من التفاح إلى البطيخ، إلى الحشرات الملقِّحة. والحشرات هي أيضًا ناشرة رئيسة للبذور. فالعديد من النباتات تزود بذورها ببعض الزوائد الصغيرة المليئة بالدهون وغيرها من المكونات المغذية. ويقتلع النمل البذرة ولا يأكل منها سوى الزائدة ويترك الباقي لينبت. وتوفر الحشرات بدورها الغذاءَ لأسماك المياه العذبة وجل أنواع الحيوانات البرية. وتشمل الزواحف الحاشرة (أي التي تتغذى على الحشرات) الوزغات والعظــاءات والسقنقورات؛ ويعد آكلو النمـل وزبابيات الشجـر من الثدييات الحاشرة. وتشمل الطيور التي تتغذى بصورة أساسية على الحشرات، السنونو والهازجة ونقار الخشب والنمنمة. وحتى الطيور التي تصبح من القوارت عند بلوغها سن النضج، غالبا ما تعتمد على الحشرات عندما تكون صغيرة. فطيور "قرقف كارولينا"، على سبيل المثال، لا تطعم صيصانها إلا اليرقات. (تحتاج فراخ عش واحد أكثر من 5000 يرقة لينمو ريشها). وقد وجدت دراسة حديثة عن طيور أميركا الشمالية أن أعدادها تشهد انخفاضًا حادا؛ بنسبة الثلث تقريبا منذ عام 1970. وكانت الأنواع التي يحتوي نظامها الغذائي على قدر كبير من الحشرات من بين أكثر الأنواع تضررًا. وتعد الحشرات أيضا من المحلِّلات الرئيسة؛ إذ تحافظ على دوران عجلة الحياة. فخنافس الروث تساعد على إعادة العناصر الغذائية إلى التربة عن طريق تناول البراز. ويقوم النمل الأبيض بالأمر نفسه عن طريق اقتياته على الخشب. فمن دون الحشرات، ستبدأ المواد العضوية الميتة -بما في ذلك الجثث البشرية- في التراكم. ويمكن للذباب "الأزرق" في ظل ظروف ملائمة أن يلتهم 60 بالمئة من جثة بشرية في غضون أسبوع واحد.
يَصعب تحديد القيمة المالية لكل هذا العمل، لكن عالمين من علماء الحشرات حاولا القيام بذلك في عام 2006. فقد بحثا في أربع فئات من "خدمات الحشرات" (وهي طمر الروث، ومكافحة الآفات، والتلقيح، وتغذية الحياة البرية)، وتوصلا إلى رقم 57 مليار دولار سنويا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحدها.
لا تبعد "محطة لاسيلفا للأبحاث" عن شمال "سان خوسيه"، عاصمة كوستاريكا، إلا 55 كيلومترا، لكن الوصول إليها يتطلب قطع مسافة ساعتين بالسيارة عبر ممر جبلي شديد الانحدار تتخلله منعطفات حادة. وكان من بين أماكن الجذب الليلية في المحطة، جناح صغير مجهز بملاءة بيضاء وضوء أسود لجذب الحشرات. فكانت حشرات عديدة تتجمع على الملاءة؛ فيُمضي زوار المحطة سحابة ليلهم في مشاهدتها حتى طلوع الفجر. لكن هذا العرض أضحى على مدار العقدين الماضيين أقل إثارة؛ فلم تعد تتوفر فيه مقومات الفرجة. فقد أسفرت رحلتان إلى هذا الجناح في ليلتين من ليالي شهر يناير الماضي سادت فيهما أجواء حارة مشبعة بالرطوبة، عن معاينة الحصيلة التالية: ثلاثًا من العثّ، وسوسة واحدة، وفاسياء واحدة، وبعض الحوام.
يقول "لي داير"، عالِم البيئة لدى "جامعة نيفادا"، عن الجناح: "عندما جئت إلى هذا المكان أول مرة، كان بالفعل نقطة جذب. أما الآن، فلا يُرى أي أثر للحشرات؛ ربما هناك واحدة أو اثنتان". ويعمل داير في محطة لاسيلفا منذ عام 1991. ويركز في أبحاثه على التفاعل بين الحشرات والنباتات المضيّفة لها، والتفاعل فيما بين الحشرات. وتعتمد حشرات عديدة في عيشها على الحشرات الأخرى. فمعظم الزنابير الطفيلية، على سبيل المثال، تضع بيوضها في أجسام اليساريع، باستخدام مضيفاتها مخازنَ مؤونة حية: إذ تلتهم يرقات الزنابير اليساريع تدريجيا من الداخل. وتضع حشرات أخرى تُعرف باسم "الطفيليات الفوقية" بيوضها داخل أجسام أشباه الطفيليات أو عليها، بل إن بعض الحشرات يتطفل على الطفيليات الفوقية. ودرج داير على الاستعانة بالطلاب والمتطوعين في جمع اليساريع في محطة لاسيلفا وتربيتها لمعرفة ما سيخرج منها (عث في بعض الحالات، وأشباه طفيليات في حالات أخرى). ولم يبادر داير، على غرار أعضاء جمعية كريفيلد، إلى البحث عن أدلة على انخفاض أعداد الحشرات، بل هي التي بحثت عنه. فقد قامت إحدى طالباته في الدراسات العليا، واسمها "دانييل سالسيدو"، مؤخرًا بفحص البيانات التي جُمعت على مدى عقدين من الزمان، ووجدت أن تنوع اليساريع في لاسيلفا قد تناقص منذ عام 1997 بنسبة 40 بالمئة تقريبا. وتراجع تنوع أشباه الطفيليات بأكثر من ذلك؛ أي نحو 55 بالمئة.
وتساعد أشباه الطفيليات في السيطرة على العديد من اليساريع التي تأكل المحاصيل. فإذا سُجل انخفاض في أعداد أشباه الطفيليات، فمن الممكن أن تزداد الخسائر الزراعية (إذ وجدت سالسيدو أن بعض مجموعات اليساريع المهيَّأة لارتفاع كبير في عددها كانت آخذة في التزايد حتى مع تراجع عدد اليساريع). ويؤشر فقدان أشكال التفاعل بين اليساريع وأشباه الطفيليات أيضا إلى احتمال انهيار سلاسل غذائية بأكملها، قبل أن يحظى البشر في كثير من الحالات بفرصة اكتشافها. قال داير: "كنت متخصصًا في الأدب الإنجليزي. وهذه الأنواع من أشكال التفاعل، وهذه القصص شبيهة بالقصائد". فعندما يضيع كثير منها، "فإن الأمر أشبه ما يكون بحرق مكتبة". وترد معظم البيانات طويلة الأجل حول الحشرات من المنطقة المعتدلة (أي أوروبا أو الولايات المتحدة). لكن ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحشرات يعيش في المناطق المدارية، وهو ما قد يجعل نتائج داير وسالسيدو محمَّلة بدلالات على جانب كبير من الأهمية. فعلى الرغم من أن المناطق الزراعية تحيط بمحطة لاسيلفا -مع ما يجلبه ذلك من مشكلات كانقسام الموائل واستخدام مبيدات الآفات- فإن داير يرى أن تغير المناخ هو أحد العوامل الرئيسة لتراجع أعداد الحشرات. ويشير على وجه الخصوص إلى تزايد عدد الظواهر المناخية الحادة، كالفيضانات. ويقول إن أنواعا كثيرة من الحشرات "معرضة بقدر كبير للظروف المناخية الشديدة، لاسيما في المناطق الاستوائية. فهي لا تتأقلم مع التقلبات الكبيرة".
"دان جانزن" و"ويني هالواكس" عالمان من علماء البيئة الاستوائية لدى "جامعة بنسلفانيا". ويمضيان جزءًا من العام في فيلادلفيا وجزءا آخر في شمال مدينة ليبيريا في غرب كوستاريكا، داخل منزل يتقاسمانه مع أي كائن من الحياة البرية يستقر فيه، بما في ذلك العناكب "السوطية" وخفافيش "الرحيق". وعندما وصل أحد الزوار من لاسيلفا، أشارت هالواكس إلى صرصار بطول سبعة سنتيمترات تحت الحوض. وقال جانزن وهو يشير إلى كومة صغيرة من الورق المقطع في إحدى خزائن الكتب: "أقول للناس إن الكتب لا تعدو أن تكون طعامًا للنمل الأبيض". وتختلف المناظر الطبيعية المحيطة بالمكان اختلافًا تاما عن لاسيلفا (حيث توجد الغابات الاستوائية الجافة، وفي أعلى الجبل غابات السحاب بدلًا من الغابات المطرية المنخفضة). لكن في هذا المكان أيضا سجل جانزن وهالواكس انخفاضا هائلا في عدد الحشرات. وتذكر هالواكس أنه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما حصلا على أحد أوائل الحواسيب الشخصية، كان الضوء المنبعث من الشاشة يجذب في الليل حشرات كثيرة أجبرتهما على نصب خيمة في المنزل والعمل داخلها. ويقول جانزن: "لقد بلغ الحال بي حاليًا إلى وضع كل حشرة تمر بمكتبي في الليل داخل أنبوب بلاستيكي صغير به كحول". وكان جانزن قد عاد إلى كوستاريكا مدة أسبوعين ولم يجمع إلا تسع حشرات.
ويعزو جانزن وهالواكس أيضا انخفاض أعداد الحشرات في جزء كبير منه إلى تغير المناخ؛ إذ قال جانزن -الذي يبلغ من العمر 81 عامًا- إن الفصل الجاف كان يدوم، عندما جاء أول مرة إلى كوستاريكا في عام 1963، أربعة أشهر. ومضى قائلا: "يمتد الفصل الجاف اليوم ستة أشهر، لذلك فإن كل هذه الحشرات التي تنتظم حياتها وفق فصل جاف يستمر أربعة أشهر تواجه الآن آثار شهرين إضافيين. فينفد غذاؤها، وتنفد الإشارات الفصلية التي تتبعها في دورات حياتها، وينهار كل شيء".
فما الذي يمكن فعله لعكس مسار هذه الاتجاهات المنذرة بالسوء؟ يتوقف ذلك بالطبع، عند مستوى معين، على العوامل التي تحركها. فإذا كان محركها هو تغير المناخ في المقام الأول، فيبدو أن اتخاذ تدابير على الصعيد العالمي من أجل خفض الانبعاثات هو الكفيل وحده بإحداث تغيير في هذا الوضع. أما إذا كانت مبيدات الآفات أو فقدان الموائل هو السبب الرئيس، فربما يكون للعمل على النطاق الإقليمي أو المحلي تأثير كبير. وقد قام "الاتحاد الأوروبي"، في سعي منه لحماية الملقِّحات، بحظر معظم مبيدات الآفات التي تحتوي على مركبات "النيونيكوتينويد" والتي قرنتها العديد من الدراسات بتناقص أعداد الحشرات والطيور. فخلال الخريف الماضي، اعتمدت الحكومة الألمانية "برنامج عمل لحماية الحشرات" يدعو إلى إصلاح موائل الحشرات، وحظر استخدام المبيدات في مناطق معينة، والتخلص التدريجي من "الجليفوسات"، وهو مبيد أعشاب ضارة يستخدم على نطاق واسع (إذ من الممكن أن يتسبب الجليفوسات في القضاء على النباتات الرئيسة التي تعتمد عليها الحشرات، وتشير الأبحاث إلى احتمال تعطيله أيضا لنُظُمها المناعية). كما جاء في برنامج العمل، "أننا لا نستطيع الاستغناء عن الحشرات".
وفي الآونة الأخيرة، اقترحت مجموعة مؤلفة من أكثر من 50 عالما من مختلف أنحاء العالم "خريطة طريق" للحفاظ على الحشرات. وأوصت "باتخاذ خطوات صارمة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري"، وتخصيص مزيد من المناطق الطبيعية ملاذات آمنة للحشرات، وفرض ضوابط أكثر صرامة على الأنواع الغريبة (كانت أعداد نحل وافدة من أوروبا هي السبب في تناقص أعداد نحل "بومبوس دالبومي" الطنان في أميركا الجنوبية، وربما النحل الطنان ذي الرقعة الحمراء في أميركا الشمالية). كما دعت المجموعة إلى الحد من استخدام مبيدات الآفات والأسمدة الصناعية. ويقول فاغنر، الذي كان أحد أعضاء هذه المجموعة: "يمكننا القيام بكثير من الممارسات الجيدة، وذلك بصرف النظر عن مآل هذه القضية. وليَتَصدر قائمة تلك الممارسات كل ما له علاقة بالمناخ. وإذا استطعنا الرجوع باستخدام مبيدات الآفات إلى أغراض التشذيب والتجميل التي كانت مقصورة عليها في السابق، كاستخدامها مثلا في صيانة العشب، فإن ذلك سيعود بالنفع على كوكبنا".
من بين المنظمات القليلة في العالم التي تكرس نشاطها لحفظ اللافقاريات، "جمعية زيرسيس" التي يوجد مقرها في بورتلاند بولاية أوريغون (سُمّيت هذه الجمعية على اسم فراشة "زيرسيس الزرقاء" التي كانت تستوطن شبه جزيرة سان فرنسيسكو وانقرضت في أربعينيات القرن الماضي بسبب النمو العمراني). في أحد الأيام التي تلت تَسلُّقي جبل كاسل بيك بوقت قصير، ذهبت برفقة مدير الجمعية، "سكوت بلاك"، لزيارة بعض مشروعاتها التعاونية في سنترال فالي بولاية كاليفورنيا. وبينما كان بلاك يقود سيارته، تذكر إحدى أولى معشوقاته: سيارة "موستانغ" كان قد اشتراها في أيام مراهقته في نبراسكا عام 1979. كان عليه أن يغسلها باستمرار إذ كان يجد عليها حشرات نافقة. أما الآن -على حد قوله- فنادرًا ما يتعين عليه أن يزيل الحشرات النافقة من على سيارته. وقد لوحظت هذه الظاهرة على نطاق واسع إلى درجة أنها أصبحت تُعرف باسم "ظاهرة الزجاج الأمامي".
كانت السيارة تذرع كيلومترات من الحقول المزروعة على نحو متناسق. هز بلاك رأسه. ففي السابق، كانت المزارع في الوادي محفوفة برقع مليئة بالأعشاب الضارة التي كانت الحشرات تلجأ إليها. أما اليوم، فإن الناس -على حد قوله- يميلون إلى زرعها من جانب الطريق إلى الجانب الآخر؛ إذ يقول: "ما أراه هو نقص في الموائل". وصلنا في نهاية المطاف إلى "مزرعة بيكسلر" في بلدة ستوكتون. كانت محاصيل اللوز والتوت الأزرق تمتد على مساحة 520 هكتارًا، وكان مالكوها قد قرروا قبل أعوام قليلة العمل مع جمعية زيرسيس لزرع سياجات من الأشجار والنباتات واستعادة بعض الموائل الأصلية التي فُقدت على مدى نصف قرن من الزراعة المكثفة المتنامية. فقد زُرع أحد السياجات في خندق ري قديم وامتد مسافة تفوق الكيلومتر. وعلى طول هذه المسافة، كانت الشجيرات الطويلة، مثل ورد "وودز" والبلسان البري، تتناوب مع الشجيرات الصغيرة كالمريمية البيضاء والنبات الغربي. كانت أجواء ذلك اليوم من أيام نهاية الصيف مثقلة بالحر والغبار، وكان الظمأ باديًا على جل النباتات. ومع ذلك، كانت تضج بطنين النحل "القارض" ونحل "العرق". هنالك قال بلاك: "لدينا بيانات كثيرة تُظهر أنه عند توافر الموائل، فإن الحشرات ستأتي".
وتابع قائلا: "إن النباتات والحشرات هي نسيج هذا الكوكب. ونحن نمزق هذا النسيج إلى أشلاء. لذا ينبغي لنا رتقه وضم بعضه إلى بعض من جديد".
أين ذهبت الحشرات؟
- إليزابيث كولبيرت
باتت أعداد الحشرات تتناقص بمعدلات مثيرة للقلق؛ ما يمكن أن يفضي إلى نتائج وخيمة على كوكب الأرض.لا تنفك الفراشات عن التردد على هذا المكان. في البدء جاءت بالآلاف، ثم تتالت أعدادها بعشرات الآلاف بل وحتى بمئات الآلاف. كانت أجنحتها بنية اللون في جانبها...
باتت أعداد الحشرات تتناقص بمعدلات مثيرة للقلق؛ ما يمكن أن يفضي إلى نتائج وخيمة على كوكب الأرض.
لا تنفك الفراشات عن التردد على هذا المكان. في البدء جاءت بالآلاف، ثم تتالت أعدادها بعشرات الآلاف بل وحتى بمئات الآلاف. كانت أجنحتها بنية اللون في جانبها السفلي ويعلوها لون برتقالي زاه؛ فكانت تبدو، عندما كانت تطير بالقرب مني، وكأنها قطع من أشعة الشمس. كان المشهد رائعًا ومهيبًا.. ويثير في النفس شيئًا من الحيرة والإرباك.
صادفتُ هذه السحابة المشكَّلة من فراشات "صدفة السلحفاة الكاليفورنية" في يوم صاف من أيام الصيف في سلسلة جبال "سييرا نيفادا" حيث كنت أتنزه برفقة "مات فورستر"، عالم الأحياء لدى "جامعة نيفادا"، في جبل "كاسل بيك" بشمال غرب "بحيرة تاهو". وتُعد فراشات كاسل بيك من بين أكثر مجموعات الحشرات التي تجري مراقبتها من كثب في العالم. فقد خضعت في كل صيف على مر ما يقرب من 45 عامًا لعمليات إحصاء في كل أسبوعين. وكان يتولى جمع جل البيانات مرشد فورستر، "آرت شابيرو"، المتخصص الشغوف بعلم حرشفيات الأجنحة والأستاذ لدى "جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، والذي سجل تلك المعلومات على بطاقات فهرسة.
وبعد أن قام فورستر وفريقه بحوسبة عمليات المسح وتحليلها، وجدوا أن أعداد الفراشات في كاسل بيك بدأت في التناقص منذ عام 2011. كنا نناقش الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، عندما اقتربنا من هذه القمة التي يبلغ ارتفاعها 2775 مترا، حيث أحاط بنا سديم ذو لون برتقالي.
قال فورستر: "إن فكرة معاناة الحشرات تبدو صادمة للناس، وهو أمر أتفهمه". ثم أشار إلى الفراشات التي كانت تتدافع أمامنا بغزارة، قبل أن يمضي قائلا: "تبدو الحشرات على هذا النحو [من الغزارة]؛ لذلك يبدو الأمر صادمًا".
ويُقال إننا نعيش في "عصر الإنسان" (الأنثروبوسين)، وهو الحقبة التي تقترن بالتأثير البشري في الأرض. ومع ذلك فإن الحشرات، وفق مقاييس عديدة، هي التي تهيمن على العالم. ففي كل الأوقات، يقدر عدد الحشرات التي تطير أو تدب أو تحوم أو تمشي أو تختبئ في الجحور أو تسبح بـ 10 كوينتيليون. أما من حيث التنوع، فإن الأرقام تظل مثيرة للإعجاب أيضا؛ إذ تمثل الحشرات ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحيوانات المختلفة. فهي تسهم في الحفاظ على العالم كما نعلم: فمعظم النباتات المزهرة، بدءًا من زهور "البليس" المعمّرة إلى أشجار "القرانيا"، ستتعرض للنفوق والانقراض في غياب الحشرات التي تتولى تلقيحها.
وإذا حدث أن اختفت البشرية فجأة، كما قال عالم الأحياء "إدوارد ويلسون"، فإن العالم "سيعود مجددا إلى حالة التوازن الغنية التي كان عليها قبل عشرة آلاف عام". أما "إذا اختفت الحشرات، فإن البيئة ستنهار وتسقط في فوضى عارمة". لذلك، فإن من المريع والمثير للقلق أن العلماء وجدوا في معظم الأماكن التي بحثوا فيها مؤخرا أن أعداد الحشرات آخذة في التناقص، كما هو الحال في المناطق الزراعية وفي الأماكن البرية مثل كاسل بيك. ومن المحتمل أن يحدث الأمر نفسه في الفناء الخلفي لبيتك.
وتقوم "جمعية كريفيلد لعلم الحشرات" في مدينة كريفيلد الألمانية، غير بعيد عن الحدود الهولندية، بتخزين مجموعاتها من الحشرات داخل مدرسة صغيرة سابقة. فالفصول التي اعتاد الأطفال التململ فيها خلال حصصهم الدراسية أضحت تؤوي حاليًا صناديق مليئة بالقوارير التي مُلئت بدورها بكتل من الحشرات النافقة العائمة في سائل "الإيثانول". ولو جاز لنا أن نحدد نقطةً لمنطلق القلق المتفجر بشأن انخفاض أعداد الحشرات، لكان مبنى المدرسة هو هذه النقطة.
أخبــرني "مارتــن ســورغ"، القيِّم عــلى المجموعة، قائــلًا: "لا نحــصي القواريــر، لأن العدد يتغير كل أسبوع"؛ إذ توجد "عشرات الآلاف"، وفق تقديراته. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شرع سورغ وزملاؤه في البحث في أحوال الحشرات بمختلف أنواع المناطق المحمية في ألمانيا. ومن أجل الوصول إلى فهم واضح لهذه المسألة، قاموا بنصب ما يُعرف باسم "مصائد الإزعاج" التي تبدو مثل الخيام الصغيرة المائلة. والتقطت هذه المصائد كل الحشرات التي دخلت إليها طائرةً، بما في ذلك الذباب والدبابير والعث والنحل والفراشات وأسد المن. وانتهى المآل بكل ما علق في المصيدة بإحدى القوارير.
تواصلت عملية الجمع أكثر من 20 عامًا، في مكان واحد في بادئ الأمر، ثم في موقع آخر يضم 63 منطقة محمية يوجد معظمها في ولاية "شمال الراين-وستفاليا" حيث توجد مدينة كريفيلد. وفي عام 2013، عاد علماء الحشرات هؤلاء إلى موقعين كانوا قد أخذوا منهما عينات أول مرة في عام 1989؛ فكانت كتلة الحشرات التي وقعت في الشرك لا تشكل إلا جزءا بسيطا مما كانت عليه قبل 24 عامًا. ثم عاود العلماء أخذ عينات من هذين الموقعين مرة أخرى عام 2014 وشرعوا في إعادة جمع عينات من أكثر من اثني عشر موقعا آخر. وحيثما جمعوا العينات، كانت النتائج متطابقة. ولتفسير النتائج، استعانت الجمعية بعدد آخر من علماء الحشرات وخبراء الإحصاء الذين تجشموا عناء تمحيص البيانات. وأكد تحليلهم تراجع الكتلة الحيوية للحشرات الطائرة في المناطق المحمية بألمانيا من عام 1989 إلى عام 2016، بنسبة هائلة بلغت 76 بالمئة.
وتصدرت هذه النتيجة التي نُشرت في المجلة العلمية (PLOS One) عناوين الأخبـار في جمـيع أنحـاء العـالم. إذ حـذرت صـحيفة "الغارديان" من وقوع "نهاية عالم إيكولوجية"، وصحيفة "نيويورك تايمز" من "نهاية عالم الحشرات". أما صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، فقد صرحت "بأننا نجد أنفسنا وسط كابوس". ووفقًا لموقع "ألتمتريك" (altmetric.com) -الذي يرصد عدد المرات التي تُذكر فيها الأبحاث المنشورة على الإنترنت- كانت هذه الدراسة سادس بحث علمي يحظى بأكبر قدر من المناقشة في عام 2017. وقد تلقّت جمعية كريفيلد -التي كانت غير معروفة في السابق- سيلًا من الطلبات العلمية والإعلامية، ولا تزال تتقاطر عليها الطلبات حتى يومنا هذا؛ إذ يقول سورغ متنهدًا: "لا نهاية لهذا الأمر".
وقد دأب علماء الحشرات في جميع أنحاء العالم منذ نشر نتائج البحث على تمحيص السجلات والمجموعات. ويدفع بعض العلماء بانعدام الموضوعية في البحث المنشور؛ إذ يقولون إن الدراسة التي تُظهر تغيرات هائلة، تحظى بحظ أوفر للنشر مقارنة مع دراسة لا تفعل ذلك. ومع ذلك، نبهت النتائج إلى بعض الحقائق. فقد وجد الباحثون العاملون في غابة محمية في "نيو هامبشاير" الأميركية أن عدد الخنافس هناك قد انخفض بأكثر من 80 بالمئة منذ منتصف السبعينيات، فيما تناقص تنوعها (أي عدد الأنواع المختلفة) بنسبة 40 بالمئة تقريبا.
ووجدت إحدى الدراسات التي أجريت على الفراشات في هولندا أن أعدادها قد انخفضت بنحو 85 بالمئة منذ نهاية القرن التاسع عشر، فيما وجدت دراسة أخرى عن ذباب "مايو" في الجزء الشمالي من وسط غرب الولايات المتحدة، أن أعداده تراجعت بأكثر من النصف منذ عام 2012. وفي ألمانيا، أكد فريق ثان من الباحثين جوهر النتائج التي توصلت إليها جمعية كريفيلد. إذ وجد هذا الفريق أن عدد أنواع الحشرات في مراعي البلد وغاباته (تم أخذ عينات منها بشكل متكرر في مئات المواقع في ثلاث مناطق محمية متباعدة على نطاق واسع) قد انخفض من عام 2008 إلى عام 2017 بأكثر من 30 بالمئة. "إنه لأمر مرعب"، لكنه "يتناسب مع الصورة المقدَّمة في عدد متزايد من الدراسات"، يقول "وولفغانغ فيسر"، أحد هؤلاء الباحثين ويعمل أستاذًا في "جامعة ميونيخ التقنية".
قد يبتهج الناس لرؤية الفراشات ويكرهون منظر البعوض، لكننا نتجاهل معظم الحشرات في غالب الأحيان. ويكشف هذا الأمر أشياء كثيرة عن المخلوق ذي القدمين (الإنسان) أكثر من المخلوقات ذوات الست أقدام (الحشرات).
وتعد الحشرات إلى حد كبير، الكائنات الأكثر تنوعا على هذا الكوكب؛ حتى إن العلماء لا يزالون يعملون بجد للاستدلال على عدد الأنواع الموجودة. فقد سُمّي نحو مليون نوع من الحشرات، لكن من المتفق عليه عمومًا أنه لم يُستدَل بعدُ على العديد من الأنواع الأخرى (تشير التقديرات الأخيرة إلى نحو أربعة ملايين نوع آخر). ففصيلة واحدة من فصائل الزنابير الطفيلية، وهي "النمسيات" التي تسمى أحيانا "زنابير داروين"، تضم نحو 100 ألف نوع، وهو عدد أكبر من عدد كل الأنواع المعروفة من الأسماك والزواحف والثدييات والبرمائيات والطيور مجتمعة. وتتسم فصائل أخرى من الحشرات بالغزارة أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن يكون ثمة 60 ألف نوع من الفصيلة السوسية الحقيقية والمعروفة باسم "السوسينات".
توجد الحشرات، بحكم تنوعها الهائل، في جل أنواع الموائل الأرضية، بما في ذلك الموائل الأكثر قسوة. فقد سُجل وجود لذباب "الحجر" في جبال الهيمالايا على ارتفاع 5600 متر؛ وحشرات "السمك الفضي" في الكهوف على عمق يتجاوز 900 متر تحت سطح الأرض. ويعيش الذباب "القلوي" في ينابيع "يلوستون" الحارة قرب حواف برك الماء الساخن الحارقة بالولايات المتحدة؛ فيما تتحمل "القمعة معدومة الأجنحة" أجواء البرد بتغشية بيوضها بنوع من الهلام المضاد للتجمد. ولأحد أنواع الذباب المعروف باسم "الهاموشيات" ويستوطن المناطق شبه القاحلة في إفريقيا، يرقات يتقلص حجمها إلى رقائق يابسة في أوقات الجفاف الشديد، إذ تدخل مرحلة من الحياة المتوقفة قبل أن تستعيد حيويتها الطبيعية بعد أكثر من 15 عامًا.
فما الذي يفسر التنوع الهائل للحشرات؟ قُدمت تفسيرات عديدة في هذا الاتجاه، أبسطها قِدم استيطان الحشرات للأرض. فقد كانت من أوائل الحيوانات التي استعمرت الأرض قبل أكثر من 400 مليون عام، أي قبل ظهور الديناصورات الأولى بما يقرب من 200 مليون عام. وقد أتاح هذا التاريخ الممتد للحشرات مراكمة قدر كبير من التنوع مع مرور الوقت. لكن عاملا آخر محتملا قد يفسر أيضا هذا التنوع؛ وهو القدرة على استيطان العديد من البيئات المختلفة. فالحشرات صغيرة بما يمكن لشجرة واحدة أن تكون موطنا لمئات الأنواع منها؛ فيقرض بعضها اللحاء، وقسم آخر يشق طريقه داخل الأوراق، وبعض آخر يتغذى على الجذور. ويتيح هذا النوع من "تقسيم الموارد"، كما يسميه علماء البيئة، للعديد من أنواع الحشرات استيطان المساحة نفسها تقريبا.
ثم هناك حقيقة أخرى مفادها أن الحشرات شهدت، على الأقل تاريخيا، معدلات انقراض منخفضة. فقبل بضعة أعوام، فـحـص باحثـون السجـلَّ الأحفـوري لأكبـر رتيـبة للخـنافـس: الخنافس النهمة، وهي مجموعة تشمل الجعلان، والدودة السلكية، واليراعات. ووجدوا أنه لم تنقرض أي فصيلة في هذه المجموعة طوال تاريخها التطوري بأكمله، حتى خلال الانقراض الجماعي في نهاية العصر الطباشيري، قبل 66 مليون عام. ويجعل هذا الاستنتاج حالات التناقص المسجلة حديثا تبدو منذرة بعواقب أشد خطورة.
في كل فصل خريف، يلتقي آلاف الباحثين في الاجتماع السنوي لـ "جمعية علم الحشرات الأميركية". فقد عُقد اجتماع الخريف الماضي بمدينة سانت لويس، وكانت الجلسة التي حظيت بأكبر عدد من الحاضرين في موضوع: "تراجع أعداد الحشرات خلال عصر الأنثروبوسين". وتعاقب المتحدثون في الاجتماع على تقديم الأدلة المحزنة. فقد تطرق سورغ لعمل مجموعة كريفيلد؛ وناقش فورستر انخفاض أعداد الفراشات في سييرا نيفادا. وعرض "توكي توماس هوي"، الباحث لدى "جامعة آرهوس الدنماركية"، تسلسلا زمنيا لانخفاض أعداد الذباب الذي يتردد على الزهور في شمال شرق غرينلاند؛ وتحدثت "ماي بيرينباوم"، عالمة الحشرات في "جامعة إلينوي"، عن "أزمة الملقّحات العالمية". وكان "ديفـيد فاغنـر"، عالم الحشـرات لـدى "جامعة كونيكتيكت"، قد تولى تنظيم الجلسة. وعندما جاء دوره في الحديث، أشار إلى "معضلة" محيرة. إذ ذكر أنه وإن كان ثمة إجماع للمتحدثين على أن الحشرات تعيش محنة، فإن التوافق بشأن أسبابها على وجه التحديد لم يحصل. فبعضهم نحا باللوم على تغير المناخ، وبعضهم على الممارسات الزراعية أو تعديات أخرى على موائل الحشرات. ولاحظ أنه "من الرائع أن علماء كثيرين ينظرون في هذه المشكلة، لكنهم ليسوا متأكدين بشأن المسببات".
وبعد أسابيع قليلة على تلك الجلسة، قابلتُ فاغنر في "المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي" بنيويورك. يضم هذا المتحف إحدى أكبر المجموعات الشاملة للحشرات في العالم: صفوف من الخزائن المعدنية المليئة بملايين العينات المعلقة. فتح فاغنر بشكل عشوائي خزانة نحل طنان حيث كان يرقد في أحد الأدراج عدد من نحل "بومبوس دالبومي" الطنان (Bombus dahlbomii)، الذي يعد من بين أكبر أنواع النحل في العالم وكان ينتشر في جل أنحاء تشيلي والأرجنتين، لكن أعداده تناقصت كثيرا خلال الأعوام الأخيرة. ومُلئ درج آخر بالنحل الطنان من نوع (Bombus affinis) الذي يتميز برقعة حمراء على ظهره. ويستوطن هذا النوع وسط غرب الولايات المتحدة وشمالها الشرقي، وكان ينتشر بأعداد كبيرة، قبل أن يتناقص كثيرا حتى بات يُدرج حاليا ضمن الأنواع المهددة بالانقراض. يقول فاغنر: "لم يعد أي وجود لهذا النوع". وأوضح أن نوعا آخر من النحل الطنان، وهو النحل "الغجري"، يعيش عن طريق مهاجمة أعشاش أنواع أخرى من النحل الطنان، بما في ذلك النحل الطنان "ذو الرقعة الحمراء"، فيلتهم يرقاتها ويضع يرقاته مكانها. ويضيف فاغنر قائلا: "هذا النحل ماض أيضا إلى الزوال".
سألت فاغنر عن الأسباب التي أدت حسب رأيه إلى تناقص أعداد الحشرات، فقال إن الجواب ظل إلى حد ما بديهيًا: "نتوقع أن ينخفض العدد مع وجود سبعة مليارات شخص على هذا الكوكب". فالناس، في خضم عملية تغذيتهم وملبسهم وإسكانهم ونقلهم، ماضون نحو تغيير الكوكب بصورة جوهرية؛ ومن جملة ما يقترفون: قطع الغابات، وحرث المراعي، واعتماد زراعات المحصول الواحد، ونشر الملوثات في الهواء. ويشكل كل عامل من هذه العوامل ضغطا على الحشرات والحيوانات الأخرى. ومن ثم تتناقص أعداد جل مجموعات الحيوانات. يقول فاغنر: "نحن نعلم أننا نعيش أزمة تنوع بيولوجي".
أما الأمر المحير فهو معدل فقدان الحشرات الذي ورد في الدراسات الحديثة. فالنتائج كتلك الصادرة عن جمعية كريفيلد تشير إلى أن أعداد الحشرات تتناقص بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة تناقص مجموعات الحيوانات الأخرى. فما السبب؟ مبيدات الحشرات هي أحد الأسباب المحتملة؛ فعلى الرغم من أن المواد الكيميائية المكوِّنة لهذه المبيدات تستهدف أنواع "الآفات"، فإنها لا تميز بين الحشرات التي تضر بالمحاصيل وتلك التي تلقحها (بل حتى المناطق المحمية في ألمانيا يمكن أن تتأثر بمبيدات الآفات ما دام العديد من هذه المناطق يتاخم الأراضي الزراعية). لكن في بعض الأماكن التي أُبلغ فيها عن انخفاض حاد في أعداد الحشرات (كسلسلة "جبال وايت" في ولاية نيو هامبشاير، على سبيل المثال)، فإن المبيدات تُستخدم على نطاق محدود للغاية. وهنا مكمن المعضلة. يقول فاغنر: "إن المسألة المطروحة الآن هي معرفة مدى الخطورة التي تواجهها الحشرات أكثر من غيرها من الأنواع الأخرى. وهي مسألة عاجلة ملحّة". ويضيف قائلا: "أعتقـد أنها المرة الأولى الـتي بات النـاس يشعرون فيها بالقلق بشأن خدمات النظم البيئية وكل الأمور التي تقوم بها الحشرات للحفاظ على كوكب الأرض".
وتُسدي الحشرات، تبعًا لتنوعها الهائل، عددًا لا يحصى من الأعمال التي لا يحظى العديد منها بالإشادة. فما يقرب من ثلاثة أرباع النباتات المزهرة تعتمد على الحشرات الملقحة (النحل والنحل الطنان بوجه خاص، بالإضافة إلى الفراشات والدبابير والخنافس). ويحتاج جل محاصيل الفاكهة، من التفاح إلى البطيخ، إلى الحشرات الملقِّحة. والحشرات هي أيضًا ناشرة رئيسة للبذور. فالعديد من النباتات تزود بذورها ببعض الزوائد الصغيرة المليئة بالدهون وغيرها من المكونات المغذية. ويقتلع النمل البذرة ولا يأكل منها سوى الزائدة ويترك الباقي لينبت. وتوفر الحشرات بدورها الغذاءَ لأسماك المياه العذبة وجل أنواع الحيوانات البرية. وتشمل الزواحف الحاشرة (أي التي تتغذى على الحشرات) الوزغات والعظــاءات والسقنقورات؛ ويعد آكلو النمـل وزبابيات الشجـر من الثدييات الحاشرة. وتشمل الطيور التي تتغذى بصورة أساسية على الحشرات، السنونو والهازجة ونقار الخشب والنمنمة. وحتى الطيور التي تصبح من القوارت عند بلوغها سن النضج، غالبا ما تعتمد على الحشرات عندما تكون صغيرة. فطيور "قرقف كارولينا"، على سبيل المثال، لا تطعم صيصانها إلا اليرقات. (تحتاج فراخ عش واحد أكثر من 5000 يرقة لينمو ريشها). وقد وجدت دراسة حديثة عن طيور أميركا الشمالية أن أعدادها تشهد انخفاضًا حادا؛ بنسبة الثلث تقريبا منذ عام 1970. وكانت الأنواع التي يحتوي نظامها الغذائي على قدر كبير من الحشرات من بين أكثر الأنواع تضررًا. وتعد الحشرات أيضا من المحلِّلات الرئيسة؛ إذ تحافظ على دوران عجلة الحياة. فخنافس الروث تساعد على إعادة العناصر الغذائية إلى التربة عن طريق تناول البراز. ويقوم النمل الأبيض بالأمر نفسه عن طريق اقتياته على الخشب. فمن دون الحشرات، ستبدأ المواد العضوية الميتة -بما في ذلك الجثث البشرية- في التراكم. ويمكن للذباب "الأزرق" في ظل ظروف ملائمة أن يلتهم 60 بالمئة من جثة بشرية في غضون أسبوع واحد.
يَصعب تحديد القيمة المالية لكل هذا العمل، لكن عالمين من علماء الحشرات حاولا القيام بذلك في عام 2006. فقد بحثا في أربع فئات من "خدمات الحشرات" (وهي طمر الروث، ومكافحة الآفات، والتلقيح، وتغذية الحياة البرية)، وتوصلا إلى رقم 57 مليار دولار سنويا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحدها.
لا تبعد "محطة لاسيلفا للأبحاث" عن شمال "سان خوسيه"، عاصمة كوستاريكا، إلا 55 كيلومترا، لكن الوصول إليها يتطلب قطع مسافة ساعتين بالسيارة عبر ممر جبلي شديد الانحدار تتخلله منعطفات حادة. وكان من بين أماكن الجذب الليلية في المحطة، جناح صغير مجهز بملاءة بيضاء وضوء أسود لجذب الحشرات. فكانت حشرات عديدة تتجمع على الملاءة؛ فيُمضي زوار المحطة سحابة ليلهم في مشاهدتها حتى طلوع الفجر. لكن هذا العرض أضحى على مدار العقدين الماضيين أقل إثارة؛ فلم تعد تتوفر فيه مقومات الفرجة. فقد أسفرت رحلتان إلى هذا الجناح في ليلتين من ليالي شهر يناير الماضي سادت فيهما أجواء حارة مشبعة بالرطوبة، عن معاينة الحصيلة التالية: ثلاثًا من العثّ، وسوسة واحدة، وفاسياء واحدة، وبعض الحوام.
يقول "لي داير"، عالِم البيئة لدى "جامعة نيفادا"، عن الجناح: "عندما جئت إلى هذا المكان أول مرة، كان بالفعل نقطة جذب. أما الآن، فلا يُرى أي أثر للحشرات؛ ربما هناك واحدة أو اثنتان". ويعمل داير في محطة لاسيلفا منذ عام 1991. ويركز في أبحاثه على التفاعل بين الحشرات والنباتات المضيّفة لها، والتفاعل فيما بين الحشرات. وتعتمد حشرات عديدة في عيشها على الحشرات الأخرى. فمعظم الزنابير الطفيلية، على سبيل المثال، تضع بيوضها في أجسام اليساريع، باستخدام مضيفاتها مخازنَ مؤونة حية: إذ تلتهم يرقات الزنابير اليساريع تدريجيا من الداخل. وتضع حشرات أخرى تُعرف باسم "الطفيليات الفوقية" بيوضها داخل أجسام أشباه الطفيليات أو عليها، بل إن بعض الحشرات يتطفل على الطفيليات الفوقية. ودرج داير على الاستعانة بالطلاب والمتطوعين في جمع اليساريع في محطة لاسيلفا وتربيتها لمعرفة ما سيخرج منها (عث في بعض الحالات، وأشباه طفيليات في حالات أخرى). ولم يبادر داير، على غرار أعضاء جمعية كريفيلد، إلى البحث عن أدلة على انخفاض أعداد الحشرات، بل هي التي بحثت عنه. فقد قامت إحدى طالباته في الدراسات العليا، واسمها "دانييل سالسيدو"، مؤخرًا بفحص البيانات التي جُمعت على مدى عقدين من الزمان، ووجدت أن تنوع اليساريع في لاسيلفا قد تناقص منذ عام 1997 بنسبة 40 بالمئة تقريبا. وتراجع تنوع أشباه الطفيليات بأكثر من ذلك؛ أي نحو 55 بالمئة.
وتساعد أشباه الطفيليات في السيطرة على العديد من اليساريع التي تأكل المحاصيل. فإذا سُجل انخفاض في أعداد أشباه الطفيليات، فمن الممكن أن تزداد الخسائر الزراعية (إذ وجدت سالسيدو أن بعض مجموعات اليساريع المهيَّأة لارتفاع كبير في عددها كانت آخذة في التزايد حتى مع تراجع عدد اليساريع). ويؤشر فقدان أشكال التفاعل بين اليساريع وأشباه الطفيليات أيضا إلى احتمال انهيار سلاسل غذائية بأكملها، قبل أن يحظى البشر في كثير من الحالات بفرصة اكتشافها. قال داير: "كنت متخصصًا في الأدب الإنجليزي. وهذه الأنواع من أشكال التفاعل، وهذه القصص شبيهة بالقصائد". فعندما يضيع كثير منها، "فإن الأمر أشبه ما يكون بحرق مكتبة". وترد معظم البيانات طويلة الأجل حول الحشرات من المنطقة المعتدلة (أي أوروبا أو الولايات المتحدة). لكن ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحشرات يعيش في المناطق المدارية، وهو ما قد يجعل نتائج داير وسالسيدو محمَّلة بدلالات على جانب كبير من الأهمية. فعلى الرغم من أن المناطق الزراعية تحيط بمحطة لاسيلفا -مع ما يجلبه ذلك من مشكلات كانقسام الموائل واستخدام مبيدات الآفات- فإن داير يرى أن تغير المناخ هو أحد العوامل الرئيسة لتراجع أعداد الحشرات. ويشير على وجه الخصوص إلى تزايد عدد الظواهر المناخية الحادة، كالفيضانات. ويقول إن أنواعا كثيرة من الحشرات "معرضة بقدر كبير للظروف المناخية الشديدة، لاسيما في المناطق الاستوائية. فهي لا تتأقلم مع التقلبات الكبيرة".
"دان جانزن" و"ويني هالواكس" عالمان من علماء البيئة الاستوائية لدى "جامعة بنسلفانيا". ويمضيان جزءًا من العام في فيلادلفيا وجزءا آخر في شمال مدينة ليبيريا في غرب كوستاريكا، داخل منزل يتقاسمانه مع أي كائن من الحياة البرية يستقر فيه، بما في ذلك العناكب "السوطية" وخفافيش "الرحيق". وعندما وصل أحد الزوار من لاسيلفا، أشارت هالواكس إلى صرصار بطول سبعة سنتيمترات تحت الحوض. وقال جانزن وهو يشير إلى كومة صغيرة من الورق المقطع في إحدى خزائن الكتب: "أقول للناس إن الكتب لا تعدو أن تكون طعامًا للنمل الأبيض". وتختلف المناظر الطبيعية المحيطة بالمكان اختلافًا تاما عن لاسيلفا (حيث توجد الغابات الاستوائية الجافة، وفي أعلى الجبل غابات السحاب بدلًا من الغابات المطرية المنخفضة). لكن في هذا المكان أيضا سجل جانزن وهالواكس انخفاضا هائلا في عدد الحشرات. وتذكر هالواكس أنه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما حصلا على أحد أوائل الحواسيب الشخصية، كان الضوء المنبعث من الشاشة يجذب في الليل حشرات كثيرة أجبرتهما على نصب خيمة في المنزل والعمل داخلها. ويقول جانزن: "لقد بلغ الحال بي حاليًا إلى وضع كل حشرة تمر بمكتبي في الليل داخل أنبوب بلاستيكي صغير به كحول". وكان جانزن قد عاد إلى كوستاريكا مدة أسبوعين ولم يجمع إلا تسع حشرات.
ويعزو جانزن وهالواكس أيضا انخفاض أعداد الحشرات في جزء كبير منه إلى تغير المناخ؛ إذ قال جانزن -الذي يبلغ من العمر 81 عامًا- إن الفصل الجاف كان يدوم، عندما جاء أول مرة إلى كوستاريكا في عام 1963، أربعة أشهر. ومضى قائلا: "يمتد الفصل الجاف اليوم ستة أشهر، لذلك فإن كل هذه الحشرات التي تنتظم حياتها وفق فصل جاف يستمر أربعة أشهر تواجه الآن آثار شهرين إضافيين. فينفد غذاؤها، وتنفد الإشارات الفصلية التي تتبعها في دورات حياتها، وينهار كل شيء".
فما الذي يمكن فعله لعكس مسار هذه الاتجاهات المنذرة بالسوء؟ يتوقف ذلك بالطبع، عند مستوى معين، على العوامل التي تحركها. فإذا كان محركها هو تغير المناخ في المقام الأول، فيبدو أن اتخاذ تدابير على الصعيد العالمي من أجل خفض الانبعاثات هو الكفيل وحده بإحداث تغيير في هذا الوضع. أما إذا كانت مبيدات الآفات أو فقدان الموائل هو السبب الرئيس، فربما يكون للعمل على النطاق الإقليمي أو المحلي تأثير كبير. وقد قام "الاتحاد الأوروبي"، في سعي منه لحماية الملقِّحات، بحظر معظم مبيدات الآفات التي تحتوي على مركبات "النيونيكوتينويد" والتي قرنتها العديد من الدراسات بتناقص أعداد الحشرات والطيور. فخلال الخريف الماضي، اعتمدت الحكومة الألمانية "برنامج عمل لحماية الحشرات" يدعو إلى إصلاح موائل الحشرات، وحظر استخدام المبيدات في مناطق معينة، والتخلص التدريجي من "الجليفوسات"، وهو مبيد أعشاب ضارة يستخدم على نطاق واسع (إذ من الممكن أن يتسبب الجليفوسات في القضاء على النباتات الرئيسة التي تعتمد عليها الحشرات، وتشير الأبحاث إلى احتمال تعطيله أيضا لنُظُمها المناعية). كما جاء في برنامج العمل، "أننا لا نستطيع الاستغناء عن الحشرات".
وفي الآونة الأخيرة، اقترحت مجموعة مؤلفة من أكثر من 50 عالما من مختلف أنحاء العالم "خريطة طريق" للحفاظ على الحشرات. وأوصت "باتخاذ خطوات صارمة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري"، وتخصيص مزيد من المناطق الطبيعية ملاذات آمنة للحشرات، وفرض ضوابط أكثر صرامة على الأنواع الغريبة (كانت أعداد نحل وافدة من أوروبا هي السبب في تناقص أعداد نحل "بومبوس دالبومي" الطنان في أميركا الجنوبية، وربما النحل الطنان ذي الرقعة الحمراء في أميركا الشمالية). كما دعت المجموعة إلى الحد من استخدام مبيدات الآفات والأسمدة الصناعية. ويقول فاغنر، الذي كان أحد أعضاء هذه المجموعة: "يمكننا القيام بكثير من الممارسات الجيدة، وذلك بصرف النظر عن مآل هذه القضية. وليَتَصدر قائمة تلك الممارسات كل ما له علاقة بالمناخ. وإذا استطعنا الرجوع باستخدام مبيدات الآفات إلى أغراض التشذيب والتجميل التي كانت مقصورة عليها في السابق، كاستخدامها مثلا في صيانة العشب، فإن ذلك سيعود بالنفع على كوكبنا".
من بين المنظمات القليلة في العالم التي تكرس نشاطها لحفظ اللافقاريات، "جمعية زيرسيس" التي يوجد مقرها في بورتلاند بولاية أوريغون (سُمّيت هذه الجمعية على اسم فراشة "زيرسيس الزرقاء" التي كانت تستوطن شبه جزيرة سان فرنسيسكو وانقرضت في أربعينيات القرن الماضي بسبب النمو العمراني). في أحد الأيام التي تلت تَسلُّقي جبل كاسل بيك بوقت قصير، ذهبت برفقة مدير الجمعية، "سكوت بلاك"، لزيارة بعض مشروعاتها التعاونية في سنترال فالي بولاية كاليفورنيا. وبينما كان بلاك يقود سيارته، تذكر إحدى أولى معشوقاته: سيارة "موستانغ" كان قد اشتراها في أيام مراهقته في نبراسكا عام 1979. كان عليه أن يغسلها باستمرار إذ كان يجد عليها حشرات نافقة. أما الآن -على حد قوله- فنادرًا ما يتعين عليه أن يزيل الحشرات النافقة من على سيارته. وقد لوحظت هذه الظاهرة على نطاق واسع إلى درجة أنها أصبحت تُعرف باسم "ظاهرة الزجاج الأمامي".
كانت السيارة تذرع كيلومترات من الحقول المزروعة على نحو متناسق. هز بلاك رأسه. ففي السابق، كانت المزارع في الوادي محفوفة برقع مليئة بالأعشاب الضارة التي كانت الحشرات تلجأ إليها. أما اليوم، فإن الناس -على حد قوله- يميلون إلى زرعها من جانب الطريق إلى الجانب الآخر؛ إذ يقول: "ما أراه هو نقص في الموائل". وصلنا في نهاية المطاف إلى "مزرعة بيكسلر" في بلدة ستوكتون. كانت محاصيل اللوز والتوت الأزرق تمتد على مساحة 520 هكتارًا، وكان مالكوها قد قرروا قبل أعوام قليلة العمل مع جمعية زيرسيس لزرع سياجات من الأشجار والنباتات واستعادة بعض الموائل الأصلية التي فُقدت على مدى نصف قرن من الزراعة المكثفة المتنامية. فقد زُرع أحد السياجات في خندق ري قديم وامتد مسافة تفوق الكيلومتر. وعلى طول هذه المسافة، كانت الشجيرات الطويلة، مثل ورد "وودز" والبلسان البري، تتناوب مع الشجيرات الصغيرة كالمريمية البيضاء والنبات الغربي. كانت أجواء ذلك اليوم من أيام نهاية الصيف مثقلة بالحر والغبار، وكان الظمأ باديًا على جل النباتات. ومع ذلك، كانت تضج بطنين النحل "القارض" ونحل "العرق". هنالك قال بلاك: "لدينا بيانات كثيرة تُظهر أنه عند توافر الموائل، فإن الحشرات ستأتي".
وتابع قائلا: "إن النباتات والحشرات هي نسيج هذا الكوكب. ونحن نمزق هذا النسيج إلى أشلاء. لذا ينبغي لنا رتقه وضم بعضه إلى بعض من جديد".
لا تنفك الفراشات عن التردد على هذا المكان. في البدء جاءت بالآلاف، ثم تتالت أعدادها بعشرات الآلاف بل وحتى بمئات الآلاف. كانت أجنحتها بنية اللون في جانبها السفلي ويعلوها لون برتقالي زاه؛ فكانت تبدو، عندما كانت تطير بالقرب مني، وكأنها قطع من أشعة الشمس. كان المشهد رائعًا ومهيبًا.. ويثير في النفس شيئًا من الحيرة والإرباك.
صادفتُ هذه السحابة المشكَّلة من فراشات "صدفة السلحفاة الكاليفورنية" في يوم صاف من أيام الصيف في سلسلة جبال "سييرا نيفادا" حيث كنت أتنزه برفقة "مات فورستر"، عالم الأحياء لدى "جامعة نيفادا"، في جبل "كاسل بيك" بشمال غرب "بحيرة تاهو". وتُعد فراشات كاسل بيك من بين أكثر مجموعات الحشرات التي تجري مراقبتها من كثب في العالم. فقد خضعت في كل صيف على مر ما يقرب من 45 عامًا لعمليات إحصاء في كل أسبوعين. وكان يتولى جمع جل البيانات مرشد فورستر، "آرت شابيرو"، المتخصص الشغوف بعلم حرشفيات الأجنحة والأستاذ لدى "جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، والذي سجل تلك المعلومات على بطاقات فهرسة.
وبعد أن قام فورستر وفريقه بحوسبة عمليات المسح وتحليلها، وجدوا أن أعداد الفراشات في كاسل بيك بدأت في التناقص منذ عام 2011. كنا نناقش الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، عندما اقتربنا من هذه القمة التي يبلغ ارتفاعها 2775 مترا، حيث أحاط بنا سديم ذو لون برتقالي.
قال فورستر: "إن فكرة معاناة الحشرات تبدو صادمة للناس، وهو أمر أتفهمه". ثم أشار إلى الفراشات التي كانت تتدافع أمامنا بغزارة، قبل أن يمضي قائلا: "تبدو الحشرات على هذا النحو [من الغزارة]؛ لذلك يبدو الأمر صادمًا".
ويُقال إننا نعيش في "عصر الإنسان" (الأنثروبوسين)، وهو الحقبة التي تقترن بالتأثير البشري في الأرض. ومع ذلك فإن الحشرات، وفق مقاييس عديدة، هي التي تهيمن على العالم. ففي كل الأوقات، يقدر عدد الحشرات التي تطير أو تدب أو تحوم أو تمشي أو تختبئ في الجحور أو تسبح بـ 10 كوينتيليون. أما من حيث التنوع، فإن الأرقام تظل مثيرة للإعجاب أيضا؛ إذ تمثل الحشرات ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحيوانات المختلفة. فهي تسهم في الحفاظ على العالم كما نعلم: فمعظم النباتات المزهرة، بدءًا من زهور "البليس" المعمّرة إلى أشجار "القرانيا"، ستتعرض للنفوق والانقراض في غياب الحشرات التي تتولى تلقيحها.
وإذا حدث أن اختفت البشرية فجأة، كما قال عالم الأحياء "إدوارد ويلسون"، فإن العالم "سيعود مجددا إلى حالة التوازن الغنية التي كان عليها قبل عشرة آلاف عام". أما "إذا اختفت الحشرات، فإن البيئة ستنهار وتسقط في فوضى عارمة". لذلك، فإن من المريع والمثير للقلق أن العلماء وجدوا في معظم الأماكن التي بحثوا فيها مؤخرا أن أعداد الحشرات آخذة في التناقص، كما هو الحال في المناطق الزراعية وفي الأماكن البرية مثل كاسل بيك. ومن المحتمل أن يحدث الأمر نفسه في الفناء الخلفي لبيتك.
وتقوم "جمعية كريفيلد لعلم الحشرات" في مدينة كريفيلد الألمانية، غير بعيد عن الحدود الهولندية، بتخزين مجموعاتها من الحشرات داخل مدرسة صغيرة سابقة. فالفصول التي اعتاد الأطفال التململ فيها خلال حصصهم الدراسية أضحت تؤوي حاليًا صناديق مليئة بالقوارير التي مُلئت بدورها بكتل من الحشرات النافقة العائمة في سائل "الإيثانول". ولو جاز لنا أن نحدد نقطةً لمنطلق القلق المتفجر بشأن انخفاض أعداد الحشرات، لكان مبنى المدرسة هو هذه النقطة.
أخبــرني "مارتــن ســورغ"، القيِّم عــلى المجموعة، قائــلًا: "لا نحــصي القواريــر، لأن العدد يتغير كل أسبوع"؛ إذ توجد "عشرات الآلاف"، وفق تقديراته. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شرع سورغ وزملاؤه في البحث في أحوال الحشرات بمختلف أنواع المناطق المحمية في ألمانيا. ومن أجل الوصول إلى فهم واضح لهذه المسألة، قاموا بنصب ما يُعرف باسم "مصائد الإزعاج" التي تبدو مثل الخيام الصغيرة المائلة. والتقطت هذه المصائد كل الحشرات التي دخلت إليها طائرةً، بما في ذلك الذباب والدبابير والعث والنحل والفراشات وأسد المن. وانتهى المآل بكل ما علق في المصيدة بإحدى القوارير.
تواصلت عملية الجمع أكثر من 20 عامًا، في مكان واحد في بادئ الأمر، ثم في موقع آخر يضم 63 منطقة محمية يوجد معظمها في ولاية "شمال الراين-وستفاليا" حيث توجد مدينة كريفيلد. وفي عام 2013، عاد علماء الحشرات هؤلاء إلى موقعين كانوا قد أخذوا منهما عينات أول مرة في عام 1989؛ فكانت كتلة الحشرات التي وقعت في الشرك لا تشكل إلا جزءا بسيطا مما كانت عليه قبل 24 عامًا. ثم عاود العلماء أخذ عينات من هذين الموقعين مرة أخرى عام 2014 وشرعوا في إعادة جمع عينات من أكثر من اثني عشر موقعا آخر. وحيثما جمعوا العينات، كانت النتائج متطابقة. ولتفسير النتائج، استعانت الجمعية بعدد آخر من علماء الحشرات وخبراء الإحصاء الذين تجشموا عناء تمحيص البيانات. وأكد تحليلهم تراجع الكتلة الحيوية للحشرات الطائرة في المناطق المحمية بألمانيا من عام 1989 إلى عام 2016، بنسبة هائلة بلغت 76 بالمئة.
وتصدرت هذه النتيجة التي نُشرت في المجلة العلمية (PLOS One) عناوين الأخبـار في جمـيع أنحـاء العـالم. إذ حـذرت صـحيفة "الغارديان" من وقوع "نهاية عالم إيكولوجية"، وصحيفة "نيويورك تايمز" من "نهاية عالم الحشرات". أما صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، فقد صرحت "بأننا نجد أنفسنا وسط كابوس". ووفقًا لموقع "ألتمتريك" (altmetric.com) -الذي يرصد عدد المرات التي تُذكر فيها الأبحاث المنشورة على الإنترنت- كانت هذه الدراسة سادس بحث علمي يحظى بأكبر قدر من المناقشة في عام 2017. وقد تلقّت جمعية كريفيلد -التي كانت غير معروفة في السابق- سيلًا من الطلبات العلمية والإعلامية، ولا تزال تتقاطر عليها الطلبات حتى يومنا هذا؛ إذ يقول سورغ متنهدًا: "لا نهاية لهذا الأمر".
وقد دأب علماء الحشرات في جميع أنحاء العالم منذ نشر نتائج البحث على تمحيص السجلات والمجموعات. ويدفع بعض العلماء بانعدام الموضوعية في البحث المنشور؛ إذ يقولون إن الدراسة التي تُظهر تغيرات هائلة، تحظى بحظ أوفر للنشر مقارنة مع دراسة لا تفعل ذلك. ومع ذلك، نبهت النتائج إلى بعض الحقائق. فقد وجد الباحثون العاملون في غابة محمية في "نيو هامبشاير" الأميركية أن عدد الخنافس هناك قد انخفض بأكثر من 80 بالمئة منذ منتصف السبعينيات، فيما تناقص تنوعها (أي عدد الأنواع المختلفة) بنسبة 40 بالمئة تقريبا.
ووجدت إحدى الدراسات التي أجريت على الفراشات في هولندا أن أعدادها قد انخفضت بنحو 85 بالمئة منذ نهاية القرن التاسع عشر، فيما وجدت دراسة أخرى عن ذباب "مايو" في الجزء الشمالي من وسط غرب الولايات المتحدة، أن أعداده تراجعت بأكثر من النصف منذ عام 2012. وفي ألمانيا، أكد فريق ثان من الباحثين جوهر النتائج التي توصلت إليها جمعية كريفيلد. إذ وجد هذا الفريق أن عدد أنواع الحشرات في مراعي البلد وغاباته (تم أخذ عينات منها بشكل متكرر في مئات المواقع في ثلاث مناطق محمية متباعدة على نطاق واسع) قد انخفض من عام 2008 إلى عام 2017 بأكثر من 30 بالمئة. "إنه لأمر مرعب"، لكنه "يتناسب مع الصورة المقدَّمة في عدد متزايد من الدراسات"، يقول "وولفغانغ فيسر"، أحد هؤلاء الباحثين ويعمل أستاذًا في "جامعة ميونيخ التقنية".
قد يبتهج الناس لرؤية الفراشات ويكرهون منظر البعوض، لكننا نتجاهل معظم الحشرات في غالب الأحيان. ويكشف هذا الأمر أشياء كثيرة عن المخلوق ذي القدمين (الإنسان) أكثر من المخلوقات ذوات الست أقدام (الحشرات).
وتعد الحشرات إلى حد كبير، الكائنات الأكثر تنوعا على هذا الكوكب؛ حتى إن العلماء لا يزالون يعملون بجد للاستدلال على عدد الأنواع الموجودة. فقد سُمّي نحو مليون نوع من الحشرات، لكن من المتفق عليه عمومًا أنه لم يُستدَل بعدُ على العديد من الأنواع الأخرى (تشير التقديرات الأخيرة إلى نحو أربعة ملايين نوع آخر). ففصيلة واحدة من فصائل الزنابير الطفيلية، وهي "النمسيات" التي تسمى أحيانا "زنابير داروين"، تضم نحو 100 ألف نوع، وهو عدد أكبر من عدد كل الأنواع المعروفة من الأسماك والزواحف والثدييات والبرمائيات والطيور مجتمعة. وتتسم فصائل أخرى من الحشرات بالغزارة أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن يكون ثمة 60 ألف نوع من الفصيلة السوسية الحقيقية والمعروفة باسم "السوسينات".
توجد الحشرات، بحكم تنوعها الهائل، في جل أنواع الموائل الأرضية، بما في ذلك الموائل الأكثر قسوة. فقد سُجل وجود لذباب "الحجر" في جبال الهيمالايا على ارتفاع 5600 متر؛ وحشرات "السمك الفضي" في الكهوف على عمق يتجاوز 900 متر تحت سطح الأرض. ويعيش الذباب "القلوي" في ينابيع "يلوستون" الحارة قرب حواف برك الماء الساخن الحارقة بالولايات المتحدة؛ فيما تتحمل "القمعة معدومة الأجنحة" أجواء البرد بتغشية بيوضها بنوع من الهلام المضاد للتجمد. ولأحد أنواع الذباب المعروف باسم "الهاموشيات" ويستوطن المناطق شبه القاحلة في إفريقيا، يرقات يتقلص حجمها إلى رقائق يابسة في أوقات الجفاف الشديد، إذ تدخل مرحلة من الحياة المتوقفة قبل أن تستعيد حيويتها الطبيعية بعد أكثر من 15 عامًا.
فما الذي يفسر التنوع الهائل للحشرات؟ قُدمت تفسيرات عديدة في هذا الاتجاه، أبسطها قِدم استيطان الحشرات للأرض. فقد كانت من أوائل الحيوانات التي استعمرت الأرض قبل أكثر من 400 مليون عام، أي قبل ظهور الديناصورات الأولى بما يقرب من 200 مليون عام. وقد أتاح هذا التاريخ الممتد للحشرات مراكمة قدر كبير من التنوع مع مرور الوقت. لكن عاملا آخر محتملا قد يفسر أيضا هذا التنوع؛ وهو القدرة على استيطان العديد من البيئات المختلفة. فالحشرات صغيرة بما يمكن لشجرة واحدة أن تكون موطنا لمئات الأنواع منها؛ فيقرض بعضها اللحاء، وقسم آخر يشق طريقه داخل الأوراق، وبعض آخر يتغذى على الجذور. ويتيح هذا النوع من "تقسيم الموارد"، كما يسميه علماء البيئة، للعديد من أنواع الحشرات استيطان المساحة نفسها تقريبا.
ثم هناك حقيقة أخرى مفادها أن الحشرات شهدت، على الأقل تاريخيا، معدلات انقراض منخفضة. فقبل بضعة أعوام، فـحـص باحثـون السجـلَّ الأحفـوري لأكبـر رتيـبة للخـنافـس: الخنافس النهمة، وهي مجموعة تشمل الجعلان، والدودة السلكية، واليراعات. ووجدوا أنه لم تنقرض أي فصيلة في هذه المجموعة طوال تاريخها التطوري بأكمله، حتى خلال الانقراض الجماعي في نهاية العصر الطباشيري، قبل 66 مليون عام. ويجعل هذا الاستنتاج حالات التناقص المسجلة حديثا تبدو منذرة بعواقب أشد خطورة.
في كل فصل خريف، يلتقي آلاف الباحثين في الاجتماع السنوي لـ "جمعية علم الحشرات الأميركية". فقد عُقد اجتماع الخريف الماضي بمدينة سانت لويس، وكانت الجلسة التي حظيت بأكبر عدد من الحاضرين في موضوع: "تراجع أعداد الحشرات خلال عصر الأنثروبوسين". وتعاقب المتحدثون في الاجتماع على تقديم الأدلة المحزنة. فقد تطرق سورغ لعمل مجموعة كريفيلد؛ وناقش فورستر انخفاض أعداد الفراشات في سييرا نيفادا. وعرض "توكي توماس هوي"، الباحث لدى "جامعة آرهوس الدنماركية"، تسلسلا زمنيا لانخفاض أعداد الذباب الذي يتردد على الزهور في شمال شرق غرينلاند؛ وتحدثت "ماي بيرينباوم"، عالمة الحشرات في "جامعة إلينوي"، عن "أزمة الملقّحات العالمية". وكان "ديفـيد فاغنـر"، عالم الحشـرات لـدى "جامعة كونيكتيكت"، قد تولى تنظيم الجلسة. وعندما جاء دوره في الحديث، أشار إلى "معضلة" محيرة. إذ ذكر أنه وإن كان ثمة إجماع للمتحدثين على أن الحشرات تعيش محنة، فإن التوافق بشأن أسبابها على وجه التحديد لم يحصل. فبعضهم نحا باللوم على تغير المناخ، وبعضهم على الممارسات الزراعية أو تعديات أخرى على موائل الحشرات. ولاحظ أنه "من الرائع أن علماء كثيرين ينظرون في هذه المشكلة، لكنهم ليسوا متأكدين بشأن المسببات".
وبعد أسابيع قليلة على تلك الجلسة، قابلتُ فاغنر في "المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي" بنيويورك. يضم هذا المتحف إحدى أكبر المجموعات الشاملة للحشرات في العالم: صفوف من الخزائن المعدنية المليئة بملايين العينات المعلقة. فتح فاغنر بشكل عشوائي خزانة نحل طنان حيث كان يرقد في أحد الأدراج عدد من نحل "بومبوس دالبومي" الطنان (Bombus dahlbomii)، الذي يعد من بين أكبر أنواع النحل في العالم وكان ينتشر في جل أنحاء تشيلي والأرجنتين، لكن أعداده تناقصت كثيرا خلال الأعوام الأخيرة. ومُلئ درج آخر بالنحل الطنان من نوع (Bombus affinis) الذي يتميز برقعة حمراء على ظهره. ويستوطن هذا النوع وسط غرب الولايات المتحدة وشمالها الشرقي، وكان ينتشر بأعداد كبيرة، قبل أن يتناقص كثيرا حتى بات يُدرج حاليا ضمن الأنواع المهددة بالانقراض. يقول فاغنر: "لم يعد أي وجود لهذا النوع". وأوضح أن نوعا آخر من النحل الطنان، وهو النحل "الغجري"، يعيش عن طريق مهاجمة أعشاش أنواع أخرى من النحل الطنان، بما في ذلك النحل الطنان "ذو الرقعة الحمراء"، فيلتهم يرقاتها ويضع يرقاته مكانها. ويضيف فاغنر قائلا: "هذا النحل ماض أيضا إلى الزوال".
سألت فاغنر عن الأسباب التي أدت حسب رأيه إلى تناقص أعداد الحشرات، فقال إن الجواب ظل إلى حد ما بديهيًا: "نتوقع أن ينخفض العدد مع وجود سبعة مليارات شخص على هذا الكوكب". فالناس، في خضم عملية تغذيتهم وملبسهم وإسكانهم ونقلهم، ماضون نحو تغيير الكوكب بصورة جوهرية؛ ومن جملة ما يقترفون: قطع الغابات، وحرث المراعي، واعتماد زراعات المحصول الواحد، ونشر الملوثات في الهواء. ويشكل كل عامل من هذه العوامل ضغطا على الحشرات والحيوانات الأخرى. ومن ثم تتناقص أعداد جل مجموعات الحيوانات. يقول فاغنر: "نحن نعلم أننا نعيش أزمة تنوع بيولوجي".
أما الأمر المحير فهو معدل فقدان الحشرات الذي ورد في الدراسات الحديثة. فالنتائج كتلك الصادرة عن جمعية كريفيلد تشير إلى أن أعداد الحشرات تتناقص بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة تناقص مجموعات الحيوانات الأخرى. فما السبب؟ مبيدات الحشرات هي أحد الأسباب المحتملة؛ فعلى الرغم من أن المواد الكيميائية المكوِّنة لهذه المبيدات تستهدف أنواع "الآفات"، فإنها لا تميز بين الحشرات التي تضر بالمحاصيل وتلك التي تلقحها (بل حتى المناطق المحمية في ألمانيا يمكن أن تتأثر بمبيدات الآفات ما دام العديد من هذه المناطق يتاخم الأراضي الزراعية). لكن في بعض الأماكن التي أُبلغ فيها عن انخفاض حاد في أعداد الحشرات (كسلسلة "جبال وايت" في ولاية نيو هامبشاير، على سبيل المثال)، فإن المبيدات تُستخدم على نطاق محدود للغاية. وهنا مكمن المعضلة. يقول فاغنر: "إن المسألة المطروحة الآن هي معرفة مدى الخطورة التي تواجهها الحشرات أكثر من غيرها من الأنواع الأخرى. وهي مسألة عاجلة ملحّة". ويضيف قائلا: "أعتقـد أنها المرة الأولى الـتي بات النـاس يشعرون فيها بالقلق بشأن خدمات النظم البيئية وكل الأمور التي تقوم بها الحشرات للحفاظ على كوكب الأرض".
وتُسدي الحشرات، تبعًا لتنوعها الهائل، عددًا لا يحصى من الأعمال التي لا يحظى العديد منها بالإشادة. فما يقرب من ثلاثة أرباع النباتات المزهرة تعتمد على الحشرات الملقحة (النحل والنحل الطنان بوجه خاص، بالإضافة إلى الفراشات والدبابير والخنافس). ويحتاج جل محاصيل الفاكهة، من التفاح إلى البطيخ، إلى الحشرات الملقِّحة. والحشرات هي أيضًا ناشرة رئيسة للبذور. فالعديد من النباتات تزود بذورها ببعض الزوائد الصغيرة المليئة بالدهون وغيرها من المكونات المغذية. ويقتلع النمل البذرة ولا يأكل منها سوى الزائدة ويترك الباقي لينبت. وتوفر الحشرات بدورها الغذاءَ لأسماك المياه العذبة وجل أنواع الحيوانات البرية. وتشمل الزواحف الحاشرة (أي التي تتغذى على الحشرات) الوزغات والعظــاءات والسقنقورات؛ ويعد آكلو النمـل وزبابيات الشجـر من الثدييات الحاشرة. وتشمل الطيور التي تتغذى بصورة أساسية على الحشرات، السنونو والهازجة ونقار الخشب والنمنمة. وحتى الطيور التي تصبح من القوارت عند بلوغها سن النضج، غالبا ما تعتمد على الحشرات عندما تكون صغيرة. فطيور "قرقف كارولينا"، على سبيل المثال، لا تطعم صيصانها إلا اليرقات. (تحتاج فراخ عش واحد أكثر من 5000 يرقة لينمو ريشها). وقد وجدت دراسة حديثة عن طيور أميركا الشمالية أن أعدادها تشهد انخفاضًا حادا؛ بنسبة الثلث تقريبا منذ عام 1970. وكانت الأنواع التي يحتوي نظامها الغذائي على قدر كبير من الحشرات من بين أكثر الأنواع تضررًا. وتعد الحشرات أيضا من المحلِّلات الرئيسة؛ إذ تحافظ على دوران عجلة الحياة. فخنافس الروث تساعد على إعادة العناصر الغذائية إلى التربة عن طريق تناول البراز. ويقوم النمل الأبيض بالأمر نفسه عن طريق اقتياته على الخشب. فمن دون الحشرات، ستبدأ المواد العضوية الميتة -بما في ذلك الجثث البشرية- في التراكم. ويمكن للذباب "الأزرق" في ظل ظروف ملائمة أن يلتهم 60 بالمئة من جثة بشرية في غضون أسبوع واحد.
يَصعب تحديد القيمة المالية لكل هذا العمل، لكن عالمين من علماء الحشرات حاولا القيام بذلك في عام 2006. فقد بحثا في أربع فئات من "خدمات الحشرات" (وهي طمر الروث، ومكافحة الآفات، والتلقيح، وتغذية الحياة البرية)، وتوصلا إلى رقم 57 مليار دولار سنويا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحدها.
لا تبعد "محطة لاسيلفا للأبحاث" عن شمال "سان خوسيه"، عاصمة كوستاريكا، إلا 55 كيلومترا، لكن الوصول إليها يتطلب قطع مسافة ساعتين بالسيارة عبر ممر جبلي شديد الانحدار تتخلله منعطفات حادة. وكان من بين أماكن الجذب الليلية في المحطة، جناح صغير مجهز بملاءة بيضاء وضوء أسود لجذب الحشرات. فكانت حشرات عديدة تتجمع على الملاءة؛ فيُمضي زوار المحطة سحابة ليلهم في مشاهدتها حتى طلوع الفجر. لكن هذا العرض أضحى على مدار العقدين الماضيين أقل إثارة؛ فلم تعد تتوفر فيه مقومات الفرجة. فقد أسفرت رحلتان إلى هذا الجناح في ليلتين من ليالي شهر يناير الماضي سادت فيهما أجواء حارة مشبعة بالرطوبة، عن معاينة الحصيلة التالية: ثلاثًا من العثّ، وسوسة واحدة، وفاسياء واحدة، وبعض الحوام.
يقول "لي داير"، عالِم البيئة لدى "جامعة نيفادا"، عن الجناح: "عندما جئت إلى هذا المكان أول مرة، كان بالفعل نقطة جذب. أما الآن، فلا يُرى أي أثر للحشرات؛ ربما هناك واحدة أو اثنتان". ويعمل داير في محطة لاسيلفا منذ عام 1991. ويركز في أبحاثه على التفاعل بين الحشرات والنباتات المضيّفة لها، والتفاعل فيما بين الحشرات. وتعتمد حشرات عديدة في عيشها على الحشرات الأخرى. فمعظم الزنابير الطفيلية، على سبيل المثال، تضع بيوضها في أجسام اليساريع، باستخدام مضيفاتها مخازنَ مؤونة حية: إذ تلتهم يرقات الزنابير اليساريع تدريجيا من الداخل. وتضع حشرات أخرى تُعرف باسم "الطفيليات الفوقية" بيوضها داخل أجسام أشباه الطفيليات أو عليها، بل إن بعض الحشرات يتطفل على الطفيليات الفوقية. ودرج داير على الاستعانة بالطلاب والمتطوعين في جمع اليساريع في محطة لاسيلفا وتربيتها لمعرفة ما سيخرج منها (عث في بعض الحالات، وأشباه طفيليات في حالات أخرى). ولم يبادر داير، على غرار أعضاء جمعية كريفيلد، إلى البحث عن أدلة على انخفاض أعداد الحشرات، بل هي التي بحثت عنه. فقد قامت إحدى طالباته في الدراسات العليا، واسمها "دانييل سالسيدو"، مؤخرًا بفحص البيانات التي جُمعت على مدى عقدين من الزمان، ووجدت أن تنوع اليساريع في لاسيلفا قد تناقص منذ عام 1997 بنسبة 40 بالمئة تقريبا. وتراجع تنوع أشباه الطفيليات بأكثر من ذلك؛ أي نحو 55 بالمئة.
وتساعد أشباه الطفيليات في السيطرة على العديد من اليساريع التي تأكل المحاصيل. فإذا سُجل انخفاض في أعداد أشباه الطفيليات، فمن الممكن أن تزداد الخسائر الزراعية (إذ وجدت سالسيدو أن بعض مجموعات اليساريع المهيَّأة لارتفاع كبير في عددها كانت آخذة في التزايد حتى مع تراجع عدد اليساريع). ويؤشر فقدان أشكال التفاعل بين اليساريع وأشباه الطفيليات أيضا إلى احتمال انهيار سلاسل غذائية بأكملها، قبل أن يحظى البشر في كثير من الحالات بفرصة اكتشافها. قال داير: "كنت متخصصًا في الأدب الإنجليزي. وهذه الأنواع من أشكال التفاعل، وهذه القصص شبيهة بالقصائد". فعندما يضيع كثير منها، "فإن الأمر أشبه ما يكون بحرق مكتبة". وترد معظم البيانات طويلة الأجل حول الحشرات من المنطقة المعتدلة (أي أوروبا أو الولايات المتحدة). لكن ما يقرب من 80 بالمئة من جميع أنواع الحشرات يعيش في المناطق المدارية، وهو ما قد يجعل نتائج داير وسالسيدو محمَّلة بدلالات على جانب كبير من الأهمية. فعلى الرغم من أن المناطق الزراعية تحيط بمحطة لاسيلفا -مع ما يجلبه ذلك من مشكلات كانقسام الموائل واستخدام مبيدات الآفات- فإن داير يرى أن تغير المناخ هو أحد العوامل الرئيسة لتراجع أعداد الحشرات. ويشير على وجه الخصوص إلى تزايد عدد الظواهر المناخية الحادة، كالفيضانات. ويقول إن أنواعا كثيرة من الحشرات "معرضة بقدر كبير للظروف المناخية الشديدة، لاسيما في المناطق الاستوائية. فهي لا تتأقلم مع التقلبات الكبيرة".
"دان جانزن" و"ويني هالواكس" عالمان من علماء البيئة الاستوائية لدى "جامعة بنسلفانيا". ويمضيان جزءًا من العام في فيلادلفيا وجزءا آخر في شمال مدينة ليبيريا في غرب كوستاريكا، داخل منزل يتقاسمانه مع أي كائن من الحياة البرية يستقر فيه، بما في ذلك العناكب "السوطية" وخفافيش "الرحيق". وعندما وصل أحد الزوار من لاسيلفا، أشارت هالواكس إلى صرصار بطول سبعة سنتيمترات تحت الحوض. وقال جانزن وهو يشير إلى كومة صغيرة من الورق المقطع في إحدى خزائن الكتب: "أقول للناس إن الكتب لا تعدو أن تكون طعامًا للنمل الأبيض". وتختلف المناظر الطبيعية المحيطة بالمكان اختلافًا تاما عن لاسيلفا (حيث توجد الغابات الاستوائية الجافة، وفي أعلى الجبل غابات السحاب بدلًا من الغابات المطرية المنخفضة). لكن في هذا المكان أيضا سجل جانزن وهالواكس انخفاضا هائلا في عدد الحشرات. وتذكر هالواكس أنه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما حصلا على أحد أوائل الحواسيب الشخصية، كان الضوء المنبعث من الشاشة يجذب في الليل حشرات كثيرة أجبرتهما على نصب خيمة في المنزل والعمل داخلها. ويقول جانزن: "لقد بلغ الحال بي حاليًا إلى وضع كل حشرة تمر بمكتبي في الليل داخل أنبوب بلاستيكي صغير به كحول". وكان جانزن قد عاد إلى كوستاريكا مدة أسبوعين ولم يجمع إلا تسع حشرات.
ويعزو جانزن وهالواكس أيضا انخفاض أعداد الحشرات في جزء كبير منه إلى تغير المناخ؛ إذ قال جانزن -الذي يبلغ من العمر 81 عامًا- إن الفصل الجاف كان يدوم، عندما جاء أول مرة إلى كوستاريكا في عام 1963، أربعة أشهر. ومضى قائلا: "يمتد الفصل الجاف اليوم ستة أشهر، لذلك فإن كل هذه الحشرات التي تنتظم حياتها وفق فصل جاف يستمر أربعة أشهر تواجه الآن آثار شهرين إضافيين. فينفد غذاؤها، وتنفد الإشارات الفصلية التي تتبعها في دورات حياتها، وينهار كل شيء".
فما الذي يمكن فعله لعكس مسار هذه الاتجاهات المنذرة بالسوء؟ يتوقف ذلك بالطبع، عند مستوى معين، على العوامل التي تحركها. فإذا كان محركها هو تغير المناخ في المقام الأول، فيبدو أن اتخاذ تدابير على الصعيد العالمي من أجل خفض الانبعاثات هو الكفيل وحده بإحداث تغيير في هذا الوضع. أما إذا كانت مبيدات الآفات أو فقدان الموائل هو السبب الرئيس، فربما يكون للعمل على النطاق الإقليمي أو المحلي تأثير كبير. وقد قام "الاتحاد الأوروبي"، في سعي منه لحماية الملقِّحات، بحظر معظم مبيدات الآفات التي تحتوي على مركبات "النيونيكوتينويد" والتي قرنتها العديد من الدراسات بتناقص أعداد الحشرات والطيور. فخلال الخريف الماضي، اعتمدت الحكومة الألمانية "برنامج عمل لحماية الحشرات" يدعو إلى إصلاح موائل الحشرات، وحظر استخدام المبيدات في مناطق معينة، والتخلص التدريجي من "الجليفوسات"، وهو مبيد أعشاب ضارة يستخدم على نطاق واسع (إذ من الممكن أن يتسبب الجليفوسات في القضاء على النباتات الرئيسة التي تعتمد عليها الحشرات، وتشير الأبحاث إلى احتمال تعطيله أيضا لنُظُمها المناعية). كما جاء في برنامج العمل، "أننا لا نستطيع الاستغناء عن الحشرات".
وفي الآونة الأخيرة، اقترحت مجموعة مؤلفة من أكثر من 50 عالما من مختلف أنحاء العالم "خريطة طريق" للحفاظ على الحشرات. وأوصت "باتخاذ خطوات صارمة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري"، وتخصيص مزيد من المناطق الطبيعية ملاذات آمنة للحشرات، وفرض ضوابط أكثر صرامة على الأنواع الغريبة (كانت أعداد نحل وافدة من أوروبا هي السبب في تناقص أعداد نحل "بومبوس دالبومي" الطنان في أميركا الجنوبية، وربما النحل الطنان ذي الرقعة الحمراء في أميركا الشمالية). كما دعت المجموعة إلى الحد من استخدام مبيدات الآفات والأسمدة الصناعية. ويقول فاغنر، الذي كان أحد أعضاء هذه المجموعة: "يمكننا القيام بكثير من الممارسات الجيدة، وذلك بصرف النظر عن مآل هذه القضية. وليَتَصدر قائمة تلك الممارسات كل ما له علاقة بالمناخ. وإذا استطعنا الرجوع باستخدام مبيدات الآفات إلى أغراض التشذيب والتجميل التي كانت مقصورة عليها في السابق، كاستخدامها مثلا في صيانة العشب، فإن ذلك سيعود بالنفع على كوكبنا".
من بين المنظمات القليلة في العالم التي تكرس نشاطها لحفظ اللافقاريات، "جمعية زيرسيس" التي يوجد مقرها في بورتلاند بولاية أوريغون (سُمّيت هذه الجمعية على اسم فراشة "زيرسيس الزرقاء" التي كانت تستوطن شبه جزيرة سان فرنسيسكو وانقرضت في أربعينيات القرن الماضي بسبب النمو العمراني). في أحد الأيام التي تلت تَسلُّقي جبل كاسل بيك بوقت قصير، ذهبت برفقة مدير الجمعية، "سكوت بلاك"، لزيارة بعض مشروعاتها التعاونية في سنترال فالي بولاية كاليفورنيا. وبينما كان بلاك يقود سيارته، تذكر إحدى أولى معشوقاته: سيارة "موستانغ" كان قد اشتراها في أيام مراهقته في نبراسكا عام 1979. كان عليه أن يغسلها باستمرار إذ كان يجد عليها حشرات نافقة. أما الآن -على حد قوله- فنادرًا ما يتعين عليه أن يزيل الحشرات النافقة من على سيارته. وقد لوحظت هذه الظاهرة على نطاق واسع إلى درجة أنها أصبحت تُعرف باسم "ظاهرة الزجاج الأمامي".
كانت السيارة تذرع كيلومترات من الحقول المزروعة على نحو متناسق. هز بلاك رأسه. ففي السابق، كانت المزارع في الوادي محفوفة برقع مليئة بالأعشاب الضارة التي كانت الحشرات تلجأ إليها. أما اليوم، فإن الناس -على حد قوله- يميلون إلى زرعها من جانب الطريق إلى الجانب الآخر؛ إذ يقول: "ما أراه هو نقص في الموائل". وصلنا في نهاية المطاف إلى "مزرعة بيكسلر" في بلدة ستوكتون. كانت محاصيل اللوز والتوت الأزرق تمتد على مساحة 520 هكتارًا، وكان مالكوها قد قرروا قبل أعوام قليلة العمل مع جمعية زيرسيس لزرع سياجات من الأشجار والنباتات واستعادة بعض الموائل الأصلية التي فُقدت على مدى نصف قرن من الزراعة المكثفة المتنامية. فقد زُرع أحد السياجات في خندق ري قديم وامتد مسافة تفوق الكيلومتر. وعلى طول هذه المسافة، كانت الشجيرات الطويلة، مثل ورد "وودز" والبلسان البري، تتناوب مع الشجيرات الصغيرة كالمريمية البيضاء والنبات الغربي. كانت أجواء ذلك اليوم من أيام نهاية الصيف مثقلة بالحر والغبار، وكان الظمأ باديًا على جل النباتات. ومع ذلك، كانت تضج بطنين النحل "القارض" ونحل "العرق". هنالك قال بلاك: "لدينا بيانات كثيرة تُظهر أنه عند توافر الموائل، فإن الحشرات ستأتي".
وتابع قائلا: "إن النباتات والحشرات هي نسيج هذا الكوكب. ونحن نمزق هذا النسيج إلى أشلاء. لذا ينبغي لنا رتقه وضم بعضه إلى بعض من جديد".