علم الذعر والهلع
ظلت أدمغتنا القلقة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحالي، معرضة لتعطل وظائفها عند مواجهة كل مجهول يثير مخاوفنا.منذ أن بدأ فيروس "كورونا" يتفشى في جميع أنحاء العالم، بتنا نعرف كثيرًا عن الحد الذي يمكن أن يمضي إليه الأفراد في سعيهم إلى الحصول على...
ظلت أدمغتنا القلقة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحالي، معرضة لتعطل وظائفها عند مواجهة كل مجهول يثير مخاوفنا.
منذ أن بدأ فيروس "كورونا" يتفشى في جميع أنحاء العالم، بتنا نعرف كثيرًا عن الحد الذي يمكن أن يمضي إليه الأفراد في سعيهم إلى الحصول على لفافة من ورق المراحيض أو أنبوب تعقيم اليدين أو قناع الوجه. فمع تزايد عدد حالات الإصابة المؤكدة بهذا الوباء وتوجه الدول نحو تقييد التجمعات الكبيرة وارتياد المتاجر، لتعزيز التباعد الجسدي، أضحت هذه المخاوف والشكوك تحرك ما يسمى "هلع الشراء" الذي يُفرغ رفوف المتاجر بوتيرة أسرع من وتيرة إعادة تموينها.
فتكديس المشتريات بدافع الذعر هو إحدى الطرق التي درج البشر على التعامل بها مع شعورهم بعدم اليقين بشأن الأوبئة منذ عام 1918 على الأقل خلال تفشي الإنفلونزا الإسبانية (عندما تهافت أهالي بالتيمور على مخازن الأدوية لشراء كل ما من شأنه أن يقيهم الإنفلونزا أو يخفف أعراضها)، وصولا إلى تفشي "سارس" عام 2003. وتوضح "كاريستان كوينين"، أستاذة الطب النفسي المتعلق بعلم الأوبئة لــدى "كليــة تشان للصحة العامة" في "جامعة هارفارد"، هذا الأمر قائلة: "عندما يعاين المرء ردود فعل متطرفة، فمَرَدُّ ذلك إحساس الناس بأن بقاءهم مهدد وبأنهم يحتاجون إلى القيام بشيء ليشعروا أنهم يسيطرون على الوضع". لكن ما الذي يجعلنا نُصاب بالذعر على وجه التحديد؛ وما السبيل إلى الحفاظ على هدوئنا في الأوقات العصيبة كظهور أحد الأوبئة؟ يتوقف ذلك على الكيفية التي تعمل بها مناطق مختلفة من الدماغ مع بعضها بعضًا.
لقد اعتمد بقاء الإنسان طوال تاريخ البشرية على كل من الخوف والقلق؛ إذ يدفعاننا إلى القيام برد فعل فوري كلما واجهنا تهديدًا (مثل أسد يتربص في الجوار)، مع امتلاك القدرة على التفكير الملي في التهديدات المحتملة (أين يا ترى ستكون الأسود هذه الليلة؟).
ويبدأ الذعر عندما يختل التواصل بين بعض مناطق الدماغ؛ إذ تفسر كوينين ذلك برغبة اللوزة الدماغية -وهي مركز العاطفة في الدماغ- بأن نبتعد عن طريق الأذى على الفور؛ ولا تلقي بالا للطريقة التي سنتفادى بها "الأسد".
لكن القشرة الجبهية الأمامية -التي تعالج الاستجابات السلوكية- تصر على ضرورة تفكيرنا الملي في وضعية الأسد في المقام الأول قبل أن نتصرف. وكم سيمر من الوقت قبل أن نصادف أسدًا مرة أخرى؛ وما الذي ينبغي فعله حيال ذلك؟ في بعض الأحيان يمكن أن يدخل القلق والتوتر على الخط ويعيقان عملية التفكير: فبدلًا من أن "تتحدث" القشرة الجبهية الأمامية مباشرة إلى أجزاء الدماغ التي تُحسِن التخطيط واتخاذ القرارات، يختلط عليها الأمر بفعل "الأحاديث الجانبية" بين أجزاء أخرى من الدماغ تصمم على تصور جميع السيناريوهات المحتملة بشأن الطريقة التي قد نسقط بها فريسةً بين أنياب الأسد. ويستبد الذعر بالمرء عندما يحصل عطل في المسألة برمتها. ففي الوقت الذي تريد فيه القشرة الجبهية الأمامية أن تفكر بالمكان الذي قد تكون فيه الأسود في ليلة الغد، فإن اللوزة الدماغية تصاب بحالة تنبّه مفرط.
تقول كوينين: "يحدث الذعر عندما تغلب المشاعر على هذا الجزء الأكثر عقلانية من الدماغ [أي القشرة الجبهية الأمامية]". ومن ثم، يشتد الخوف إلى درجة أن اللوزة الدماغية تتولى زمام الأمور ويباشر الأدرينالين عمله. وفي بعض الحالات، يمكن أن يكون الذعر منقذًا للحياة. فعندما يكون المرء معرضًا لخطر الوقوع بين أنياب أسد أو الدهس بسيارة، فمن الممكن أن يكون رد الفعل الأكثر عقلانية هو الهرب أو القتال أو عدم القيام بأي حركة؛ إذ لا نريد أن تستنفد أدمغتنا وقتًا كثيرًا في مناقشة رد الفعل.
لكن من الممكن أن ينطوي الاقتصار على الإنصات إلى اللوزة الدماغية على عيوب خطيرة. فقد ضمَّن عالم الاجتماع "إنريكو كوارانتيلي"، الذي أجرى بحثًا رائدًا حول سلوك البشر أثناء الكوارث، في العمل الذي أنجزه عام 1954 في موضوع "طبيعة الذعر وظروفه"، قصة امرأة سمعت دويَّ انفجار وهربت من منزلها، معتقدة أن قنبلة أصابته. ولم تتذكر أنها تركت طفلها وراءها إلا بعد أن أدركت أن الانفجار وقع في الشارع المقابل.
وقد كتب كوارانتيلي: "إن الذعر ليس سلوكًا معاديًا للمجتمع، بل هو سلوك غير اجتماعي. فهذا التفكك للقواعد الاجتماعية يؤدي أحيانًا إلى تشظي أقوى الروابط الأساسية التي تجمع بين الجماعة". ولا يُجدِ الذعر نفعًا كثيرا في التهديدات طويلة الأمد أيضًا. فهذه الحالة تستوجب من القشرة الجبهية الأمامية أن تظل ممسكة بزمام الأمور لتنبيه الفرد إلى احتمال وجود تهديد، مع أخذ الوقت الكافي لتقييم المخاطر ووضع خطة للتصرف. لكن، ما دمنا نتلقى سيلا من المعلومات والرسائل خلال جائحة كورونا هذه، فلماذا يعمد بعض الناس إلى تخزين ورق المراحيض ومعقم اليدين فيما يتجاهل آخرون المخاطر ويحتشدون داخل الحانات؟
من المعروف أن البشر لا يُحسِنون تقييم المخاطر في مواجهة حالات الغموض وعدم اليقين؛ وغالبا ما يتخذ سوء تقديرنا لها أشكالا مختلفة تفضي بنا إلى المبالغة في تقدير المخاطر الشخصية أو التقليل من شأنها. تقول "سونيا بيشوب" -الأستاذة المشاركة في علم النفس لدى "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" والتي تبحث طرق تأثير القلق في عملية صنع القرار- إن ذلك الأمر ينسحب اليوم وبشكل خاص على جائحة كورونا. فالرسائل المتضاربة التي ترِد من الحكومات ووسائل الإعلام وسلطات الصحة العامة (كالتوصيات المتنوعة بشأن التباعد الجسدي) تغذي القلق والمخاوف.
وتمضي بيشوب قائلة: "لسنا معتادين العيش في أوضاع تتغير فيها الاحتمالات بوتيرة سريعة". فالوضع الأمثل -حسب بيشوب- يتمثل في اعتماد نهج يسمى "التعلم غير القائم على النماذج" لتقييم المخاطر التي نواجهها في حالات الغموض وعدم اليقين. ويقوم هذا النهج في الأساس على التجربة والخطأ؛ إذ نعتمد على تجاربنا الشخصية ونحدِّث تدريجيًا تقديراتنا حول مدى احتمالية حدوث أمر ما، وأضراره المحتملة في حال وقوعه، ومقدار الجهد الذي ينبغي لنا بذله للحيلولة دون وقوعه. تقول بيشوب إن كثيرًا من الناس يلجؤون، في غياب نموذج محدد لكيفية التعامل مع التهديد، إلى التعلم القائم على النماذج، وهو إطار نحاول فيه إما تذكر أمثلة من الماضي وإما محاكاة احتمالات مستقبلية. وهنا يظهر "التوافر الإرشادي". فإذا سمع المرء أو قرأ كثيرا عن شيء معين (كحادث تحطم طائرة حظي باهتمام واسع في الأخبار)، يصبح من السهل جدا عليه تخيل نفسه داخل طائرة متحطمة، إلى درجة أنه قد يبالغ في تقدير خطر الطيران. تقول بيشوب: "إن سهولة محاكاة هذا السيناريو هي التي تطغى بعد ذلك على أحكامنا بشأن هذا الاحتمال".
وعلى المنوال نفسه، ينحاز بعض الناس إلى جانب التفاؤل أو يركنون إلى التشاؤم. ففي الوقت الذي لا يكف فيه المتشائمون عن تصور كل السيناريوهات الرهيبة المحتملة بقلق بالغ، يميل المتفائلون إلى الاعتقاد بأنه لن يحدث أي مكروه. وحتى لو حدث أن كانوا ضمن إحدى الفئات الهشة، فإنهم لا يعدمون الوسائل للتوفيق بين ذلك ورؤيتهم للعالم من خلال التأكيد لأنفسهم بأنهم يتمتعون بصحة جيدة؛ ولا يمكن أن يقتلهم وباء كورونا. تقول بيشوب: "إن ذلك يعيد للمرء بعض [الشعور بِـ] القدرة على السيطرة".
وهل ثمة وقت مناسب للذعر؟ على الرغم من وجود أشخاص يتصرفون وفق محددات أحد هذين الطرفين النقيضين، فإن جل الناس يعاني شيئًا آخر: القلق الحاد. وقد يكون قدر يسير من القلق أمرا مستحبًّا في مواجهة الكوارث. فالخوف يمكن أن يكون عاملا محفزا فيرفع من مستويات يقظتنا وطاقتنا؛ فيذكرنا بغسل أيدينا، وبالاهتمام بالأخبار.. بل وحتى بتخزين المواد الأساسية من محلات البقالة. وتشير "جينيفر هورني"، المديرة المؤسِّسة لعلم الأوبئة لدى "جامعة ديلاوير" والخبيرة في مجال تأهب نظم الصحة العامة، إلى أن قليلًا من الذعر قد يكون بالغ الفائدة في مكان مثل الولايات المتحدة، التي لم يُحسِن سكانها -عبر التاريخ وعلى خلاف البلدان الأخرى- اتباع إجراءات الصحة العامة مثل العزل والحجر الصحي.
وتضيف قائلة: "ربما يكون قليلٌ من الذعر بهذا المعنى مجديًا من حيث إدراك مدى تأثير سلوكنا في الآخرين". وفي المقابل، يظل القلق مصدر معاناة رهيبة على المدى الطويل. فمثلًا، مع تزايد قلقنا، يصعب على أدمغتنا تلافي الانزلاق إلى وضع الذعر. وقد أشارت الدراسات إلى أن الضغوط المزمنة يمكن أن تقلص أجزاء الدماغ التي تساعدنا في التفكير المنطقي؛ ما يمكن أن يزيد من إذكاء الذعر.
وتشير بيشوب إلى أن أجسامنا لم تُخلق في الواقع لتتعايش مع التوتر والقلق الحادين مدة أسابيع وشهور. فعلى الرغم من أنهما قد يمنحانا دفعة من الطاقة على المدى القصير، فإن استمرارهما يخلف لدينا الإنهاك والاكتئاب. ويمكن أن تترتب عن ذلك في نهاية المطاف تداعيات خطيرة على استجابة المجتمع إذا بات الناس يشعرون بالإنهاك الشديد من التباعد الجسدي، ومن ثم يشرعون في مغادرة منازلهم قبل أن يصل الوباء إلى ذروته ومن ثم انحساره.
وتقول هورني، التي دربت فرق الاستجابة السريعة خلال جائحة "إنفلونزا الخنازير" عام 2009، إن الحد من عدم اليقين هو السبيل لضمان نجاح تدخلاتنا. وتشير هورني إلى أن فيروس كورونا ليس مجهولا بالكامل. فمسؤولو الصحة العامة يعرفون أيضًا الكثير عن الفيروسات التاجية من خلال تعاملهم مع "سارس" و"ميرس". وتقول الخبيرة ذاتها: "إن كثيرًا مما يحدث اليوم هو جزء من تدابير الصحة العامة النموذجية التي نتخذها للسيطرة على تفشي الأمراض، غير أنها تُتَّخذ اليوم على نطاق أوسع بكثير".
"ونحن نُخضِع السفن السياحية للحجر الصحي طوال الوقت بسبب تفشي الأمراض، لكن عادة ما تقتصر الحالات على إصابة بـ "نوروفيروس" (Norovirus) أو الإنفلونزا الموسمية".
منذ أن بدأ فيروس "كورونا" يتفشى في جميع أنحاء العالم، بتنا نعرف كثيرًا عن الحد الذي يمكن أن يمضي إليه الأفراد في سعيهم إلى الحصول على لفافة من ورق المراحيض أو أنبوب تعقيم اليدين أو قناع الوجه. فمع تزايد عدد حالات الإصابة المؤكدة بهذا الوباء وتوجه الدول نحو تقييد التجمعات الكبيرة وارتياد المتاجر، لتعزيز التباعد الجسدي، أضحت هذه المخاوف والشكوك تحرك ما يسمى "هلع الشراء" الذي يُفرغ رفوف المتاجر بوتيرة أسرع من وتيرة إعادة تموينها.
فتكديس المشتريات بدافع الذعر هو إحدى الطرق التي درج البشر على التعامل بها مع شعورهم بعدم اليقين بشأن الأوبئة منذ عام 1918 على الأقل خلال تفشي الإنفلونزا الإسبانية (عندما تهافت أهالي بالتيمور على مخازن الأدوية لشراء كل ما من شأنه أن يقيهم الإنفلونزا أو يخفف أعراضها)، وصولا إلى تفشي "سارس" عام 2003. وتوضح "كاريستان كوينين"، أستاذة الطب النفسي المتعلق بعلم الأوبئة لــدى "كليــة تشان للصحة العامة" في "جامعة هارفارد"، هذا الأمر قائلة: "عندما يعاين المرء ردود فعل متطرفة، فمَرَدُّ ذلك إحساس الناس بأن بقاءهم مهدد وبأنهم يحتاجون إلى القيام بشيء ليشعروا أنهم يسيطرون على الوضع". لكن ما الذي يجعلنا نُصاب بالذعر على وجه التحديد؛ وما السبيل إلى الحفاظ على هدوئنا في الأوقات العصيبة كظهور أحد الأوبئة؟ يتوقف ذلك على الكيفية التي تعمل بها مناطق مختلفة من الدماغ مع بعضها بعضًا.
لقد اعتمد بقاء الإنسان طوال تاريخ البشرية على كل من الخوف والقلق؛ إذ يدفعاننا إلى القيام برد فعل فوري كلما واجهنا تهديدًا (مثل أسد يتربص في الجوار)، مع امتلاك القدرة على التفكير الملي في التهديدات المحتملة (أين يا ترى ستكون الأسود هذه الليلة؟).
ويبدأ الذعر عندما يختل التواصل بين بعض مناطق الدماغ؛ إذ تفسر كوينين ذلك برغبة اللوزة الدماغية -وهي مركز العاطفة في الدماغ- بأن نبتعد عن طريق الأذى على الفور؛ ولا تلقي بالا للطريقة التي سنتفادى بها "الأسد".
لكن القشرة الجبهية الأمامية -التي تعالج الاستجابات السلوكية- تصر على ضرورة تفكيرنا الملي في وضعية الأسد في المقام الأول قبل أن نتصرف. وكم سيمر من الوقت قبل أن نصادف أسدًا مرة أخرى؛ وما الذي ينبغي فعله حيال ذلك؟ في بعض الأحيان يمكن أن يدخل القلق والتوتر على الخط ويعيقان عملية التفكير: فبدلًا من أن "تتحدث" القشرة الجبهية الأمامية مباشرة إلى أجزاء الدماغ التي تُحسِن التخطيط واتخاذ القرارات، يختلط عليها الأمر بفعل "الأحاديث الجانبية" بين أجزاء أخرى من الدماغ تصمم على تصور جميع السيناريوهات المحتملة بشأن الطريقة التي قد نسقط بها فريسةً بين أنياب الأسد. ويستبد الذعر بالمرء عندما يحصل عطل في المسألة برمتها. ففي الوقت الذي تريد فيه القشرة الجبهية الأمامية أن تفكر بالمكان الذي قد تكون فيه الأسود في ليلة الغد، فإن اللوزة الدماغية تصاب بحالة تنبّه مفرط.
تقول كوينين: "يحدث الذعر عندما تغلب المشاعر على هذا الجزء الأكثر عقلانية من الدماغ [أي القشرة الجبهية الأمامية]". ومن ثم، يشتد الخوف إلى درجة أن اللوزة الدماغية تتولى زمام الأمور ويباشر الأدرينالين عمله. وفي بعض الحالات، يمكن أن يكون الذعر منقذًا للحياة. فعندما يكون المرء معرضًا لخطر الوقوع بين أنياب أسد أو الدهس بسيارة، فمن الممكن أن يكون رد الفعل الأكثر عقلانية هو الهرب أو القتال أو عدم القيام بأي حركة؛ إذ لا نريد أن تستنفد أدمغتنا وقتًا كثيرًا في مناقشة رد الفعل.
لكن من الممكن أن ينطوي الاقتصار على الإنصات إلى اللوزة الدماغية على عيوب خطيرة. فقد ضمَّن عالم الاجتماع "إنريكو كوارانتيلي"، الذي أجرى بحثًا رائدًا حول سلوك البشر أثناء الكوارث، في العمل الذي أنجزه عام 1954 في موضوع "طبيعة الذعر وظروفه"، قصة امرأة سمعت دويَّ انفجار وهربت من منزلها، معتقدة أن قنبلة أصابته. ولم تتذكر أنها تركت طفلها وراءها إلا بعد أن أدركت أن الانفجار وقع في الشارع المقابل.
وقد كتب كوارانتيلي: "إن الذعر ليس سلوكًا معاديًا للمجتمع، بل هو سلوك غير اجتماعي. فهذا التفكك للقواعد الاجتماعية يؤدي أحيانًا إلى تشظي أقوى الروابط الأساسية التي تجمع بين الجماعة". ولا يُجدِ الذعر نفعًا كثيرا في التهديدات طويلة الأمد أيضًا. فهذه الحالة تستوجب من القشرة الجبهية الأمامية أن تظل ممسكة بزمام الأمور لتنبيه الفرد إلى احتمال وجود تهديد، مع أخذ الوقت الكافي لتقييم المخاطر ووضع خطة للتصرف. لكن، ما دمنا نتلقى سيلا من المعلومات والرسائل خلال جائحة كورونا هذه، فلماذا يعمد بعض الناس إلى تخزين ورق المراحيض ومعقم اليدين فيما يتجاهل آخرون المخاطر ويحتشدون داخل الحانات؟
من المعروف أن البشر لا يُحسِنون تقييم المخاطر في مواجهة حالات الغموض وعدم اليقين؛ وغالبا ما يتخذ سوء تقديرنا لها أشكالا مختلفة تفضي بنا إلى المبالغة في تقدير المخاطر الشخصية أو التقليل من شأنها. تقول "سونيا بيشوب" -الأستاذة المشاركة في علم النفس لدى "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" والتي تبحث طرق تأثير القلق في عملية صنع القرار- إن ذلك الأمر ينسحب اليوم وبشكل خاص على جائحة كورونا. فالرسائل المتضاربة التي ترِد من الحكومات ووسائل الإعلام وسلطات الصحة العامة (كالتوصيات المتنوعة بشأن التباعد الجسدي) تغذي القلق والمخاوف.
وتمضي بيشوب قائلة: "لسنا معتادين العيش في أوضاع تتغير فيها الاحتمالات بوتيرة سريعة". فالوضع الأمثل -حسب بيشوب- يتمثل في اعتماد نهج يسمى "التعلم غير القائم على النماذج" لتقييم المخاطر التي نواجهها في حالات الغموض وعدم اليقين. ويقوم هذا النهج في الأساس على التجربة والخطأ؛ إذ نعتمد على تجاربنا الشخصية ونحدِّث تدريجيًا تقديراتنا حول مدى احتمالية حدوث أمر ما، وأضراره المحتملة في حال وقوعه، ومقدار الجهد الذي ينبغي لنا بذله للحيلولة دون وقوعه. تقول بيشوب إن كثيرًا من الناس يلجؤون، في غياب نموذج محدد لكيفية التعامل مع التهديد، إلى التعلم القائم على النماذج، وهو إطار نحاول فيه إما تذكر أمثلة من الماضي وإما محاكاة احتمالات مستقبلية. وهنا يظهر "التوافر الإرشادي". فإذا سمع المرء أو قرأ كثيرا عن شيء معين (كحادث تحطم طائرة حظي باهتمام واسع في الأخبار)، يصبح من السهل جدا عليه تخيل نفسه داخل طائرة متحطمة، إلى درجة أنه قد يبالغ في تقدير خطر الطيران. تقول بيشوب: "إن سهولة محاكاة هذا السيناريو هي التي تطغى بعد ذلك على أحكامنا بشأن هذا الاحتمال".
وعلى المنوال نفسه، ينحاز بعض الناس إلى جانب التفاؤل أو يركنون إلى التشاؤم. ففي الوقت الذي لا يكف فيه المتشائمون عن تصور كل السيناريوهات الرهيبة المحتملة بقلق بالغ، يميل المتفائلون إلى الاعتقاد بأنه لن يحدث أي مكروه. وحتى لو حدث أن كانوا ضمن إحدى الفئات الهشة، فإنهم لا يعدمون الوسائل للتوفيق بين ذلك ورؤيتهم للعالم من خلال التأكيد لأنفسهم بأنهم يتمتعون بصحة جيدة؛ ولا يمكن أن يقتلهم وباء كورونا. تقول بيشوب: "إن ذلك يعيد للمرء بعض [الشعور بِـ] القدرة على السيطرة".
وهل ثمة وقت مناسب للذعر؟ على الرغم من وجود أشخاص يتصرفون وفق محددات أحد هذين الطرفين النقيضين، فإن جل الناس يعاني شيئًا آخر: القلق الحاد. وقد يكون قدر يسير من القلق أمرا مستحبًّا في مواجهة الكوارث. فالخوف يمكن أن يكون عاملا محفزا فيرفع من مستويات يقظتنا وطاقتنا؛ فيذكرنا بغسل أيدينا، وبالاهتمام بالأخبار.. بل وحتى بتخزين المواد الأساسية من محلات البقالة. وتشير "جينيفر هورني"، المديرة المؤسِّسة لعلم الأوبئة لدى "جامعة ديلاوير" والخبيرة في مجال تأهب نظم الصحة العامة، إلى أن قليلًا من الذعر قد يكون بالغ الفائدة في مكان مثل الولايات المتحدة، التي لم يُحسِن سكانها -عبر التاريخ وعلى خلاف البلدان الأخرى- اتباع إجراءات الصحة العامة مثل العزل والحجر الصحي.
وتضيف قائلة: "ربما يكون قليلٌ من الذعر بهذا المعنى مجديًا من حيث إدراك مدى تأثير سلوكنا في الآخرين". وفي المقابل، يظل القلق مصدر معاناة رهيبة على المدى الطويل. فمثلًا، مع تزايد قلقنا، يصعب على أدمغتنا تلافي الانزلاق إلى وضع الذعر. وقد أشارت الدراسات إلى أن الضغوط المزمنة يمكن أن تقلص أجزاء الدماغ التي تساعدنا في التفكير المنطقي؛ ما يمكن أن يزيد من إذكاء الذعر.
وتشير بيشوب إلى أن أجسامنا لم تُخلق في الواقع لتتعايش مع التوتر والقلق الحادين مدة أسابيع وشهور. فعلى الرغم من أنهما قد يمنحانا دفعة من الطاقة على المدى القصير، فإن استمرارهما يخلف لدينا الإنهاك والاكتئاب. ويمكن أن تترتب عن ذلك في نهاية المطاف تداعيات خطيرة على استجابة المجتمع إذا بات الناس يشعرون بالإنهاك الشديد من التباعد الجسدي، ومن ثم يشرعون في مغادرة منازلهم قبل أن يصل الوباء إلى ذروته ومن ثم انحساره.
وتقول هورني، التي دربت فرق الاستجابة السريعة خلال جائحة "إنفلونزا الخنازير" عام 2009، إن الحد من عدم اليقين هو السبيل لضمان نجاح تدخلاتنا. وتشير هورني إلى أن فيروس كورونا ليس مجهولا بالكامل. فمسؤولو الصحة العامة يعرفون أيضًا الكثير عن الفيروسات التاجية من خلال تعاملهم مع "سارس" و"ميرس". وتقول الخبيرة ذاتها: "إن كثيرًا مما يحدث اليوم هو جزء من تدابير الصحة العامة النموذجية التي نتخذها للسيطرة على تفشي الأمراض، غير أنها تُتَّخذ اليوم على نطاق أوسع بكثير".
"ونحن نُخضِع السفن السياحية للحجر الصحي طوال الوقت بسبب تفشي الأمراض، لكن عادة ما تقتصر الحالات على إصابة بـ "نوروفيروس" (Norovirus) أو الإنفلونزا الموسمية".
علم الذعر والهلع
- آيمي ماك كيفير
ظلت أدمغتنا القلقة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحالي، معرضة لتعطل وظائفها عند مواجهة كل مجهول يثير مخاوفنا.منذ أن بدأ فيروس "كورونا" يتفشى في جميع أنحاء العالم، بتنا نعرف كثيرًا عن الحد الذي يمكن أن يمضي إليه الأفراد في سعيهم إلى الحصول على...
ظلت أدمغتنا القلقة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحالي، معرضة لتعطل وظائفها عند مواجهة كل مجهول يثير مخاوفنا.
منذ أن بدأ فيروس "كورونا" يتفشى في جميع أنحاء العالم، بتنا نعرف كثيرًا عن الحد الذي يمكن أن يمضي إليه الأفراد في سعيهم إلى الحصول على لفافة من ورق المراحيض أو أنبوب تعقيم اليدين أو قناع الوجه. فمع تزايد عدد حالات الإصابة المؤكدة بهذا الوباء وتوجه الدول نحو تقييد التجمعات الكبيرة وارتياد المتاجر، لتعزيز التباعد الجسدي، أضحت هذه المخاوف والشكوك تحرك ما يسمى "هلع الشراء" الذي يُفرغ رفوف المتاجر بوتيرة أسرع من وتيرة إعادة تموينها.
فتكديس المشتريات بدافع الذعر هو إحدى الطرق التي درج البشر على التعامل بها مع شعورهم بعدم اليقين بشأن الأوبئة منذ عام 1918 على الأقل خلال تفشي الإنفلونزا الإسبانية (عندما تهافت أهالي بالتيمور على مخازن الأدوية لشراء كل ما من شأنه أن يقيهم الإنفلونزا أو يخفف أعراضها)، وصولا إلى تفشي "سارس" عام 2003. وتوضح "كاريستان كوينين"، أستاذة الطب النفسي المتعلق بعلم الأوبئة لــدى "كليــة تشان للصحة العامة" في "جامعة هارفارد"، هذا الأمر قائلة: "عندما يعاين المرء ردود فعل متطرفة، فمَرَدُّ ذلك إحساس الناس بأن بقاءهم مهدد وبأنهم يحتاجون إلى القيام بشيء ليشعروا أنهم يسيطرون على الوضع". لكن ما الذي يجعلنا نُصاب بالذعر على وجه التحديد؛ وما السبيل إلى الحفاظ على هدوئنا في الأوقات العصيبة كظهور أحد الأوبئة؟ يتوقف ذلك على الكيفية التي تعمل بها مناطق مختلفة من الدماغ مع بعضها بعضًا.
لقد اعتمد بقاء الإنسان طوال تاريخ البشرية على كل من الخوف والقلق؛ إذ يدفعاننا إلى القيام برد فعل فوري كلما واجهنا تهديدًا (مثل أسد يتربص في الجوار)، مع امتلاك القدرة على التفكير الملي في التهديدات المحتملة (أين يا ترى ستكون الأسود هذه الليلة؟).
ويبدأ الذعر عندما يختل التواصل بين بعض مناطق الدماغ؛ إذ تفسر كوينين ذلك برغبة اللوزة الدماغية -وهي مركز العاطفة في الدماغ- بأن نبتعد عن طريق الأذى على الفور؛ ولا تلقي بالا للطريقة التي سنتفادى بها "الأسد".
لكن القشرة الجبهية الأمامية -التي تعالج الاستجابات السلوكية- تصر على ضرورة تفكيرنا الملي في وضعية الأسد في المقام الأول قبل أن نتصرف. وكم سيمر من الوقت قبل أن نصادف أسدًا مرة أخرى؛ وما الذي ينبغي فعله حيال ذلك؟ في بعض الأحيان يمكن أن يدخل القلق والتوتر على الخط ويعيقان عملية التفكير: فبدلًا من أن "تتحدث" القشرة الجبهية الأمامية مباشرة إلى أجزاء الدماغ التي تُحسِن التخطيط واتخاذ القرارات، يختلط عليها الأمر بفعل "الأحاديث الجانبية" بين أجزاء أخرى من الدماغ تصمم على تصور جميع السيناريوهات المحتملة بشأن الطريقة التي قد نسقط بها فريسةً بين أنياب الأسد. ويستبد الذعر بالمرء عندما يحصل عطل في المسألة برمتها. ففي الوقت الذي تريد فيه القشرة الجبهية الأمامية أن تفكر بالمكان الذي قد تكون فيه الأسود في ليلة الغد، فإن اللوزة الدماغية تصاب بحالة تنبّه مفرط.
تقول كوينين: "يحدث الذعر عندما تغلب المشاعر على هذا الجزء الأكثر عقلانية من الدماغ [أي القشرة الجبهية الأمامية]". ومن ثم، يشتد الخوف إلى درجة أن اللوزة الدماغية تتولى زمام الأمور ويباشر الأدرينالين عمله. وفي بعض الحالات، يمكن أن يكون الذعر منقذًا للحياة. فعندما يكون المرء معرضًا لخطر الوقوع بين أنياب أسد أو الدهس بسيارة، فمن الممكن أن يكون رد الفعل الأكثر عقلانية هو الهرب أو القتال أو عدم القيام بأي حركة؛ إذ لا نريد أن تستنفد أدمغتنا وقتًا كثيرًا في مناقشة رد الفعل.
لكن من الممكن أن ينطوي الاقتصار على الإنصات إلى اللوزة الدماغية على عيوب خطيرة. فقد ضمَّن عالم الاجتماع "إنريكو كوارانتيلي"، الذي أجرى بحثًا رائدًا حول سلوك البشر أثناء الكوارث، في العمل الذي أنجزه عام 1954 في موضوع "طبيعة الذعر وظروفه"، قصة امرأة سمعت دويَّ انفجار وهربت من منزلها، معتقدة أن قنبلة أصابته. ولم تتذكر أنها تركت طفلها وراءها إلا بعد أن أدركت أن الانفجار وقع في الشارع المقابل.
وقد كتب كوارانتيلي: "إن الذعر ليس سلوكًا معاديًا للمجتمع، بل هو سلوك غير اجتماعي. فهذا التفكك للقواعد الاجتماعية يؤدي أحيانًا إلى تشظي أقوى الروابط الأساسية التي تجمع بين الجماعة". ولا يُجدِ الذعر نفعًا كثيرا في التهديدات طويلة الأمد أيضًا. فهذه الحالة تستوجب من القشرة الجبهية الأمامية أن تظل ممسكة بزمام الأمور لتنبيه الفرد إلى احتمال وجود تهديد، مع أخذ الوقت الكافي لتقييم المخاطر ووضع خطة للتصرف. لكن، ما دمنا نتلقى سيلا من المعلومات والرسائل خلال جائحة كورونا هذه، فلماذا يعمد بعض الناس إلى تخزين ورق المراحيض ومعقم اليدين فيما يتجاهل آخرون المخاطر ويحتشدون داخل الحانات؟
من المعروف أن البشر لا يُحسِنون تقييم المخاطر في مواجهة حالات الغموض وعدم اليقين؛ وغالبا ما يتخذ سوء تقديرنا لها أشكالا مختلفة تفضي بنا إلى المبالغة في تقدير المخاطر الشخصية أو التقليل من شأنها. تقول "سونيا بيشوب" -الأستاذة المشاركة في علم النفس لدى "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" والتي تبحث طرق تأثير القلق في عملية صنع القرار- إن ذلك الأمر ينسحب اليوم وبشكل خاص على جائحة كورونا. فالرسائل المتضاربة التي ترِد من الحكومات ووسائل الإعلام وسلطات الصحة العامة (كالتوصيات المتنوعة بشأن التباعد الجسدي) تغذي القلق والمخاوف.
وتمضي بيشوب قائلة: "لسنا معتادين العيش في أوضاع تتغير فيها الاحتمالات بوتيرة سريعة". فالوضع الأمثل -حسب بيشوب- يتمثل في اعتماد نهج يسمى "التعلم غير القائم على النماذج" لتقييم المخاطر التي نواجهها في حالات الغموض وعدم اليقين. ويقوم هذا النهج في الأساس على التجربة والخطأ؛ إذ نعتمد على تجاربنا الشخصية ونحدِّث تدريجيًا تقديراتنا حول مدى احتمالية حدوث أمر ما، وأضراره المحتملة في حال وقوعه، ومقدار الجهد الذي ينبغي لنا بذله للحيلولة دون وقوعه. تقول بيشوب إن كثيرًا من الناس يلجؤون، في غياب نموذج محدد لكيفية التعامل مع التهديد، إلى التعلم القائم على النماذج، وهو إطار نحاول فيه إما تذكر أمثلة من الماضي وإما محاكاة احتمالات مستقبلية. وهنا يظهر "التوافر الإرشادي". فإذا سمع المرء أو قرأ كثيرا عن شيء معين (كحادث تحطم طائرة حظي باهتمام واسع في الأخبار)، يصبح من السهل جدا عليه تخيل نفسه داخل طائرة متحطمة، إلى درجة أنه قد يبالغ في تقدير خطر الطيران. تقول بيشوب: "إن سهولة محاكاة هذا السيناريو هي التي تطغى بعد ذلك على أحكامنا بشأن هذا الاحتمال".
وعلى المنوال نفسه، ينحاز بعض الناس إلى جانب التفاؤل أو يركنون إلى التشاؤم. ففي الوقت الذي لا يكف فيه المتشائمون عن تصور كل السيناريوهات الرهيبة المحتملة بقلق بالغ، يميل المتفائلون إلى الاعتقاد بأنه لن يحدث أي مكروه. وحتى لو حدث أن كانوا ضمن إحدى الفئات الهشة، فإنهم لا يعدمون الوسائل للتوفيق بين ذلك ورؤيتهم للعالم من خلال التأكيد لأنفسهم بأنهم يتمتعون بصحة جيدة؛ ولا يمكن أن يقتلهم وباء كورونا. تقول بيشوب: "إن ذلك يعيد للمرء بعض [الشعور بِـ] القدرة على السيطرة".
وهل ثمة وقت مناسب للذعر؟ على الرغم من وجود أشخاص يتصرفون وفق محددات أحد هذين الطرفين النقيضين، فإن جل الناس يعاني شيئًا آخر: القلق الحاد. وقد يكون قدر يسير من القلق أمرا مستحبًّا في مواجهة الكوارث. فالخوف يمكن أن يكون عاملا محفزا فيرفع من مستويات يقظتنا وطاقتنا؛ فيذكرنا بغسل أيدينا، وبالاهتمام بالأخبار.. بل وحتى بتخزين المواد الأساسية من محلات البقالة. وتشير "جينيفر هورني"، المديرة المؤسِّسة لعلم الأوبئة لدى "جامعة ديلاوير" والخبيرة في مجال تأهب نظم الصحة العامة، إلى أن قليلًا من الذعر قد يكون بالغ الفائدة في مكان مثل الولايات المتحدة، التي لم يُحسِن سكانها -عبر التاريخ وعلى خلاف البلدان الأخرى- اتباع إجراءات الصحة العامة مثل العزل والحجر الصحي.
وتضيف قائلة: "ربما يكون قليلٌ من الذعر بهذا المعنى مجديًا من حيث إدراك مدى تأثير سلوكنا في الآخرين". وفي المقابل، يظل القلق مصدر معاناة رهيبة على المدى الطويل. فمثلًا، مع تزايد قلقنا، يصعب على أدمغتنا تلافي الانزلاق إلى وضع الذعر. وقد أشارت الدراسات إلى أن الضغوط المزمنة يمكن أن تقلص أجزاء الدماغ التي تساعدنا في التفكير المنطقي؛ ما يمكن أن يزيد من إذكاء الذعر.
وتشير بيشوب إلى أن أجسامنا لم تُخلق في الواقع لتتعايش مع التوتر والقلق الحادين مدة أسابيع وشهور. فعلى الرغم من أنهما قد يمنحانا دفعة من الطاقة على المدى القصير، فإن استمرارهما يخلف لدينا الإنهاك والاكتئاب. ويمكن أن تترتب عن ذلك في نهاية المطاف تداعيات خطيرة على استجابة المجتمع إذا بات الناس يشعرون بالإنهاك الشديد من التباعد الجسدي، ومن ثم يشرعون في مغادرة منازلهم قبل أن يصل الوباء إلى ذروته ومن ثم انحساره.
وتقول هورني، التي دربت فرق الاستجابة السريعة خلال جائحة "إنفلونزا الخنازير" عام 2009، إن الحد من عدم اليقين هو السبيل لضمان نجاح تدخلاتنا. وتشير هورني إلى أن فيروس كورونا ليس مجهولا بالكامل. فمسؤولو الصحة العامة يعرفون أيضًا الكثير عن الفيروسات التاجية من خلال تعاملهم مع "سارس" و"ميرس". وتقول الخبيرة ذاتها: "إن كثيرًا مما يحدث اليوم هو جزء من تدابير الصحة العامة النموذجية التي نتخذها للسيطرة على تفشي الأمراض، غير أنها تُتَّخذ اليوم على نطاق أوسع بكثير".
"ونحن نُخضِع السفن السياحية للحجر الصحي طوال الوقت بسبب تفشي الأمراض، لكن عادة ما تقتصر الحالات على إصابة بـ "نوروفيروس" (Norovirus) أو الإنفلونزا الموسمية".
منذ أن بدأ فيروس "كورونا" يتفشى في جميع أنحاء العالم، بتنا نعرف كثيرًا عن الحد الذي يمكن أن يمضي إليه الأفراد في سعيهم إلى الحصول على لفافة من ورق المراحيض أو أنبوب تعقيم اليدين أو قناع الوجه. فمع تزايد عدد حالات الإصابة المؤكدة بهذا الوباء وتوجه الدول نحو تقييد التجمعات الكبيرة وارتياد المتاجر، لتعزيز التباعد الجسدي، أضحت هذه المخاوف والشكوك تحرك ما يسمى "هلع الشراء" الذي يُفرغ رفوف المتاجر بوتيرة أسرع من وتيرة إعادة تموينها.
فتكديس المشتريات بدافع الذعر هو إحدى الطرق التي درج البشر على التعامل بها مع شعورهم بعدم اليقين بشأن الأوبئة منذ عام 1918 على الأقل خلال تفشي الإنفلونزا الإسبانية (عندما تهافت أهالي بالتيمور على مخازن الأدوية لشراء كل ما من شأنه أن يقيهم الإنفلونزا أو يخفف أعراضها)، وصولا إلى تفشي "سارس" عام 2003. وتوضح "كاريستان كوينين"، أستاذة الطب النفسي المتعلق بعلم الأوبئة لــدى "كليــة تشان للصحة العامة" في "جامعة هارفارد"، هذا الأمر قائلة: "عندما يعاين المرء ردود فعل متطرفة، فمَرَدُّ ذلك إحساس الناس بأن بقاءهم مهدد وبأنهم يحتاجون إلى القيام بشيء ليشعروا أنهم يسيطرون على الوضع". لكن ما الذي يجعلنا نُصاب بالذعر على وجه التحديد؛ وما السبيل إلى الحفاظ على هدوئنا في الأوقات العصيبة كظهور أحد الأوبئة؟ يتوقف ذلك على الكيفية التي تعمل بها مناطق مختلفة من الدماغ مع بعضها بعضًا.
لقد اعتمد بقاء الإنسان طوال تاريخ البشرية على كل من الخوف والقلق؛ إذ يدفعاننا إلى القيام برد فعل فوري كلما واجهنا تهديدًا (مثل أسد يتربص في الجوار)، مع امتلاك القدرة على التفكير الملي في التهديدات المحتملة (أين يا ترى ستكون الأسود هذه الليلة؟).
ويبدأ الذعر عندما يختل التواصل بين بعض مناطق الدماغ؛ إذ تفسر كوينين ذلك برغبة اللوزة الدماغية -وهي مركز العاطفة في الدماغ- بأن نبتعد عن طريق الأذى على الفور؛ ولا تلقي بالا للطريقة التي سنتفادى بها "الأسد".
لكن القشرة الجبهية الأمامية -التي تعالج الاستجابات السلوكية- تصر على ضرورة تفكيرنا الملي في وضعية الأسد في المقام الأول قبل أن نتصرف. وكم سيمر من الوقت قبل أن نصادف أسدًا مرة أخرى؛ وما الذي ينبغي فعله حيال ذلك؟ في بعض الأحيان يمكن أن يدخل القلق والتوتر على الخط ويعيقان عملية التفكير: فبدلًا من أن "تتحدث" القشرة الجبهية الأمامية مباشرة إلى أجزاء الدماغ التي تُحسِن التخطيط واتخاذ القرارات، يختلط عليها الأمر بفعل "الأحاديث الجانبية" بين أجزاء أخرى من الدماغ تصمم على تصور جميع السيناريوهات المحتملة بشأن الطريقة التي قد نسقط بها فريسةً بين أنياب الأسد. ويستبد الذعر بالمرء عندما يحصل عطل في المسألة برمتها. ففي الوقت الذي تريد فيه القشرة الجبهية الأمامية أن تفكر بالمكان الذي قد تكون فيه الأسود في ليلة الغد، فإن اللوزة الدماغية تصاب بحالة تنبّه مفرط.
تقول كوينين: "يحدث الذعر عندما تغلب المشاعر على هذا الجزء الأكثر عقلانية من الدماغ [أي القشرة الجبهية الأمامية]". ومن ثم، يشتد الخوف إلى درجة أن اللوزة الدماغية تتولى زمام الأمور ويباشر الأدرينالين عمله. وفي بعض الحالات، يمكن أن يكون الذعر منقذًا للحياة. فعندما يكون المرء معرضًا لخطر الوقوع بين أنياب أسد أو الدهس بسيارة، فمن الممكن أن يكون رد الفعل الأكثر عقلانية هو الهرب أو القتال أو عدم القيام بأي حركة؛ إذ لا نريد أن تستنفد أدمغتنا وقتًا كثيرًا في مناقشة رد الفعل.
لكن من الممكن أن ينطوي الاقتصار على الإنصات إلى اللوزة الدماغية على عيوب خطيرة. فقد ضمَّن عالم الاجتماع "إنريكو كوارانتيلي"، الذي أجرى بحثًا رائدًا حول سلوك البشر أثناء الكوارث، في العمل الذي أنجزه عام 1954 في موضوع "طبيعة الذعر وظروفه"، قصة امرأة سمعت دويَّ انفجار وهربت من منزلها، معتقدة أن قنبلة أصابته. ولم تتذكر أنها تركت طفلها وراءها إلا بعد أن أدركت أن الانفجار وقع في الشارع المقابل.
وقد كتب كوارانتيلي: "إن الذعر ليس سلوكًا معاديًا للمجتمع، بل هو سلوك غير اجتماعي. فهذا التفكك للقواعد الاجتماعية يؤدي أحيانًا إلى تشظي أقوى الروابط الأساسية التي تجمع بين الجماعة". ولا يُجدِ الذعر نفعًا كثيرا في التهديدات طويلة الأمد أيضًا. فهذه الحالة تستوجب من القشرة الجبهية الأمامية أن تظل ممسكة بزمام الأمور لتنبيه الفرد إلى احتمال وجود تهديد، مع أخذ الوقت الكافي لتقييم المخاطر ووضع خطة للتصرف. لكن، ما دمنا نتلقى سيلا من المعلومات والرسائل خلال جائحة كورونا هذه، فلماذا يعمد بعض الناس إلى تخزين ورق المراحيض ومعقم اليدين فيما يتجاهل آخرون المخاطر ويحتشدون داخل الحانات؟
من المعروف أن البشر لا يُحسِنون تقييم المخاطر في مواجهة حالات الغموض وعدم اليقين؛ وغالبا ما يتخذ سوء تقديرنا لها أشكالا مختلفة تفضي بنا إلى المبالغة في تقدير المخاطر الشخصية أو التقليل من شأنها. تقول "سونيا بيشوب" -الأستاذة المشاركة في علم النفس لدى "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" والتي تبحث طرق تأثير القلق في عملية صنع القرار- إن ذلك الأمر ينسحب اليوم وبشكل خاص على جائحة كورونا. فالرسائل المتضاربة التي ترِد من الحكومات ووسائل الإعلام وسلطات الصحة العامة (كالتوصيات المتنوعة بشأن التباعد الجسدي) تغذي القلق والمخاوف.
وتمضي بيشوب قائلة: "لسنا معتادين العيش في أوضاع تتغير فيها الاحتمالات بوتيرة سريعة". فالوضع الأمثل -حسب بيشوب- يتمثل في اعتماد نهج يسمى "التعلم غير القائم على النماذج" لتقييم المخاطر التي نواجهها في حالات الغموض وعدم اليقين. ويقوم هذا النهج في الأساس على التجربة والخطأ؛ إذ نعتمد على تجاربنا الشخصية ونحدِّث تدريجيًا تقديراتنا حول مدى احتمالية حدوث أمر ما، وأضراره المحتملة في حال وقوعه، ومقدار الجهد الذي ينبغي لنا بذله للحيلولة دون وقوعه. تقول بيشوب إن كثيرًا من الناس يلجؤون، في غياب نموذج محدد لكيفية التعامل مع التهديد، إلى التعلم القائم على النماذج، وهو إطار نحاول فيه إما تذكر أمثلة من الماضي وإما محاكاة احتمالات مستقبلية. وهنا يظهر "التوافر الإرشادي". فإذا سمع المرء أو قرأ كثيرا عن شيء معين (كحادث تحطم طائرة حظي باهتمام واسع في الأخبار)، يصبح من السهل جدا عليه تخيل نفسه داخل طائرة متحطمة، إلى درجة أنه قد يبالغ في تقدير خطر الطيران. تقول بيشوب: "إن سهولة محاكاة هذا السيناريو هي التي تطغى بعد ذلك على أحكامنا بشأن هذا الاحتمال".
وعلى المنوال نفسه، ينحاز بعض الناس إلى جانب التفاؤل أو يركنون إلى التشاؤم. ففي الوقت الذي لا يكف فيه المتشائمون عن تصور كل السيناريوهات الرهيبة المحتملة بقلق بالغ، يميل المتفائلون إلى الاعتقاد بأنه لن يحدث أي مكروه. وحتى لو حدث أن كانوا ضمن إحدى الفئات الهشة، فإنهم لا يعدمون الوسائل للتوفيق بين ذلك ورؤيتهم للعالم من خلال التأكيد لأنفسهم بأنهم يتمتعون بصحة جيدة؛ ولا يمكن أن يقتلهم وباء كورونا. تقول بيشوب: "إن ذلك يعيد للمرء بعض [الشعور بِـ] القدرة على السيطرة".
وهل ثمة وقت مناسب للذعر؟ على الرغم من وجود أشخاص يتصرفون وفق محددات أحد هذين الطرفين النقيضين، فإن جل الناس يعاني شيئًا آخر: القلق الحاد. وقد يكون قدر يسير من القلق أمرا مستحبًّا في مواجهة الكوارث. فالخوف يمكن أن يكون عاملا محفزا فيرفع من مستويات يقظتنا وطاقتنا؛ فيذكرنا بغسل أيدينا، وبالاهتمام بالأخبار.. بل وحتى بتخزين المواد الأساسية من محلات البقالة. وتشير "جينيفر هورني"، المديرة المؤسِّسة لعلم الأوبئة لدى "جامعة ديلاوير" والخبيرة في مجال تأهب نظم الصحة العامة، إلى أن قليلًا من الذعر قد يكون بالغ الفائدة في مكان مثل الولايات المتحدة، التي لم يُحسِن سكانها -عبر التاريخ وعلى خلاف البلدان الأخرى- اتباع إجراءات الصحة العامة مثل العزل والحجر الصحي.
وتضيف قائلة: "ربما يكون قليلٌ من الذعر بهذا المعنى مجديًا من حيث إدراك مدى تأثير سلوكنا في الآخرين". وفي المقابل، يظل القلق مصدر معاناة رهيبة على المدى الطويل. فمثلًا، مع تزايد قلقنا، يصعب على أدمغتنا تلافي الانزلاق إلى وضع الذعر. وقد أشارت الدراسات إلى أن الضغوط المزمنة يمكن أن تقلص أجزاء الدماغ التي تساعدنا في التفكير المنطقي؛ ما يمكن أن يزيد من إذكاء الذعر.
وتشير بيشوب إلى أن أجسامنا لم تُخلق في الواقع لتتعايش مع التوتر والقلق الحادين مدة أسابيع وشهور. فعلى الرغم من أنهما قد يمنحانا دفعة من الطاقة على المدى القصير، فإن استمرارهما يخلف لدينا الإنهاك والاكتئاب. ويمكن أن تترتب عن ذلك في نهاية المطاف تداعيات خطيرة على استجابة المجتمع إذا بات الناس يشعرون بالإنهاك الشديد من التباعد الجسدي، ومن ثم يشرعون في مغادرة منازلهم قبل أن يصل الوباء إلى ذروته ومن ثم انحساره.
وتقول هورني، التي دربت فرق الاستجابة السريعة خلال جائحة "إنفلونزا الخنازير" عام 2009، إن الحد من عدم اليقين هو السبيل لضمان نجاح تدخلاتنا. وتشير هورني إلى أن فيروس كورونا ليس مجهولا بالكامل. فمسؤولو الصحة العامة يعرفون أيضًا الكثير عن الفيروسات التاجية من خلال تعاملهم مع "سارس" و"ميرس". وتقول الخبيرة ذاتها: "إن كثيرًا مما يحدث اليوم هو جزء من تدابير الصحة العامة النموذجية التي نتخذها للسيطرة على تفشي الأمراض، غير أنها تُتَّخذ اليوم على نطاق أوسع بكثير".
"ونحن نُخضِع السفن السياحية للحجر الصحي طوال الوقت بسبب تفشي الأمراض، لكن عادة ما تقتصر الحالات على إصابة بـ "نوروفيروس" (Norovirus) أو الإنفلونزا الموسمية".