كي لا ننسى.. آخر أصوات الحرب العالمية الثانية

ماريا روخلينا (96 عامًا)، مسعفة ميدانية سوفيتية: "لم نكن ندفن الموتى في شتاء ستالينغراد.. بل كنّا نكوّم الجثث تكويمًا؛ إذ لم يكن هناك مكان ندفنها فيه".
بعضهم كان بطلًا؛ وبعضهم الآخر كان ضحية؛ وفريق ثالث منهم حارب لأجل فاشيّين سعوا إلى السيطرة على العالم. وإذْ أخذ جيلهم يتلاشى من الوجود بعد مضي 75 عامًا على توقّف القتال، فإن ذكرياتهم ما زالت مؤثرة في الوجدان.. كما كانت دائمًا.قبل خمسة وسبعين عامًا،...
بعضهم كان بطلًا؛ وبعضهم الآخر كان ضحية؛ وفريق ثالث منهم حارب لأجل فاشيّين سعوا إلى السيطرة على العالم. وإذْ أخذ جيلهم يتلاشى من الوجود بعد مضي 75 عامًا على توقّف القتال، فإن ذكرياتهم ما زالت مؤثرة في الوجدان.. كما كانت دائمًا.

قبل خمسة وسبعين عامًا، كانت الحرب الأوسع نطاقًا والأشد فتكًا وتدميرا في التاريخ تتهيّأ لوضع أوزارها. وكانت تسميتها بـ "الحرب العالمية الثانية"، اسمًا على مسمّى: فلقد كانت حربًا دولية يجابه فيها "الحلفاء" (وهم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين وحلفاؤهم الأصغر) ألمانيا واليابان وإيطاليا وغيرها من دول "المحور". وقد خدم في القوات المسلحة نحو 70 مليون رجل وامرأة، فشاركوا في أكبر تعبئة عسكرية عرفها التاريخ. لكن المدنيين هم أكثر من عانوا وأكثر من ماتوا. فمن بين قتلى الحرب الذين تُقدَّر أعدادُهم بـستة وستين مليونًا، فإن قرابة 70 بالمئة منهم (أي نحو 45 مليونًا) كانوا مدنيين، ومن بينهم ستة ملايين يهودي قُتلوا في "المحرقة". وقد شهدت الحرب اقتلاع عشرات الملايين من منازلهم وبلدانهم، فعاش كثير منهم في مخيّمات للأشخاص المهجّرين سنين طويلة بعد ذلك. ولم تكن عواقب الحرب بأقل إذهالًا من حجمها. فقد وضعت الأساس للعالم الذي نعرفه وعرفناه على مدى أكثر من سبعة عقود: من فجر العصر النووي، مرورًا بإنشاء دولة إسرائيل، إلى بروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بوصفهما قوّتي العالم العظمَيَين المتبارزتين. كما أن هذه الحرب هيّأت تشكيل تحالفات دولية مثل "الأمم المتحدة" و"حلف شمال الأطلسي"، التي كان المراد منها جميعًا الحيلولة دون حدوث واقعة من هذا النوع مرة أخرى. ومع كل هذا، فإن وعي الجماهير بالحرب وتداعياتها التي لا يُسبَر غورُها قد تلاشى بمرور الزمن، حتى بات باهتًا كصورة فوتوغرافية أكل الدهر عليها وشرب. وفي الوقت نفسه، فإن أعداد الذين شهدوا أحداث الحرب مباشرة آخذةٌ بالتناقص. فوفقًا لإحصاءات الحكومة الأميركية، فإن أقل من 400 ألف من الأميركيين الـ 16 مليونًا الذين شاركوا في الحرب (أي 2.5 بالمئة منهم) كانوا ما يزالون على قيد الحياة عام 2019. ولكن، بفضل رغبة بعضٍ من أواخر الناجين في نشر قصصهم، فقد حظينا بهدية ثمينة، ألا وهي: فرصة استحضار الحرب والتركيز عليها مجددًا من خلال عيونهم. كان جلّ هؤلاء الرجال والنساء قبل الحرب لا يعلم شيئًا يُذكر عن العالم الذي يقع خارج مجتمعاتهم المحلية الصغيرة؛ إذ لم يكن لديهم حينها ولوج لوسائل الاتصال الفوري المتاحة اليوم مثل شبكة الإنترنت أو غيرها من الوسائل. ولمّا انتزعتهم الحرب من الأوساط التي نشؤوا فيها، فقد عرّضتهم لفيضٍ هائل من المواقف والخبرات الجديدة، وامتحنتهم بطرق ما كانوا يتخيّلوها يومًا. وقد وجد كثيرٌ منهم الإثارة في تلك التحديات.
وينسحب ذلك الأمر على "بِيتي ويب" التي كانت حينها في الثامنة عشرة من عمرها عندما استدُعيت للانضمام إلى العملية الأكثر سرّية في بريطانيا لحل الشِفرات، لدى قصر "بليتشلي بارك". وكانت ويب مجرّد امرأة واحدة من بين عدد لا يُحصى من النساء اللواتي كان لعملهن أهمية كبيرة ضمن المساعي الحربية لبلدانهن، واللواتي تمتعن بفضل ذلك بشعورٍ بالأهمية والاستقلال لم يعرفنه قطّ من قبل. أما "هاري تي. ستيوارت" الابن، الذي شهد الحرب وهو في سن العشرين، وكان حفيد رجلٍ وُلد في الرّق، فقد أثبت جدارته كذلك. إذ إن ابن نيويورك هذا الذي لم يكن قد قاد سيارة قبل الحرب، أصبح طيّارَ مقاتلةٍ ضمن وحدة عسكرية مؤلفة بالكامل من السّود، عُرفت باسم "خرّيجي تاسكيغي من جنود سلاح الجو"، فشارك في التحليق في 43 مَهمّة قتالية، ونال وسام "الصليب الطائر المميز".
وهــذه الانتصــارات هي انتصــارات ملهمة ينبغي الاحتفاء بها. ولكن ما يطغى على قصص الناجين هو المآسي التي عاشها كثيرٌ منهم، سواء أكانوا من مواطني "الحلفاء" أم من مواطني "المحور". وتعدّ رواياتهم شهادة على جحيم الحرب العالمية الثانية؛ على ما قاسَوا فيها من وحشية ومعاناة ورعب تسبّب فيها الطرفان معًا. وأكثر ما يؤرّق من هذه الشهادات هي شهادة "فيكتور غريغ"، الذي كان جنديًا بريطانيًا اعتقله الألمان، وكان سجنه قد دُمّر خلال قصف قوات "الحلفاء" مدينةَ درسدن الألمانية في فبراير من عام 1945. خلّف ذلك القصف في نفس غريغ -الذي شهد حينها موت المدنيين الألمان حرقًا، وناهز عددهم الـ 25 ألفًا- شعورًا بالذنب والعار لازمه مدى الحياة. يقول: "كان هؤلاء مجرّد نساء وأطفال. لم أستطع تصديق عيني. فلقد كان من المفترض أن نكون نحن الأخيار". لذا يجب أن تبقى قصّته محفورةً لا تُمحى من ذاكرتنا، مثل قصص الناجين الآخرين من هذه الحرب.

"أردت أن أفعل شيئًا أكبر لصالح الحرب من مجرّد خَبز لفافات العجين بالنقانق".
"في تلك الغرفة هناك، وقّعتُ 'قانون الأسرار الرسمي'"، تقول "بيتي ويب" البالغة من العمر 97 سنة وهي تشير بعكّازها إلى غرفة في الطابق الأرضي في القصر الباروني لدى "بليتشلي بـارك"، منشأة بريطانيا الأسطورية السريّة للغاية لتحليل الشِفرات خلال الحرب العالمية الثانية. يُرى عبر النافذة مكتبٌ ضخم. تستطرد ويب قائلة: "كان هناك ضابط كبير في الاستخبارات جالسًا خلف المكتب، وأذكر أنه كان قد وضع مسدسًا بجانبه بلا اكتراث، تمامًا حيث يوجد فنجان القهوة الآن. وطُلب إلي التوقيع بعد أن شُرح لي بكلمات لا لبس فيها أنه لا يجوز لي أبدا أن أحدّث أي شخص عن عملي. فوقعّت. وكانت تلك لحظة صحوة. كنت حينها في الثامنة عشرة من عمري". كان ذلك في عام 1941. وكانت بريطانيا تخوض حربًا. وكانت القوات الألمانية قد اكتسحت مساحة واسعة من أوروبا. كانت ويب حينها تحضُر دورة في التدبير المنزلي، لكنها انضمت إلى "الخدمة الإقليمية المساعدة" (الجيش النسائي)، لأنها، كما تقول: "أردتُ أن أفعل شيئًا أكبر لصالح الحرب من مجرّد خبز لفافات العجين بالنقانق". وقد كانت ويب تتحدث بلغتين، إذ كانت قد نشأت بوجود مربّية ألمانية، كما أنها زارت ألمانيا ضمن برنامج لتبادل الطلاب؛ لذا فقد أُمرت بالحضور إلى بليتشلي، الواقعة على مسيرة ساعة بالسيارة أو نحو ذلك شمالا عن لندن. تقول ويب: "كانت المنشأة محاطةً بسريّة شديدة إلى درجة أنني لم أدرِ ما هي، بل لم يدرِ بها أحد، فضلًا عن النشاط الذي كنت سأنخرط فيه". في بادئ الأمر، شُغّلت ويب في فهرسة آلاف الرسائل اللاسلكية المشفّرة التي كانت تعترضها مراكز التنصّت البريطانية كل يوم. ولكن، بتقدّم الحرب، انتقلت إلى دور أكثر إبداعًا تمثَّل في إعادة صياغة معلومات استخبارية لا تقدَّر بثمن جمعها محللو الشِفرات، على نحو لا يرتاب معه أحد بأن المخابرات البريطانية كانت قد حصلت عليها بهذه الطريقة تحديدًا، فيعلم العدوّ أن شِفراته قد تم تفكيكها. وفي ذلك، تقول ويب: "توجّب علينا أن نجعلها تبدو كما لو أنها معلومات حصلنا عليها من جواسيسنا أو من وثائق مسروقة أو الاستطلاع الجوي. فحقيقة أننا حللنا الشِفرات العسكرية للألمان واليابانيين كانت سرًّا محاطا بكتمان شديد، لم يعرفه سوى قلة قليلة من الناس". استمتعت ويب بعملها؛ إذ تقول مبتسمة: "أحببت ما ينطوي عليه عملي من مراوغة". وقد عملت على الرسائل اليابانية التي تم اعتراضها وبلغت من البراعة في إعادة صياغة محتوياتها مبلغًا عظيما حتى إنها أُرسلت في يونيو من عام 1945، بعد انتهاء الحرب في أوروبا، إلى واشنطن للمساهمة في المساعي الحربية الأميركية في المحيط الهادي. وتستذكر المرأة ذلك الحدث قائلة: "طرت إلى هناك بطائرة مائية، وكانت أول مرة أركب فيها في طائرة. يومها أرسلتُ إلى والديَّ بطاقة بريدية من واشنطن. وإنني على ثقة أنهما كانا يتساءلان عمّا كنت أفعله، ولكنهما بالطبع لم يسألاني قطُّ عن الموضوع، وما كنت لأخبرهما أصلًا". ومرّت عقود طويلة من الزمن قبل أن يُسمح لأيٍّ من العاملين لدى "بليتشلي" بالتحدّث عما كانوا يفعلون خلال الحرب. تقول ويب: "كان كلا والديّ قد ماتا بحلول ذلك الوقت، وهكذا لم يتسنَّ لهما معرفة طبيعة عملي. وقد صعَّب علينا كل هذا التكتّم إمكانية الحصول على وظيفة بعد الحـرب -وبخاصة الرجال بيننا- إذ لم يكن بمقدور أيٍّ منا أن يخبر مشغّليه بأي شيء عما فعله خلال سنين الحرب سوى أنه كان يعمل في مكان ما يدعى بليتشلي بـارك. في نـهاية المطـاف، عثرت ويب على عمل لدى مدرسة كان مديرها يعمل سابقًا في بليتشلي. وتعليقًا على ذلك، تقول: "لم أكن أعرفه حينها؛ ولكن عندما رأى على طلب عملي أنني كنت أعمل في بليتشلي كذلك، لم تكن هناك حاجة إلى قول أي شيء، أو طرح أي أسئلة مربكة. فحصلت على الوظيفة". – روف سميث

"لم نكن ندفن الموتى في شتاء ستالينغراد.. بل كنّا نكوّم الجثث تكويمًا؛ إذ لم يكن هناك مكان ندفنها فيه".
صحيحٌ أن الحرب انتهت قبل 75 عامًا، إلا أن "ماريا روخلينا" -البالغة من العمر الآن 95 عامًا- ما زالت تشعر بالحرب في يديها، في كل إصبع منهما. كانت هذه المرأة المولودة في أوكرانيا تحلم بأن تصبح طيّارة. ولكن بحلول عام 1941 -عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها- اقتحم النازيّون وطنها وتوغّلوا فيه. فأصبحت مسعفة ميدانية وخدمت مع القوات السوفيتية أربعة أعوام. وتعليقًا على ذلك، تقول: "انتقلت من مقعد الدراسة إلى جبهة القتال". وذات يوم، بينما كانت تساعد على نقل جندي جريح بمركب عبر نهر "دنيبر"، انكسر مجدافها؛ فاضطرت لأن تجدّف بيديها العاريتين في الماء القارس. وما زال الألم يسكن أصابعها حتى اليوم وما زال شديدا إلى درجة أنها تتلقّى حقنًا في كل مفصل من مفاصلها لتسكّنه. في عام 1942، وجدت هذه المرأة نفسها عالقةً في مدينة ستالينغراد المحاصرة. وظلت رحى المعركة تدور أكثر من ستة أشهر، مُحيلةً المدينة إلى خراب، ومبيدةً جلّ سكّانها. وكانت درجات الحرارة تهوي بانتظام شتاءً دون 20 درجة مئوية تحت الصفر. اختبأت روخلينا مع القوات السوفيتية في مصنع للجرّارات، ولكن لم تكن هناك قصاصة ورق أو قطعة خشب لتُحرق ويُستدفأ بها. تقول: "اضطررنا لأن يدفّئ بعضنا بعضًا بأجسامنا. هنالك قطعنا على أنفسنا عهدًا: ألّا ننسى ستالينغراد، وألّا ننسى أولئك الذين وقفوا وهم يحضنون بعضهم بعضًا" في ما سمّتها "حلقات التدفئة". ثم هناك الذكريات التي حاولت روخلينا نسيانها لكنها عجزت عن ذلك: مثل حرارة الأمعاء المندلقة لجندي يُحتضر وهي تحاول ردّها في جسمه؛ أو زميلتها في الإسعاف الميداني التي اغتصبها الألمان وقتلوها وبتروا ثدييها. وتعليقًا على ذلك، تقول: "لا أستطيع نسيان ما فعلوه، وما رأيته". ولكن هذه الويلات خلقت روابط، تمامًا كما فعلت حلقات التدفئة. إذ إن جنديا سوفيتيا كان قد وعد روخلينا لدى رؤيتها أول مرّة بأن يتقدّم بطلب يدها إن نجيا من الحرب. وكذلك كان. دام زواجهما 48 عامًا. –إيـف كونانت

ييفسَيه رودينسكي، ملاّح سوفيتي
طرقت الحرب باب "ييـفـسَيه رودينسكي"، الذي كان حينها طالبًا ولاعب جمباز، عندما أُرسل إلى مركز للتجنيد وأُخبر بأن البلد بحاجة إلى 100 ألف طيّار. وعن ذلك، يقول رودينسكي، البالغ من العمر حاليا 98 عامًا: "لم أكن أحلم بالطيران، لكنني كنت أحب الدراسة حقًا". ولأن الرسوم البيانية وعلم الفلك كانا مثار اهتمامه، فقد تدرّب على أن يصبح ملاّحًا في الشمال الروسي الأقصى، حيث كان طيّارو المناطق القطبية يعلّمون من هم في عهدتهم من المتدرّبين عديمي الخبرة على توجيه الطائرات في الظروف الجوية الخطرة من دون خرائط يُعتمَد عليها. أما تجربته الأولى في غمار المعركة، فكانت في سماء مدينة كورسك حيث جرت أكبر معركة بالدبابات خلال الحرب العالمية الثانية. وعن ذلك، يقول الرجل: "قدت قاذفةً انقضاضية من طراز 'بيتلياكوف بي. إي2-'. وكنا ندعوها، تحبّبًا 'بيشكا'"، أي بيدق الشطرنج. ويستذكر رودينسكي أن الخوف لم يكن يعتريه إلا بعد هبوطه بالطائرة؛ إذ يقول: "عندما يرى المرء كم خلّفته المعركة في طائرته من ثقوب، أو يتذكر كيف هاجمته مقاتلات "ميسرشميتس" الألمانية، عندها يبدأ يشعر بالخوف"، ويضيف قائلًا: "إن لم يشعر المرء بالخوف، فإنه لا يكون بشرًا. ونحن جميعًا في المحصلة بشر". –إيـف كونانت

فيكتور غريغ، جندي بريطاني من الرماة
بدا عرضٌ بتناول فطيرة محلاة وكوب من الشاي الساخن، جذّابًا جدًا لـ "فيكتور غريغ" في ذلك اليوم اللندني البارد من شهر أكتوبر عام 1937؛ ما أغراه باتّباع متعهّد تجنيد إلى مكتبه وتقديم طلب للانضمام إلى الجيش البريطاني. ويستذكر غريغ -الذي بلغ من العمر الآن 100 عامًا- الموقفَ قائلًا: "تصادف ذلك اليوم مع عيد ميلادي الثامن عشر. والمفارقة أنني، فيما أذكر، لم أحصل قطّ على كوب الشاي الذي وُعدت به". أما ما حصل عليه بدلًا من ذلك، فكان تجربة مروّعة للحرب العالمية الثانية، من بدايتها إلى نهايتها. فبعد أن تأهّل غريغ ليكون راميًا، أُرسل مؤقتًا إلى الهند، وكان يخدم في فلسطين عندما اندلعت الحرب في سبتمبر من عام 1939؛ فأمضى الأعوام الثلاثة التالية في صحراء الشمال الإفريقي في مَهمّات سرية خلف خطوط العدو. ثم غدا فيما بعد مِظليا وشارك في غزو إيطاليا. وفي سبتمبر من عام 1944، أُلقي في "معركة آرنم"؛ وكانت معركة فاشلة خاضها "الحلفاء" في الأصل بهدف تأمين جسر فوق نهر "الراين". يستذكر الرجل المعركة قائلًا: "أخبرونا أن العملية ستكون سلسة هيّنة. لكننا واجهنا بدلًا من ذلك فرقًا من الدبابات الألمانية لم تكن في حسبان أحد". كان القتال وحشيًا ومباشرا، اكتُسِح فيه المظلّيون البريطانيون. ونتيجةً لذلك، قُبض على غريغ وأُرسل إلى معسكر عمل قرب مدينة درسدن الألمانية. في ذلك الشتاء، أَقدم غريغ على محاولتين للهرب لم تكلّلا بالنجاح؛ وعقابًا له على ذلك، أُرسل ليعمل في معمل للصابون. فما كان منه ومن سجين حرب آخر سوى أن خرّبا المعمل، متسبّبين في احتراقه تماما. حُكم عليهما بالإعدام. يقول غريغ: "حوّلونا إلى سجن في درسدن وأخبرونا أننا سنُعدم رميًا بالرصاص صباح اليوم التالي". لكن القدر تدخّل لمصلحته. إذ أخذت الطائرات البريطانية والأميركية تمطر مدينة درسدن تلك الليلة بالقنابل الحارقة. وأصيب السجن إصابة مباشرة، وتمكّن غريغ من الهرب عبر جدار متهدّم. ويقول إن الأهوال التي رآها على مر الأيام القليلة التي تلت ذلك ظلت ذكراها تقضّ مضجعه طيلة حياته وتملأ وجدانه إثمًا وعارًا. يقول: "قبل تلك الحادثة، كانت الحرب التي خضتها وعرفتها قائمة على اقتتال بين جنود وجنود آخرين. ولكن الضحايا هذه المرة كانوا مجّرد نساء وأطفال، كانوا مدنيين. لم أستطع تصديق عينيَّ، إذ كان من المفترض أن نكون نحن الأخيار". وقد هرب غريغ من درسدن خلال تبعات القصف وشق طريقه شرقًا لينضمّ إلى القوات السوفيتية المتقدمة. وكان معهم في مدينة لايبزيغ الألمانية يوم استسلم الألمان.وبعد ست سنوات من العيش على المحكّ، وجد الرجل أن من المستحيل عليه أن يستقر في حياة مدنية بعد أن وضعت الحرب أوزارها. فيقول إنه كان لذلك يسعى إلى المجازفة والخطر، سواء أكان في ركوب الدرّاجات النارية، أم في أداء عمل سري لمصلحة وكالة الاستخبارات البريطانية، "إم آي 6"، أم في إقحام نفسه في الحركات السرية المؤيّدة للديموقراطية خلف "الستار الحديدي" (أي في الدول الواقعة ضمن النفوذ الروسي السوفيتي). وقد كانت ذكريات درسدن على وجه الخصوص وزرًا ثقيلًا يجثم على صدر غريغ. ولكن، حدث في الآونة الأخيرة أنْ دُعي الرجل إلى المدينة لإلقاء كلمة عمّا خبره خلال الحرب. وكانت هناك امرأة ضمن الحضور في بداية الثمانينات من عمرها، وكانت قد نجت وهي طفلة صغيرة من القصف الذي تعرّضت له مدينة درسدن، لكنها فقد ساقها. ويقول غريغ، إنه إذ أخذا يتحادثان بعد المحاضرة، وجد السكينة التي لطالما كان ينشدها على مرّ عقود طويلة: "شعرت بطريقةٍ ما بأن ذنبي قد غُفر أخيرًا". –روف سميث

آر. آر. "راسل" كلارك، بحّار أميركي
عندما خلّفت إصابةٌ فتقًا في "راسل كلارك" أثناء مشاركته في مباراة كرة قدم، علم الشاب -الذي كان في سن الثامنة عشرة آنذاك- أنه سيكون غير مؤهل لأداء الخدمة العسكرية. لكن كلارك، الذي كان قد وُلد وترعرع في مزرعة في ولاية كانساس، كان مصرًّا على الانضمام إلى شقيقيه في جبهات القتال. لذا فقد دفع نفقات إجراء عملية جراحية لمعالجة الفتق، ثم التحق بصفوف المقاتلين. بحلول أوائل عام 1945، كان كلارك في مكانٍ ما من شمال الأطلسي، يعمل في غرفة محرك المدمّرة المرافقة، "يو. إس. إس. فاركار". ويستذكر كلارك -الذي بلغ الآن الخامسة والتسعين من عمره- تلك المرحلة قائلًا: "كان المكان في الأسفل مظلمًا ورطبا حارّا، إذ بلغت الحرارة فيه 38 درجة مئوية". وبالرغم من الساعات الطويلة الحارة التي أمضاها كلارك في أسفل السفينة، فقد كان يعُـدّ نفسَه محظوظًا؛ إذ يقول: "كان أولئك المساكين الذين توجب عليهم العمل على متن السفينة في شمال الأطلسي، يعانون البرد القارس". أما احتكاكه الوحيد بالعدو فكان صبيحة اليوم الذي تلا استسلام ألمانيا. إذ أخذت غواصة نازية، لم تكن قد تلقّت خبر الاستسلام فيما يبدو، تهاجم سفينة "فاركار". يقول الرجل: "ما كان في اليد من حيلة. واضطررنا لإطلاق طوربيد عليها". لم يبقَ للغواصة أثر سوى بقعة زيت. –بيل نيوكوت

شيزويو تاكيؤوتشي، ناجية يابانية
ما زالت ذكريات هذه المرأة عن يوم 25 فبراير من عام 1945 -يوم قصفت قاذفات القنابل الأميركية، "بي29-"، مدينة طوكيو بالقنابل الحارقة- تطاردها. يومها عادت شيزويو تاكيؤوتشي، التي كانت في ربيعها الثالث عشر، إلى منزلها لتجد الرماد مكانه. وكان الشيءَ الوحيدَ الذي بقي سالمًا فيه قِدرٌ حديدي لطبخ الرزّ. أما معجم الإنجليزية المحرَّم آنذاك في اليابان (الذي كان أبوها قد أهداها إياه) فكان رمادًا. أمسكت صفحة واحدة منه، فذرته الريح سريعًا. تبع ذلك قصفٌ آخر بالقنابل الحارقة في العاشر من مارس مخلفًا في ذاكرتها صورًا لنفسها وهي تجري في زوبعة قوية من الحطام والدخان، وتمرّ بجثث متفحّمة كانت إحداها لأمٍّ كانت تحاول حماية طفلها الرضيع بوضعه تحتها. وتستذكر تاكيؤوتشي ذلك الموقف قائلة: "شعرت بالخوف لأنني فقدت عواطفي من بعدها بعضَ الوقت". واليوم وقد بلغت هذه السيدة من العمر 89 سنة ولديها ابن وبنت، فإنها تعمل راويةَ قصصٍ لدى مركز مكرّس ليكون شاهدًا على أهوال الحرب. –تيد غاب

بوريس سميرنوف، مسعف ميداني سوفيتي
"كنا مفعمين بالوطنية السوفيتية"، يقول "بوريس سميرنوف"، الذي يبلغ من العمر 93 سنة، والذي شهد موت كثير من رفاقه أثناء الصراع الذي أطلق السوفييت عليه اسم "الحرب الوطنية الكبرى". وفي إحدى المناسبات، كان فصيل سميرنوف يبني جسرًا من فوق نهر "نيمان"، فإذا برصاصةٍ -لعلّها من أحد قنّاصي العدو- تُردي قائدهم. يستذكر سميرنوف ذلك الموقف قائلًا: "بينما حاولت مساعدته، كان هناك جندي آخر إلى جانبي. قال لي: 'يا دكتور، تولّى مساعدته وأنا سأحميك'". وبينما أخذ المسعف يضمّد جرح الضابط المصاب، سُمع أزيز طلقة من الضفة المقابلة، أسقطت من فورها الجندي الذي كان يحرسه قتيلًا. "لقد سقط بهدوء"، يقول سميرنوف، الذي لم يفارقه الأسى على موت حاميه. أما اليوم الأكثر إيلامًا له، فكان ذلك اليوم من شهر أكتوبر عام 1944 الذي حُوصر فيه فصيل سميرنوف وأُردي أفراده بالرصاص بلا رحمة. يروي سميرنوف الموقف قائلًا: "رأيت الجنود الضاحكين الذين كانوا يجلسون على بعد 50 أو 60 مترًا عنا. كنا نجري نحوهم ونحن نصيح؛ وكانوا يضحكون ويلوّحون بقبّعاتهم. وتساقط أصدقائي قتلى من حولي". وهناك وثيقة من الأرشيف الروسي عزيزة على قلب سميرنوف؛ إنها قائمة بأسماء رفاقه القتلى. –إيف كونانت
يقول ستيوارت تعليقًا على مشاركة بني جلدته في الحرب العالمية الثانية: "أريد ببساطة أن يُذكَروا كما كانوا: مواطنين صالحين" ساهموا في حماية بلادهم "حتى عندما واجهوا التمييز العنصري".

كان ما يقرب من ألـف طيّـار أميركي مـن أصل إفـريـقي ممـن خـدموا في الحـرب العـالمية الثانية، قد تعلّموا الطيران في مدينة تاسكيغي بولاية ألاباما، حيث كان المطار العسكري الأميركي الوحيد الذي درّب طلاّب طيران سود. ولم يبقَ من "خريجي تاسكيغي من جنود سلاح الجو" الشهيرين سوى 10، ومنهم المقدّم هاري تي. ستيوارت الابن، الذي بلغ سن الخامسة والتسعين في يوم الاستقلال الماضي. كان من عادة ستيوارت، الذي نشأ في مدينة نيويورك، أن يمشي متجولًا إلى مطار قريب ليتأمل بإعجاب "الطيور المهولة المصنوعة من الألمنيوم" ويتخيّل نفسه يطير بها. وقد حقق حلمه أخيرًا عام 1944، عندما بدأ يرافق قاذفات القنابل الأميركية إلى أهدافها عبر أوروبا. وخلال مهمّة من تلك المهامّ، في يوم أحد وكان عيد الفصح عام 1945، كان ستيوارت وستةٌ من رفاقه في السرب يطيرون على ارتفاع 1500 متر فوق النمسا المحتلة آنذاك من النازيين، وإذا بهم يجدون أنفسهم في مواجهة مع طائرات من سلاح الجو الألماني تفوقهم عددًا. تبعت ذلك معارك جوية مميتة. وبإصبعه على الزناد، أخذ ستيوارت يطلق رشقة تلو أخرى من رشّاشات طائرته "موستانغ بي51-" التي كانت سبطاناتها من عيار 12.7 مليمتر. وبعد أن عاد وهبط في قاعدته بإيطاليا (والتي كانت قد سقطت في قبضة الحلفاء)، استُقبل فيها باستعراض موسيقي عسكري وأُقرّ له الفضل في إسقاط ثلاثٍ من طائرات العدو؛ مأثرةٌ كوفئ عليها بتقليده وسام "الصليب الطائر المتميّز".
لكن ذهن هذا الطيّار المبتدئ كان مشغولًا لحظتها بمصير ثلاثة من رفاقه الطيّارين كانوا قد أُسقطوا خلال المعركة. كان أحدهم قد مات فورًا، فيما تمكّن الثاني من الهبوط اضطراريًا في يوغوسلافيا. أما الثالث فقفز من طائرته بالمظلة، وذكرت التقارير أنه عُثر على جثّته في النمسا بعد أسبوعين عند تحريرها من النازيين. بعد انتهاء الحرب، ظل ستيوارت في القوى الجوية، إذ كان الرئيس الأميركي "هاري ترومان" قد أمر بتطبيق الاندماج العرقي في المؤسسة العسكرية عام 1948، وفاز ستيوارت عام 1949 في المسابقة الافتتاحية لأفضل رمية مع اثنين من زملائه الطيّارين الذين تخرّجوا في تاسكيغي. بعد عام على ذلك، اضطرت التخفيضات التي طُبقت على الميزانية بعد الحرب آلافًا من الضباط -ومنهم ستيوارت- إلى ترك سلاح الجو. وحصل على رخصة الطيران التجاري بفضل قانون مزايا المحاربين القدامى وتقدّم بطلب أن يطير لحساب شركتي الطيران "بان أميريكان" و"ترانس وورلد". لكن الشركتين رفضتاه؛ إذ لم تكونا توظّفان طيّارين سودًا آنذاك.
ولم يمضِ وقت طويل حتى فقد وظيفته طيّارًا وفقد معها كرامته. ولكن لم يكن من طبيعة ستيوارت أن يعجز أمام العوائق. لذا تقدّم للدراسة لدى "جامعة نيويورك" وحصل فيها على شهادة في الهندسة الميكانيكية. وبصفته مهندسًا، فقد وجد التوظيف والتوفيق، وجاب أميركا الشمالية والشرق الأقصى وأوروبا. أما وظيفته الأخيرة فحملته إلى مدينة ميشيغان حيث ارتقى في سلّم العمل لدى إحدى أكبر شركات خطوط الغاز الطبيعي في البلد وتقاعد منها بعد أن شغل منصب نائب رئيس الشركة. وفي عام 2018، سافر ستيوارت إلى النمسا أول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنه سافر إليها بصفته ضيفًا على الحكومة النمساوية. وكان باحثون يحققون في مصير طيّاري "الحلفاء" قد توصّلوا إلى أن رفيق ستيوارت في السرب، "وولتر مانينغ" -ذاك الشاب الذي كان قد قفز بمظلّته خلال مهمّة عيد الفصح الدموية- أُسر حيًّا. وبانتظار نقل الرجل البالغ من عمره آنذاك 24 سنة إلى معسكر حربي، كانت مجموعةٌ من الغوغاء قد أعدمته بلا محاكمة بدافعٍ مــن الدعايـة السيـاسيـة النـازية العنصـرية. وبعد 73 سنـة بالضبـط عـلى الحـادثة، وقـف ستيوارت وابنـته شـاهـدَين فيمـا أخـذ وجهاء نمساويين يعتذرون عن الجريمة النكراء وهم يخصصون لصاحبه نُصبًا تذكاريًا.
يقول ستيوارت إنه لم يتوقع قطّ أن يأتي عليه يومٌ يرى فيه "خريجي تاسكيغي من جنود سلاح الجو" يُعترف بفضلهم في المتاحف والنُّصب التذكارية، ويُذكرون في كتب التاريخ وأفلام هوليوود. أما عن أمله للأجيال القادمة، فيقول: "أريد ببساطة أن يُذكروا كما كانوا: مواطنين صالحين؛ أميركيين صالحين كان يحدوهم نداء الواجب لحماية بلادهم عندما كانت بحاجة إليهم، حتى عندما واجهوا التمييز العنصري". –كيتي ساندرز
"كان المرء يُعَـدّ معمَّرًا إن بقي حيًا حتى سن الثالثة والعشرين. ولو أننا تركنا هذا الأمر يزعجنا، لكان قد أهلكنا غمّا. لذا كان لا بد للمرء من مواظبة العمل كأن شيئًا لم يكن".

كان "يوجين بولينسـكي"، المنتج والكاتب المسرحي والممثل، خـلال الحرب قد حـلّق بطائرته في مَهمّات سرية فوق بلجيكا وفرنسا والنرويج، التي كانت جميعًا محتلة آنذاك من النازيين. ولكن، بدلًا من إلقاء القنابل، كان طاقمه المؤلّف من ثمانية أفراد يُلقي بجواسيس "الحلفاء" والأسلحة والدرّاجات النارية والأموال وغيرها من المؤن الحيوية للمقاومين في هذه الدول ضمن مهمة أُطلق عليها اسم "عملية حامل السجّاد". يقول بولينسكي، الذي بلغ الآن سن التاسعة والتسعين: "لم أكن أعرف ما أحمله في طائرتي، وإلّا لأصابني الرعب!". وكان أولئك الذين شاركوا في العملية -الملقبون بـ"حمَلة السجّاد"- يمثّلون الذراع الجوية لـ "مكتب الخدمات الاستراتيجية" الذي كان يدير عمليات التجسس والتخريب. وبين عامي 1944 و 1945، ألقى "حمَلة السجّاد" أكثر من 500 جاسوس ونحو 4500 طن من المؤن على أراضٍ يسيطر عليها العدو. وكانوا يحلّقون بطائراتهم في أوقات متأخرة من الليل وعلى ارتفاعات متدنية. يقول بولينسكي: "قالوا لنا: 'إنْ قبضوا عليكم، فسيعدّونكم جواسيسَ، وستُعدمون رميًا بالرصاص. لذا، احرصوا على ألّا تُسقَط طائرتكم'". كان بولينسكي -المولود في نيويورك عام -1920 ابن والدَين يهوديَّين مهاجرَين من روسيا. وعندما وصل إلى إنجلترا لأداء خدمته العسكرية مع سلاح الجو الأميركي الثامن، أُسندت إلى طاقمه مهمة التحليق بقاذفات قنابل ثقيلة من طراز "بي24- ليبريتور" كانت قد جُرّدت من جميع تجهيزاتها إلا الأساسية منها وطُليت بطلاء أسود كي تتماهى مع سماء الليل. وقبل ساعات من كل مهمة، كان الطاقم الأرضي يحمّل عنبر التخزين في الطائرة بحاويات مؤن. وقبل الإقلاع، كان جواسيس يتسللون أحيانًا إلى متن الطائرة، علمًا أن جنود سلاح الجو لم يعرفوا الرجل من هؤلاء الجواسيس إلا باسم "جو"، ولم يعرفوا المرأة منهم إلاّ باسم "جوزفين".
وبصفة بولينسكي ملاّحًا، كان يبقي على حقيبة أسلحة في موضع قريب من مقدمة طائرة "ليبريتور" الضيقة شديدة البرودة، حيث كان يوجّه الطيّار إلى هدفه. وعندما كانوا يقتربون من مكان الإنزال، كان الطيّار يهوي بطائراته إلى ارتفاع أدنى من 100 متر؛ وما إن كانوا يرصدون الإشارات الضوئية في الأسفل حتى يُلقي المرسِل بحمولة الطائرة. أما في إنجلترا التي انطلقوا منها، فكان الضبّاط يأملون ألّا تُفقَد أي طائرة. لكن 42 من طائرات "عملية حامل السجّاد" لم تعُد قطّ، وتعرّضت 21 أخرى لأضرار كبيرة. وقد انتهى الحال بأكثر من 200 من زملاء بولينسكي مفقودين أو مسجونين أو قتلى. ويستذكر بولينسكي الحال آنذاك قائلا: "كان المرء يرى أبناء الـ 18 والـ 19 يحضُرون للعمل بدائلَ عن أولئك الذين خسرناهم. وكان المرء يُعَـدّ معمَّرًا إن بقي حيًا حتى سن الثالثة والعشرين. ولو أننا تركنا هذا الأمر يزعجنا، لكان قد أهلكنا غمًّا. لذا كان لا بد من المواظبة على العمل كأن شيئًا لم يكن". وفي أغسطس 1944، بعد عملية إنزال ناجحة فوق بلجيكا، عاد طاقم بولينسكي من مهمّته الخامسة والثلاثين؛ وكان هذا بمنزلة "الرقم السحري" (أي 35) الذي مثّل إيذانًا لهم بالعودة إلى الوطن. كانت الأوامر الأخيرة التي تلقّوها هي "نسيان كل شيء". وذلك ما فعله بولينسكي سنين طويلة. وكذلك ظلّ الحال إلى أن حلّ عام 2001، عندما تلقّى بولينسكي دعوة غامضة لحضور حفل استقبال في بلجيكا احتفاءً بكتاب جديد عن عملية معقّدة أجرتها قوات "الحلفاء" لتحرير ميناء "آنتويرب" عام 1944. لم يكن بولينسكي يعلم قطّ أنه قد كان له دور مهمّ في المهمّة، إلى أن أخبره القصةَ مضيّفُه، الذي كان زعيم المقاومة البلجيكية السابق؛ إذ قال له: "لقد كنا أصدقاء طيلة تلك السنين؛ إلّا أنك كنت في الجو، في حين كنت أنا على الأرض".
يقـول بولينسـكي: "ظللت طيـلة عمـري أرغـب بفعـل شيء ذي مغـزى، وإذا بـي أفـاجـأ بأنني قد فعلت ذلك وأنا شاب من حيث لا أدري. إنه لشعورٌ غريب". –كيتي ساندرز

إيغور مورشتاين وفالينتينا لوكيانوفا، جنديان سوفيتيان قديمان
ارتبط مسارا حياتيهما بسبب الحرب، وحصار لينينغراد و 40 عامًا من الصداقة وهما يعملان في المصنع نفسه. لكن علاقتهما لم تتحوّل إلى قصة غرامية إلّا بعد أن ترمَّل كلٌّ منهما. إذ كانت فالينتينا قد نشأت في دور للأيتام؛ أما إيغور فكانت أمّه قد ماتت وهي تحاول الخروج من مدينتهم التي اجتاحتها المجاعة. وذات يوم، سمع إيغور وأصدقاؤه بكاء طفل. يستذكر إيغور الحادثة، قائلا: "ذهبنا إلى مصدر الصوت لنتبيّن الأمر، فوجدنا طفلا رضيعًا في ربيعه الأول يحاول الرضاعة من أمه الميتة الممددة إلى جانبه". ويضيف أن ذلك الموقف كان "انطلاقة مهامّنا؛ إذ كنا نطرق الباب تلو الباب بحثًا عن أطفال يتامى". وتم استحداث نقطة استيداع للرضع اليتامى، وكان الرُّضّع يُسمَّون بأسماء اليافعين الذين كانوا يجدونهم. يقول إيغور، وقد بلغ الثانية والتسعين من عمره: "لم يكن يجول في خاطرنا أن نبحث عن أوراق ثبوتية، إذ كنا مجرّد يافعين تتراوح أعمارنا بين الثانية عشرة والرابعة عشرة. لم نكن جادّين، لكننا شعرنا بالمحنة الموجودة". وبحلول الوقت الذي غدوا فيه كبارًا بما يكفي للقتال، "كنا نعاني سوء التغذية، ولم نكن نقوى على حمل أسلحتنا". أطعمه الجيش؛ وشارك أخيرًا في تحرير لينينغراد من قبضة النازيين الخانقة. وقبل أربعة أعوام من عامنا هذا، تلقّى اتصالًا من لجنة لقدماء المحاربين. وقيل له إن امرأة كانت تبحث عنه. يقول عن ذلك: "تبيّن لي أنني كنت قد وجدتها طفلة رضيعة خلال الحصار وأوصلتها إلى نقطة استيداع الأطفال الرضّع". وكانت قد سُمّيت باسمه. –إيف كونانت

آرثر مادوكس، محلل شِفرات بريطاني
"يبدو لي أنهم ظنّوا أن فهمي النظريةَ الاقتصادية يؤهّلني لتحليل الشفرات"، يقول "آرثر مادوكس"، الذي يبلغ من العمر الآن 98 عامًا، وكان طالبًا بارزًا لدى "جامعة أوكسفورد" عندما جنّدته المخابرات البريطانية. وكحال "بيتي ويب"، كان مادوكس قد أُرسل إلى "بليتشلي بارك". وقد شُغّل في تحليل شفرات "لورينتس"، وهو نظام إرسال الرسائل المشفرة الذي لم يكن أحد يستعمله سوى "هتلر" وكبار قادته. وكان لنظام لورينتس طبقتان من التشفير وملايين من الاحتمالات التي ينبغي حلّها. ولكن عند إشراف الحرب على نهايتها، كان مادوكس وزملاؤه (بمساعدة من "Colossus"، أول حاسوب رقمي واسع النطاق في العالم) يقرؤون الرسائل المتبادلة بين الزعماء النازيين قبل وقت طويل من استسلام ألمانيا في مايو من عام 1945، إلى درجة أنه عندما حدث الاستسلام كان الموقف أشبه بخاتمة غير مشوّقة، على حد وصف مادوكس، إذ يقول: "كنا على علم مسبق بأن الحرب قد انتهت". –روف سميث

جانين بورك، ناجية من محرقة اليهود
عندما كانت "جانين بورك" في الثالثة من عمرها، اصطحبها والدها في رحلة بالحافلة الكهربائية (الترام) إلى الجانب الآخر من مدينة بروكسل. ولدى وصولهما إلى وجهتهما، رنّ أبوها جرس باب منزل الشخص الغريب، وودّع ابنته بقبلة، وتركها مع المرأة التي فتحت لهما الباب. وكان قدره أن تعتقله الشرطة النازية السريّة لاحقًا خلال عملية جمعٍ للمواطنين اليهود، وأن يموت بعدها في غرفة للإعدام بالغاز في معسكر اعتقال "آوشـفـيتس". وبقيت بورك بين عامي 1942 و 1944 مخبّأة في منزل المرأة المسيحية. وكان لدى هذه المرأة طعام ومأوى، لكنها لم تكن تمتلك عدا ذلك إلا النزر القليل. وذات يوم، عندما سار النازيون في موكب على مقربة من المنزل، أمرتها المرأة بأن تختبأ في المرحاض الخارجي. كانت بورك تختلس النظر حينها من فجوة بين الألواح الخشبية، ثم تنسحب إلى أظلم ركن في المرحاض. وفي عام 1944، دخل الجنود البريطانيون. وما لبثت أمها أن عادت من حيث كانت مختبئة في الريف لاستلامها. وبعدها لم ترَ بورك منقذتَها قَط. تقول: "قد بلغتُ سن الثمانين وما زلت أبكي. إذ لم يتسنَّ لي قطّ أن أشكرها". –كيتي ساندرز

فريد تيرنا، ناجٍ من محرقة اليهود، تشيكوسلوفاكيا
بُعَيد وصول "فريد تيرنا" إلى "تيريزين" عام 1943، الذي كان معسكر اعتقال نازي، شرع في الرسم. رسم أسرّة ثلاثية الطبقات، وطوابير من الناس ينتظرون حصصهم الهزيلة من الطعام، ومسارات لسكك حديدية كانت تنقل السجناء إلى معسكر اعتقال "آوشـفـيتس" سيء السمعة. وكان يوقّع بعض رسوماته بعلامة بدلًا من اسمه، كي لا يتمكّن النازيون من التوصّل إليه. وقد اكتشف في ممارسة الرسم تذكيرًا بإنسانيته. كان تيرنا في السادسة عشرة من عمره عندما زحفت القوات الألمانية على مدينته براغ عام 1939. وعندما حرّرها الجنود الأميركيون بعد ست سنين، كان "واحدًا من تلك الهياكل العظمية التي عُثر عليها وهي تجرّ أقدامها". كان قد احتُجز في أربعة معسكرات اعتقال وكان قد تضوّر جوعًا، وهرب، وقُبض عليه، وكاد يموت من شدة البرد. وعندما عاد إلى براغ لم يجد أحدًا من أفراد عائلته الأقربين قد نجا من الحرب.
تزوّج تيرنا امرأة كانت قد نجت هي الأخرى من معسكر اعتقال نازي، واستقر في نهاية المطاف في مدينة نيويورك حيث تفرّغ تمامًا للرسم. أما اليوم -وقد بلغ السادسة والتسعين من عمره- فإنه ما زال يرسم اللوحات ويلقي المحاضرات. وفي مرسمه الواقع في الطابق الأخير من منزله بمنطقة بروكلين، يتولّى مزج ألوان الأكريليك الخاصة به. وتعليقًا على أعماله، يقول: "إنها محاولتي لتحقيق الخلود". وتزيّن لوحات تيرنا ذات القوام الكثيف والمشاهد النارية، جدران ممرّات منزله. يقول: "لقد خلّفنا سجلًا؛ وسجلّي أنا شخصيًا هو سجّل مرئي". وقد اكتشف تيرنا بعد مضي نحو 40 عاما على انتهاء الحرب، أن شخصًا كان قد احتفظ بلوحاته التي رسمها في معسكر تيريزين وأخذها إلى إسرائيل. يقول: "لم نكن نعلم حينها أننا كنا نصنع وثائق تاريخية". كانت تلك اللوحات، كحال الرقم 114974 الذي وُشمت به ذراعه، أدلّةً على ما جرى له ولستة ملايين يهودي قضوا في المحرقة. يقول: "صحيحٌ أن عوائلنا رحلت، لكننا نحافظ على ذكراها حيّة. ومن واجبي، كما أضحى من واجبكم أنتم إلى حدٍّ ما، أن نذكّر العالم بما جرى". –نينا ستروتشليك

فالتراود بليس، طفلة ناجية، ألمانيا
حتى عندما كانت "فالتراود بليس" مجرّد طفلة، لم يكن يخفى عليها أن كثيرًا من الألمان انتفعوا من النظام النازي. ولم تكن مضطرة للنظر بعيدًا لرؤية ذلك. فلقد كان أبواها مفلسين عندما وصل هتلر إلى السلطة عام 1933. وبعدها بستة أعوام، أصبح والدها ضابطًا في ما كان يسمّى "فافن-إس. إس"، شعبة النخبة العسكرية في الحزب النازي. وبحلول الزمن الذي انطلق فيه للقتال خلال غزو فرنسا، كانت عائلته تمتلك سيارتين، ومنزلًا جميلًا، ومستودعًا مليئًا بالأثاث الثمين "المستعمل". تتساءل بليس قائلة: "من أين جاء كل ماله؟. لقد باتت الحقيقة واضحةً لي الآن: ما كان ليحصل عليها إلا من العوائل اليهودية. ولا يستطيع أحد مجادلتي قائلًا إن والدي لم يكن يعلم آنذاك أن اليهود كانوا مضطهدين".
ذات مرّة، أَركبَها والدها السيارةَ لأداء مأمورية في معسكر الاعتقال، "زاكسنهاوزن"، الواقع على طرف العاصمة برلين. وتعليقًا على الموقف، تقول بليس، وقد بلغت الآن سن الرابعة والثمانين وهي في ثياب فائقة الأناقة: "رأيت الناس هناك، والحياة التي كانوا يَحيونها". ولدى سؤالها عمّا إن كانت المشاهد قد صدمتها، تهزّ رأسها وترفع كتفيها قائلة: "كانت الأشياء التي من هذا النوع مظاهر اعتيادية مسلّمة". ثم أضحت هذه الأشياء فجأة غير اعتيادية. ففي خريف عام 1944، رأت بليس الشوارع المحيطة بمنزل عائلتها، الواقع على بعد نحو 200 كيلومتر شرق برلين، تعجّ بعوائل فارّة من الجيش السوفيتي. وظلّت تنام بثيابها العادية أسابيع طويلة، متأهّبةً لأن تنضمّ في أي لحظة إلى سيل اللاجئين. وأخيرًا، في ليلة قارسة من فبراير عام 1945، وصلهم أمر بإخلاء منزلهم. تستذكر بليس تلك المرحلة قائلة: "ظننت الوضع مؤقتًا، وأننا سنعود إلى بيوتنا ما إن ندحر الروس؛ إلى هذا الحد كانت قوة الدعاية السياسية [النازية] حينها".
وبعد أسابيع من الحركة، والنوم في شقق الغرباء ومحطات السكك الحديدية، نُقلت هي وأمها وأخوها وأختها بسفينة إلى شبه جزيرة تقع على ساحل ألمانيا المطلّ على بحر البلطيق، حيث كانت هناك وجهة سياحية تحوي عددا وفيرا من الأسرّة. ولكن في أبريل من ذلك العام، قطعت القوات السوفيتية المتقدمة اتصال شبه الجزيرة عن البرّ الرئيس، وفُقد الطعام. وبغياب الكهرباء أو المذياعات، لم تكن بليس وعائلتها على دراية باستسلام ألمانيا، إلى أن سمعوا دويّ الأعيرة النارية التي كانت تطلقها وحدات الجنود السوفييت المرابطين في البيوت المجاورة، احتفالًا بذلك. ولأن الجوع لم يكن يفارق بليس، فقد أمضت الربيع في البحث عن الطعام. وذات يوم، تبعت الطفلة عربة فلاّح على طريق مرصوفة بالحجارة، لتجمع في تنّورتها حبّات البطاطس التي كانت تتساقط من العربة؛ وإذا بها تجد نفسها وحيدة في حقل بعيد عن المدينة. وتروي بليس الموقف قائلة: "عندها أمسك بي جندي روسي واغتصبني". لم يكن عمرها آنذاك قد تجاوز تسع سنوات. وتقول بليس إنها جرت إلى منزلها لتخبر أمها، لكن صرخاتها قوبلت بالصمت. في خريف ذلك العام، وصل إلى أسماع العائلة أن والد بليس كان قد نجا من سقوط برلين وأنه كان معتقلًا لدى البريطانيين شمال ألمانيا. لكن العودة إلى ديارهم لم تعد ممكنة؛ إذ كانت قريتهم قد أصبحت ضمن الأراضي البولندية.
وعلى مدى الأعوام العشرة التي تلت ذلك، ظلت العائلة تعاني؛ إذ عاشت بدايةً في حظائر الخنازير ومزارع الحيوانات، ثم تزاحمت مع عوائل أخرى في شقق صغيرة. في السنين العجاف التي تبعت الحرب، كان كثيرٌ من الألمان مستائين من بليس وملايين اللاجئين الآخرين الذين شرّدهم الصراع، لأنهم مثّلوا أفواهًا إضافية ينبغي إطعامها. تقول بليس: "كانوا يتحاملون علينا، ويسبّوننا، لمجرّد أننا كنا لاجئين". والآن، وقد مضت سبع وخمسون سنة على ذلك، فإن بليس لا تشعر بالغضب ولا بالذنب. تقول: "هناك قصص مأساوية حقًا عمّا جرى. وتكاد تبدو قصتي بالمقابل تافهة. كنت حينها في التاسعة من عمري. ولم تكن الحرب ذنبي. لكنني لم أكن ضحية كذلك". أما اليوم، فإن بليس تُجري زيارات للمدارس ضمن منطقة هامبورغ للتحدّث عما عايشته خلال الحرب، ويحدوها إلى ذلك الشعور بالقلق؛ إذ تقول: "تأمّلوا حال العالم اليوم، تجدوا أن الناس لم تعتبر مما حصل. فحقيقة أن النازيين الجدد قد ظهروا ثانيةً مسألةٌ مرعبة؛ وليت المسألة محصورة في ألمانيا. إذ نشهد ذلك في الولايات المتحدة والدول الإسكندينافية.. فما زال من السهل التلاعب بعقول الناس". –آندرو كاري

كي لا ننسى.. آخر أصوات الحرب العالمية الثانية

ماريا روخلينا (96 عامًا)، مسعفة ميدانية سوفيتية: "لم نكن ندفن الموتى في شتاء ستالينغراد.. بل كنّا نكوّم الجثث تكويمًا؛ إذ لم يكن هناك مكان ندفنها فيه".
بعضهم كان بطلًا؛ وبعضهم الآخر كان ضحية؛ وفريق ثالث منهم حارب لأجل فاشيّين سعوا إلى السيطرة على العالم. وإذْ أخذ جيلهم يتلاشى من الوجود بعد مضي 75 عامًا على توقّف القتال، فإن ذكرياتهم ما زالت مؤثرة في الوجدان.. كما كانت دائمًا.قبل خمسة وسبعين عامًا،...
بعضهم كان بطلًا؛ وبعضهم الآخر كان ضحية؛ وفريق ثالث منهم حارب لأجل فاشيّين سعوا إلى السيطرة على العالم. وإذْ أخذ جيلهم يتلاشى من الوجود بعد مضي 75 عامًا على توقّف القتال، فإن ذكرياتهم ما زالت مؤثرة في الوجدان.. كما كانت دائمًا.

قبل خمسة وسبعين عامًا، كانت الحرب الأوسع نطاقًا والأشد فتكًا وتدميرا في التاريخ تتهيّأ لوضع أوزارها. وكانت تسميتها بـ "الحرب العالمية الثانية"، اسمًا على مسمّى: فلقد كانت حربًا دولية يجابه فيها "الحلفاء" (وهم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين وحلفاؤهم الأصغر) ألمانيا واليابان وإيطاليا وغيرها من دول "المحور". وقد خدم في القوات المسلحة نحو 70 مليون رجل وامرأة، فشاركوا في أكبر تعبئة عسكرية عرفها التاريخ. لكن المدنيين هم أكثر من عانوا وأكثر من ماتوا. فمن بين قتلى الحرب الذين تُقدَّر أعدادُهم بـستة وستين مليونًا، فإن قرابة 70 بالمئة منهم (أي نحو 45 مليونًا) كانوا مدنيين، ومن بينهم ستة ملايين يهودي قُتلوا في "المحرقة". وقد شهدت الحرب اقتلاع عشرات الملايين من منازلهم وبلدانهم، فعاش كثير منهم في مخيّمات للأشخاص المهجّرين سنين طويلة بعد ذلك. ولم تكن عواقب الحرب بأقل إذهالًا من حجمها. فقد وضعت الأساس للعالم الذي نعرفه وعرفناه على مدى أكثر من سبعة عقود: من فجر العصر النووي، مرورًا بإنشاء دولة إسرائيل، إلى بروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بوصفهما قوّتي العالم العظمَيَين المتبارزتين. كما أن هذه الحرب هيّأت تشكيل تحالفات دولية مثل "الأمم المتحدة" و"حلف شمال الأطلسي"، التي كان المراد منها جميعًا الحيلولة دون حدوث واقعة من هذا النوع مرة أخرى. ومع كل هذا، فإن وعي الجماهير بالحرب وتداعياتها التي لا يُسبَر غورُها قد تلاشى بمرور الزمن، حتى بات باهتًا كصورة فوتوغرافية أكل الدهر عليها وشرب. وفي الوقت نفسه، فإن أعداد الذين شهدوا أحداث الحرب مباشرة آخذةٌ بالتناقص. فوفقًا لإحصاءات الحكومة الأميركية، فإن أقل من 400 ألف من الأميركيين الـ 16 مليونًا الذين شاركوا في الحرب (أي 2.5 بالمئة منهم) كانوا ما يزالون على قيد الحياة عام 2019. ولكن، بفضل رغبة بعضٍ من أواخر الناجين في نشر قصصهم، فقد حظينا بهدية ثمينة، ألا وهي: فرصة استحضار الحرب والتركيز عليها مجددًا من خلال عيونهم. كان جلّ هؤلاء الرجال والنساء قبل الحرب لا يعلم شيئًا يُذكر عن العالم الذي يقع خارج مجتمعاتهم المحلية الصغيرة؛ إذ لم يكن لديهم حينها ولوج لوسائل الاتصال الفوري المتاحة اليوم مثل شبكة الإنترنت أو غيرها من الوسائل. ولمّا انتزعتهم الحرب من الأوساط التي نشؤوا فيها، فقد عرّضتهم لفيضٍ هائل من المواقف والخبرات الجديدة، وامتحنتهم بطرق ما كانوا يتخيّلوها يومًا. وقد وجد كثيرٌ منهم الإثارة في تلك التحديات.
وينسحب ذلك الأمر على "بِيتي ويب" التي كانت حينها في الثامنة عشرة من عمرها عندما استدُعيت للانضمام إلى العملية الأكثر سرّية في بريطانيا لحل الشِفرات، لدى قصر "بليتشلي بارك". وكانت ويب مجرّد امرأة واحدة من بين عدد لا يُحصى من النساء اللواتي كان لعملهن أهمية كبيرة ضمن المساعي الحربية لبلدانهن، واللواتي تمتعن بفضل ذلك بشعورٍ بالأهمية والاستقلال لم يعرفنه قطّ من قبل. أما "هاري تي. ستيوارت" الابن، الذي شهد الحرب وهو في سن العشرين، وكان حفيد رجلٍ وُلد في الرّق، فقد أثبت جدارته كذلك. إذ إن ابن نيويورك هذا الذي لم يكن قد قاد سيارة قبل الحرب، أصبح طيّارَ مقاتلةٍ ضمن وحدة عسكرية مؤلفة بالكامل من السّود، عُرفت باسم "خرّيجي تاسكيغي من جنود سلاح الجو"، فشارك في التحليق في 43 مَهمّة قتالية، ونال وسام "الصليب الطائر المميز".
وهــذه الانتصــارات هي انتصــارات ملهمة ينبغي الاحتفاء بها. ولكن ما يطغى على قصص الناجين هو المآسي التي عاشها كثيرٌ منهم، سواء أكانوا من مواطني "الحلفاء" أم من مواطني "المحور". وتعدّ رواياتهم شهادة على جحيم الحرب العالمية الثانية؛ على ما قاسَوا فيها من وحشية ومعاناة ورعب تسبّب فيها الطرفان معًا. وأكثر ما يؤرّق من هذه الشهادات هي شهادة "فيكتور غريغ"، الذي كان جنديًا بريطانيًا اعتقله الألمان، وكان سجنه قد دُمّر خلال قصف قوات "الحلفاء" مدينةَ درسدن الألمانية في فبراير من عام 1945. خلّف ذلك القصف في نفس غريغ -الذي شهد حينها موت المدنيين الألمان حرقًا، وناهز عددهم الـ 25 ألفًا- شعورًا بالذنب والعار لازمه مدى الحياة. يقول: "كان هؤلاء مجرّد نساء وأطفال. لم أستطع تصديق عيني. فلقد كان من المفترض أن نكون نحن الأخيار". لذا يجب أن تبقى قصّته محفورةً لا تُمحى من ذاكرتنا، مثل قصص الناجين الآخرين من هذه الحرب.

"أردت أن أفعل شيئًا أكبر لصالح الحرب من مجرّد خَبز لفافات العجين بالنقانق".
"في تلك الغرفة هناك، وقّعتُ 'قانون الأسرار الرسمي'"، تقول "بيتي ويب" البالغة من العمر 97 سنة وهي تشير بعكّازها إلى غرفة في الطابق الأرضي في القصر الباروني لدى "بليتشلي بـارك"، منشأة بريطانيا الأسطورية السريّة للغاية لتحليل الشِفرات خلال الحرب العالمية الثانية. يُرى عبر النافذة مكتبٌ ضخم. تستطرد ويب قائلة: "كان هناك ضابط كبير في الاستخبارات جالسًا خلف المكتب، وأذكر أنه كان قد وضع مسدسًا بجانبه بلا اكتراث، تمامًا حيث يوجد فنجان القهوة الآن. وطُلب إلي التوقيع بعد أن شُرح لي بكلمات لا لبس فيها أنه لا يجوز لي أبدا أن أحدّث أي شخص عن عملي. فوقعّت. وكانت تلك لحظة صحوة. كنت حينها في الثامنة عشرة من عمري". كان ذلك في عام 1941. وكانت بريطانيا تخوض حربًا. وكانت القوات الألمانية قد اكتسحت مساحة واسعة من أوروبا. كانت ويب حينها تحضُر دورة في التدبير المنزلي، لكنها انضمت إلى "الخدمة الإقليمية المساعدة" (الجيش النسائي)، لأنها، كما تقول: "أردتُ أن أفعل شيئًا أكبر لصالح الحرب من مجرّد خبز لفافات العجين بالنقانق". وقد كانت ويب تتحدث بلغتين، إذ كانت قد نشأت بوجود مربّية ألمانية، كما أنها زارت ألمانيا ضمن برنامج لتبادل الطلاب؛ لذا فقد أُمرت بالحضور إلى بليتشلي، الواقعة على مسيرة ساعة بالسيارة أو نحو ذلك شمالا عن لندن. تقول ويب: "كانت المنشأة محاطةً بسريّة شديدة إلى درجة أنني لم أدرِ ما هي، بل لم يدرِ بها أحد، فضلًا عن النشاط الذي كنت سأنخرط فيه". في بادئ الأمر، شُغّلت ويب في فهرسة آلاف الرسائل اللاسلكية المشفّرة التي كانت تعترضها مراكز التنصّت البريطانية كل يوم. ولكن، بتقدّم الحرب، انتقلت إلى دور أكثر إبداعًا تمثَّل في إعادة صياغة معلومات استخبارية لا تقدَّر بثمن جمعها محللو الشِفرات، على نحو لا يرتاب معه أحد بأن المخابرات البريطانية كانت قد حصلت عليها بهذه الطريقة تحديدًا، فيعلم العدوّ أن شِفراته قد تم تفكيكها. وفي ذلك، تقول ويب: "توجّب علينا أن نجعلها تبدو كما لو أنها معلومات حصلنا عليها من جواسيسنا أو من وثائق مسروقة أو الاستطلاع الجوي. فحقيقة أننا حللنا الشِفرات العسكرية للألمان واليابانيين كانت سرًّا محاطا بكتمان شديد، لم يعرفه سوى قلة قليلة من الناس". استمتعت ويب بعملها؛ إذ تقول مبتسمة: "أحببت ما ينطوي عليه عملي من مراوغة". وقد عملت على الرسائل اليابانية التي تم اعتراضها وبلغت من البراعة في إعادة صياغة محتوياتها مبلغًا عظيما حتى إنها أُرسلت في يونيو من عام 1945، بعد انتهاء الحرب في أوروبا، إلى واشنطن للمساهمة في المساعي الحربية الأميركية في المحيط الهادي. وتستذكر المرأة ذلك الحدث قائلة: "طرت إلى هناك بطائرة مائية، وكانت أول مرة أركب فيها في طائرة. يومها أرسلتُ إلى والديَّ بطاقة بريدية من واشنطن. وإنني على ثقة أنهما كانا يتساءلان عمّا كنت أفعله، ولكنهما بالطبع لم يسألاني قطُّ عن الموضوع، وما كنت لأخبرهما أصلًا". ومرّت عقود طويلة من الزمن قبل أن يُسمح لأيٍّ من العاملين لدى "بليتشلي" بالتحدّث عما كانوا يفعلون خلال الحرب. تقول ويب: "كان كلا والديّ قد ماتا بحلول ذلك الوقت، وهكذا لم يتسنَّ لهما معرفة طبيعة عملي. وقد صعَّب علينا كل هذا التكتّم إمكانية الحصول على وظيفة بعد الحـرب -وبخاصة الرجال بيننا- إذ لم يكن بمقدور أيٍّ منا أن يخبر مشغّليه بأي شيء عما فعله خلال سنين الحرب سوى أنه كان يعمل في مكان ما يدعى بليتشلي بـارك. في نـهاية المطـاف، عثرت ويب على عمل لدى مدرسة كان مديرها يعمل سابقًا في بليتشلي. وتعليقًا على ذلك، تقول: "لم أكن أعرفه حينها؛ ولكن عندما رأى على طلب عملي أنني كنت أعمل في بليتشلي كذلك، لم تكن هناك حاجة إلى قول أي شيء، أو طرح أي أسئلة مربكة. فحصلت على الوظيفة". – روف سميث

"لم نكن ندفن الموتى في شتاء ستالينغراد.. بل كنّا نكوّم الجثث تكويمًا؛ إذ لم يكن هناك مكان ندفنها فيه".
صحيحٌ أن الحرب انتهت قبل 75 عامًا، إلا أن "ماريا روخلينا" -البالغة من العمر الآن 95 عامًا- ما زالت تشعر بالحرب في يديها، في كل إصبع منهما. كانت هذه المرأة المولودة في أوكرانيا تحلم بأن تصبح طيّارة. ولكن بحلول عام 1941 -عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها- اقتحم النازيّون وطنها وتوغّلوا فيه. فأصبحت مسعفة ميدانية وخدمت مع القوات السوفيتية أربعة أعوام. وتعليقًا على ذلك، تقول: "انتقلت من مقعد الدراسة إلى جبهة القتال". وذات يوم، بينما كانت تساعد على نقل جندي جريح بمركب عبر نهر "دنيبر"، انكسر مجدافها؛ فاضطرت لأن تجدّف بيديها العاريتين في الماء القارس. وما زال الألم يسكن أصابعها حتى اليوم وما زال شديدا إلى درجة أنها تتلقّى حقنًا في كل مفصل من مفاصلها لتسكّنه. في عام 1942، وجدت هذه المرأة نفسها عالقةً في مدينة ستالينغراد المحاصرة. وظلت رحى المعركة تدور أكثر من ستة أشهر، مُحيلةً المدينة إلى خراب، ومبيدةً جلّ سكّانها. وكانت درجات الحرارة تهوي بانتظام شتاءً دون 20 درجة مئوية تحت الصفر. اختبأت روخلينا مع القوات السوفيتية في مصنع للجرّارات، ولكن لم تكن هناك قصاصة ورق أو قطعة خشب لتُحرق ويُستدفأ بها. تقول: "اضطررنا لأن يدفّئ بعضنا بعضًا بأجسامنا. هنالك قطعنا على أنفسنا عهدًا: ألّا ننسى ستالينغراد، وألّا ننسى أولئك الذين وقفوا وهم يحضنون بعضهم بعضًا" في ما سمّتها "حلقات التدفئة". ثم هناك الذكريات التي حاولت روخلينا نسيانها لكنها عجزت عن ذلك: مثل حرارة الأمعاء المندلقة لجندي يُحتضر وهي تحاول ردّها في جسمه؛ أو زميلتها في الإسعاف الميداني التي اغتصبها الألمان وقتلوها وبتروا ثدييها. وتعليقًا على ذلك، تقول: "لا أستطيع نسيان ما فعلوه، وما رأيته". ولكن هذه الويلات خلقت روابط، تمامًا كما فعلت حلقات التدفئة. إذ إن جنديا سوفيتيا كان قد وعد روخلينا لدى رؤيتها أول مرّة بأن يتقدّم بطلب يدها إن نجيا من الحرب. وكذلك كان. دام زواجهما 48 عامًا. –إيـف كونانت

ييفسَيه رودينسكي، ملاّح سوفيتي
طرقت الحرب باب "ييـفـسَيه رودينسكي"، الذي كان حينها طالبًا ولاعب جمباز، عندما أُرسل إلى مركز للتجنيد وأُخبر بأن البلد بحاجة إلى 100 ألف طيّار. وعن ذلك، يقول رودينسكي، البالغ من العمر حاليا 98 عامًا: "لم أكن أحلم بالطيران، لكنني كنت أحب الدراسة حقًا". ولأن الرسوم البيانية وعلم الفلك كانا مثار اهتمامه، فقد تدرّب على أن يصبح ملاّحًا في الشمال الروسي الأقصى، حيث كان طيّارو المناطق القطبية يعلّمون من هم في عهدتهم من المتدرّبين عديمي الخبرة على توجيه الطائرات في الظروف الجوية الخطرة من دون خرائط يُعتمَد عليها. أما تجربته الأولى في غمار المعركة، فكانت في سماء مدينة كورسك حيث جرت أكبر معركة بالدبابات خلال الحرب العالمية الثانية. وعن ذلك، يقول الرجل: "قدت قاذفةً انقضاضية من طراز 'بيتلياكوف بي. إي2-'. وكنا ندعوها، تحبّبًا 'بيشكا'"، أي بيدق الشطرنج. ويستذكر رودينسكي أن الخوف لم يكن يعتريه إلا بعد هبوطه بالطائرة؛ إذ يقول: "عندما يرى المرء كم خلّفته المعركة في طائرته من ثقوب، أو يتذكر كيف هاجمته مقاتلات "ميسرشميتس" الألمانية، عندها يبدأ يشعر بالخوف"، ويضيف قائلًا: "إن لم يشعر المرء بالخوف، فإنه لا يكون بشرًا. ونحن جميعًا في المحصلة بشر". –إيـف كونانت

فيكتور غريغ، جندي بريطاني من الرماة
بدا عرضٌ بتناول فطيرة محلاة وكوب من الشاي الساخن، جذّابًا جدًا لـ "فيكتور غريغ" في ذلك اليوم اللندني البارد من شهر أكتوبر عام 1937؛ ما أغراه باتّباع متعهّد تجنيد إلى مكتبه وتقديم طلب للانضمام إلى الجيش البريطاني. ويستذكر غريغ -الذي بلغ من العمر الآن 100 عامًا- الموقفَ قائلًا: "تصادف ذلك اليوم مع عيد ميلادي الثامن عشر. والمفارقة أنني، فيما أذكر، لم أحصل قطّ على كوب الشاي الذي وُعدت به". أما ما حصل عليه بدلًا من ذلك، فكان تجربة مروّعة للحرب العالمية الثانية، من بدايتها إلى نهايتها. فبعد أن تأهّل غريغ ليكون راميًا، أُرسل مؤقتًا إلى الهند، وكان يخدم في فلسطين عندما اندلعت الحرب في سبتمبر من عام 1939؛ فأمضى الأعوام الثلاثة التالية في صحراء الشمال الإفريقي في مَهمّات سرية خلف خطوط العدو. ثم غدا فيما بعد مِظليا وشارك في غزو إيطاليا. وفي سبتمبر من عام 1944، أُلقي في "معركة آرنم"؛ وكانت معركة فاشلة خاضها "الحلفاء" في الأصل بهدف تأمين جسر فوق نهر "الراين". يستذكر الرجل المعركة قائلًا: "أخبرونا أن العملية ستكون سلسة هيّنة. لكننا واجهنا بدلًا من ذلك فرقًا من الدبابات الألمانية لم تكن في حسبان أحد". كان القتال وحشيًا ومباشرا، اكتُسِح فيه المظلّيون البريطانيون. ونتيجةً لذلك، قُبض على غريغ وأُرسل إلى معسكر عمل قرب مدينة درسدن الألمانية. في ذلك الشتاء، أَقدم غريغ على محاولتين للهرب لم تكلّلا بالنجاح؛ وعقابًا له على ذلك، أُرسل ليعمل في معمل للصابون. فما كان منه ومن سجين حرب آخر سوى أن خرّبا المعمل، متسبّبين في احتراقه تماما. حُكم عليهما بالإعدام. يقول غريغ: "حوّلونا إلى سجن في درسدن وأخبرونا أننا سنُعدم رميًا بالرصاص صباح اليوم التالي". لكن القدر تدخّل لمصلحته. إذ أخذت الطائرات البريطانية والأميركية تمطر مدينة درسدن تلك الليلة بالقنابل الحارقة. وأصيب السجن إصابة مباشرة، وتمكّن غريغ من الهرب عبر جدار متهدّم. ويقول إن الأهوال التي رآها على مر الأيام القليلة التي تلت ذلك ظلت ذكراها تقضّ مضجعه طيلة حياته وتملأ وجدانه إثمًا وعارًا. يقول: "قبل تلك الحادثة، كانت الحرب التي خضتها وعرفتها قائمة على اقتتال بين جنود وجنود آخرين. ولكن الضحايا هذه المرة كانوا مجّرد نساء وأطفال، كانوا مدنيين. لم أستطع تصديق عينيَّ، إذ كان من المفترض أن نكون نحن الأخيار". وقد هرب غريغ من درسدن خلال تبعات القصف وشق طريقه شرقًا لينضمّ إلى القوات السوفيتية المتقدمة. وكان معهم في مدينة لايبزيغ الألمانية يوم استسلم الألمان.وبعد ست سنوات من العيش على المحكّ، وجد الرجل أن من المستحيل عليه أن يستقر في حياة مدنية بعد أن وضعت الحرب أوزارها. فيقول إنه كان لذلك يسعى إلى المجازفة والخطر، سواء أكان في ركوب الدرّاجات النارية، أم في أداء عمل سري لمصلحة وكالة الاستخبارات البريطانية، "إم آي 6"، أم في إقحام نفسه في الحركات السرية المؤيّدة للديموقراطية خلف "الستار الحديدي" (أي في الدول الواقعة ضمن النفوذ الروسي السوفيتي). وقد كانت ذكريات درسدن على وجه الخصوص وزرًا ثقيلًا يجثم على صدر غريغ. ولكن، حدث في الآونة الأخيرة أنْ دُعي الرجل إلى المدينة لإلقاء كلمة عمّا خبره خلال الحرب. وكانت هناك امرأة ضمن الحضور في بداية الثمانينات من عمرها، وكانت قد نجت وهي طفلة صغيرة من القصف الذي تعرّضت له مدينة درسدن، لكنها فقد ساقها. ويقول غريغ، إنه إذ أخذا يتحادثان بعد المحاضرة، وجد السكينة التي لطالما كان ينشدها على مرّ عقود طويلة: "شعرت بطريقةٍ ما بأن ذنبي قد غُفر أخيرًا". –روف سميث

آر. آر. "راسل" كلارك، بحّار أميركي
عندما خلّفت إصابةٌ فتقًا في "راسل كلارك" أثناء مشاركته في مباراة كرة قدم، علم الشاب -الذي كان في سن الثامنة عشرة آنذاك- أنه سيكون غير مؤهل لأداء الخدمة العسكرية. لكن كلارك، الذي كان قد وُلد وترعرع في مزرعة في ولاية كانساس، كان مصرًّا على الانضمام إلى شقيقيه في جبهات القتال. لذا فقد دفع نفقات إجراء عملية جراحية لمعالجة الفتق، ثم التحق بصفوف المقاتلين. بحلول أوائل عام 1945، كان كلارك في مكانٍ ما من شمال الأطلسي، يعمل في غرفة محرك المدمّرة المرافقة، "يو. إس. إس. فاركار". ويستذكر كلارك -الذي بلغ الآن الخامسة والتسعين من عمره- تلك المرحلة قائلًا: "كان المكان في الأسفل مظلمًا ورطبا حارّا، إذ بلغت الحرارة فيه 38 درجة مئوية". وبالرغم من الساعات الطويلة الحارة التي أمضاها كلارك في أسفل السفينة، فقد كان يعُـدّ نفسَه محظوظًا؛ إذ يقول: "كان أولئك المساكين الذين توجب عليهم العمل على متن السفينة في شمال الأطلسي، يعانون البرد القارس". أما احتكاكه الوحيد بالعدو فكان صبيحة اليوم الذي تلا استسلام ألمانيا. إذ أخذت غواصة نازية، لم تكن قد تلقّت خبر الاستسلام فيما يبدو، تهاجم سفينة "فاركار". يقول الرجل: "ما كان في اليد من حيلة. واضطررنا لإطلاق طوربيد عليها". لم يبقَ للغواصة أثر سوى بقعة زيت. –بيل نيوكوت

شيزويو تاكيؤوتشي، ناجية يابانية
ما زالت ذكريات هذه المرأة عن يوم 25 فبراير من عام 1945 -يوم قصفت قاذفات القنابل الأميركية، "بي29-"، مدينة طوكيو بالقنابل الحارقة- تطاردها. يومها عادت شيزويو تاكيؤوتشي، التي كانت في ربيعها الثالث عشر، إلى منزلها لتجد الرماد مكانه. وكان الشيءَ الوحيدَ الذي بقي سالمًا فيه قِدرٌ حديدي لطبخ الرزّ. أما معجم الإنجليزية المحرَّم آنذاك في اليابان (الذي كان أبوها قد أهداها إياه) فكان رمادًا. أمسكت صفحة واحدة منه، فذرته الريح سريعًا. تبع ذلك قصفٌ آخر بالقنابل الحارقة في العاشر من مارس مخلفًا في ذاكرتها صورًا لنفسها وهي تجري في زوبعة قوية من الحطام والدخان، وتمرّ بجثث متفحّمة كانت إحداها لأمٍّ كانت تحاول حماية طفلها الرضيع بوضعه تحتها. وتستذكر تاكيؤوتشي ذلك الموقف قائلة: "شعرت بالخوف لأنني فقدت عواطفي من بعدها بعضَ الوقت". واليوم وقد بلغت هذه السيدة من العمر 89 سنة ولديها ابن وبنت، فإنها تعمل راويةَ قصصٍ لدى مركز مكرّس ليكون شاهدًا على أهوال الحرب. –تيد غاب

بوريس سميرنوف، مسعف ميداني سوفيتي
"كنا مفعمين بالوطنية السوفيتية"، يقول "بوريس سميرنوف"، الذي يبلغ من العمر 93 سنة، والذي شهد موت كثير من رفاقه أثناء الصراع الذي أطلق السوفييت عليه اسم "الحرب الوطنية الكبرى". وفي إحدى المناسبات، كان فصيل سميرنوف يبني جسرًا من فوق نهر "نيمان"، فإذا برصاصةٍ -لعلّها من أحد قنّاصي العدو- تُردي قائدهم. يستذكر سميرنوف ذلك الموقف قائلًا: "بينما حاولت مساعدته، كان هناك جندي آخر إلى جانبي. قال لي: 'يا دكتور، تولّى مساعدته وأنا سأحميك'". وبينما أخذ المسعف يضمّد جرح الضابط المصاب، سُمع أزيز طلقة من الضفة المقابلة، أسقطت من فورها الجندي الذي كان يحرسه قتيلًا. "لقد سقط بهدوء"، يقول سميرنوف، الذي لم يفارقه الأسى على موت حاميه. أما اليوم الأكثر إيلامًا له، فكان ذلك اليوم من شهر أكتوبر عام 1944 الذي حُوصر فيه فصيل سميرنوف وأُردي أفراده بالرصاص بلا رحمة. يروي سميرنوف الموقف قائلًا: "رأيت الجنود الضاحكين الذين كانوا يجلسون على بعد 50 أو 60 مترًا عنا. كنا نجري نحوهم ونحن نصيح؛ وكانوا يضحكون ويلوّحون بقبّعاتهم. وتساقط أصدقائي قتلى من حولي". وهناك وثيقة من الأرشيف الروسي عزيزة على قلب سميرنوف؛ إنها قائمة بأسماء رفاقه القتلى. –إيف كونانت
يقول ستيوارت تعليقًا على مشاركة بني جلدته في الحرب العالمية الثانية: "أريد ببساطة أن يُذكَروا كما كانوا: مواطنين صالحين" ساهموا في حماية بلادهم "حتى عندما واجهوا التمييز العنصري".

كان ما يقرب من ألـف طيّـار أميركي مـن أصل إفـريـقي ممـن خـدموا في الحـرب العـالمية الثانية، قد تعلّموا الطيران في مدينة تاسكيغي بولاية ألاباما، حيث كان المطار العسكري الأميركي الوحيد الذي درّب طلاّب طيران سود. ولم يبقَ من "خريجي تاسكيغي من جنود سلاح الجو" الشهيرين سوى 10، ومنهم المقدّم هاري تي. ستيوارت الابن، الذي بلغ سن الخامسة والتسعين في يوم الاستقلال الماضي. كان من عادة ستيوارت، الذي نشأ في مدينة نيويورك، أن يمشي متجولًا إلى مطار قريب ليتأمل بإعجاب "الطيور المهولة المصنوعة من الألمنيوم" ويتخيّل نفسه يطير بها. وقد حقق حلمه أخيرًا عام 1944، عندما بدأ يرافق قاذفات القنابل الأميركية إلى أهدافها عبر أوروبا. وخلال مهمّة من تلك المهامّ، في يوم أحد وكان عيد الفصح عام 1945، كان ستيوارت وستةٌ من رفاقه في السرب يطيرون على ارتفاع 1500 متر فوق النمسا المحتلة آنذاك من النازيين، وإذا بهم يجدون أنفسهم في مواجهة مع طائرات من سلاح الجو الألماني تفوقهم عددًا. تبعت ذلك معارك جوية مميتة. وبإصبعه على الزناد، أخذ ستيوارت يطلق رشقة تلو أخرى من رشّاشات طائرته "موستانغ بي51-" التي كانت سبطاناتها من عيار 12.7 مليمتر. وبعد أن عاد وهبط في قاعدته بإيطاليا (والتي كانت قد سقطت في قبضة الحلفاء)، استُقبل فيها باستعراض موسيقي عسكري وأُقرّ له الفضل في إسقاط ثلاثٍ من طائرات العدو؛ مأثرةٌ كوفئ عليها بتقليده وسام "الصليب الطائر المتميّز".
لكن ذهن هذا الطيّار المبتدئ كان مشغولًا لحظتها بمصير ثلاثة من رفاقه الطيّارين كانوا قد أُسقطوا خلال المعركة. كان أحدهم قد مات فورًا، فيما تمكّن الثاني من الهبوط اضطراريًا في يوغوسلافيا. أما الثالث فقفز من طائرته بالمظلة، وذكرت التقارير أنه عُثر على جثّته في النمسا بعد أسبوعين عند تحريرها من النازيين. بعد انتهاء الحرب، ظل ستيوارت في القوى الجوية، إذ كان الرئيس الأميركي "هاري ترومان" قد أمر بتطبيق الاندماج العرقي في المؤسسة العسكرية عام 1948، وفاز ستيوارت عام 1949 في المسابقة الافتتاحية لأفضل رمية مع اثنين من زملائه الطيّارين الذين تخرّجوا في تاسكيغي. بعد عام على ذلك، اضطرت التخفيضات التي طُبقت على الميزانية بعد الحرب آلافًا من الضباط -ومنهم ستيوارت- إلى ترك سلاح الجو. وحصل على رخصة الطيران التجاري بفضل قانون مزايا المحاربين القدامى وتقدّم بطلب أن يطير لحساب شركتي الطيران "بان أميريكان" و"ترانس وورلد". لكن الشركتين رفضتاه؛ إذ لم تكونا توظّفان طيّارين سودًا آنذاك.
ولم يمضِ وقت طويل حتى فقد وظيفته طيّارًا وفقد معها كرامته. ولكن لم يكن من طبيعة ستيوارت أن يعجز أمام العوائق. لذا تقدّم للدراسة لدى "جامعة نيويورك" وحصل فيها على شهادة في الهندسة الميكانيكية. وبصفته مهندسًا، فقد وجد التوظيف والتوفيق، وجاب أميركا الشمالية والشرق الأقصى وأوروبا. أما وظيفته الأخيرة فحملته إلى مدينة ميشيغان حيث ارتقى في سلّم العمل لدى إحدى أكبر شركات خطوط الغاز الطبيعي في البلد وتقاعد منها بعد أن شغل منصب نائب رئيس الشركة. وفي عام 2018، سافر ستيوارت إلى النمسا أول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنه سافر إليها بصفته ضيفًا على الحكومة النمساوية. وكان باحثون يحققون في مصير طيّاري "الحلفاء" قد توصّلوا إلى أن رفيق ستيوارت في السرب، "وولتر مانينغ" -ذاك الشاب الذي كان قد قفز بمظلّته خلال مهمّة عيد الفصح الدموية- أُسر حيًّا. وبانتظار نقل الرجل البالغ من عمره آنذاك 24 سنة إلى معسكر حربي، كانت مجموعةٌ من الغوغاء قد أعدمته بلا محاكمة بدافعٍ مــن الدعايـة السيـاسيـة النـازية العنصـرية. وبعد 73 سنـة بالضبـط عـلى الحـادثة، وقـف ستيوارت وابنـته شـاهـدَين فيمـا أخـذ وجهاء نمساويين يعتذرون عن الجريمة النكراء وهم يخصصون لصاحبه نُصبًا تذكاريًا.
يقول ستيوارت إنه لم يتوقع قطّ أن يأتي عليه يومٌ يرى فيه "خريجي تاسكيغي من جنود سلاح الجو" يُعترف بفضلهم في المتاحف والنُّصب التذكارية، ويُذكرون في كتب التاريخ وأفلام هوليوود. أما عن أمله للأجيال القادمة، فيقول: "أريد ببساطة أن يُذكروا كما كانوا: مواطنين صالحين؛ أميركيين صالحين كان يحدوهم نداء الواجب لحماية بلادهم عندما كانت بحاجة إليهم، حتى عندما واجهوا التمييز العنصري". –كيتي ساندرز
"كان المرء يُعَـدّ معمَّرًا إن بقي حيًا حتى سن الثالثة والعشرين. ولو أننا تركنا هذا الأمر يزعجنا، لكان قد أهلكنا غمّا. لذا كان لا بد للمرء من مواظبة العمل كأن شيئًا لم يكن".

كان "يوجين بولينسـكي"، المنتج والكاتب المسرحي والممثل، خـلال الحرب قد حـلّق بطائرته في مَهمّات سرية فوق بلجيكا وفرنسا والنرويج، التي كانت جميعًا محتلة آنذاك من النازيين. ولكن، بدلًا من إلقاء القنابل، كان طاقمه المؤلّف من ثمانية أفراد يُلقي بجواسيس "الحلفاء" والأسلحة والدرّاجات النارية والأموال وغيرها من المؤن الحيوية للمقاومين في هذه الدول ضمن مهمة أُطلق عليها اسم "عملية حامل السجّاد". يقول بولينسكي، الذي بلغ الآن سن التاسعة والتسعين: "لم أكن أعرف ما أحمله في طائرتي، وإلّا لأصابني الرعب!". وكان أولئك الذين شاركوا في العملية -الملقبون بـ"حمَلة السجّاد"- يمثّلون الذراع الجوية لـ "مكتب الخدمات الاستراتيجية" الذي كان يدير عمليات التجسس والتخريب. وبين عامي 1944 و 1945، ألقى "حمَلة السجّاد" أكثر من 500 جاسوس ونحو 4500 طن من المؤن على أراضٍ يسيطر عليها العدو. وكانوا يحلّقون بطائراتهم في أوقات متأخرة من الليل وعلى ارتفاعات متدنية. يقول بولينسكي: "قالوا لنا: 'إنْ قبضوا عليكم، فسيعدّونكم جواسيسَ، وستُعدمون رميًا بالرصاص. لذا، احرصوا على ألّا تُسقَط طائرتكم'". كان بولينسكي -المولود في نيويورك عام -1920 ابن والدَين يهوديَّين مهاجرَين من روسيا. وعندما وصل إلى إنجلترا لأداء خدمته العسكرية مع سلاح الجو الأميركي الثامن، أُسندت إلى طاقمه مهمة التحليق بقاذفات قنابل ثقيلة من طراز "بي24- ليبريتور" كانت قد جُرّدت من جميع تجهيزاتها إلا الأساسية منها وطُليت بطلاء أسود كي تتماهى مع سماء الليل. وقبل ساعات من كل مهمة، كان الطاقم الأرضي يحمّل عنبر التخزين في الطائرة بحاويات مؤن. وقبل الإقلاع، كان جواسيس يتسللون أحيانًا إلى متن الطائرة، علمًا أن جنود سلاح الجو لم يعرفوا الرجل من هؤلاء الجواسيس إلا باسم "جو"، ولم يعرفوا المرأة منهم إلاّ باسم "جوزفين".
وبصفة بولينسكي ملاّحًا، كان يبقي على حقيبة أسلحة في موضع قريب من مقدمة طائرة "ليبريتور" الضيقة شديدة البرودة، حيث كان يوجّه الطيّار إلى هدفه. وعندما كانوا يقتربون من مكان الإنزال، كان الطيّار يهوي بطائراته إلى ارتفاع أدنى من 100 متر؛ وما إن كانوا يرصدون الإشارات الضوئية في الأسفل حتى يُلقي المرسِل بحمولة الطائرة. أما في إنجلترا التي انطلقوا منها، فكان الضبّاط يأملون ألّا تُفقَد أي طائرة. لكن 42 من طائرات "عملية حامل السجّاد" لم تعُد قطّ، وتعرّضت 21 أخرى لأضرار كبيرة. وقد انتهى الحال بأكثر من 200 من زملاء بولينسكي مفقودين أو مسجونين أو قتلى. ويستذكر بولينسكي الحال آنذاك قائلا: "كان المرء يرى أبناء الـ 18 والـ 19 يحضُرون للعمل بدائلَ عن أولئك الذين خسرناهم. وكان المرء يُعَـدّ معمَّرًا إن بقي حيًا حتى سن الثالثة والعشرين. ولو أننا تركنا هذا الأمر يزعجنا، لكان قد أهلكنا غمًّا. لذا كان لا بد من المواظبة على العمل كأن شيئًا لم يكن". وفي أغسطس 1944، بعد عملية إنزال ناجحة فوق بلجيكا، عاد طاقم بولينسكي من مهمّته الخامسة والثلاثين؛ وكان هذا بمنزلة "الرقم السحري" (أي 35) الذي مثّل إيذانًا لهم بالعودة إلى الوطن. كانت الأوامر الأخيرة التي تلقّوها هي "نسيان كل شيء". وذلك ما فعله بولينسكي سنين طويلة. وكذلك ظلّ الحال إلى أن حلّ عام 2001، عندما تلقّى بولينسكي دعوة غامضة لحضور حفل استقبال في بلجيكا احتفاءً بكتاب جديد عن عملية معقّدة أجرتها قوات "الحلفاء" لتحرير ميناء "آنتويرب" عام 1944. لم يكن بولينسكي يعلم قطّ أنه قد كان له دور مهمّ في المهمّة، إلى أن أخبره القصةَ مضيّفُه، الذي كان زعيم المقاومة البلجيكية السابق؛ إذ قال له: "لقد كنا أصدقاء طيلة تلك السنين؛ إلّا أنك كنت في الجو، في حين كنت أنا على الأرض".
يقـول بولينسـكي: "ظللت طيـلة عمـري أرغـب بفعـل شيء ذي مغـزى، وإذا بـي أفـاجـأ بأنني قد فعلت ذلك وأنا شاب من حيث لا أدري. إنه لشعورٌ غريب". –كيتي ساندرز

إيغور مورشتاين وفالينتينا لوكيانوفا، جنديان سوفيتيان قديمان
ارتبط مسارا حياتيهما بسبب الحرب، وحصار لينينغراد و 40 عامًا من الصداقة وهما يعملان في المصنع نفسه. لكن علاقتهما لم تتحوّل إلى قصة غرامية إلّا بعد أن ترمَّل كلٌّ منهما. إذ كانت فالينتينا قد نشأت في دور للأيتام؛ أما إيغور فكانت أمّه قد ماتت وهي تحاول الخروج من مدينتهم التي اجتاحتها المجاعة. وذات يوم، سمع إيغور وأصدقاؤه بكاء طفل. يستذكر إيغور الحادثة، قائلا: "ذهبنا إلى مصدر الصوت لنتبيّن الأمر، فوجدنا طفلا رضيعًا في ربيعه الأول يحاول الرضاعة من أمه الميتة الممددة إلى جانبه". ويضيف أن ذلك الموقف كان "انطلاقة مهامّنا؛ إذ كنا نطرق الباب تلو الباب بحثًا عن أطفال يتامى". وتم استحداث نقطة استيداع للرضع اليتامى، وكان الرُّضّع يُسمَّون بأسماء اليافعين الذين كانوا يجدونهم. يقول إيغور، وقد بلغ الثانية والتسعين من عمره: "لم يكن يجول في خاطرنا أن نبحث عن أوراق ثبوتية، إذ كنا مجرّد يافعين تتراوح أعمارنا بين الثانية عشرة والرابعة عشرة. لم نكن جادّين، لكننا شعرنا بالمحنة الموجودة". وبحلول الوقت الذي غدوا فيه كبارًا بما يكفي للقتال، "كنا نعاني سوء التغذية، ولم نكن نقوى على حمل أسلحتنا". أطعمه الجيش؛ وشارك أخيرًا في تحرير لينينغراد من قبضة النازيين الخانقة. وقبل أربعة أعوام من عامنا هذا، تلقّى اتصالًا من لجنة لقدماء المحاربين. وقيل له إن امرأة كانت تبحث عنه. يقول عن ذلك: "تبيّن لي أنني كنت قد وجدتها طفلة رضيعة خلال الحصار وأوصلتها إلى نقطة استيداع الأطفال الرضّع". وكانت قد سُمّيت باسمه. –إيف كونانت

آرثر مادوكس، محلل شِفرات بريطاني
"يبدو لي أنهم ظنّوا أن فهمي النظريةَ الاقتصادية يؤهّلني لتحليل الشفرات"، يقول "آرثر مادوكس"، الذي يبلغ من العمر الآن 98 عامًا، وكان طالبًا بارزًا لدى "جامعة أوكسفورد" عندما جنّدته المخابرات البريطانية. وكحال "بيتي ويب"، كان مادوكس قد أُرسل إلى "بليتشلي بارك". وقد شُغّل في تحليل شفرات "لورينتس"، وهو نظام إرسال الرسائل المشفرة الذي لم يكن أحد يستعمله سوى "هتلر" وكبار قادته. وكان لنظام لورينتس طبقتان من التشفير وملايين من الاحتمالات التي ينبغي حلّها. ولكن عند إشراف الحرب على نهايتها، كان مادوكس وزملاؤه (بمساعدة من "Colossus"، أول حاسوب رقمي واسع النطاق في العالم) يقرؤون الرسائل المتبادلة بين الزعماء النازيين قبل وقت طويل من استسلام ألمانيا في مايو من عام 1945، إلى درجة أنه عندما حدث الاستسلام كان الموقف أشبه بخاتمة غير مشوّقة، على حد وصف مادوكس، إذ يقول: "كنا على علم مسبق بأن الحرب قد انتهت". –روف سميث

جانين بورك، ناجية من محرقة اليهود
عندما كانت "جانين بورك" في الثالثة من عمرها، اصطحبها والدها في رحلة بالحافلة الكهربائية (الترام) إلى الجانب الآخر من مدينة بروكسل. ولدى وصولهما إلى وجهتهما، رنّ أبوها جرس باب منزل الشخص الغريب، وودّع ابنته بقبلة، وتركها مع المرأة التي فتحت لهما الباب. وكان قدره أن تعتقله الشرطة النازية السريّة لاحقًا خلال عملية جمعٍ للمواطنين اليهود، وأن يموت بعدها في غرفة للإعدام بالغاز في معسكر اعتقال "آوشـفـيتس". وبقيت بورك بين عامي 1942 و 1944 مخبّأة في منزل المرأة المسيحية. وكان لدى هذه المرأة طعام ومأوى، لكنها لم تكن تمتلك عدا ذلك إلا النزر القليل. وذات يوم، عندما سار النازيون في موكب على مقربة من المنزل، أمرتها المرأة بأن تختبأ في المرحاض الخارجي. كانت بورك تختلس النظر حينها من فجوة بين الألواح الخشبية، ثم تنسحب إلى أظلم ركن في المرحاض. وفي عام 1944، دخل الجنود البريطانيون. وما لبثت أمها أن عادت من حيث كانت مختبئة في الريف لاستلامها. وبعدها لم ترَ بورك منقذتَها قَط. تقول: "قد بلغتُ سن الثمانين وما زلت أبكي. إذ لم يتسنَّ لي قطّ أن أشكرها". –كيتي ساندرز

فريد تيرنا، ناجٍ من محرقة اليهود، تشيكوسلوفاكيا
بُعَيد وصول "فريد تيرنا" إلى "تيريزين" عام 1943، الذي كان معسكر اعتقال نازي، شرع في الرسم. رسم أسرّة ثلاثية الطبقات، وطوابير من الناس ينتظرون حصصهم الهزيلة من الطعام، ومسارات لسكك حديدية كانت تنقل السجناء إلى معسكر اعتقال "آوشـفـيتس" سيء السمعة. وكان يوقّع بعض رسوماته بعلامة بدلًا من اسمه، كي لا يتمكّن النازيون من التوصّل إليه. وقد اكتشف في ممارسة الرسم تذكيرًا بإنسانيته. كان تيرنا في السادسة عشرة من عمره عندما زحفت القوات الألمانية على مدينته براغ عام 1939. وعندما حرّرها الجنود الأميركيون بعد ست سنين، كان "واحدًا من تلك الهياكل العظمية التي عُثر عليها وهي تجرّ أقدامها". كان قد احتُجز في أربعة معسكرات اعتقال وكان قد تضوّر جوعًا، وهرب، وقُبض عليه، وكاد يموت من شدة البرد. وعندما عاد إلى براغ لم يجد أحدًا من أفراد عائلته الأقربين قد نجا من الحرب.
تزوّج تيرنا امرأة كانت قد نجت هي الأخرى من معسكر اعتقال نازي، واستقر في نهاية المطاف في مدينة نيويورك حيث تفرّغ تمامًا للرسم. أما اليوم -وقد بلغ السادسة والتسعين من عمره- فإنه ما زال يرسم اللوحات ويلقي المحاضرات. وفي مرسمه الواقع في الطابق الأخير من منزله بمنطقة بروكلين، يتولّى مزج ألوان الأكريليك الخاصة به. وتعليقًا على أعماله، يقول: "إنها محاولتي لتحقيق الخلود". وتزيّن لوحات تيرنا ذات القوام الكثيف والمشاهد النارية، جدران ممرّات منزله. يقول: "لقد خلّفنا سجلًا؛ وسجلّي أنا شخصيًا هو سجّل مرئي". وقد اكتشف تيرنا بعد مضي نحو 40 عاما على انتهاء الحرب، أن شخصًا كان قد احتفظ بلوحاته التي رسمها في معسكر تيريزين وأخذها إلى إسرائيل. يقول: "لم نكن نعلم حينها أننا كنا نصنع وثائق تاريخية". كانت تلك اللوحات، كحال الرقم 114974 الذي وُشمت به ذراعه، أدلّةً على ما جرى له ولستة ملايين يهودي قضوا في المحرقة. يقول: "صحيحٌ أن عوائلنا رحلت، لكننا نحافظ على ذكراها حيّة. ومن واجبي، كما أضحى من واجبكم أنتم إلى حدٍّ ما، أن نذكّر العالم بما جرى". –نينا ستروتشليك

فالتراود بليس، طفلة ناجية، ألمانيا
حتى عندما كانت "فالتراود بليس" مجرّد طفلة، لم يكن يخفى عليها أن كثيرًا من الألمان انتفعوا من النظام النازي. ولم تكن مضطرة للنظر بعيدًا لرؤية ذلك. فلقد كان أبواها مفلسين عندما وصل هتلر إلى السلطة عام 1933. وبعدها بستة أعوام، أصبح والدها ضابطًا في ما كان يسمّى "فافن-إس. إس"، شعبة النخبة العسكرية في الحزب النازي. وبحلول الزمن الذي انطلق فيه للقتال خلال غزو فرنسا، كانت عائلته تمتلك سيارتين، ومنزلًا جميلًا، ومستودعًا مليئًا بالأثاث الثمين "المستعمل". تتساءل بليس قائلة: "من أين جاء كل ماله؟. لقد باتت الحقيقة واضحةً لي الآن: ما كان ليحصل عليها إلا من العوائل اليهودية. ولا يستطيع أحد مجادلتي قائلًا إن والدي لم يكن يعلم آنذاك أن اليهود كانوا مضطهدين".
ذات مرّة، أَركبَها والدها السيارةَ لأداء مأمورية في معسكر الاعتقال، "زاكسنهاوزن"، الواقع على طرف العاصمة برلين. وتعليقًا على الموقف، تقول بليس، وقد بلغت الآن سن الرابعة والثمانين وهي في ثياب فائقة الأناقة: "رأيت الناس هناك، والحياة التي كانوا يَحيونها". ولدى سؤالها عمّا إن كانت المشاهد قد صدمتها، تهزّ رأسها وترفع كتفيها قائلة: "كانت الأشياء التي من هذا النوع مظاهر اعتيادية مسلّمة". ثم أضحت هذه الأشياء فجأة غير اعتيادية. ففي خريف عام 1944، رأت بليس الشوارع المحيطة بمنزل عائلتها، الواقع على بعد نحو 200 كيلومتر شرق برلين، تعجّ بعوائل فارّة من الجيش السوفيتي. وظلّت تنام بثيابها العادية أسابيع طويلة، متأهّبةً لأن تنضمّ في أي لحظة إلى سيل اللاجئين. وأخيرًا، في ليلة قارسة من فبراير عام 1945، وصلهم أمر بإخلاء منزلهم. تستذكر بليس تلك المرحلة قائلة: "ظننت الوضع مؤقتًا، وأننا سنعود إلى بيوتنا ما إن ندحر الروس؛ إلى هذا الحد كانت قوة الدعاية السياسية [النازية] حينها".
وبعد أسابيع من الحركة، والنوم في شقق الغرباء ومحطات السكك الحديدية، نُقلت هي وأمها وأخوها وأختها بسفينة إلى شبه جزيرة تقع على ساحل ألمانيا المطلّ على بحر البلطيق، حيث كانت هناك وجهة سياحية تحوي عددا وفيرا من الأسرّة. ولكن في أبريل من ذلك العام، قطعت القوات السوفيتية المتقدمة اتصال شبه الجزيرة عن البرّ الرئيس، وفُقد الطعام. وبغياب الكهرباء أو المذياعات، لم تكن بليس وعائلتها على دراية باستسلام ألمانيا، إلى أن سمعوا دويّ الأعيرة النارية التي كانت تطلقها وحدات الجنود السوفييت المرابطين في البيوت المجاورة، احتفالًا بذلك. ولأن الجوع لم يكن يفارق بليس، فقد أمضت الربيع في البحث عن الطعام. وذات يوم، تبعت الطفلة عربة فلاّح على طريق مرصوفة بالحجارة، لتجمع في تنّورتها حبّات البطاطس التي كانت تتساقط من العربة؛ وإذا بها تجد نفسها وحيدة في حقل بعيد عن المدينة. وتروي بليس الموقف قائلة: "عندها أمسك بي جندي روسي واغتصبني". لم يكن عمرها آنذاك قد تجاوز تسع سنوات. وتقول بليس إنها جرت إلى منزلها لتخبر أمها، لكن صرخاتها قوبلت بالصمت. في خريف ذلك العام، وصل إلى أسماع العائلة أن والد بليس كان قد نجا من سقوط برلين وأنه كان معتقلًا لدى البريطانيين شمال ألمانيا. لكن العودة إلى ديارهم لم تعد ممكنة؛ إذ كانت قريتهم قد أصبحت ضمن الأراضي البولندية.
وعلى مدى الأعوام العشرة التي تلت ذلك، ظلت العائلة تعاني؛ إذ عاشت بدايةً في حظائر الخنازير ومزارع الحيوانات، ثم تزاحمت مع عوائل أخرى في شقق صغيرة. في السنين العجاف التي تبعت الحرب، كان كثيرٌ من الألمان مستائين من بليس وملايين اللاجئين الآخرين الذين شرّدهم الصراع، لأنهم مثّلوا أفواهًا إضافية ينبغي إطعامها. تقول بليس: "كانوا يتحاملون علينا، ويسبّوننا، لمجرّد أننا كنا لاجئين". والآن، وقد مضت سبع وخمسون سنة على ذلك، فإن بليس لا تشعر بالغضب ولا بالذنب. تقول: "هناك قصص مأساوية حقًا عمّا جرى. وتكاد تبدو قصتي بالمقابل تافهة. كنت حينها في التاسعة من عمري. ولم تكن الحرب ذنبي. لكنني لم أكن ضحية كذلك". أما اليوم، فإن بليس تُجري زيارات للمدارس ضمن منطقة هامبورغ للتحدّث عما عايشته خلال الحرب، ويحدوها إلى ذلك الشعور بالقلق؛ إذ تقول: "تأمّلوا حال العالم اليوم، تجدوا أن الناس لم تعتبر مما حصل. فحقيقة أن النازيين الجدد قد ظهروا ثانيةً مسألةٌ مرعبة؛ وليت المسألة محصورة في ألمانيا. إذ نشهد ذلك في الولايات المتحدة والدول الإسكندينافية.. فما زال من السهل التلاعب بعقول الناس". –آندرو كاري