لماذا باغتنا الفيروس؟

صور مجهرية معززة الألوان لجزيئات فيروس "كورونا". الصور: المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، بالولايات المتحدة.
بقيت تحذيرات الخبراء بشأن الجوائح الصحية محل تجاهل العالم طيلة عقود. وربما يكون تفشي "كوفيد-19" بدايةً لاعتماد نهج استباقي أكثر حزما وجدية.خلال الأسابيع الأولى لتفشي جائحة "كورونا"، كنت لا أطيق متابعة التقارير الإخبارية التي انتقدت الأخطاء التي ارتكبها...
بقيت تحذيرات الخبراء بشأن الجوائح الصحية محل تجاهل العالم طيلة عقود. وربما يكون تفشي "كوفيد-19" بدايةً لاعتماد نهج استباقي أكثر حزما وجدية.

خلال الأسابيع الأولى لتفشي جائحة "كورونا"، كنت لا أطيق متابعة التقارير الإخبارية التي انتقدت الأخطاء التي ارتكبها المجتمع الدولي في بدايات تعامله مع هذه الجائحة، ليس فقط لأنه لا جدوى الآن من توجيه النقد والتقريع؛ إذ ما فائدة أن نعرف أنه قد كان بمقدورنا تجنب هذا الواقع الكئيب الذي نعيشه اليوم؟ ولكن لأن الأمر بالنسبة إلي كان ذا شجون عميق. تذكرت مع كل موضوع قرأته عن تجاهل التحذيرات بشأن احتمالات تفشي فيروس فتاك، أن هذا الأمر تحديدًا كان هاجس العلماء منذ عقود، وقد ظل بعض الصحافيين المتخصصين بالشأن العلمي يكتب عن تلك التحذيرات؛ وكنت واحدة منهم. يومَ بدأتُ البحث في هذا الموضوع عام 1990، كان مصطلح "فيروس ناشئ" قد نُحِتَ للتو من قبل عالم فيروسات شاب اسمه "ستيفن مورس". وقد جعلتُ هذا العالِم الشخصيةَ المحورية في كتابي "A Dancing Matrix" (مصفوفة راقصة)، الذي صدر في عام 1994. قدمته في الكتاب بصفة أستاذ مساعد يضـع نظـارات طبيـة ويتميـز بتفانيـه في عمـله وشغــفه التـام بعوالم الفكر والتأملات.
وكان مورس وعلماء آخرون يحصرون جملةً من الظروف التي من شأنها أن تفضي إلى ظهور سلالات جراثيم غير مسبوقة وفتاكة للبشر على نحو غير مألوف؛ ومن تلك الظروف: التغير المناخي، وهيمنة المشروعات الحضرية، وقرب البشر من حيوانات المزارع أو الغابات التي تُعدّ حاضنات لأنواع شتى من الفيروسات. كانوا يحذرون من سهولة انتشار مسببات الأمراض الخطيرة هذه في جميع أنحاء العالم، بفعل العولمة المتزايدة للاقتصاد، وسهولة السفر والتنقل جوًا بين دول العالم، وحركة اللاجئين بسبب المجاعات والحروب. أليس هذا الكلام شائعًا اليوم؟ في مقدمة كتابي، نقلت عن "جوشوا ليدربيرغ" -عالم البيولوجيا الجزيئية الحائز "جائزة نوبل" عن أبحاثه في البكتيريا- مقولتَه إن "الفيروس هو أكبر تهديد لاستمرار هيمنة الإنسان على هذا الكوكب". اعتقدت في ذلك الوقت أن ليدربيرغ بالغ في الأمر إلى حد التهويل، ولكنني اليوم أجد أن كلامه ذاك كان بحقّ توقعًا مرعبًا وسابقًا لزمانه.
لم يكن إجمالي عدد وفيات "كوفيد19-" في الولايات المتحدة قد بلغ عتبة الألف بعدُ، وكانت ثلاثة أيام قد مرت على مكوث أهالي نيويورك -وأنا منهم- في منازلهم بسبب تفشي الفيروس، حين هاتفتُ مورس للاطلاع على أحواله خلال هذه الأزمة. وهو أستاذ علم الأوبئة لدى "جامعة كولومبيا"، وقد أضحى اليوم ضمن الشريحة العمرية الأشد عرضة لمضاعفات فيروس "كورونا"؛ وكذلك أنا. وقد أخضع نفسه وزوجته لحجر منزلي اختياري في شقتهما الكائنة على بعد كيلومترات قليلة عن منزلي. قال لي مورس: "أشعر بإحباط كبير بسبب أننا لسنا على استعداد تام، مع كل هذا التقدم العلمي؛ بل إننا ما زلنا منغمسين في التجاهل". ثم ساق لي إجابةَ "بيتر دراكر"، خبير شهير في علم الإدارة، عن هذا السؤال: "ما أسوأ خطأ يمكن لإنسان أن يرتكبه؟"؛ إذ أجاب الخبير: "أن يكون مُحِقًّا قبل الوقت الأنسب".
لم أكن ومورس محقِّين، سواء قبل الأوان أم غير ذلك. ولم يكن أحدٌ محقًّا. عندما سئلتُ خلال جولة للترويج لكتابي، عن طبيعة الجائحة التالية، قلتُ إن جل الخبراء يعتقدون أنها ستكون الإنفلونزا. وقد قال لي مورس خلال مكالمتنا الهاتفية: "لم أحبّذ قَط فكرة وضع قوائم للجائحات"، مضيفًا أنه دائما ما أدرك أن الجائحة التالية يمكن أن تنشأ في أي مكان. ولكنه كان في أوائل التسعينيات يميل هو وزملاؤه إلى التركيز على الإنفلونزا؛ وكذلك فعلتُ. ولربما كان ذلك خطأ. فأمر الإنفلونزا في نظر الناس لا يدعو إلى الجزع أو التوجس؛ إنْ هو إلا داء مألوف يصيبنا في كل عام ولدينا لقاح ضده. إذن، ربما كان من السهولة بمكان تجاهل تلك التحذيرات كونها تتعلق بـ "نزلة برد لا غير" أو بوصفها مجرد تهويل مبالغ فيه من كاتبة جامحة الفكر. ولكن صحافيين آخرين ألّفوا كتبًا مشابهة نجح بعضها في تحقيق مبيعات ضخمة؛ مثل "The Hot Zone" (المنطقة الساخنة) لـ "ريتشارد بريستون"، و"The Coming Plague" (الطاعون المقبل) لـ "لوري غاريت". (وهناك كتب أَحدَث، من قبيل "Spillover" (الفيض) للكاتب "ديفيد كوامن"، وهو استفاضة لتحقيق عن الأمراض حيوانية المنشأ نُشر في مجلة ناشيونال جيوغرافيك العالمية، عام 2007). جميعنا وصف السيناريوهات الرهيبة نفسها، وجميعنا أطلق التحذيرات ذاتها بشأن افتقارنا إلى الاستعداد اللازم للتصدي لجائحة كهذه. فلماذا لم يكن كل ذلك كافيًا؟ ولربما كان لدى الراحل "إدوين كيلبورن" رأي يدلي به في هذا الصدد؛ فقد كان رائدًا في مجال لقاحات الإنفلونزا. في مؤتمر عُقد في أواسط الثمانينيات، وضع كيلبورن تصورًا لفيروس وهمي بالغ الخطورة وذي صفات تجعله أفتك الفيروسات المعدية وأصعبها مراسًا. وقــد أطــلق عليه اسم "الفيروس الوحشي الخبيث" (MMMV، اختصارًا بالإنجليزية). وعلى حد وصف كيلبورن، فإن من بين سماته الشائنة أنه ينتقل عبر الهواء -كفيروس الإنفلونزا- ويمكنه أن يبقى نشطًا في أوساط بيئية مختلفة مثل فيروس شلل الأطفال، وبوسعه إقحام مورّثاته مباشرة في نواة الكائن المُضيِّف، تمامًا مثل الإيدز.

ليس "كوفيد19-" هو فيروس كيلبورن الوحشي، لكنه يمتلك بالفعل كثيرًا من خصائصه المرعبة. فهو ينتقل عبر الهواء، ويتكاثر في الجزء السفلي للجهاز التنفسي، ويُعتقد أنه يبقى نشطًا عدة أيام على الأسطح. ثم إنه يمكن أن يصيب الناس فلا تبدو عليهم سوى أعراض طفيفة أو حتى من دون أعراض؛ ما يعني أنهم وإن كانوا مُعدِين للآخرين فإنهم عادة ما يشعرون بأنهم أصحاء بما يكفي ليتجولوا أو يذهبوا إلى العمل أو يسعلوا في وجوهنا. ولذا فإن الفيروس بهذه الطريقة ليس فحسب أسوأ بكثير من فيروس الإنفلونزا وإنما أصعب مراسًا منه. وكما قال مورس إنه لم يحبّذ قَط تلك القوائم بأسماء الأوبئة "المرجَّح بقوة تهديدها البشرَ"، فقد سمعتُ من كيلبورن قبل ثلاثين عامًا أنه ابتكر فيروسه الخيالي ذاك لأغراض بحثية توضيحية وليس على سبيل التنبؤ بفيروس آت. إذ حذَّر قائلًا إنه "من غير المأمون محاولة التنبؤ بمسارات تطور أو نشأة الفيروسات التي يمكن لتغيّرات طفيفة فيها أن تُحْدث فارقًا هائلًا في سلوك الجراثيم".
وقد اعتدنا في أميركا والدول المتقدمة عمومًا سماعَ رسائل التحذير من تفشي جائحة عالمية، لأننا شهدنا كثيرًا منها ولطالما نظرنا إليها بوصفها في مناطق نعدّها بعيدة عنا. وباستثناء الإيدز، لم يكتسب فيروس آخر تلك السمة العالمية بحق: إذ اقتصر انتشار "سارس" في عام 2003 على دول آسيا إلى حد كبير؛ فيما ظهر "ميرس" عام 2012 في دول الشرق الأوسط واندثر فيها؛ أما "إيبولا" في عام 2014 فانحصر تقريبًا في دول غرب إفريقيا. ولمّا كنا بعيدين عن مصدر الخطر المميت، كان من السهل علينا أن نعزو تفشي تلك الأوبئة في الدول الأخرى البعيدة إلى أنماط سلوك مجتمعية لا تشهدها مجتمعاتنا. فمعظمنا لم يمتط جملًا أو يأكل قردًا أو يلامس في أي سوق خفاشًا حيا أو قط زبّاد. وإذْ دأبنا على عَدّ تلك المخاطر والتهديدات شأنًا أجنبيًا لا صلة لنا به، فإننا اليوم صرنا عرضة لأول تهديد حقيقي يمسنا. لمّا عاودت قراءة كتابي حديثًا، انتبهت إلى جملة تبرز هذه النزعة المعيبة الراسخة: "لو سألنا عالم فيروسات ميداني عن الوباء الذي يستحق البحث، لأجابنا متهكمًا بأنه ذاك الذي يتسبب في وفاة شخص أبيض".
نبشت في أدراج مكتبي بحثًا عن دفتر ملاحظات قديم قد يحوي اسم أحد هؤلاء العلماء الميدانيين، لكن من دون جدوى. ولكن، حتى في غياب ذلك الاسم، فإنني أتبنى مغزى تلك الجملة المؤرق. فمنذ عقود ونحن نلقي بمسؤولية التسبب بالمخاطر الصحية على ذلك الآخر البعيد المختلف؛ وهي نزعة ما زلنا نتمادى في اعتناقها ونغذي بها طمأنينتنا -الشخصية والرسمية- التي أدت بنا في نهاية المطاف إلى كل هذا الهوان والخنوع أمام أزمتنا الراهنة. قد تتساءلون عن شعوري وأنا أشهد تفشي "كوفيد19-" بعد زهاء ثلاثة عقود على صدور كتابي الذي تنبأت فيه بظهور وباء كهذا؟ أُصارحكم بأنني حقًّا منزعجة. أثار الأمر في نفسي نوعًا من التوحد مع الذات لم أعهده، دفعني إلى التساؤل: لو أن تحذيراتي آنذاك كانت أشد وأكثر إلحاحًا على الاستعداد والتأهب (بمعنى لو أن كتابي ذاك كان أفضل)، هل كنا لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم؟
ومع ذلك فإن الكتاب لا يخلو من إضاءات على قصص التعامل مع الجوائح في القرن الماضي، الذي شهد ظهور فيروسات مستجدة حصدت أرواح البشر، قبل أن تنحسر كليا. ولكننا، منذ الإنفلونزا الإسبانية عامي 1918 و 1919، لم نشهد جائحة تبلغ هذا النطاق أو تتمتع بهذه القدرة الهائلة على الانتشار والفتك. كدنا في تسعينيات القرن الماضي نتعلم الدروس الأصح، ولكننا سرعان ما نسيناها. ولربما نتعلمها اليوم على الوجه الأمثل.. وقد تحولت تنبؤاتنا إلى حقيقة واقعة.

لماذا باغتنا الفيروس؟

صور مجهرية معززة الألوان لجزيئات فيروس "كورونا". الصور: المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، بالولايات المتحدة.
بقيت تحذيرات الخبراء بشأن الجوائح الصحية محل تجاهل العالم طيلة عقود. وربما يكون تفشي "كوفيد-19" بدايةً لاعتماد نهج استباقي أكثر حزما وجدية.خلال الأسابيع الأولى لتفشي جائحة "كورونا"، كنت لا أطيق متابعة التقارير الإخبارية التي انتقدت الأخطاء التي ارتكبها...
بقيت تحذيرات الخبراء بشأن الجوائح الصحية محل تجاهل العالم طيلة عقود. وربما يكون تفشي "كوفيد-19" بدايةً لاعتماد نهج استباقي أكثر حزما وجدية.

خلال الأسابيع الأولى لتفشي جائحة "كورونا"، كنت لا أطيق متابعة التقارير الإخبارية التي انتقدت الأخطاء التي ارتكبها المجتمع الدولي في بدايات تعامله مع هذه الجائحة، ليس فقط لأنه لا جدوى الآن من توجيه النقد والتقريع؛ إذ ما فائدة أن نعرف أنه قد كان بمقدورنا تجنب هذا الواقع الكئيب الذي نعيشه اليوم؟ ولكن لأن الأمر بالنسبة إلي كان ذا شجون عميق. تذكرت مع كل موضوع قرأته عن تجاهل التحذيرات بشأن احتمالات تفشي فيروس فتاك، أن هذا الأمر تحديدًا كان هاجس العلماء منذ عقود، وقد ظل بعض الصحافيين المتخصصين بالشأن العلمي يكتب عن تلك التحذيرات؛ وكنت واحدة منهم. يومَ بدأتُ البحث في هذا الموضوع عام 1990، كان مصطلح "فيروس ناشئ" قد نُحِتَ للتو من قبل عالم فيروسات شاب اسمه "ستيفن مورس". وقد جعلتُ هذا العالِم الشخصيةَ المحورية في كتابي "A Dancing Matrix" (مصفوفة راقصة)، الذي صدر في عام 1994. قدمته في الكتاب بصفة أستاذ مساعد يضـع نظـارات طبيـة ويتميـز بتفانيـه في عمـله وشغــفه التـام بعوالم الفكر والتأملات.
وكان مورس وعلماء آخرون يحصرون جملةً من الظروف التي من شأنها أن تفضي إلى ظهور سلالات جراثيم غير مسبوقة وفتاكة للبشر على نحو غير مألوف؛ ومن تلك الظروف: التغير المناخي، وهيمنة المشروعات الحضرية، وقرب البشر من حيوانات المزارع أو الغابات التي تُعدّ حاضنات لأنواع شتى من الفيروسات. كانوا يحذرون من سهولة انتشار مسببات الأمراض الخطيرة هذه في جميع أنحاء العالم، بفعل العولمة المتزايدة للاقتصاد، وسهولة السفر والتنقل جوًا بين دول العالم، وحركة اللاجئين بسبب المجاعات والحروب. أليس هذا الكلام شائعًا اليوم؟ في مقدمة كتابي، نقلت عن "جوشوا ليدربيرغ" -عالم البيولوجيا الجزيئية الحائز "جائزة نوبل" عن أبحاثه في البكتيريا- مقولتَه إن "الفيروس هو أكبر تهديد لاستمرار هيمنة الإنسان على هذا الكوكب". اعتقدت في ذلك الوقت أن ليدربيرغ بالغ في الأمر إلى حد التهويل، ولكنني اليوم أجد أن كلامه ذاك كان بحقّ توقعًا مرعبًا وسابقًا لزمانه.
لم يكن إجمالي عدد وفيات "كوفيد19-" في الولايات المتحدة قد بلغ عتبة الألف بعدُ، وكانت ثلاثة أيام قد مرت على مكوث أهالي نيويورك -وأنا منهم- في منازلهم بسبب تفشي الفيروس، حين هاتفتُ مورس للاطلاع على أحواله خلال هذه الأزمة. وهو أستاذ علم الأوبئة لدى "جامعة كولومبيا"، وقد أضحى اليوم ضمن الشريحة العمرية الأشد عرضة لمضاعفات فيروس "كورونا"؛ وكذلك أنا. وقد أخضع نفسه وزوجته لحجر منزلي اختياري في شقتهما الكائنة على بعد كيلومترات قليلة عن منزلي. قال لي مورس: "أشعر بإحباط كبير بسبب أننا لسنا على استعداد تام، مع كل هذا التقدم العلمي؛ بل إننا ما زلنا منغمسين في التجاهل". ثم ساق لي إجابةَ "بيتر دراكر"، خبير شهير في علم الإدارة، عن هذا السؤال: "ما أسوأ خطأ يمكن لإنسان أن يرتكبه؟"؛ إذ أجاب الخبير: "أن يكون مُحِقًّا قبل الوقت الأنسب".
لم أكن ومورس محقِّين، سواء قبل الأوان أم غير ذلك. ولم يكن أحدٌ محقًّا. عندما سئلتُ خلال جولة للترويج لكتابي، عن طبيعة الجائحة التالية، قلتُ إن جل الخبراء يعتقدون أنها ستكون الإنفلونزا. وقد قال لي مورس خلال مكالمتنا الهاتفية: "لم أحبّذ قَط فكرة وضع قوائم للجائحات"، مضيفًا أنه دائما ما أدرك أن الجائحة التالية يمكن أن تنشأ في أي مكان. ولكنه كان في أوائل التسعينيات يميل هو وزملاؤه إلى التركيز على الإنفلونزا؛ وكذلك فعلتُ. ولربما كان ذلك خطأ. فأمر الإنفلونزا في نظر الناس لا يدعو إلى الجزع أو التوجس؛ إنْ هو إلا داء مألوف يصيبنا في كل عام ولدينا لقاح ضده. إذن، ربما كان من السهولة بمكان تجاهل تلك التحذيرات كونها تتعلق بـ "نزلة برد لا غير" أو بوصفها مجرد تهويل مبالغ فيه من كاتبة جامحة الفكر. ولكن صحافيين آخرين ألّفوا كتبًا مشابهة نجح بعضها في تحقيق مبيعات ضخمة؛ مثل "The Hot Zone" (المنطقة الساخنة) لـ "ريتشارد بريستون"، و"The Coming Plague" (الطاعون المقبل) لـ "لوري غاريت". (وهناك كتب أَحدَث، من قبيل "Spillover" (الفيض) للكاتب "ديفيد كوامن"، وهو استفاضة لتحقيق عن الأمراض حيوانية المنشأ نُشر في مجلة ناشيونال جيوغرافيك العالمية، عام 2007). جميعنا وصف السيناريوهات الرهيبة نفسها، وجميعنا أطلق التحذيرات ذاتها بشأن افتقارنا إلى الاستعداد اللازم للتصدي لجائحة كهذه. فلماذا لم يكن كل ذلك كافيًا؟ ولربما كان لدى الراحل "إدوين كيلبورن" رأي يدلي به في هذا الصدد؛ فقد كان رائدًا في مجال لقاحات الإنفلونزا. في مؤتمر عُقد في أواسط الثمانينيات، وضع كيلبورن تصورًا لفيروس وهمي بالغ الخطورة وذي صفات تجعله أفتك الفيروسات المعدية وأصعبها مراسًا. وقــد أطــلق عليه اسم "الفيروس الوحشي الخبيث" (MMMV، اختصارًا بالإنجليزية). وعلى حد وصف كيلبورن، فإن من بين سماته الشائنة أنه ينتقل عبر الهواء -كفيروس الإنفلونزا- ويمكنه أن يبقى نشطًا في أوساط بيئية مختلفة مثل فيروس شلل الأطفال، وبوسعه إقحام مورّثاته مباشرة في نواة الكائن المُضيِّف، تمامًا مثل الإيدز.

ليس "كوفيد19-" هو فيروس كيلبورن الوحشي، لكنه يمتلك بالفعل كثيرًا من خصائصه المرعبة. فهو ينتقل عبر الهواء، ويتكاثر في الجزء السفلي للجهاز التنفسي، ويُعتقد أنه يبقى نشطًا عدة أيام على الأسطح. ثم إنه يمكن أن يصيب الناس فلا تبدو عليهم سوى أعراض طفيفة أو حتى من دون أعراض؛ ما يعني أنهم وإن كانوا مُعدِين للآخرين فإنهم عادة ما يشعرون بأنهم أصحاء بما يكفي ليتجولوا أو يذهبوا إلى العمل أو يسعلوا في وجوهنا. ولذا فإن الفيروس بهذه الطريقة ليس فحسب أسوأ بكثير من فيروس الإنفلونزا وإنما أصعب مراسًا منه. وكما قال مورس إنه لم يحبّذ قَط تلك القوائم بأسماء الأوبئة "المرجَّح بقوة تهديدها البشرَ"، فقد سمعتُ من كيلبورن قبل ثلاثين عامًا أنه ابتكر فيروسه الخيالي ذاك لأغراض بحثية توضيحية وليس على سبيل التنبؤ بفيروس آت. إذ حذَّر قائلًا إنه "من غير المأمون محاولة التنبؤ بمسارات تطور أو نشأة الفيروسات التي يمكن لتغيّرات طفيفة فيها أن تُحْدث فارقًا هائلًا في سلوك الجراثيم".
وقد اعتدنا في أميركا والدول المتقدمة عمومًا سماعَ رسائل التحذير من تفشي جائحة عالمية، لأننا شهدنا كثيرًا منها ولطالما نظرنا إليها بوصفها في مناطق نعدّها بعيدة عنا. وباستثناء الإيدز، لم يكتسب فيروس آخر تلك السمة العالمية بحق: إذ اقتصر انتشار "سارس" في عام 2003 على دول آسيا إلى حد كبير؛ فيما ظهر "ميرس" عام 2012 في دول الشرق الأوسط واندثر فيها؛ أما "إيبولا" في عام 2014 فانحصر تقريبًا في دول غرب إفريقيا. ولمّا كنا بعيدين عن مصدر الخطر المميت، كان من السهل علينا أن نعزو تفشي تلك الأوبئة في الدول الأخرى البعيدة إلى أنماط سلوك مجتمعية لا تشهدها مجتمعاتنا. فمعظمنا لم يمتط جملًا أو يأكل قردًا أو يلامس في أي سوق خفاشًا حيا أو قط زبّاد. وإذْ دأبنا على عَدّ تلك المخاطر والتهديدات شأنًا أجنبيًا لا صلة لنا به، فإننا اليوم صرنا عرضة لأول تهديد حقيقي يمسنا. لمّا عاودت قراءة كتابي حديثًا، انتبهت إلى جملة تبرز هذه النزعة المعيبة الراسخة: "لو سألنا عالم فيروسات ميداني عن الوباء الذي يستحق البحث، لأجابنا متهكمًا بأنه ذاك الذي يتسبب في وفاة شخص أبيض".
نبشت في أدراج مكتبي بحثًا عن دفتر ملاحظات قديم قد يحوي اسم أحد هؤلاء العلماء الميدانيين، لكن من دون جدوى. ولكن، حتى في غياب ذلك الاسم، فإنني أتبنى مغزى تلك الجملة المؤرق. فمنذ عقود ونحن نلقي بمسؤولية التسبب بالمخاطر الصحية على ذلك الآخر البعيد المختلف؛ وهي نزعة ما زلنا نتمادى في اعتناقها ونغذي بها طمأنينتنا -الشخصية والرسمية- التي أدت بنا في نهاية المطاف إلى كل هذا الهوان والخنوع أمام أزمتنا الراهنة. قد تتساءلون عن شعوري وأنا أشهد تفشي "كوفيد19-" بعد زهاء ثلاثة عقود على صدور كتابي الذي تنبأت فيه بظهور وباء كهذا؟ أُصارحكم بأنني حقًّا منزعجة. أثار الأمر في نفسي نوعًا من التوحد مع الذات لم أعهده، دفعني إلى التساؤل: لو أن تحذيراتي آنذاك كانت أشد وأكثر إلحاحًا على الاستعداد والتأهب (بمعنى لو أن كتابي ذاك كان أفضل)، هل كنا لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم؟
ومع ذلك فإن الكتاب لا يخلو من إضاءات على قصص التعامل مع الجوائح في القرن الماضي، الذي شهد ظهور فيروسات مستجدة حصدت أرواح البشر، قبل أن تنحسر كليا. ولكننا، منذ الإنفلونزا الإسبانية عامي 1918 و 1919، لم نشهد جائحة تبلغ هذا النطاق أو تتمتع بهذه القدرة الهائلة على الانتشار والفتك. كدنا في تسعينيات القرن الماضي نتعلم الدروس الأصح، ولكننا سرعان ما نسيناها. ولربما نتعلمها اليوم على الوجه الأمثل.. وقد تحولت تنبؤاتنا إلى حقيقة واقعة.