اللغز الكبير لـ إيفرست

بينما تشرق الشمس على هضبة "التيبت"، يتجاوز "باسانغ كاجي شيربا" و"لاكـبـا تينجي شيربا" ارتفاع 8750 مترًا على جبل "إيفرست". وههنا يُطرح السؤال: هل تمكن "جورج مالوري" و"ساندي أُرفاين" من بلوغ هذه النقطة الشاهقة، أو ربما حتى بلوغ القمة، عام 1924؟
رحلة مثيرة إلى قمة جبل "إيفرست" بحثًا عن جثة رجل، قد تحل أحجية ظلت عصية على العالم منذ نحو قرن من الزمان.
قبل نحو قرن من الزمن، اختفى "ساندي أُرفــــاين" وصاحبه في تسلّق الجبال، "جورج مالوري"، من حافة مرتفعة على جبل "إيفرست". فهل يا ترى نجحا في بلوغ القمة قبل 29 عامًا من نجاح "إدموند هيلاري" و"تينسينغ نورغي" في بلوغها؟ وإذ ما زال العالم يحتفي بهذين الأخيرين بصفتهما أول من بلغ قمة "إيفرست" في العالم، يخوض كاتبنا وفريقه رحلة شاقة لتقفّي خطى أُرفاين بحثًا عن جثته وكاميرته سعيًا وراء دلائل قد تعيدا كتابة تاريخ تسلّق هذا الجبل.


"صاح الرجل في وجهي قائلًا: لا تفعل ذلك! فأنت متعَب للغاية. والأمر لا يستحق المخاطرة". إنه دليلنا ورئيس بعثتنا، "جيمي ماك غينيس". قال ذلك وقد رمقني بعينين محتقنتين غائرتين. كان حينها قد نزع عن وجهه قناع الأوكسجين ونظّارته الشمسية. لم يحلق ذقنه منذ أيام وقد اكتسى بشعر شائب خشن. أما وجهه فكان قد امتُقع وشحب شحوبَ الأموات.
كنا حينئذ نجلس على كومة من الحجارة على ارتفاع 8440 مترًا على "الحافة الشمالية الشرقية" لجبل "إيفرست" في الجانب الصيني، بعيدًا عن زحام درب نيبال. وعلى بعد مئة متر أسفل منّا، كانت تنتظرنا إحداثيات جهاز "جي. بي. إس." التي قد تحل أحد أكبر ألغاز تاريخ تسلق الجبال. إذ أظهر بحث جديد أن المستكشف البريطاني الأسطوري "آندرو أُرفاين" -الذي اشتُهر بلقب "ساندي"- ربما كان قد سقط ولقي حتفه في ذلك الموضع. فهل يا ترى كانت جثته هناك؟ قبل نحو قرن، اختفى أُرفاين وصاحبه في تسلّق الجبال، جورج مالوري، أثناء هبوطهما هذه الحافة. ومُذّاك والعالم يتساءل إن كان أحدهما أو كلاهما قد نجح في بلوغ القمة في ذلك اليوم، قبل 29 عامًا من اعتراف العالم بأن "إدموند هيلاري" و"تينسينغ نورغاي" هما أول شخصين يقفان على قمة إيفرست. ويُعتقد بأن أُرفاين كان يحمل كاميرا صغيرة من إنتاج شركة "كوداك". فإن أمكن العثور على تلك الكاميرا، وكانت تتضمن صورًا ملتقطة للقمة، فإنها ستعيد كتابة تاريخ تسلّق أعلى قمة في العالم. تفحّصتُ معالم الأرض المحيطة بي؛ فوجدت سلسلة من الأجراف القصيرة شديدة الانحدار تكتنفها نتوءات مكسوّة بالثلوج والركام في منطقة من الصخر فاتح اللون تُعرف باسم "الشريط الأصفر". وعلى بعد أربعة آلاف متر إلى الأسفل كانت هضبة التيبت تتلألأ كالسراب. لم أكن قد نمتُ إلا قليلًا في الساعات الثماني والأربعين السابقة، وكنت واهنًا ومصابًا بالغثيان بسبب الارتفاع الشاهق. ولم أكن قد أكلت شيئًا مذْ غادرنا "مخيم الانطلاق المتقدّم"، الواقع على ارتفاع 6400 متر، قبل ثلاثة أيام.. سوى لُقيمات من "الكاري" المجفف بالتجميد، وحفنة من حبوب الكاجو، وأخيرًا قضمة من قطعة حلوى على قمة إيفرست؛ قبل أن أتقيّأ كل ذلك لاحقًا. كنت منهكًا إلى درجة أن دماغي المتعطّش للأوكسجين كان يتوسّل إليّ أن أستلقي على ظهري وأغمض عيني. لكن بقيةً من وضوح الرؤية والعقل فيَّ عرفت أنه لو أنني فعلت، فلربما ما كنت لأستيقظ بعدها من نومتي أبدًا.

تقعقعَتْ حفنة حجارة صغيرة من علٍ، فرفعتُ بصري ووجدت المصوّر، "رينان أوزتورك"، يشق طريقه هابطًا حافة الجبل باتجاهنا. كانت ذراعه ملفوفة بالحبل البنفسجي النحيل الذي مثّل الحبل السري الذي يربطنا بالقمة حيث كنا نقف قبل ساعات عدة. انطلق بحركة انزلاقية فهبط إلى جانبي. التفتُّ إليه وسألته: "ما رأيك؟". فلم يجبني على الفور، إذ كان يحاول التقاط أنفاسه وصدره يصعد ويهبط مع كل شهيق وزفير. وعندما التقط أنفاسه، سمعت صوته المكبوح عبر قناع الأوكسجين وهو يقول: "عليك أن تفعلها". أومأت برأسي موافقًا، وفككت مشبكي عن الحبل، وخطوت أولى خطـواتي الحذرة هابطًا النتوء الصخري المنحدر. وفي اللحظة التي تركت فيها الحبل، صاح "لاكـبـا شيربا" قائلًا: "لا، لا، لا!". لوّحت له بيدي قائلًا: "أحتاج ببساطة إلى أن أتحقق من شيء.. لن أبتعد كثيرًا". لكن الرجل توسّل إليّ قائلًا: "ما تفعله خطر جدًا.. خطر جدا!". كان صاحبنا، بوصفه متسلّق جبالٍ ودليلا متمرّسا اعتلى قمة إيفرست مرّات عديدة، يعرف جيدا أن زلّةً واحدة من قدمي على الهشيم الصخري كفيلة بأن تهوي بي 2000 متر نحو "نهر رونغبوك الجليدي". جزءٌ مني وافقه الرأي وأراد أن يلغي المَهمة. بعد عقود أمضيتها في تسلّق الجبال في مختلف أرجاء العالم، عملت فيها أيضا دليلًا محترفًا، كنت قد وعدت نفسي ألّا أتعدّى أي حد ينطوي على مخاطرة معقولة كبيرة جدًا. كيف لا، وكانت تنتظرني في الوطن عائلة أحبّها حبا جمًّا. لكنني، في تلك اللحظة، تجاهلت ماك غينيس ولاكـبـا والعهد الذي قطعته على نفسي؛ إذ كانت الرغبة في حل لغز اختفاء أُرفاين أقوى بكثير.

كنت قد عرفت منذ زمن طويل النظرية القائلة إن مالوري وأُرفاين ربما كانا أول من اعتلى قمة إيفرست. لكن حمّى العثور على أُرفاين لم تكن قد أصابتني إلا قبل عامين، بعد حضوري محاضرة ألقاها صديقي "توم بـولارد"، الذي سبق له أن اعتلى قمة إيفرست، وكان يعيش على بعد بضعة كيلومترات عن منزلي. هاتفني بعد بضعة أيام على المحاضرة. عندها سألته: "لا أحسبك تعتقد أنك تستطيع العثور عليه حقًا، أليس كذلك؟". قهقه قليلًا وقال: "وما قولك لو كانت لدي معلومة حاسمة لا يمتلكها أحدٌ غيري؟". فأجبته بشوق: "مثل ماذا؟". سكتَ بضع ثوان ثم قال: "مثل الموقع الدقيق للجثة".

كان بـولارد مصوّرًا ضمن "بعثة مالوري وأُرفاين البحثية" التي انطلقت عام 1999، والتي كان متسلّق الجبال الأميركي "كونراد آنكر" قد عثر خلالها على جثة "جورج مالوري" على هذا الجانب من الواجهة الشمالية لإيفرست، حيث لم يغامر بخوض هذا المسار سوى قلة قليلة من متسلقي الجبال. كانت الجثة مطمورة بالحصا ووجهها إلى الأرض وكأنها بُطحت في قالب من الإسمنت الرطب. كان ظهر مالوري مكشوفا تماما، وكانت بشرته المحفوظة شديدة النظافة والبياض إلى درجة أنها بدت كما لو أنها جزء من تمثال رخامي. كان حبلٌ مقطوع مربوط حول خصره قد خلّف علامات في جذعه، ما يدل على أن مالوري كان في لحظة ما قد تعرّض غالبا لسقوط قاسٍ وهو يتدلّى من الحبل. وأكثر ما استوقف نظري، الطريقة التي التفّت فيها ساقه اليسرى باليمنى التي كانت قد انكسرت فوق مستوى الحذاء، كما لو أنه كان يحمي رجله المصابة. وبصرف النظر عمّا حدث، فقد بدا لي جليًا أن مالوري كان حيا -وإن كان لبعض الوقت- عندما وصل إلى مثواه الأخير. افترض آنكر وزملاؤه الباحثون في بادئ الأمر أن الجثة تعود لساندي أُرفاين لأنها اكتُشفت في موضع أسفل مباشرة من المكان حيث عُثر على فأس الثلج الخاصة بأُرفاين على حافة الجبل بعد مضيّ زهاء عقد على اختفائه واختفاء مالوري. ترى.. هل كان مالوري مربوطًا بأُرفاين عندما هوى؟ وإن كان الأمر كذلك، كيف انقطع الحبل؟ ولماذا لم يُعثر على جثة أُرفاين في الجوار؟
أثارت تفاصيل أخرى مزيدًا من الأسئلة. إذ عُثر على نظّارة مالوري الواقية المظللة بالأخضر في جيبه. فهل هذا يعني أنه كان يهبط الجبل ليلًا إذ لم يكن بحاجة إليها؟ كما أن عقارب ساعة يده كانت قد توقّفت بين الواحدة والثانية، ولكن هل كان ذلك ليلًا أم نهارا؟ فضلاً عن ذلك، كان مالوري قد أعلن أنه في حال تمكن من بلوغ القمة، فكان سيترك صورة زوجته عليها. ولم يُعثر على الصورة في ملابس جثته. ثم إنه لم يكن هناك أثر للكاميرا؛ ما دفع كثيرًا من مؤرّخي تسلّق جبل إيفرست إلى استنتاج أنه لا بد من أن أُرفاين كان يحملها. ويبدو ذلك منطقيًا إذا أخذنا في الحسبان أنه كان المصوّر الأقـدر بيـن الاثنين، وأنه كان يـدري أن الجمهور البريطاني سيرغـب حينها برؤية صور لصاحبه مالوري الـذي كان المعجبون به يلقّبـونه باسم "غالاهــاد" (نسبـةً إلى الفارس البطل في أسطورة الملك "آرثر")، بدلًا من صور شريكه أُرفاين الأقل شهرة. أما آخر من رأى الرجلين، فكان رفيقهما في الفريق، "نويل أوديل"، الذي كان قد توقف عند ارتفاع يناهز الـ 8000 متر في يوم 8 يونيو عام 1924، ليلتفت إلى القمة ويحدّق فيها. ووفقًا لما أفاده أوديل، فقد كانت غشاوة كثيفة كالقطن قد حجبت أعالي الجبل، ولكن في الساعة 12:50 ظهرًا، ارتفعت السحب الحائمة مؤقتًا، لتكشف عن مالوري وأُرفاين وهما "يحثّان الخطى" إلى الأعلى وقد فصلهما عن القمة نحو 250 مترًا. وفي تقرير أوديل عن الرابع عشر من يونيو ذلك العام، كان قد كتب التالي: "تسمّرت عيناي على نقطة سوداء صغيرة على خلفية من جرف ثلجي صغير. ثم اقترب أول الرجلين من الدرجة الصخرية الكبيرة ثم ظهر بُعيد ذلك عليها؛ وكذلك فعل الثاني. ثم اختفى المشهد الفاتن وقد غشيه الغمام من جديد".

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab

اللغز الكبير لـ إيفرست

بينما تشرق الشمس على هضبة "التيبت"، يتجاوز "باسانغ كاجي شيربا" و"لاكـبـا تينجي شيربا" ارتفاع 8750 مترًا على جبل "إيفرست". وههنا يُطرح السؤال: هل تمكن "جورج مالوري" و"ساندي أُرفاين" من بلوغ هذه النقطة الشاهقة، أو ربما حتى بلوغ القمة، عام 1924؟
رحلة مثيرة إلى قمة جبل "إيفرست" بحثًا عن جثة رجل، قد تحل أحجية ظلت عصية على العالم منذ نحو قرن من الزمان.
قبل نحو قرن من الزمن، اختفى "ساندي أُرفــــاين" وصاحبه في تسلّق الجبال، "جورج مالوري"، من حافة مرتفعة على جبل "إيفرست". فهل يا ترى نجحا في بلوغ القمة قبل 29 عامًا من نجاح "إدموند هيلاري" و"تينسينغ نورغي" في بلوغها؟ وإذ ما زال العالم يحتفي بهذين الأخيرين بصفتهما أول من بلغ قمة "إيفرست" في العالم، يخوض كاتبنا وفريقه رحلة شاقة لتقفّي خطى أُرفاين بحثًا عن جثته وكاميرته سعيًا وراء دلائل قد تعيدا كتابة تاريخ تسلّق هذا الجبل.


"صاح الرجل في وجهي قائلًا: لا تفعل ذلك! فأنت متعَب للغاية. والأمر لا يستحق المخاطرة". إنه دليلنا ورئيس بعثتنا، "جيمي ماك غينيس". قال ذلك وقد رمقني بعينين محتقنتين غائرتين. كان حينها قد نزع عن وجهه قناع الأوكسجين ونظّارته الشمسية. لم يحلق ذقنه منذ أيام وقد اكتسى بشعر شائب خشن. أما وجهه فكان قد امتُقع وشحب شحوبَ الأموات.
كنا حينئذ نجلس على كومة من الحجارة على ارتفاع 8440 مترًا على "الحافة الشمالية الشرقية" لجبل "إيفرست" في الجانب الصيني، بعيدًا عن زحام درب نيبال. وعلى بعد مئة متر أسفل منّا، كانت تنتظرنا إحداثيات جهاز "جي. بي. إس." التي قد تحل أحد أكبر ألغاز تاريخ تسلق الجبال. إذ أظهر بحث جديد أن المستكشف البريطاني الأسطوري "آندرو أُرفاين" -الذي اشتُهر بلقب "ساندي"- ربما كان قد سقط ولقي حتفه في ذلك الموضع. فهل يا ترى كانت جثته هناك؟ قبل نحو قرن، اختفى أُرفاين وصاحبه في تسلّق الجبال، جورج مالوري، أثناء هبوطهما هذه الحافة. ومُذّاك والعالم يتساءل إن كان أحدهما أو كلاهما قد نجح في بلوغ القمة في ذلك اليوم، قبل 29 عامًا من اعتراف العالم بأن "إدموند هيلاري" و"تينسينغ نورغاي" هما أول شخصين يقفان على قمة إيفرست. ويُعتقد بأن أُرفاين كان يحمل كاميرا صغيرة من إنتاج شركة "كوداك". فإن أمكن العثور على تلك الكاميرا، وكانت تتضمن صورًا ملتقطة للقمة، فإنها ستعيد كتابة تاريخ تسلّق أعلى قمة في العالم. تفحّصتُ معالم الأرض المحيطة بي؛ فوجدت سلسلة من الأجراف القصيرة شديدة الانحدار تكتنفها نتوءات مكسوّة بالثلوج والركام في منطقة من الصخر فاتح اللون تُعرف باسم "الشريط الأصفر". وعلى بعد أربعة آلاف متر إلى الأسفل كانت هضبة التيبت تتلألأ كالسراب. لم أكن قد نمتُ إلا قليلًا في الساعات الثماني والأربعين السابقة، وكنت واهنًا ومصابًا بالغثيان بسبب الارتفاع الشاهق. ولم أكن قد أكلت شيئًا مذْ غادرنا "مخيم الانطلاق المتقدّم"، الواقع على ارتفاع 6400 متر، قبل ثلاثة أيام.. سوى لُقيمات من "الكاري" المجفف بالتجميد، وحفنة من حبوب الكاجو، وأخيرًا قضمة من قطعة حلوى على قمة إيفرست؛ قبل أن أتقيّأ كل ذلك لاحقًا. كنت منهكًا إلى درجة أن دماغي المتعطّش للأوكسجين كان يتوسّل إليّ أن أستلقي على ظهري وأغمض عيني. لكن بقيةً من وضوح الرؤية والعقل فيَّ عرفت أنه لو أنني فعلت، فلربما ما كنت لأستيقظ بعدها من نومتي أبدًا.

تقعقعَتْ حفنة حجارة صغيرة من علٍ، فرفعتُ بصري ووجدت المصوّر، "رينان أوزتورك"، يشق طريقه هابطًا حافة الجبل باتجاهنا. كانت ذراعه ملفوفة بالحبل البنفسجي النحيل الذي مثّل الحبل السري الذي يربطنا بالقمة حيث كنا نقف قبل ساعات عدة. انطلق بحركة انزلاقية فهبط إلى جانبي. التفتُّ إليه وسألته: "ما رأيك؟". فلم يجبني على الفور، إذ كان يحاول التقاط أنفاسه وصدره يصعد ويهبط مع كل شهيق وزفير. وعندما التقط أنفاسه، سمعت صوته المكبوح عبر قناع الأوكسجين وهو يقول: "عليك أن تفعلها". أومأت برأسي موافقًا، وفككت مشبكي عن الحبل، وخطوت أولى خطـواتي الحذرة هابطًا النتوء الصخري المنحدر. وفي اللحظة التي تركت فيها الحبل، صاح "لاكـبـا شيربا" قائلًا: "لا، لا، لا!". لوّحت له بيدي قائلًا: "أحتاج ببساطة إلى أن أتحقق من شيء.. لن أبتعد كثيرًا". لكن الرجل توسّل إليّ قائلًا: "ما تفعله خطر جدًا.. خطر جدا!". كان صاحبنا، بوصفه متسلّق جبالٍ ودليلا متمرّسا اعتلى قمة إيفرست مرّات عديدة، يعرف جيدا أن زلّةً واحدة من قدمي على الهشيم الصخري كفيلة بأن تهوي بي 2000 متر نحو "نهر رونغبوك الجليدي". جزءٌ مني وافقه الرأي وأراد أن يلغي المَهمة. بعد عقود أمضيتها في تسلّق الجبال في مختلف أرجاء العالم، عملت فيها أيضا دليلًا محترفًا، كنت قد وعدت نفسي ألّا أتعدّى أي حد ينطوي على مخاطرة معقولة كبيرة جدًا. كيف لا، وكانت تنتظرني في الوطن عائلة أحبّها حبا جمًّا. لكنني، في تلك اللحظة، تجاهلت ماك غينيس ولاكـبـا والعهد الذي قطعته على نفسي؛ إذ كانت الرغبة في حل لغز اختفاء أُرفاين أقوى بكثير.

كنت قد عرفت منذ زمن طويل النظرية القائلة إن مالوري وأُرفاين ربما كانا أول من اعتلى قمة إيفرست. لكن حمّى العثور على أُرفاين لم تكن قد أصابتني إلا قبل عامين، بعد حضوري محاضرة ألقاها صديقي "توم بـولارد"، الذي سبق له أن اعتلى قمة إيفرست، وكان يعيش على بعد بضعة كيلومترات عن منزلي. هاتفني بعد بضعة أيام على المحاضرة. عندها سألته: "لا أحسبك تعتقد أنك تستطيع العثور عليه حقًا، أليس كذلك؟". قهقه قليلًا وقال: "وما قولك لو كانت لدي معلومة حاسمة لا يمتلكها أحدٌ غيري؟". فأجبته بشوق: "مثل ماذا؟". سكتَ بضع ثوان ثم قال: "مثل الموقع الدقيق للجثة".

كان بـولارد مصوّرًا ضمن "بعثة مالوري وأُرفاين البحثية" التي انطلقت عام 1999، والتي كان متسلّق الجبال الأميركي "كونراد آنكر" قد عثر خلالها على جثة "جورج مالوري" على هذا الجانب من الواجهة الشمالية لإيفرست، حيث لم يغامر بخوض هذا المسار سوى قلة قليلة من متسلقي الجبال. كانت الجثة مطمورة بالحصا ووجهها إلى الأرض وكأنها بُطحت في قالب من الإسمنت الرطب. كان ظهر مالوري مكشوفا تماما، وكانت بشرته المحفوظة شديدة النظافة والبياض إلى درجة أنها بدت كما لو أنها جزء من تمثال رخامي. كان حبلٌ مقطوع مربوط حول خصره قد خلّف علامات في جذعه، ما يدل على أن مالوري كان في لحظة ما قد تعرّض غالبا لسقوط قاسٍ وهو يتدلّى من الحبل. وأكثر ما استوقف نظري، الطريقة التي التفّت فيها ساقه اليسرى باليمنى التي كانت قد انكسرت فوق مستوى الحذاء، كما لو أنه كان يحمي رجله المصابة. وبصرف النظر عمّا حدث، فقد بدا لي جليًا أن مالوري كان حيا -وإن كان لبعض الوقت- عندما وصل إلى مثواه الأخير. افترض آنكر وزملاؤه الباحثون في بادئ الأمر أن الجثة تعود لساندي أُرفاين لأنها اكتُشفت في موضع أسفل مباشرة من المكان حيث عُثر على فأس الثلج الخاصة بأُرفاين على حافة الجبل بعد مضيّ زهاء عقد على اختفائه واختفاء مالوري. ترى.. هل كان مالوري مربوطًا بأُرفاين عندما هوى؟ وإن كان الأمر كذلك، كيف انقطع الحبل؟ ولماذا لم يُعثر على جثة أُرفاين في الجوار؟
أثارت تفاصيل أخرى مزيدًا من الأسئلة. إذ عُثر على نظّارة مالوري الواقية المظللة بالأخضر في جيبه. فهل هذا يعني أنه كان يهبط الجبل ليلًا إذ لم يكن بحاجة إليها؟ كما أن عقارب ساعة يده كانت قد توقّفت بين الواحدة والثانية، ولكن هل كان ذلك ليلًا أم نهارا؟ فضلاً عن ذلك، كان مالوري قد أعلن أنه في حال تمكن من بلوغ القمة، فكان سيترك صورة زوجته عليها. ولم يُعثر على الصورة في ملابس جثته. ثم إنه لم يكن هناك أثر للكاميرا؛ ما دفع كثيرًا من مؤرّخي تسلّق جبل إيفرست إلى استنتاج أنه لا بد من أن أُرفاين كان يحملها. ويبدو ذلك منطقيًا إذا أخذنا في الحسبان أنه كان المصوّر الأقـدر بيـن الاثنين، وأنه كان يـدري أن الجمهور البريطاني سيرغـب حينها برؤية صور لصاحبه مالوري الـذي كان المعجبون به يلقّبـونه باسم "غالاهــاد" (نسبـةً إلى الفارس البطل في أسطورة الملك "آرثر")، بدلًا من صور شريكه أُرفاين الأقل شهرة. أما آخر من رأى الرجلين، فكان رفيقهما في الفريق، "نويل أوديل"، الذي كان قد توقف عند ارتفاع يناهز الـ 8000 متر في يوم 8 يونيو عام 1924، ليلتفت إلى القمة ويحدّق فيها. ووفقًا لما أفاده أوديل، فقد كانت غشاوة كثيفة كالقطن قد حجبت أعالي الجبل، ولكن في الساعة 12:50 ظهرًا، ارتفعت السحب الحائمة مؤقتًا، لتكشف عن مالوري وأُرفاين وهما "يحثّان الخطى" إلى الأعلى وقد فصلهما عن القمة نحو 250 مترًا. وفي تقرير أوديل عن الرابع عشر من يونيو ذلك العام، كان قد كتب التالي: "تسمّرت عيناي على نقطة سوداء صغيرة على خلفية من جرف ثلجي صغير. ثم اقترب أول الرجلين من الدرجة الصخرية الكبيرة ثم ظهر بُعيد ذلك عليها؛ وكذلك فعل الثاني. ثم اختفى المشهد الفاتن وقد غشيه الغمام من جديد".

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab