شبح الهيمالايا: نمر الثلج
ظلت نمور الثلج منذ آلاف السنين ترتاد بعض أوعر مناطق آسيا الوسطى، حيث الأجراف الشاهقة والشعاب المنحدرة والصحارى العالية. هنا، مكنت خفة الهواء وعمق الثلوج وانخفاض درجات الحرارة هذه السنوريات الغامضة من تفادي نظرات البشر والتواري في الطبيعة كالأشباح....
ظلت نمور الثلج منذ آلاف السنين ترتاد بعض أوعر مناطق آسيا الوسطى، حيث الأجراف الشاهقة والشعاب المنحدرة والصحارى العالية. هنا، مكنت خفة الهواء وعمق الثلوج وانخفاض درجات الحرارة هذه السنوريات الغامضة من تفادي نظرات البشر والتواري في الطبيعة كالأشباح. لكنها باتت تظهر أخيرا، بفضل جهود الحفظ والكاميرات الآلية ثم السياحة.
كان نمـر الثلج المُسن معروفا في "كِيـبـر". لم يَعلم أحدٌ متى اتخذ موطنا في الشعاب والأجراف المحيطة بهذه القرية القديمة في "الهيمالايا"، لكن الناس أدركوا وجود هذا الذكر الضخم ذي الأذن المثلمة، وتعقبوه على مر الأعوام القليلة الماضية، كلٌّ على قدر استطاعته. وكغيره من نمور الثلج، كان كشبح يغير شكله ويذوب في هذه الجبال مثل الدخان المتصاعد من مدخنات القرية ليتلاشى في الهواء الرفيع البارد. إن النمور المسنة أجدر بالمراقبة؛ ذلك أنها حين تهرم فتعجز عن صيد تيوس الجبل والأغنام الزرقاء (أو البهارال) التي تعيش بين الصخور الكلسية، تبحث عن فرائس أسهل في القرية كالماعز والأغنام والأمهار وعجول الياك. ذات ظهيرة شديدة البرودة من شهر فبراير، جثمتُ على حافة هوة سحيقة مكسوة بالجليد، أراقبُ نمر ثلج مُسنًّا عبر المنظار. كان يغفو فوق حيد على جرف مقابل ينحدر بنحو 300 متر لدى نهر "سبيتي". هبّت عبر الشعب رقائقُ ثلج رفيعة كالرموش؛ وكلما هززت المنظار، اختفى فرو هذا السنور ذو اللون الدخاني والبقع الفحمية وسط الثنايا والظلال؛ فكنت أهمس: "تبًّا، لقد فقدته مرة أخرى"، وكان "براسينجيت ياداف" ينظر من فوق الكاميرا ويشير بإصبعه فأتبع إشارته حتى أرى مرقد الحيوان.
كان هذا، على أي حال، نمر ثلج براسينجيت. بل إن بعض الأدِلّاء السياحيين المحليين يطلقون عليه هذا الاسم. لما سمعنا برصد سنّور، قال أحدهم وهو ينقر أذنه اليسرى: "إنه لك". على مدى العامين الماضيين، تعقب المصور، براسينجيت ياداف، هذا الذكر مشيًا، حاملا كاميرات آلية، في هذا الركن المرتفع من "وادي سبيتي" بشمال الهند. في الأسابيع التالية، سنكون قد قطعنا مسافة 50 كيلومترا تقريبًا، هابطينَ أودية، وعابرين ممرات غاصة بالثلوج، وصاعدين أجرافًا جليدية. لكن هذا السنور تفضل بالظهور في هذا اليوم -يومي الأول في كيبر- والدوار ما زال يلازمني بسبب الصعود إلى ارتفاع 4200 متر. عقدتُ العزم على رؤية أحد هذه المخلوقات المراوغة مُذْ كنت طالبًا في الجامعة؛ إذ قرأتُ كتابَ "نمر الثلج" لصاحبه "بيتر ماثيسن". ولربما كان قراري ذاك راجعا إلى أن ماثيسن نفسه لم ير نمر ثلج قط. ففي عام 1973، أمضى هذا الرجل رفقة عالم الأحياء الفذ، "جورج شالر"، شهرين كاملين من المشي في نيبال، ولاحظا ما يدل على وجود تلك النمور -آثار أقدام ومخالب وخدوش- لكنهما لم يريا أيًّا منها. شاع حينذاك أن شالر كان أحدَ غربيين اثنين فحسب رأيا نمر ثلج في البرية. وفي عام 1970، التقط الرجل ما يُعتقد أنها أول صورة لنمر ثلج في موطنه الطبيعي؛ فظلت تلك الصورة أزيد من عقدين من الزمن، الوحيدة المعروفة لهذا الحيوان المنعزل الغامض. من عجائب القدر أن اللحظة التي دنوت فيها من رؤية نمر ثلج، تزامنت مع أصوات عشرات الكاميرات تملأ أذني وهي تلتقط مئات الصور لهذا السنور. كنت على الجرف مع براسينجيت، وإلى جوارنا سياح من مختلف بقاع العالم انحنى جلهم على كاميرات مزودة بعدسات تقريب باهظة الثمن. أصبحت كيبر على مر الأعوام القليلة الماضية المكانَ الأنسب لتوقع رؤية تلك النمور؛ لكن الرحلة ليست لضعاف القلوب، إذ لا يمكن بلوغ القرية إلا عبر طريق متعرجة ذات مسار وحيد شُقت خلال جبال ذات منحدرات شديدة. وعلى المرء أن يقصد المكان شتاءً، حين تتعقب نمور الثلج فرائسـها نحو المنخفضات؛ ما يعني أن قطاعات واسعة من الطريق تكون مكسوة بالثلج والجليد.
في اليوم السابق، ركبنا السـيارة أنا وبراسينجيت متجهين نحو الأعلى، ووجدتُني ممسكًا بمقبض الباب فيما كان هو يقود عبر منعرجات جليدية وزوايا خارج مجال الرؤية. وبين الفينة والأخرى كنا نرى زخات من الحصى ترتطم بالطريق أمامنا، فنتوقف وننظر أعلى الجرف بحثًا عن علامات انهيار ثلجي، ثم ما نلبث أن نواصل المسير وقد اشتد إمساكي بالمقبض. أخبرني مُرافقي واثقًا أن أي سائق يسلك هذه الطريق بانتظام يروي حكايات سيارات انزلقت وهوت إلى الوادي أو سحقتها الجلاميد المتساقطة. تأخرت رحلتنا نفسها يومين بسبب إغلاق الطريق إثر انهيار أرضي. استخدمت إدارة الطرق الديناميت لإعادة فتحها، فتسبب ذلك بإثارة انهيار آخر. طمأنني الرجل قائلا: "لا تقلق، إنها آمنة بنسبة 95 بالمئة". لكن سرعان ما ألقيت القلق وراء ظهري ونحن نشاهد نمر الثلج يمسح ذيله المرقط السميك ويراقب مجاله؛ وما لبثت الهمسات أن تناقلت بين السياح والأدلّاء. ظهرت على الجرف ثلاثة وعول بقرونها الشبيهة بالخناجر، على بعد نحو مئة متر من نمر الثلج. راقبنا هذا السنور وهو مشدود بعدما التقط رائحة الوعول، ثم رفع رأسه ببطء، وتسلق المنحدر بحركات متأنية. كان يربض في مكانه بين الفينة والأخرى فيغيب عن بصري في المنظار إلى أن يعاود الحركة. همس براسينجيت قائلا: "إنه يريد الصعود إلى الوعول ليطاردها نحو حافة الجرف".
بعد نحو 20 دقيقة، مالت الشمس إلى المغيب، وانخفضت درجة الحرارة كثيرا دون الصفر. اقترب السنور من الوعول بنحو 30 مترا، وتوقفت أصوات الكاميرات، وبدا كأن الجميع حبسوا أنفاسهم تحسبا لانطلاقة النمر. فجأة مزق الصمتَ صفيرٌ حاد أفزع الوعول. قال براسينجيت: "إنه جرس الإنذار الخاص بالوعول، وقد أطلقه أحدها بعد أن اشتم رائحة النمر". هنالك نزل هذا الأخير بهدوء ثم توارى عن الأنظار. طفق السياح المرتجفون يبتسمون ويصافح بعضهم بعضا من دون نزع القفازات، وساروا في أعقاب أدلائهم السعداء نحو قرية كيبر لتناول أطباق "دال" والأرز واحتساء أكواب الشاي الساخن.
حـثـنـي "تانزين ثينلي" قائلا: "تفضل بالجلوس أقرب إلى النار". تحلقنا حول موقد الحطب في غرفة معيشته، ورأينا من خلال النافذة حبلًا تتلاعب به الرياح وقد عُلِّقت عليه أعلام متهالكة ومتعددة الألوان تحمل دعوات دينية. جلبت لي زوجته، "كونزونغ"، الشـايَ وبطـانيـة من شعر اليـاك وجوربًـا صوفيـا نُسج باليد بعدما ظنت أني لم أكن أشعر بما يكفي من الدفء. كان ثينلي، الذي يعرفه جميع أهالي القرية باسمه العائلي، يرتدي سترة قديمة ويعتمر قبعة بيسبول. كان رابط الجأش، وهو الذي عاش 42 فصل شتاء في الهيمالايا. روى حكاية، بدا من قسمات وجهه أنها ما زالت تفاجئه؛ وكانت عن تحول الناس في كيبر من قتل نمور الثلج إلى تبجيلها. قال: "بدأ الأمر مع تشارو".
في عام 1996، وصل "تشارو ميشرا" أول مرة إلى كِيبر، وكان ساعتئذ طالبا بمدينة دلهي في الـ 25 من عمره. كانت القرية الصغيرة مؤلفة من بضع عشرات من العائلات تعيش في بيوت من الطين والقش تتكتل على سفح تل مطل على وادي سبيتي. ظلت هذه القرية -التي كانت فيما مضى جزءا من مملكة التيبت- تؤوي منذ قرون معبدًا بوذيا، حيث كان الرهبان يملأون بصدى تراتيلهم جنبات الوادي كلما انتصف النهار. دأب أهالي كيبر على تربية الماشية عبر أجيال وأجيال، وهم اليوم، كغيرهم من الرعاة في الهيمالايا، ينظرون إلى نمور الثلج بوصفها تهديدًا خطيرًا لمصدر عيشهم. هدفت خطة تشارو إلى دراسة أثر الحيوانات الأليفة في الحياة البرية بوادي سبيتي. استأجر غرفة، وظل أزيد من عامين ينفق أيامه في مراقبة المراعي المرتفعة، كما اندمج في حياة القرية. لم يكن في المدرسة الثانوية أستاذ رياضيات، لذلك دأب على تدريس هذه المادة في المساء. وكان يقلّ الناس بسيارته إلى العيادة حين يمرضون. كان يقوم بالأعمال المنزلية ويعثر على الحيوانات المفقودة ويلعب الكريكيت، كما انضم إلى نادي الشباب. قال ثينلي: "كان الآباء يقولون لأبنائهم: 'بإمكانكم أن تصيروا مثل تشارو'. وكنتُ معجبًا به إلى حدّ الانبهار". بعد العيش في كيبر فترة من الزمن، طلب تشارو إلى شيوخ القرية التفكير في تخصيص جزء من المراعي الجبلية للحيوانات البرية، فوافقوا. وفي غياب منافسة من الماشية، تضاعف عدد الأغنام الزرقاء أربع مرات. بعد ذلك، اقترح عليهم الرجلُ بعض السبل غير القاتلة للتعامل مع نمور الثلج التي كانت تهدد حيواناتهم، ولكنهم رفضوا بأدب ولباقة، حسب إفادة ثينلي؛ إذ قال: "كانوا جميعا يحترمون تشارو، لكن نمور الثلج كانت بمنزلة لعنة، ولم تلق تعاطف أحد". لم يفقد تشارو عزمَه، بل قصد شباب كيبر واقترح عليهم فكرة برنامج تأمين على الماشية. يقول ثينلي: "لم نكن نعلم معنى التأمين". أخبرهم تشارو أن المساهمين سيؤدون ما يعادل خمسة دولارات في العام للتأمين على قطعان الياك اليافعة، التي تناهز قيمتها عند البلوغ الـ 340 دولارا، ضد فقدانها بسبب نمور الثلج. ودرءًا للتصريحات الكاذبة، يُطلب إلى المالك أن يُقسم على صورة "الدالاي لاما" أن النمر هو القاتل. قال ثينلي: "لم نكن متأكدين من نجاح الأمر". لكن عند متم العام الأول، تم أداء تعويضات مقابل أربع تصريحات. يقول: "تم الأداء على أعين أهالي القرية كلهم. ولما رأى الشيوخ ذلك، انضموا جميعا".
ومُذَّاك، تعمَّم برنامج التأمين حتى شمل قرى أخرى في وادي سبيتي؛ وكان يشرف عليه مجلس من السكان المحليين، منهم ثينلي، ويحظى بدعم كل من "مؤسسة حفظ الطبيعة" و"مؤسسة نمور الثلج" في الهند. تمخضت هذه الجهود عن زيادة مشاهدات نمور الثلج حوالي كيبر، ووصول طلائع السياح الراغبين في رؤيتها عام 2015؛ فكان ذلك أول عام تفتح فيه الطريق في فصل الشتاء. في عام 2019، زار المنطقة ما يربو على 200 سائح، أنفقوا في القرية نحو 100 ألف دولار. ويحرص تشارو، الذي يرأس اليوم "مؤسسة نمور الثلج"، على ذكر فضل السكان الذين ما زال على اتصال وثيق بهم. لما التقيته بمكتبه في بنغالور، قال: "قدمتُ بعض المقترحات، وقدمت 'مؤسسة حفظ الطبيعة' في الهند بعض التمويل. إلا أن سكان كيبر ووادي سبيتي هم من يستحق الثناء نظير النجاح الذي لقيته عمليات الحفظ هناك".
يظــل عدد نمور الثلج في وادي سبيتي غير معروف. ورغم جهود شالر وغيره من العلماء، فإن إحصاء هذه الحيوانات يظل مستحيلا من الناحية العملية. إذ يمتد نطاق انتشارها عبر 12 بلدا في آسيا الوسطى، على مساحة تناهز المليوني كيلومتر مربع، في بعض أشد البيئات قسوة على بني البشر؛ فالارتفاعات الشاهقة، والبرد القارس، والتضاريس الوعرة والقاحلة -يتعذر بلوغ كثير منها- كلها عوامل تحد من العمل العلمي الميداني كمًّا وكيفًا.
في الأعوام الأخيرة، تمكن فريق بحث في منغوليا من تثبيت أطواق متصلة بالأقمار الصناعية على رقاب 32 نمر ثلج، وتعلموا كثيرًا عن تحركات هذا السنور بجبال "توست" في صحراء "غوبي". من ذلك مثلا، أن ذكرا بالغا هناك يحتاج إلى نطاق خاص مساحته 220 كيلومترا مربعا، فيما تحتاج الأنثى إلى زهاء 120 كيلومترا مربعا. ولكن لا يمكن إسقاط هذه الأرقام على سائر نطاقات نمور الثلج الشاسعة والمتنوعة. فالمساحة التي يحتاج إليها سنور في الصحراء العالية قد تختلف عن حاجته في سيبيريا مثلا. كما أن وفرة الفرائس والقرب من البشر وعوامل أخرى قد تزيد المساحة اللازمة أو تنقصها. وتُقدّر "مؤسسة نمور الثلج" أن 3500 إلى 7000 نمر ثلج يعيش على الكوكب، لكن تشارو أقر أن الأمر لا يعدو أن يكون استنباطا قائمًا على تقديرات. قال: "تمكنا من دراسة 1.5 بالمئة من موائل نمور الثلج. ولا نستطيع حقا تحديد عددها على وجه الدقة". من المؤكد، كما يقول تشارو، أن هذه السنوريات تواجه تهديدات متزايدة في كثير من المناطق التي يدرس فيها حُماة الطبيعة نمور الثلج؛ من قبيل الصيد الجائر، وصناعة التعدين التي تدمر الموائل، وانتقام الرعاة، واختفاء الفرائس. يقول الرجل: "إن النجاحات المحققة في سبيتي وأماكن أخرى مبعث ارتياح، لكننا نحتاج إلى مزيد من ذلك".
صعدتُ بمعية براسينجيت عبر ممر جبلي وشمس الصباح الباكر طالعة، وتلألأ مشهد الثلج تحت أشعتها حتى بدا كما لو رُصِّع بالألماس. "نامغيال" دليل سياحي محلي يساعد في نصب الكاميرات الآلية، ويُعرف باسمه الشخصي فقط. تقدمَنا عبر طبقة حديثة من الثلج تبلغ الأفخاذ عمقًا. كانت درجة الحرارة منخفضة جدا، وكنت أرتدي سترة وتحتها قميص من الصوف وكنزة ذات قلنسوة وقميصًا وبْريا وسترة صوفية؛ فكنت أتحرك عبر الثلج مثل بطريق سمين. لكن نامغيال بدا مرتديا ثلاث طبقات على أقصى تقدير، بما فيها سترة عليها بقايا ما كان في الماضي ريشًا؛ ومع ذلك كان غير آبه للبرد، إذ تقدم بنشاط عبر الثلج.. مثل نمر ثلج. قصدنا بعض الأجراف التي كان براسينجيت قد ثبت عليها ثلاث كاميرات آملًا أن تتيح أفضل الفرص لالتقاط صورة سعى إليها طيلة فصل الشتاء: أنثى وثلاثة أشبال.
يبلغ براسينجيت من العمر 31 عامًا، ويتمتع بتصور خاص حين يتعلق الأمر بالسنوريات الكبيرة في الهند. نشأ في مزرعة في قلب أدغال سهول الهند الوسطى، قرب "محمية بنش للببور"، التي قيل إنها أحد الأماكن التي ألهمت "روديارد كيبلينغ" تأليفَ "Jungle Book" (سِفر الأدغال). تعلم براسينجيت منذ نعومة أظافره التقاط رائحة النمور النفّاذة والتعرف إلى أشكالها بين ظلال الغابة. قال لي: "لم نُسَمِّ كلابنا قَطّ؛ إذ كانت النمور تفترسها خلال كل ستة أشهر". كان أصدقاؤه في الجامعة يطلقون عليه، مزاحًا، لقبَ "ماوكلي". لما وصل براسينجيت إلى كيبر في عام 2018، أمضى أياما طوالا في الاستكشاف والتعلم بأناة من السكان، على غرار ما فعل تشارو. وسرعان ما بدأ يرى ذلك الذكر المُسنّ. التقط له صورة وهو يتعقب قطعان الوعول والأغنام الزرقاء، وراقبه وهو يقتات على فرائسه، واقتص آثاره وفحصها؛ فعثر على كهوف تشتمل على رائحته وشيء من فروه. وتمكن، بفضل كاميرا آلية، من التحديق في عينَي هذا النمر الثلجي الفيروزيتين الثاقبتين.
ربيعَ عام 2019، شاهد نامغيال الذكرَ المسن يتزاوج مع أنثى على جرف عالٍ. وفي أواخر الصيف أنجبت ثلاثة أشبال، ومنذئذ تملَّك براسينجيت هوسُ التقاط صور حميمة للأم رفقة أشبالها. عبرنا الجبل ونزلنا إلى الوادي التالي ثم صعدنا نحو خط قمم، ومن ثم جاهدنا لارتقاء حواف صخرية تتيح مجالا أوسع للإشراف على وادي سبيتي. هنالك قال براسينجيت: "إن هذا لدى نمور الثلج بمنزلة طريق سريعة"، موضحا أن هذه السنوريات تستخدم الحواف للتنقل بين المراعي المرتفعة حيث تأتي الفرائس للرعي. وفي اللحظة المناسبة، رأينا رؤوس أغنام زرقاء تطل علينا من أعلى الجرف. وسرعان ما عثر نامغيال على آثار نمر ثلج حديثة، منها أثر صغير ربما كان لشبل. ورصد براسينجيت بقعة بول حديثة كان نمر ثلج قد استخدمها لتحديد مجال نفوذه. كانت نمور الثلج قد تجولت بمحاذاة الكاميرات الثلاث، لكن آمالنا تحطمت بعدمـا فحـص براسينجيـت بطاقات الذاكـرة. نفـدت بطارية إحدى الكاميرات -وتلك مشكلة شائعة في البرد القارس- وتعطل وميض الثانية، فيما التقطت الثالثة صورا لثعلب تمَلَّكه الفضول، وسرب غربان صفراء المنقار.
خلع براسينجيت قبعته الصوفية، وارتفع البخار في الهواء البارد إذ مرر أصابعه خلال شعره الأشعث. استشعرتُ تأثره بعد أسابيع من البرد القارس والرحلات الشاقة وعدم يقين المَهمة. تنهد ثم قال: "الخبر السار أننا نعلم أن نمور الثلج هنا". عُدنا إلى القرية بعد المغيب. كان الثلج يتساقط، وانقطع التيار الكهربائي. لمّا رأينا ثينلي، اتسعت عيناه نشوة وهو يقول: "لقد حاول الذكر المُسنّ اصطياد أكبر وعل في المنطقة، وأثناء المطاردة صعد السنور وفريسته إلى جرف ثم اندفعا زُهاء 150 مترًا نحو نهر سبيتي".
في صباح اليوم التالي وجدنا حشدا من السياح مصطفين على طول الحافة المكسوة بالثلوج في أحد أعمق أجزاء الوادي. سَلَّمني نامغـيال منظارًا. هناك، عـلى بعد نحو 300 متر في الأسفل، على نهر سبيـتي المتجمـد، كانت جثة وعل ذكر كبيـر. كـان التـيار قد غمر نواحي جسده وقرنيه الضخمين. وصف دليـل سيـاحي شـهد عمـلية الافتراس كيف أن النمر طارد الوعل أسفل الجرف، فكان يقفز بين الحواف. انقض السنور على حنجرة الوعل، وسقطا معًا بعيدًا عن الأنظار. قال: "سمعتهما يهويان، ثم رأيتهما في النهر". نجَيَا معًا بعد السقوط، إذ هوى الوعل في الماء المتجمد وكاد يلوذ بالفرار، لكن النمر عاجَله بِعَضَّة على مقدمة وجهه وأبقاه تحت الماء إلى أن قضى. كان الوعل ذكرا كبيرا -ربما بلغ وزنه 115 كيلوجراما، مقارنة بوزن نمر الثلج البالغ 35 كيلوجراما- من قطيع طالما شوهد في نواحي قرية كيبر. قال نامغيال: "كنا نراه دائما؛ إذ فقد خوفه الطبيعي من البشر". كانت الجثة أثقل من أن تُسحب من النهر، لذلك فإن النمر، في محاولة للحفاظ على جفافه، اعتلاها وبدأ يجرد الأضلاع من اللحم، إذ كانت الشمس تميل نحو المغيب خلف الجبال.
عرف الأدلّاء أن السنور سيتغذى على الفريسة أياما معدودات، لذلك أيقظوا زبائنهم باكرا للحصول على أفضل المواقع لالتقاط الصور. نَصب كثيرٌ منهم كراسي تخييم على الثلج قرب الحافة الخطرة. همس براسينجيت قائلا: "إذا انزلق شخص واحد فقد يُسقِط معه الجميع". عاد السنور إلى الوعل بعد فترة وجيزة عند أول ضوء، لكنه سرعان ما توارى عن الأنظار خلف الصخور. قال بعض الأدلاء إنه بدا يعرج. مرت ساعات ونحن ننتظر عودته. تخالط السياح، وجلب الأدلّاء الطعام من القرية، وتقاسم الجميع ترامس الشاي. حلق فوقنا نسر. وأشار نامغيال إلى ثعلب يهرول بين الصخور. علِمنا في أصيل ذلك اليوم أن موظفي دائرة الغابات أمسكوا سائحا تسلل إلى الوادي لتصوير السنور من دون تصريح. قال براسينجيت: "قد يكون ذلك سبب عدم عودة السنور لالتهام فريسته. لقد كان خائفا". مع دنو الغروب، عاد جل السياح إلى القرية. كنتُ وبراسينجيت ونامغيال على وشك جمع أغراضنا، حين أشار دليل إلى الجثة بحماس: لقد عاد السنور إلى الفريسة.
رُحتُ أراقب الذكرَ المُسن من خلال المنظار بضع دقائق قبل أن تلف الظلال الوادي. اعتلى السنورُ الوعلَ القتيل، ونهش لحمه من فرط الجوع. ثم ما لبث أن رفع بصره كما لو شعر أنه مراقَب. أعرف أنه من غير العلمي إضفاء صفات بشرية على الحيوان، لكني استسلمتُ لتصور ما يشعر به من رضى فتخيلت لسان حاله يقول: تظنون أني هرمت ولم أعد أقوى على الصيد.. وها أنا قد اصطدت للتو أكبر وعل في الوادي.
هاتَفَـني براسينجيت أسبوعًا بعد مغادرتي الهند. وكان قد تنقل في الوادي ليلتقط إشارة الهاتف، لأنه أراد إخباري أن الذكر المسن قد نفق. إذ رآه دليل آخر يطارد وعْلًا ثم هوى من أعلى جرف، لكنه لم ينج هذه المرة. ساعد نامغيال موظفي دائرة الغابات في انتشال جثته. كان صوت براسينجيت مثقلا وهو يصف مشهد التشريح؛ إذ قال: "كان عموده الفقري مكسورا. وكان يعاني سوء التغذية، وربما كان يتضور جوعًا". خمّن براسينجيت أن السنور لم يتناول ما يكفي من لحم الوعل الكبير بسبب تجمده، ما اضطره للصيد من جديد. حضر أهالي القرية ليشهدوا حرق جثة نمر الثلج. كانت عاصفة محملة بثلج كثيف قد هبّت على الوادي، معلنةً أن الربيع ما زال على بعد أسابيع. أدفأوا أيديهم فوق المِحرقة. لقد كان الذكر المسن أثيرا محبوبًا لديهم، لا سيما لدى الأدلاء، لأن العثور عليه كان سهلا. فقد شاهد كل من جاء إلى كيبر من السياح هذا العام نمر الثلج، وبعد نفوق الذكر المسن لم ير أحدٌ أيًّا من هذه السنوريات. مع ذلك، فإن الأنثى كانت في مكان ما مع أشبالها.. وقد عزمَ براسينجيت على إيجادهم.
شبح الهيمالايا: نمر الثلج
- براسينجيت ياداف وفريديريك لاري وسانديش كادور
ظلت نمور الثلج منذ آلاف السنين ترتاد بعض أوعر مناطق آسيا الوسطى، حيث الأجراف الشاهقة والشعاب المنحدرة والصحارى العالية. هنا، مكنت خفة الهواء وعمق الثلوج وانخفاض درجات الحرارة هذه السنوريات الغامضة من تفادي نظرات البشر والتواري في الطبيعة كالأشباح....
ظلت نمور الثلج منذ آلاف السنين ترتاد بعض أوعر مناطق آسيا الوسطى، حيث الأجراف الشاهقة والشعاب المنحدرة والصحارى العالية. هنا، مكنت خفة الهواء وعمق الثلوج وانخفاض درجات الحرارة هذه السنوريات الغامضة من تفادي نظرات البشر والتواري في الطبيعة كالأشباح. لكنها باتت تظهر أخيرا، بفضل جهود الحفظ والكاميرات الآلية ثم السياحة.
كان نمـر الثلج المُسن معروفا في "كِيـبـر". لم يَعلم أحدٌ متى اتخذ موطنا في الشعاب والأجراف المحيطة بهذه القرية القديمة في "الهيمالايا"، لكن الناس أدركوا وجود هذا الذكر الضخم ذي الأذن المثلمة، وتعقبوه على مر الأعوام القليلة الماضية، كلٌّ على قدر استطاعته. وكغيره من نمور الثلج، كان كشبح يغير شكله ويذوب في هذه الجبال مثل الدخان المتصاعد من مدخنات القرية ليتلاشى في الهواء الرفيع البارد. إن النمور المسنة أجدر بالمراقبة؛ ذلك أنها حين تهرم فتعجز عن صيد تيوس الجبل والأغنام الزرقاء (أو البهارال) التي تعيش بين الصخور الكلسية، تبحث عن فرائس أسهل في القرية كالماعز والأغنام والأمهار وعجول الياك. ذات ظهيرة شديدة البرودة من شهر فبراير، جثمتُ على حافة هوة سحيقة مكسوة بالجليد، أراقبُ نمر ثلج مُسنًّا عبر المنظار. كان يغفو فوق حيد على جرف مقابل ينحدر بنحو 300 متر لدى نهر "سبيتي". هبّت عبر الشعب رقائقُ ثلج رفيعة كالرموش؛ وكلما هززت المنظار، اختفى فرو هذا السنور ذو اللون الدخاني والبقع الفحمية وسط الثنايا والظلال؛ فكنت أهمس: "تبًّا، لقد فقدته مرة أخرى"، وكان "براسينجيت ياداف" ينظر من فوق الكاميرا ويشير بإصبعه فأتبع إشارته حتى أرى مرقد الحيوان.
كان هذا، على أي حال، نمر ثلج براسينجيت. بل إن بعض الأدِلّاء السياحيين المحليين يطلقون عليه هذا الاسم. لما سمعنا برصد سنّور، قال أحدهم وهو ينقر أذنه اليسرى: "إنه لك". على مدى العامين الماضيين، تعقب المصور، براسينجيت ياداف، هذا الذكر مشيًا، حاملا كاميرات آلية، في هذا الركن المرتفع من "وادي سبيتي" بشمال الهند. في الأسابيع التالية، سنكون قد قطعنا مسافة 50 كيلومترا تقريبًا، هابطينَ أودية، وعابرين ممرات غاصة بالثلوج، وصاعدين أجرافًا جليدية. لكن هذا السنور تفضل بالظهور في هذا اليوم -يومي الأول في كيبر- والدوار ما زال يلازمني بسبب الصعود إلى ارتفاع 4200 متر. عقدتُ العزم على رؤية أحد هذه المخلوقات المراوغة مُذْ كنت طالبًا في الجامعة؛ إذ قرأتُ كتابَ "نمر الثلج" لصاحبه "بيتر ماثيسن". ولربما كان قراري ذاك راجعا إلى أن ماثيسن نفسه لم ير نمر ثلج قط. ففي عام 1973، أمضى هذا الرجل رفقة عالم الأحياء الفذ، "جورج شالر"، شهرين كاملين من المشي في نيبال، ولاحظا ما يدل على وجود تلك النمور -آثار أقدام ومخالب وخدوش- لكنهما لم يريا أيًّا منها. شاع حينذاك أن شالر كان أحدَ غربيين اثنين فحسب رأيا نمر ثلج في البرية. وفي عام 1970، التقط الرجل ما يُعتقد أنها أول صورة لنمر ثلج في موطنه الطبيعي؛ فظلت تلك الصورة أزيد من عقدين من الزمن، الوحيدة المعروفة لهذا الحيوان المنعزل الغامض. من عجائب القدر أن اللحظة التي دنوت فيها من رؤية نمر ثلج، تزامنت مع أصوات عشرات الكاميرات تملأ أذني وهي تلتقط مئات الصور لهذا السنور. كنت على الجرف مع براسينجيت، وإلى جوارنا سياح من مختلف بقاع العالم انحنى جلهم على كاميرات مزودة بعدسات تقريب باهظة الثمن. أصبحت كيبر على مر الأعوام القليلة الماضية المكانَ الأنسب لتوقع رؤية تلك النمور؛ لكن الرحلة ليست لضعاف القلوب، إذ لا يمكن بلوغ القرية إلا عبر طريق متعرجة ذات مسار وحيد شُقت خلال جبال ذات منحدرات شديدة. وعلى المرء أن يقصد المكان شتاءً، حين تتعقب نمور الثلج فرائسـها نحو المنخفضات؛ ما يعني أن قطاعات واسعة من الطريق تكون مكسوة بالثلج والجليد.
في اليوم السابق، ركبنا السـيارة أنا وبراسينجيت متجهين نحو الأعلى، ووجدتُني ممسكًا بمقبض الباب فيما كان هو يقود عبر منعرجات جليدية وزوايا خارج مجال الرؤية. وبين الفينة والأخرى كنا نرى زخات من الحصى ترتطم بالطريق أمامنا، فنتوقف وننظر أعلى الجرف بحثًا عن علامات انهيار ثلجي، ثم ما نلبث أن نواصل المسير وقد اشتد إمساكي بالمقبض. أخبرني مُرافقي واثقًا أن أي سائق يسلك هذه الطريق بانتظام يروي حكايات سيارات انزلقت وهوت إلى الوادي أو سحقتها الجلاميد المتساقطة. تأخرت رحلتنا نفسها يومين بسبب إغلاق الطريق إثر انهيار أرضي. استخدمت إدارة الطرق الديناميت لإعادة فتحها، فتسبب ذلك بإثارة انهيار آخر. طمأنني الرجل قائلا: "لا تقلق، إنها آمنة بنسبة 95 بالمئة". لكن سرعان ما ألقيت القلق وراء ظهري ونحن نشاهد نمر الثلج يمسح ذيله المرقط السميك ويراقب مجاله؛ وما لبثت الهمسات أن تناقلت بين السياح والأدلّاء. ظهرت على الجرف ثلاثة وعول بقرونها الشبيهة بالخناجر، على بعد نحو مئة متر من نمر الثلج. راقبنا هذا السنور وهو مشدود بعدما التقط رائحة الوعول، ثم رفع رأسه ببطء، وتسلق المنحدر بحركات متأنية. كان يربض في مكانه بين الفينة والأخرى فيغيب عن بصري في المنظار إلى أن يعاود الحركة. همس براسينجيت قائلا: "إنه يريد الصعود إلى الوعول ليطاردها نحو حافة الجرف".
بعد نحو 20 دقيقة، مالت الشمس إلى المغيب، وانخفضت درجة الحرارة كثيرا دون الصفر. اقترب السنور من الوعول بنحو 30 مترا، وتوقفت أصوات الكاميرات، وبدا كأن الجميع حبسوا أنفاسهم تحسبا لانطلاقة النمر. فجأة مزق الصمتَ صفيرٌ حاد أفزع الوعول. قال براسينجيت: "إنه جرس الإنذار الخاص بالوعول، وقد أطلقه أحدها بعد أن اشتم رائحة النمر". هنالك نزل هذا الأخير بهدوء ثم توارى عن الأنظار. طفق السياح المرتجفون يبتسمون ويصافح بعضهم بعضا من دون نزع القفازات، وساروا في أعقاب أدلائهم السعداء نحو قرية كيبر لتناول أطباق "دال" والأرز واحتساء أكواب الشاي الساخن.
حـثـنـي "تانزين ثينلي" قائلا: "تفضل بالجلوس أقرب إلى النار". تحلقنا حول موقد الحطب في غرفة معيشته، ورأينا من خلال النافذة حبلًا تتلاعب به الرياح وقد عُلِّقت عليه أعلام متهالكة ومتعددة الألوان تحمل دعوات دينية. جلبت لي زوجته، "كونزونغ"، الشـايَ وبطـانيـة من شعر اليـاك وجوربًـا صوفيـا نُسج باليد بعدما ظنت أني لم أكن أشعر بما يكفي من الدفء. كان ثينلي، الذي يعرفه جميع أهالي القرية باسمه العائلي، يرتدي سترة قديمة ويعتمر قبعة بيسبول. كان رابط الجأش، وهو الذي عاش 42 فصل شتاء في الهيمالايا. روى حكاية، بدا من قسمات وجهه أنها ما زالت تفاجئه؛ وكانت عن تحول الناس في كيبر من قتل نمور الثلج إلى تبجيلها. قال: "بدأ الأمر مع تشارو".
في عام 1996، وصل "تشارو ميشرا" أول مرة إلى كِيبر، وكان ساعتئذ طالبا بمدينة دلهي في الـ 25 من عمره. كانت القرية الصغيرة مؤلفة من بضع عشرات من العائلات تعيش في بيوت من الطين والقش تتكتل على سفح تل مطل على وادي سبيتي. ظلت هذه القرية -التي كانت فيما مضى جزءا من مملكة التيبت- تؤوي منذ قرون معبدًا بوذيا، حيث كان الرهبان يملأون بصدى تراتيلهم جنبات الوادي كلما انتصف النهار. دأب أهالي كيبر على تربية الماشية عبر أجيال وأجيال، وهم اليوم، كغيرهم من الرعاة في الهيمالايا، ينظرون إلى نمور الثلج بوصفها تهديدًا خطيرًا لمصدر عيشهم. هدفت خطة تشارو إلى دراسة أثر الحيوانات الأليفة في الحياة البرية بوادي سبيتي. استأجر غرفة، وظل أزيد من عامين ينفق أيامه في مراقبة المراعي المرتفعة، كما اندمج في حياة القرية. لم يكن في المدرسة الثانوية أستاذ رياضيات، لذلك دأب على تدريس هذه المادة في المساء. وكان يقلّ الناس بسيارته إلى العيادة حين يمرضون. كان يقوم بالأعمال المنزلية ويعثر على الحيوانات المفقودة ويلعب الكريكيت، كما انضم إلى نادي الشباب. قال ثينلي: "كان الآباء يقولون لأبنائهم: 'بإمكانكم أن تصيروا مثل تشارو'. وكنتُ معجبًا به إلى حدّ الانبهار". بعد العيش في كيبر فترة من الزمن، طلب تشارو إلى شيوخ القرية التفكير في تخصيص جزء من المراعي الجبلية للحيوانات البرية، فوافقوا. وفي غياب منافسة من الماشية، تضاعف عدد الأغنام الزرقاء أربع مرات. بعد ذلك، اقترح عليهم الرجلُ بعض السبل غير القاتلة للتعامل مع نمور الثلج التي كانت تهدد حيواناتهم، ولكنهم رفضوا بأدب ولباقة، حسب إفادة ثينلي؛ إذ قال: "كانوا جميعا يحترمون تشارو، لكن نمور الثلج كانت بمنزلة لعنة، ولم تلق تعاطف أحد". لم يفقد تشارو عزمَه، بل قصد شباب كيبر واقترح عليهم فكرة برنامج تأمين على الماشية. يقول ثينلي: "لم نكن نعلم معنى التأمين". أخبرهم تشارو أن المساهمين سيؤدون ما يعادل خمسة دولارات في العام للتأمين على قطعان الياك اليافعة، التي تناهز قيمتها عند البلوغ الـ 340 دولارا، ضد فقدانها بسبب نمور الثلج. ودرءًا للتصريحات الكاذبة، يُطلب إلى المالك أن يُقسم على صورة "الدالاي لاما" أن النمر هو القاتل. قال ثينلي: "لم نكن متأكدين من نجاح الأمر". لكن عند متم العام الأول، تم أداء تعويضات مقابل أربع تصريحات. يقول: "تم الأداء على أعين أهالي القرية كلهم. ولما رأى الشيوخ ذلك، انضموا جميعا".
ومُذَّاك، تعمَّم برنامج التأمين حتى شمل قرى أخرى في وادي سبيتي؛ وكان يشرف عليه مجلس من السكان المحليين، منهم ثينلي، ويحظى بدعم كل من "مؤسسة حفظ الطبيعة" و"مؤسسة نمور الثلج" في الهند. تمخضت هذه الجهود عن زيادة مشاهدات نمور الثلج حوالي كيبر، ووصول طلائع السياح الراغبين في رؤيتها عام 2015؛ فكان ذلك أول عام تفتح فيه الطريق في فصل الشتاء. في عام 2019، زار المنطقة ما يربو على 200 سائح، أنفقوا في القرية نحو 100 ألف دولار. ويحرص تشارو، الذي يرأس اليوم "مؤسسة نمور الثلج"، على ذكر فضل السكان الذين ما زال على اتصال وثيق بهم. لما التقيته بمكتبه في بنغالور، قال: "قدمتُ بعض المقترحات، وقدمت 'مؤسسة حفظ الطبيعة' في الهند بعض التمويل. إلا أن سكان كيبر ووادي سبيتي هم من يستحق الثناء نظير النجاح الذي لقيته عمليات الحفظ هناك".
يظــل عدد نمور الثلج في وادي سبيتي غير معروف. ورغم جهود شالر وغيره من العلماء، فإن إحصاء هذه الحيوانات يظل مستحيلا من الناحية العملية. إذ يمتد نطاق انتشارها عبر 12 بلدا في آسيا الوسطى، على مساحة تناهز المليوني كيلومتر مربع، في بعض أشد البيئات قسوة على بني البشر؛ فالارتفاعات الشاهقة، والبرد القارس، والتضاريس الوعرة والقاحلة -يتعذر بلوغ كثير منها- كلها عوامل تحد من العمل العلمي الميداني كمًّا وكيفًا.
في الأعوام الأخيرة، تمكن فريق بحث في منغوليا من تثبيت أطواق متصلة بالأقمار الصناعية على رقاب 32 نمر ثلج، وتعلموا كثيرًا عن تحركات هذا السنور بجبال "توست" في صحراء "غوبي". من ذلك مثلا، أن ذكرا بالغا هناك يحتاج إلى نطاق خاص مساحته 220 كيلومترا مربعا، فيما تحتاج الأنثى إلى زهاء 120 كيلومترا مربعا. ولكن لا يمكن إسقاط هذه الأرقام على سائر نطاقات نمور الثلج الشاسعة والمتنوعة. فالمساحة التي يحتاج إليها سنور في الصحراء العالية قد تختلف عن حاجته في سيبيريا مثلا. كما أن وفرة الفرائس والقرب من البشر وعوامل أخرى قد تزيد المساحة اللازمة أو تنقصها. وتُقدّر "مؤسسة نمور الثلج" أن 3500 إلى 7000 نمر ثلج يعيش على الكوكب، لكن تشارو أقر أن الأمر لا يعدو أن يكون استنباطا قائمًا على تقديرات. قال: "تمكنا من دراسة 1.5 بالمئة من موائل نمور الثلج. ولا نستطيع حقا تحديد عددها على وجه الدقة". من المؤكد، كما يقول تشارو، أن هذه السنوريات تواجه تهديدات متزايدة في كثير من المناطق التي يدرس فيها حُماة الطبيعة نمور الثلج؛ من قبيل الصيد الجائر، وصناعة التعدين التي تدمر الموائل، وانتقام الرعاة، واختفاء الفرائس. يقول الرجل: "إن النجاحات المحققة في سبيتي وأماكن أخرى مبعث ارتياح، لكننا نحتاج إلى مزيد من ذلك".
صعدتُ بمعية براسينجيت عبر ممر جبلي وشمس الصباح الباكر طالعة، وتلألأ مشهد الثلج تحت أشعتها حتى بدا كما لو رُصِّع بالألماس. "نامغيال" دليل سياحي محلي يساعد في نصب الكاميرات الآلية، ويُعرف باسمه الشخصي فقط. تقدمَنا عبر طبقة حديثة من الثلج تبلغ الأفخاذ عمقًا. كانت درجة الحرارة منخفضة جدا، وكنت أرتدي سترة وتحتها قميص من الصوف وكنزة ذات قلنسوة وقميصًا وبْريا وسترة صوفية؛ فكنت أتحرك عبر الثلج مثل بطريق سمين. لكن نامغيال بدا مرتديا ثلاث طبقات على أقصى تقدير، بما فيها سترة عليها بقايا ما كان في الماضي ريشًا؛ ومع ذلك كان غير آبه للبرد، إذ تقدم بنشاط عبر الثلج.. مثل نمر ثلج. قصدنا بعض الأجراف التي كان براسينجيت قد ثبت عليها ثلاث كاميرات آملًا أن تتيح أفضل الفرص لالتقاط صورة سعى إليها طيلة فصل الشتاء: أنثى وثلاثة أشبال.
يبلغ براسينجيت من العمر 31 عامًا، ويتمتع بتصور خاص حين يتعلق الأمر بالسنوريات الكبيرة في الهند. نشأ في مزرعة في قلب أدغال سهول الهند الوسطى، قرب "محمية بنش للببور"، التي قيل إنها أحد الأماكن التي ألهمت "روديارد كيبلينغ" تأليفَ "Jungle Book" (سِفر الأدغال). تعلم براسينجيت منذ نعومة أظافره التقاط رائحة النمور النفّاذة والتعرف إلى أشكالها بين ظلال الغابة. قال لي: "لم نُسَمِّ كلابنا قَطّ؛ إذ كانت النمور تفترسها خلال كل ستة أشهر". كان أصدقاؤه في الجامعة يطلقون عليه، مزاحًا، لقبَ "ماوكلي". لما وصل براسينجيت إلى كيبر في عام 2018، أمضى أياما طوالا في الاستكشاف والتعلم بأناة من السكان، على غرار ما فعل تشارو. وسرعان ما بدأ يرى ذلك الذكر المُسنّ. التقط له صورة وهو يتعقب قطعان الوعول والأغنام الزرقاء، وراقبه وهو يقتات على فرائسه، واقتص آثاره وفحصها؛ فعثر على كهوف تشتمل على رائحته وشيء من فروه. وتمكن، بفضل كاميرا آلية، من التحديق في عينَي هذا النمر الثلجي الفيروزيتين الثاقبتين.
ربيعَ عام 2019، شاهد نامغيال الذكرَ المسن يتزاوج مع أنثى على جرف عالٍ. وفي أواخر الصيف أنجبت ثلاثة أشبال، ومنذئذ تملَّك براسينجيت هوسُ التقاط صور حميمة للأم رفقة أشبالها. عبرنا الجبل ونزلنا إلى الوادي التالي ثم صعدنا نحو خط قمم، ومن ثم جاهدنا لارتقاء حواف صخرية تتيح مجالا أوسع للإشراف على وادي سبيتي. هنالك قال براسينجيت: "إن هذا لدى نمور الثلج بمنزلة طريق سريعة"، موضحا أن هذه السنوريات تستخدم الحواف للتنقل بين المراعي المرتفعة حيث تأتي الفرائس للرعي. وفي اللحظة المناسبة، رأينا رؤوس أغنام زرقاء تطل علينا من أعلى الجرف. وسرعان ما عثر نامغيال على آثار نمر ثلج حديثة، منها أثر صغير ربما كان لشبل. ورصد براسينجيت بقعة بول حديثة كان نمر ثلج قد استخدمها لتحديد مجال نفوذه. كانت نمور الثلج قد تجولت بمحاذاة الكاميرات الثلاث، لكن آمالنا تحطمت بعدمـا فحـص براسينجيـت بطاقات الذاكـرة. نفـدت بطارية إحدى الكاميرات -وتلك مشكلة شائعة في البرد القارس- وتعطل وميض الثانية، فيما التقطت الثالثة صورا لثعلب تمَلَّكه الفضول، وسرب غربان صفراء المنقار.
خلع براسينجيت قبعته الصوفية، وارتفع البخار في الهواء البارد إذ مرر أصابعه خلال شعره الأشعث. استشعرتُ تأثره بعد أسابيع من البرد القارس والرحلات الشاقة وعدم يقين المَهمة. تنهد ثم قال: "الخبر السار أننا نعلم أن نمور الثلج هنا". عُدنا إلى القرية بعد المغيب. كان الثلج يتساقط، وانقطع التيار الكهربائي. لمّا رأينا ثينلي، اتسعت عيناه نشوة وهو يقول: "لقد حاول الذكر المُسنّ اصطياد أكبر وعل في المنطقة، وأثناء المطاردة صعد السنور وفريسته إلى جرف ثم اندفعا زُهاء 150 مترًا نحو نهر سبيتي".
في صباح اليوم التالي وجدنا حشدا من السياح مصطفين على طول الحافة المكسوة بالثلوج في أحد أعمق أجزاء الوادي. سَلَّمني نامغـيال منظارًا. هناك، عـلى بعد نحو 300 متر في الأسفل، على نهر سبيـتي المتجمـد، كانت جثة وعل ذكر كبيـر. كـان التـيار قد غمر نواحي جسده وقرنيه الضخمين. وصف دليـل سيـاحي شـهد عمـلية الافتراس كيف أن النمر طارد الوعل أسفل الجرف، فكان يقفز بين الحواف. انقض السنور على حنجرة الوعل، وسقطا معًا بعيدًا عن الأنظار. قال: "سمعتهما يهويان، ثم رأيتهما في النهر". نجَيَا معًا بعد السقوط، إذ هوى الوعل في الماء المتجمد وكاد يلوذ بالفرار، لكن النمر عاجَله بِعَضَّة على مقدمة وجهه وأبقاه تحت الماء إلى أن قضى. كان الوعل ذكرا كبيرا -ربما بلغ وزنه 115 كيلوجراما، مقارنة بوزن نمر الثلج البالغ 35 كيلوجراما- من قطيع طالما شوهد في نواحي قرية كيبر. قال نامغيال: "كنا نراه دائما؛ إذ فقد خوفه الطبيعي من البشر". كانت الجثة أثقل من أن تُسحب من النهر، لذلك فإن النمر، في محاولة للحفاظ على جفافه، اعتلاها وبدأ يجرد الأضلاع من اللحم، إذ كانت الشمس تميل نحو المغيب خلف الجبال.
عرف الأدلّاء أن السنور سيتغذى على الفريسة أياما معدودات، لذلك أيقظوا زبائنهم باكرا للحصول على أفضل المواقع لالتقاط الصور. نَصب كثيرٌ منهم كراسي تخييم على الثلج قرب الحافة الخطرة. همس براسينجيت قائلا: "إذا انزلق شخص واحد فقد يُسقِط معه الجميع". عاد السنور إلى الوعل بعد فترة وجيزة عند أول ضوء، لكنه سرعان ما توارى عن الأنظار خلف الصخور. قال بعض الأدلاء إنه بدا يعرج. مرت ساعات ونحن ننتظر عودته. تخالط السياح، وجلب الأدلّاء الطعام من القرية، وتقاسم الجميع ترامس الشاي. حلق فوقنا نسر. وأشار نامغيال إلى ثعلب يهرول بين الصخور. علِمنا في أصيل ذلك اليوم أن موظفي دائرة الغابات أمسكوا سائحا تسلل إلى الوادي لتصوير السنور من دون تصريح. قال براسينجيت: "قد يكون ذلك سبب عدم عودة السنور لالتهام فريسته. لقد كان خائفا". مع دنو الغروب، عاد جل السياح إلى القرية. كنتُ وبراسينجيت ونامغيال على وشك جمع أغراضنا، حين أشار دليل إلى الجثة بحماس: لقد عاد السنور إلى الفريسة.
رُحتُ أراقب الذكرَ المُسن من خلال المنظار بضع دقائق قبل أن تلف الظلال الوادي. اعتلى السنورُ الوعلَ القتيل، ونهش لحمه من فرط الجوع. ثم ما لبث أن رفع بصره كما لو شعر أنه مراقَب. أعرف أنه من غير العلمي إضفاء صفات بشرية على الحيوان، لكني استسلمتُ لتصور ما يشعر به من رضى فتخيلت لسان حاله يقول: تظنون أني هرمت ولم أعد أقوى على الصيد.. وها أنا قد اصطدت للتو أكبر وعل في الوادي.
هاتَفَـني براسينجيت أسبوعًا بعد مغادرتي الهند. وكان قد تنقل في الوادي ليلتقط إشارة الهاتف، لأنه أراد إخباري أن الذكر المسن قد نفق. إذ رآه دليل آخر يطارد وعْلًا ثم هوى من أعلى جرف، لكنه لم ينج هذه المرة. ساعد نامغيال موظفي دائرة الغابات في انتشال جثته. كان صوت براسينجيت مثقلا وهو يصف مشهد التشريح؛ إذ قال: "كان عموده الفقري مكسورا. وكان يعاني سوء التغذية، وربما كان يتضور جوعًا". خمّن براسينجيت أن السنور لم يتناول ما يكفي من لحم الوعل الكبير بسبب تجمده، ما اضطره للصيد من جديد. حضر أهالي القرية ليشهدوا حرق جثة نمر الثلج. كانت عاصفة محملة بثلج كثيف قد هبّت على الوادي، معلنةً أن الربيع ما زال على بعد أسابيع. أدفأوا أيديهم فوق المِحرقة. لقد كان الذكر المسن أثيرا محبوبًا لديهم، لا سيما لدى الأدلاء، لأن العثور عليه كان سهلا. فقد شاهد كل من جاء إلى كيبر من السياح هذا العام نمر الثلج، وبعد نفوق الذكر المسن لم ير أحدٌ أيًّا من هذه السنوريات. مع ذلك، فإن الأنثى كانت في مكان ما مع أشبالها.. وقد عزمَ براسينجيت على إيجادهم.