هكـذا تُغيّـرنا الجـوائـح..

يخزَّن تابوتٌ يضم جثة شخص أجنبي كان قد مات خلال جائحة "كوفيد19-" في مستودع للجثث بمدينة ميلانو الإيطالية، إلى أن يصبح من الممكن إرساله إلى بلد الشخص المتوفّى. وقد امتلأت مستودعات الجثث في إقليم لومبارديا الإيطالي إلى درجة استدعت إرسال بعض الجثث إلى...
فهل سنذكر الدروس التي تعلّمناها بعـد أن يُرفـع عـنا البـلاء؟ ما الذي تعلّمناه من التـاريـخ؟ وما الذي يعنيه ذلك لنا اليوم؟في يوم أحدٍ مطلعَ شهر مارس، وبينما كانت جائحة "كوفيد19-" تتفشّى بسرعة مجتاحةً العالم، كان مركب لخفر السواحل الأميركي يحمل اسم...
فهل سنذكر الدروس التي تعلّمناها بعـد أن يُرفـع عـنا البـلاء؟ ما الذي تعلّمناه من التـاريـخ؟ وما الذي يعنيه ذلك لنا اليوم؟

في يوم أحدٍ مطلعَ شهر مارس، وبينما كانت جائحة "كوفيد19-" تتفشّى بسرعة مجتاحةً العالم، كان مركب لخفر السواحل الأميركي يحمل اسم "بـايك" يتأرجح وهو في طريقه إلى السفينة السياحية "غراند بـرينسـس" التي كانت تنتظر في عرض البحر على بعد 23 كيلومترًا عن ساحل كاليفورنيا. كان المركب في مَهمّة لإيصال فريق طبي متخصص في الكوارث لفرز الأشخاص المرضى عن الذين بدوا أصحّاء من بين ركّاب السفينة البالغ عددهم 3500 شخص؛ وذلك استعدادًا لإيصالهم إلى اليابسة. وعلى متن المركب "بـايك"، كان "مايكل كالاهان"، خبير أمراض مُعْدية يجرّ وراءه عقودًا من الخبرة في بؤر الأوبئة بشتى أنحاء العالم، ينتظر مع فريقه وقد استبد به القيء من جرّاء دوار البحر. وقُبيل الغروب، اقترب المركب من قارب أُنزل من السفينة. في تلك اللحظة، كان "كالاهان" (وعمره 57 عامًا) وفريقه ما يزالون يعانون دوار البحر، وكانوا محدودي السمع والبصر وهم مرتدين لباس الاحتواء البيولوجي الكامل. وثبوا إلى القارب، الواحد تلو الآخر، ومن ثم تسلقوا سلَّمًا أفضى بهم إلى بدن السفينة السياحية البالغ طولها 57 مترًا، للشروع في عملهم.
كان العالم برمّته حينها يثب نحو المجهول؛ أو بالأحرى، نحو المنسيّ من الماضي. إذ لطالما ابتُـلي البشر بالأوبئة، وبعدها بالجوائح مذ بدأنا نجول في أرجاء المعمورة. ولقد علّمتنا دروسًا مهمة؛ يا ليتنا نتمكن من تذكّرها بعد زوال هذه المعاناة ورفع البلاء. وللجوائح الجديدة، مثل "كوفيد19-"، أسلوبٌ خاص لجعلنا نتذكر مدى سهولة أن يُعدي بعضنا بعضًا، وبخاصة أن نعدي أحباءنا؛ وكيف يفرّقنا الخوف من العدوى؛ ومدى التأثير المدمّر للعزلة؛ وكيف أن المرضى، مع ذلك، كثيرًا ما يموتون بائسين وحدَهم بلا مؤنس. لكن أهم ما ذكّرتنا به الجائحة الجديدة هو أننا لطالما عوّلنا على قلة من الأشخاص الشجعان من أمثال "كالاهان" (وسنتابع قصّته لاحقًا) الذين يخاطرون بحياتهم لمكافحة الأمراض. ولطالما ظلت عيوب هؤلاء الأشخاص الكثيرة، بوصفهم بشرًا عاديين، حاجزًا أمام تصنيفهم أبطالًا بالمفهوم التقليدي. وخلال الجوائح السابقة، كان أغلبهم مستعدًّا لتجاهل أنماط التفكير التقليدي، أو للتعلّم من أدلة صغيرة قد تبدو معدومة الأهمية، أو للاستماع إلى أشخاص غير متوقعين. وكانوا مستعدين للتسليم بأن ما يحدث هناك في حيّ موحش أو ركن منسيّ من العالم، قد يحدث بسهولة هنا كذلك. ولنفهم هؤلاء الأشخاص الذين يُسهمون في إنهاء الجوائح، فإن أفضل منطلق هو أحد أسوأ الأمراض في تاريخ البشرية.

إيجـاد عـلاج
خلال محاضرة في بوسطن في أوائل عام 1721، أعلن "كاتن ماثر"، وكان كاهنًا يتبع المذهب التطهيري البروتستانتي ويُكثر من تحذير أتباعه من نار جهنّم، مجيء "مَـلَـك الدمار"؛ مشيرًا إلى مرض مرعب سينقض على مدينة بوسطن. أما إنجلترا فكان المرض يحاصرها سلفًا. وكان قد سبق لـ "العالم الجديد" أن خَبرَ آثاره الفظيعة من قبل؛ إذ كان ينتقل إلى المستعمرات البريطانية في أمواج لا يمكن التنبّؤ بها على مرّ 200 سنة، مصيبًا المستوطنين بالرعب والبؤس، وماحيًا مجتمعات أميركية أصلية بالكامل من الوجود. ولكن في العام المذكور، كانت قد مرّت 19 سنة مُذْ شهدت بوسطن آخر وباء، وهو زمن كافٍ لنشوء جيل جديد من الضحايا. وعندما كانت تظهر أولى البقع الحمراء الفاتحة على بشرة شخصٍ ما، كان يُطمئنُ نفسه بالقول إن ما أصابه ليس إلا الحصبة. ولكن البقع كانت تتحوّل إلى نتوءات مملوءة بسائل، وتبرز على سطح الجلد كما لو أنها جزر بركانية. وكان يَحدث أن تسدّ مئات من هذه البثور كلًّا من العينين، والمجاري التنفسية، وتنتشر على كامل الجسم، جاعلةً مجرّد التنفّس عذابًا. وكانت تفوح من البثور رائحة اللحم الفاسد. وكثيرًا ما كان المرض يعمي الناجين منه أو يعيقهم أو يشوّههم بشدّة. (وفي هذا السياق، كان رجل قد أمر طبيبًا يعتني بامرأة بريطانية قائلًا له: "حافظ على جمالها، أو اقتلها"). في أبريل من ذلك العام، تسلّل مرض الجدري بهدوء إلى ميناء بوسطن.
في البداية، تجاهل الناس تفشّي المرض، وفي ذلك كانوا يتصرّفون إلى حدٍّ بعيد كما يتصرّف الناس في زمننا هذا. ولكنْ بدءًا من عام 1721، علّم الجدري دول الغرب درسًا جديدا مهمًا للغاية، مفاده أن بمقدور البشر منع الجوائح من الحدوث. إذ نستطيع منع انتشارها، ونستطيع أحيانًا القضاء عليها، عند توفّر العزيمة لدينا. وكان ثلاثة أشخاص غير محتملين قد حملوا لواء الحرب على الجوائح ذلك العام في بوسطن. كان بينهم عبد إفريقيّ المولد يدعى "أونيسيموس" (وهي تسمية إنجيلية كان الكاهن "ماثر" قد أطلقها عليه)، وطبيب وجرّاح مبتكر اسمه "زابدييل بويلستون". لكن أقل الشخصيات الثلاث احتمالًا للاضطلاع بهذا الدور كان "ماثر" نفسه، إذ كان يتمتع بشخصية مضطربة، ومغرورة، وغير مستقرة عاطفيًا؛ وعلاوة على ذلك كان مكروهًا على نطاق واسع بوصفه أحد الأطراف الظالمة الفاعلة التي كانت وراء حملات مطاردة الساحرات وإعدامهن في مدينة "سالم" قبل 29 عامًا من ذلك. ولكن عندها، بدا الوضع كما لو أن ماثر كان يُعِـدّ العدّة طيلة حياته لتلك اللحظة؛ وللتكفير عن ذنبه. فقد كان طالبَ عِلم وطبّ نجيبًا منذ الصغر، ولا شك أن كفاحه ضد الجدري كان كفاحًا شخصيًا كذلك. إذ كان قد فقد زوجتين تواليًا و 13 ولدًا من أولاده الخمسة عشر أمام عينيه؛ كثيرٌ منهم تُوفيّ من جراء أمراض مُعدية. لذا كان يقرأ الدوريات العلمية البريطانية ويَدرس الممارسات الطبية لسكان أميركا الأصليين. كما أنه أصغى جيدًا إلى "خادمه" أونيسيموس الذي وصفه بأنه "مناصر ذكي" عندما أخبره عن طريقة متّبعة في إفريقيا للاحتراز من الجدري وأراه الندوب التي تخلّفها. ثم إن تفاصيل عن تلك الطريقة كانت تُتداول في إنجلترا، بناءً على تقارير من تركيا.
وبينما أخذ الجدري يتفشّى، لفت ماثر انتباه الأطباء في بوسطن إلى ما وصفه بأنه "طريقة رائعة مستعملة في الآونة الأخيرة في عدد من أنحاء العالم" لوضع حدّ للمرض. وكانت الطريقة تتلخّص في أخذ مريض مصاب بالجدري وثقب إحدى بثوره الناضجة لسحب القيح أو ما سمّاه "المادّة الجدريّة" منها. ثم كان يُوضع جزء من هذه المادة في جرح مفتَعل في جلد شخص ما زال بكامل صحّته. وكان وعد "التجدير" -أو التطعيم- يتمثّل في أنه يوَلّد المناعة بعد أن يعيش الخاضع للعلاج حالة طفيفة من هذا المرض الذي كان من أكثر الأمراض فتكًا بالبشر على وجه الأرض. ووجد ماثر إفادات وندوبًا مؤيّدة لمسعاه في ما وصفه بأنه "عدد كبير" من أبناء بوسطن المولودين في إفريقيا. لكن الأوساط الطبية في المدينة انكمشت رعبًا من اقتراحه. على أن الطبيب بويلستون كان قد عايش سلفًا الرعب المقترن بالجدري، إذ كـاد يفقد حياته بسببه قبل 19 عامًا من ذلك، وكان يخشى أن يتعرّض أولاده الثمانية إلى "خطر يومي" بسبب عمله في مجال الطبّ. لذا قرّر في 26 يونيو 1721، بعد أن فحص الدلائل الطبية على نجاعة التطعيم، أن يجري أول عملية تجدير له على ابنه الذي كان في ربيعه السادس، وكذلك على اثنين من عبيده. فكانت النتيجة "حالة من الجدري لطيفة ومبشّرة بالنجاح"؛ فأخذ يطعّم المرضى الساعين إلى حماية أنفسهم ضد هذا المرض في شكله التام.
في بادئ الأمر، رأى بعض أهالي المدينة أن العلاج لا يقلّ رعبًا عن المرض نفسه. وكانوا يخشون أن يكون المرضى المعالجون بالتجدير ممن لم يتعافوا تمامًا منه ما زالوا مُعدين. واعترض الأطباء على الإجراء مُدَّعينَ أنه يعارض الممارسات الطبّية السائدة التي ظلّت ثابتًة طيلة 2000 سنة والتي تفيد أن المرض هو نتيجة خلل في توازن "أخلاط" الجسم الأربعة، والذي كثيرًا ما تتسبب به روائحٌ خبيثة و"لوثاتٌ" لم يكن تعريفها واضحًا، أو هواء فاسد. لم يكن بمقدور الباعة والعمّال تحمّل تكاليف حماية عوائلهم بسبب الثمن الباهظ للتطعيم وما ترتّب عليه من عناية طبية بعده وقبله. وكان الرعب والاستياء الطبقي، فضلًا عن شبح حملات مطاردة الساحرات وإعدامهن، قد أسهمت جميعًا في استهداف ماثر. وذات ليلة، رُميت قنبلة نارية داخل منزله عبر نافذة غرفة النوم. ولكن فتيلها سقط عنها مصادفةً فبلغت الأرض من غير أن تُلحق أي ضرر بالمكان. وما يثير الاهتمام كذلك، هو أن ورقةً كانت مربوطة بالقنبلة حملت الرسالة التالية: "كاتن ماثر، أيها الكلب، عليك اللعنة! سأطعّمك بهذه.. ليأخذ الجدري حياتك!".

وبحلول الوقت الذي انتهى فيه الوباء أخيرًا، كان نحو 6000 مواطن -أي أكثر من نصف سكّان بوسطن آنذاك- قد أصيبوا بالجـدري، توفّي منـهم بالمـرض 844 شخـصا، أي نحـو 15 بالمئة منهـم. بالمقـابـل، لم يـمت مـن بين أولئك الذين خضعوا لعملية التجدير سوى 2 بالمئة. وما لبث إدخال تحسينات على الطريقة أن قلّــص النسبة إلى ما دون نصــفٍ بالمئة؛ فغدا التجدير إجراءً متّبعًا. وعنـدما أصـيبت بوسـطن بموجـة ثانيـة من وبـاء الجـدري عـام 1792، كـان التجـاوب قد انقلب تمامًا؛ إذ تم تطعيم 9200 من السكان المحليـين، ولم يُصَب منهم بالجدري الطبيعي سوى 232 شخصًا. المفارقة هي أنه لم يكن أحد من بين الشخصيات الثلاث التي أدخلت التجدير إلى أميركا الشمالية، قد حظي بتكريم يُذكر. إذ اختفى أونيسيموس من سجلاّت التاريخ بعد أن اشترى حريّته، وتجاهل المؤرّخون بذلك المساهمة الإفريقية في القضاء على الوباء. أما بويلستون فلم يعد يذكره إلا قليل من الناس. وصحيحٌ أن الاسم "بويلستون" قد أُطلق على شوارع وأبنية في بوسطن وعلى بلدة مجاورة لها، لكن التسمية كانت في الواقع تشريفًا لحفيده الذي كان تاجرًا ثريًا. وأخيرًا، فإن كاتن ماثر لم يفز بغفران أهالي بوسطن. لكنه استمر في التفكير بمسائل طبية، وكتب في المحصلة عن السبب الحقيقي لجميع الأوبئة؛ إذ لخّصه كما يلي: في الظروف الأنسب، فإن كائنات حية دقيقة -وكانت قد بدأت للتو تُشاهَد بالمجهر- "تتضاعف بسرعة تضاعفًا هائلًا؛ وقد يكون لها نصيبٌ أكبر في نشوء أمراض أكثر مما يتصوره الناس عامة"، على حد قوله. لكن مخطوطته تلك، المليئة بالغرابة ما عدا ملاحظته بشأن سبب الأوبئة، لم تُنشَر. وتطلّب إدراك العلماء الدورَ الحاسمَ للكائنات الحية الدقيقة بوصفها عواملَ لنقل المرض، مرورَ 150 سنة أخرى.
وقد ولّد السعي إلى تطبيق التجدير في أميركا الشمالية وأوروبا تأثيرًا آخر غير متوقع. ففي عام 1757، في بلدة صغيرة بجنوب إنجلترا، خضع للتجدير "طفلٌ معافًى أحمر الوجنتين" في ربيعه الثامن. وكانت تجربة مريرة، لأن الأطباء المحكومين بالتقاليد طالبوا بتطبيق إجراء تحضيري من النزف والتطهير. وعندما غدا الطفل نفسه طبيبًا ريفيًا، كتب عن "رأي مشوَّش سائد" لدى منتجي الألبان مفاده أن مرضًا يصيب الأبقار، يدعى جدري البقر، قد يكون "مانعًا من الإصابة بمرض الجدري [البشري]". وترك احتمالُ إيجاد طريقة أفضل للوقاية ضد مرض الجدري انطباعًا قويًا في نفس ذاك الطبيب، وكان اسمه "إدوارد جينر". ولكن، مرّت عقود من غير أن يحظى ذلك العلاج المقترَح بالتطبيق، إلى أن وجد جينر نفسُه فرصتَه أخيرًا.
ففي 14 مايو 1796، طبّق جينر ما بدا كما لو أنه تجدير على طفل كان كذلك في ربيعه الثامن، واسمه "جيمز فيـبس"، لكن باستعمال مادة من شابّة أصيبت بجدري البقر. فكان ذلك بداية التلقيح الحديث، والذي اشتقّ مصطلحه الإنجليزي "vaccination" مـــن كلمــة "vacca" اللاتيــنية التي تعــني "بقرة". وعلى الفور ظهر معارضو التلقيح الأوائل في مظاهرة غاضبة. إذ كان هؤلاء يخشون أشياء كثيرة، من بينها أن تظهر في الناس المعالَجين بالتلقيح نزعات شبيهة بنزعات البقر، أو أن يصابوا بأمراض حيوانية، أو أن ينمو لهم قرنان. ولكن ثبت أن التلقيح آمَن وأكثر فاعلية من التجدير؛ ما أدى إلى انتشاره سريعًا على امتداد المعمورة. ظل الجدري يحصد أرواح البشر؛ إذ قتل في القرن العشرين وحده ما يُقدَّر بـ 300 مليون إنسان. ولكن في مايو من عام 1980، أعلنت "منظمة الصحة العالمية" القضاء على الجدري بفضل حملة تلقيح عالمية حثيثة. فبحلول ذلك التاريخ، كان لقاح جينر قد أصبح النموذج المتّبع لعدد كبير من اللقاحات الأخرى. وقد خلّصت هذه اللقاحات حياتنا من أمراض معدية كثيرة للغاية إلى درجة أننا عشنا مرحلةً قصيرة فاصلة من السعادة حسبنا خلالها أن زمن أشياء مثل الجوائح قد ولّى إلى غير عودة.

عندما غيّرت الكوليرا المدن

لم يكن الناس راغبين بتقبّل الدرس التالي المهم في مجال القضاء على الجوائح، لولا انتشار مرض من أكثر الأمراض التي عرفوها رعبًا. فعندما سُلِّط سوط العذاب هذا على البشرية عام 1817 انطلاقًا من مدينة جيسور -التي تقع في ما أصبح اليوم بنغلادش- صدمت شدّته الجديدة حتى سكانها؛ مع أنهم كانوا قد عاشوا أهواله في موجات تفشٍّ سابقة.
كتب مسؤول إقليمي واصفًا هجمة المرض بأنها "كانت مفاجئة ومروّعة بشدّة إلى درجة أن" السكان المذهولين "فرّوا في جماعات إلى الريف لكونه الوسيلة الوحيدة للنجاة من الموت المحدق بهم". لا عجب؛ ففي بضعة أسابيع لا غير، كان 10 آلاف شخص قد ماتوا في هذا الإقليم وحده. وكانت مبادلات تجارية مزدهرة قد حملت التفشّي الجديد برًّا وقطعت به المحيطات ليتحوّل بذلك إلى جائحة. وكان بمقدور قرّاء الصحف متابعة التقارير الواردة من المناطق التي كانت تواجه الجائحة تباعًا وهي تزحف باتجاههم. لم تقتصر فداحة المرض على أنه كان يقتل نصف المصابين وأنه يقتلهم بسرعة فظيعة؛ فما كان مرعبًا على وجه الخصوص، الطريقة التي كان الناس يموتون بها، إذ إن شخصًا مصابا قد يبدو للحظة في مقتبل الشباب وإذا به في اللحظة التالية يميع ويسيل قيئًا وإسهالًا لا يمكن السيطرة عليهما. وكانت عضلات المصاب تلتوي في حالات من الشدّ والتشنّجات. وصار تنفّسه "استجداءً للهواء" في شهقات يائسة. وكانت الضحايا تموت وهي تبدو بكامل وعيها، وهي محدّقة، مشدوهة، والسائل المائي ما زال يُعتصَر من أمعائها.
وعندما كان الناس يتجادلون بشأن سبب هذا الخطر، كانت "اللَّوثات" والروائح الكريهة موضع الاشتباه الأول. وركّز جميع المصلحين الصحّيين في معظمهم بهوسٍ على الروائح، وكان ذلك يعود في جانبٍ منه إلى وجودها في كل مكان. فقد كانت الروائح الواخزة تفوح من المعامل، وحظائر الخنازير المجاورة للمنازل، وأطنان روث الخيول والماشية، والمدابغ، ومقابر الموتى الضحلة؛ وهذا طبعًا فضلًا عن البراز البشري المنتشر في كل مكان. ففي نظر الحركة الصحية، كانت "الزفرات النتنة" هي أصل المرض. في القرن التاسع عشر، إذ أخذ الناس يغادرون المزارع قاصدين المدن حيث كانوا يقفون في طوابير للحصول على وظيفة في هذا المعمل أو ذاك، كانت البشرية ما تزال بحاجة ماسة إلى دروس في كيفية العيش معًا من غير أن تموت. والممارسات التي كانت تبدو غير مؤذية في المزارع، مثل انعدام صرفٍ صحيّ للفضلات، تبيّن أنها قاتلة في المدن. وهكذا فإن العوائل التي اجتمعت في مساكن بعضها فوق بعض ضمن الأحياء الفقيرة القذرة للمدن، كانت تسري فيها حمّى التيفوئيد والزحار والسل والكوليرا وغيرها من الأمراض المعدية.. ثم ما تلبث أن تسري فيها من جديد.
أما أعظم معلّم في مجال الإصلاح الصحّي، فكان "إدوين تشاويك"، وهو موظف حكومي بريطاني يوحي شكلُه بأنه من شخصيات الروائي "تشارلز ديكنز". إذ كان بيروقراطيا طويل القامة مستدير الوجه، يغطّي صلعته التي خلّفها شعره المنحسر بخصلات من جانبي رأسه، ويرمق الناس من عينيه ثقيلتي الجفون بنظراتٍ تجمع بين الازدراء وإصدار الأحكام. وقد وصفه أحد كتّاب السِّيَر بأنه كان "مثالًا بارزا لشخصية مملّة.. في زمنٍ ازدهرت فيه المخلوقات البشرية المملة". لكنه في الوقت نفسه، اكتسب سمعة بوصفه بارعًا في تعلّم حقائق أي مشكلة كان يدرسها، إذ يتفانى في العمل لحل تلك المشكلة.
وفي عام 1842، كتب تشادويك تقريرًا نشرته الحكومة البريطانية ولقي رواجًا كبيرًا حينها؛ وهو يُعرف الآن باسم "التقرير الصحّي". فاستنادًا إلى إفادات جُمعت في أنحاء شتى من بريطانيا، وصف التقرير بتفصيل دقيق عالمًا حضريًا للطبقة العاملة لا بد أنه بدا لمعظم مثقفي بريطانيا في ذلك العصر غريبًا ومستبعدًا. إذ رصد التقرير وجود سراديب بلغت فيها الفضلات البشرية ارتفاع متر بسبب المجاري الطافحة، ومنازل "يجب أن تغطى فيها الأطعمة" كي لا تكتسب "مذاق المزابل القوي" الذي كان يحمله الذباب المنزلي. ووصف تشادويك كذلك مُدنًا "تطفو فيها النفايات السائلة" المتدفقة من السجون "فتهبط إلى الشوارع العامة كل يومين أو ثلاثة"، حيث تختلط بالدماء السائلة من المسالخ المحلية. وكان تشادويك يؤمن بما يُدعى "نظرية القذارة" وبقدرة الروائح الكريهة على القتل. ومن قبيل المصادفة الحسنة أن توصياته المفصلة تلك حملت في طياتها إجراءات وقائية ضد الأسباب الحقيقية للمرض.
كان الرعب الذي أثاره "التقرير الصحّي" قد نبّه السياسيين المترددين إلى ضرورة فعل شيء ما. فكان أن أسست الحكومة البريطانية عام 1848 إحدى السلطات المعنية بالصحة الوطنية العامة الأولى في العالم، وبرئاسة تشادويك. وفي العام الذي تلا ذلك، كان تفشٍّ للكوليرا الحافزَ غيرَ المتوقّع للعمل باتجاه الإصلاح الصحّي. وما لبث تشادويك أن أطلق حملة على امتداد البلد لدفع المدن والبلدات إلى إشناء نُظم مركزية عامة لتوفير المياه النظيفة للمنازل، مع شبكات صرف صحّي مخطـطة عـلى أسـس سليـمـة لحمـل الفضـلات البشـرية بعيدًا عنها. كان ذلك مشروعًا مكلفا للغاية لكنه حقق تحسينات كبيرة في الأوضاع الصحية للناس ومعدّلات أعمارهم. عندها حذت دول أخرى حذو بريطانيـا؛ ولأول مرة.. أصبحت المدن صالحة للعيش حقًّا.

لم يحدث أيٌّ من ذلك في عصور سحيقة. فالتحوّل من المزرعة إلى المدينة بدأ مع الثورة الصناعية، لكن النوع البشري لم يصبح في معظمه حضريًا أول مرة إلا في عام 2008. وتقدّر "الأمم المتحدة" أن 68 بالمئة من سكان العالم سيعيشون بالمدن مع حلول منتصف هذا القرن؛ ما يعني أن العديد من الناس يحتاجون مجددًا إلى أن يتعلموا أن الانتقال من المزرعة إلى المدن يغيّر طريقة حياتهم. كما أنهم يحتاجون إلى نُظم تجعل نقلتهم تلك آمنة. لكن كثيرًا من الدول النامية لا يمتلك المال الكافي لدفع كلفة الإصلاح الصحّي.
واليوم يفتقر 2.1 مليار إنسان إلى إمدادات مياه آمنة في منازلهم، ويفتقر 4.5 مليار إلى مرافق صحية تُدار بأمان. وكان غياب كلتا الميزتين العاملَ الأساسي الذي أمدّ وباء كوليرا بأسباب الحياة في الآونة الأخيرة في هاييتي، فأمرض فيها ما لا يقل عن 800 ألف شخص وحصد أرواح 10 آلاف على مرّ تسع سنين. على حين، يعيش ضحايا آخرون في مدن آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية الكبرى. وفي أجزاء واسعة من هذه المدن، فإن تلوّث المياه بالبراز شائعٌ كشيوعه في لندن عام 1848، أما حصول سكان تلك الأحياء على الرعاية الطبية الأساسية فيكاد يكون معدومًا. لذا فهم ما زالوا يصابون بأمراض قديمة، مثل الالتهاب الرئوي، وإسهال الأطفال، والسل الذي قتل وحده 1.5 مليون إنسان عام 2018؛ كما أنهم يعانون الأمراض الحديثة نسبيًا مثل الإيدز، الذي يقتل 770 ألف إنسان كل عام. أما الشيء الأكثر شؤمًا، فهو وجود كثير من هذه المدن الضخمة إلى جانب مناطق تسكنها حيوانات برية شديدة التنوّع وتتمتع بمخزون كبير من عوامل المرض المحتملة التي يمكنها الانتقال إلى البشر؛ ما يمثّل وصفة لنشوء جوائح جديدة. لعلّ ويلات جائحة "كوفيد19-" -كحال الكوليرا في لندن زمن "تشادويك"- ستصبح الدافع الذي يحفّز الحكومات على تطبيق إصلاح صحي لكل مجتمع حضري محلّي، بوصفه إجراءً احترازيًا ضمن مجموعة إجراءات لمنع تلك الجوائح من الحدوث.

نظرية الجراثيم.. تغيّر كل شيء

طيلة 200 سنة، طرحت جوقة من الأصوات المجتمعة صيغًا مبدئية لفكرة مفادها أن "حُوَيّانات" (animalcules)، أو جراثيم، تسبب الأمراض. لكن أنصار نظرية طب الأخلاط، ونظرية القذارة، تمكّنوا لبعض الوقت من إخراسهم بالاعتراض بشدّة على فكرتهم. ولكن في القرن التاسع عشر، إذ أصبحت المجاهر أقوى وموزّعة على نطاق أوسع، أخذ باحثون آخرون ينفتحون على عالم الكائنات الحية الدقيقة. وهكذا غدت فكرة أن كائنات حية دقيقة بعينها قد تسبّب أمراضًا معدية محدّدة، بل حتى تبيد مجتمعات بشرية، أكثر إقناعًا.
ويميل التاريخ اليوم لتشريف رجلين هما "لويس بـاستور" و"روبرت كوخ"، بوصفهما أبوَي نظرية الجراثيم، وينسى تلك الجوقة التي شكل عملُها أساسَ عمل هذين الرجلين. ومَردّ ذلك إلى أن الطبيعة البشرية تنجذب إلى بضعة أسماء عظيمة أكثر من انجذابها إلى الطريقة التراكمية والتضافرية التي يحدث بها جل الاكتشافات. ولكن، للإنصاف، علينا أن نذكر كذلك أن بـاستور وكوخ كانا سيدين من سادة العلم التجريبي، وكانا دقيقين في الأساليب التي اتّبعاها، ومتألّقين في اختيار المسار الصحيح من تجربة إلى أخرى. كانا يكرهان بعضهما بعضًا لكونهما ندّين في مجال الاكتشاف نفسه (وبذلك تبرز الطبيعة البشرية مرة أخرى)؛ بيد أن الكراهية بينهما كانت كذلك لأن كلًّا منهما كان شخصًا وطنيا في زمن اقتتل فيه بلداهما: فرنسا وألمانيا. ولكن الفتوحات العلمية التي حقّـقاها حملت البشرية إلى عالم نظرية الجراثيم الزاخر بالأعاجيب. كان بـاستور عالم كيمياء، لا طبيبًا؛ ما أكسبه منظور شخص دخيل ثبُتت فائدته في تلافي المعتقدات الطبية التقليدية. وكانت إحدى دراساته في خمسينيات القرن التاسع عشر قد بدأت بمَهمّة مُضجرة، تتمثل في مساعدة مُصنّع خمور محلي على تحديد سبب مذاق فاسد في بعض دفعات خمر الشمندر. ووجد باستورُ الجانيَ سريعًا، وكان نوعًا من البكتيريا، وأوصى بتسخين عصير الشمندر لمنع ذلك من الحدوث مجددًا. ويمكن القول إنه كان بذلك قد بدأ عملية "البسترة". وبغريزة بـاستور المميزة في حرصه الدائم على البحث أكثر من غيره، مضى في تدوين كل مرحلة من مراحل التخمّر. ولم تكن عملية كيميائية محضة، كما كان يعتقد كثير من المفكّرين "العصريين" آنذاك، بل عملية بيولوجية. فالخميرة، وهي كائن حيّ، استهلكت المواد الغذائية في النقيع وحوّلتها إلى كحول ومنتجات أخرى. وقد تَشجَّع بـاستور بفضل بحثه هذا في مجال التخمّر على رؤية الكائنات الحية في كل مكان وتبيان أنها ناتجة عن تكاثر بيولوجي عادي، لا عن تولّد عفوي. ثم مضى ليحقق قفزة حدسية رائعة، مفادها: إذا كانت الكائنات الحيّة الدقيقة قد سبّبت التخمّر -وبإمكان كائنات حية غير متوقّعة إفساد مجموعة خمور- فإنها قد تسبب كذلك أمراضًا معدية. وكان بـاستور مروّجًا متحمسًا لنفسه. (بل إن بعض المؤرخين العصريين يقولون إنه استخدم أعمال غيره من دون أن ينسبها إليهم، وأنه كان يغالي في تأكيد أهمية أدلّته، وأنه راوغ بشأن طرائق عمله). وكان يعرض مكتشفاته بلغة جريئة، ويحشد الدعم لعمله من ذوي النفوذ في الوسط العلمي الفرنسي. كما أنه انخرط في هجمات شرسة على أي شخص غامر بمخالفته الرأي في أي شيء، وبخاصة نظرية الجراثيم. لكن إثبات صحة حدس بـاستور الرائع تطلّب مساهمة روبرت كوخ، الذي كان آنذاك طبيبًا من بلدة صغيرة يعمل وحيدًا في مختبره المنزلي.
وما يدعو للاستغراب، هو أن كوخ ما زال غير معروف إلى اليوم في أنحاءَ من العالم (مثل الولايات المتحدة) إلا على نطاق ضيّق؛ على حين أن جل الناس قد يستذكر بسرعة اسم مساعد له أقل شأنًا يدعى "يوليوس ريتشارد بيتري"، وهو مخترع "طبق بيتري". ولعلّ مشاعر العداء للألمان التي سادت في القرن الثاني عشر هي التي جعلـت النزعــة إلى تعـظيـم الأفراد تنحرف بعيدًا عن كوخ. كمـا أنـه خسـر بعـض معجَبيه عنـدما طلّـق زوجتـه ليـرتبط بممثلة شابة جميلة، ولأنه في ذلك الزمن نفسه تقريبًا كان قد وعد بإيجاد علاج للسلّ ولم يفِ بوعده. لكن كوخ يستحق تقـديرًا أكبـر. عنـدما كـان طبيـبًا شـابا في أواســط سبيعيـنيات القـرن التاسع عشر بمنطقة ريفية في ما أصبح اليوم بولندا، كان قد أفرد جزءًا من غرفة المعاينة ليكون مختبرًا صغيرا. وهناك، في الأوقات التي لم يكن يعاين فيها مريضًا، درس عيّنات مجهرية من العالم الطبيعي. من بينها دمٌ لخروف كان قد نفق بسبب مرض الجمرة الخبيثة. وبالملاحظة المتأنية المتواصلة، كشف الرجلُ شيئًا فشيئا لغزًا خفيا يتعلق بهذا المرض الذي يصيب الحيوانات بالدرجة الأولى، ويتسبب أحيانًا في موت البشر.

تتكاثر البكتيريا عادةً بالانقسام الزوجي. وفي الظروف المناسبة، يمكن للتضاعف المتكرر لعاملٍ من عوامل المرض -مثل بكتيريا الجمرة الخبيثة- أن يُفضي بحيوانٍ مضيِّفٍ إلى النفوق السريع. وما لم يكن أحدٌ يعلمه قبل كوخ، هو أنه عندما تكون الظروف غير مناسبة لبكتيريا الجمرة الخبيثة، فإنها تستطيع كذلك إنتاج نوع من حُجيرات -أو أبواغ- النجاة. ويمكن لهذا البوغ، المغلّف بقشرة قاسية، أن يظل -على مرّ أجيال- على حاله سالمًا في التراب وهو بحالة سبات، مشَكلًا لُغمًا بيولوجيًا. وشكل ذلك جوابًا محتملًا عن كيفية ظهور الجمرة الخبيثة من العدم أحيانًا، من غير أن تدخل دابة جديدة في القطيع، وعندما لا تكون حالات من هذا المرض قد حدثت طيلة أعوام أو حتى عقود. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يخترع كوخ طريقة لاستنبات البكتيريا في مستنبت مصنَّع، على قطعة من الزجاج يستطيع فحصها بمجهره. وفيها استطاع مراقبة ظهور الأبواغ، ورأى كيف كانت تتحوّل إلى بكتيريا حيّة من جديد، لتنتج تلك البكتيريا في وقت لاحق جيلًا ثانيًا من الأبواغ. ولتِبيان كيف تؤثر الأبواغ في الحيوانات بعد فترة من السبات، قام بحقنها في فئران بريّة (إذ لم تكن فئران التجارب معتمَدة حينها في المختبرات)، فظهرت سريعًا مجموعةٌ جديدة ومُميتة من بكتيريا الجمرة الخبيثة.
نُشــرت دراســة كوخ عن الجمـرة الخبيــثة في أكتــوبر 1876، وشكّلت منعطفاً مهما في تـاريخ البشـرية. فبنـجاحه في إنتـاج أعـراض الجـمرة الخبيثة إنتاجًا متكـررا ومتـنبّأً به في حيوانات التجارب، أثبت الحقيقة التي لطالما طُعن فيها وأثبت أن العصويّـة الجمرية (Bacillus anthracis) هي العامل المسبب للعـدوى. وباختصار، فإن ما أثبته كوخ، كان نظرية المرض بالجراثيم. لم يكن هناك مفرّ من أن يعتمد بـاستور وكوخ على عمل كلٍّ منهما، في الوقت نفسه الذي كان كلٌّ منهما يهاجم الآخر في العلن. فقد ابتكر بـاستور اللقاحات الجديدة الأولى، منذ أوجدَ جينر لقاح الجدري قبل 85 عامًا، شملت لقاحًا للجمرة الخبيثة وآخر لداء الكَلَب. أما كوخ، فصحيحٌ أنه لم يعالج أي مرض، لكنه مضى في مسيرته ليحدد عوامل المرض التي تسبّب بعضًا من أكثر الأمراض المعروفة للبشرية رعبًا، من بينها الكوليرا والسل؛ ولذلك كُرّم بجائزة نوبل عام 1905. كما أنه مهّد الطريق لعلاج كثير من الأمراض باختراعه أدوات خاصة بالأحياء الدقيقة ما زال علماء آخرون يستعملونها إلى اليوم، لتحديد مجموعة ضخمة مذهلة من عوامل المرض المميتة. وبذلك أصبح ممكنًا لأول مرة توفير علاج موجَّه لأي مرضٍ ضمن الأغلبية الساحقة من الأمراض المعدية ومنع حدوثه.

اليوم

كان "مايكل كالاهان"، خبير الأمراض المعدية، قد أصبح عارفًا بجائحة "كوفيد19-" حتى قبل صعوده على متن السفينة "غراند بـرينسـس" في بداية شهر مارس من عام 2020. إذ خَبرَ هذا المرض أول مرة في شهر يناير عندما تبادل مع أعضاء في شبكة شديدة الترابط من الزملاء الخبراء ملاحظات عن عامل المرض الذي ظهر في مدينة ووهان الصينية. وعاين مرضى في سنغافورة أثناء تفشّي المرض فيها، وأَعلَم مسؤولي الحكومة الأميركية في واشنطن بالأماكن التالية التي قد يظهر فيها المرض. وساعد على إخلاء سفينة سياحية في مدينة يوكوهاما اليابانية. ثم أخذ يعالج أوائل الضحايا بوصول المرض إلى بوسطن، حيث يعمل طبيبًا لدى "مستشفى ماساتشوسيتس العام". وإذ شرع الرجلُ يشاهد ويعمل ويتبادل الآراء مع زملائه بشأن المشكلات الخاصة بأجهزة التنفس الصناعي، شهد كيف كان المرض يكشف عن "عدوانه الباهر"؛ أي قدرته على الجثوم "كما لو أنه قنبلة ذكية صغيرة صامتة في مجتمع ما"، إلى أن يجد شخصًا ما "ويصرعه ببساطة". ويستطرد كالاهان قائلًا: "عندما عاينت مريضي الخمسمئة، أُصبت بالرعب. إذ تأكد لي أن هذا الفيروس عدوّ ساكن يتربّص بنا إلى أن تحين فرصة انقضاضه".
ظل كالاهان منذ عقود وجهًا مألوفا على الخطوط الأمامية في مواجهة الجوائح بجميع أنحاء العالم؛ إذ يعمل على إنهاء تفشّيات كلٍّ من إيبولا وسارس و"إتش 5 إن 1"، وفيروسات بحروف أخرى تشكّل جميعًا حساء حروفٍ مميتًا. يصف الرجلُ الخبراءَ الذين يحضرون على مسرح التفشّيات الجديدة بأنهم "نزِقون وسريعو الحركة ويتحدثون باقتضاب"؛ وهو وصف ينسحب عليه شخصيًا. هاتَفتُه لأحصل منه على إجابات عن أسئلتي بشأن التحقيق الذي بين أيديكم، فألقى عليّ أجوبة مطوّلة معقّدة في دفقات مشحونة بالطاقة، مع ميلٍ لأن يقفز بطريقة مربكة بين عالمي الطب والجغرافيا. ولكن كالاهان يبرز حتى بين زملائه الماهرين المندفعين بشدّة للعمل، بفضل قدرته على جمع المعلومات وتأليفها خلال الأزمات للحصول بسرعة على أفضل خيار متاح. لذا تجده على قائمة الاتصال السريع لتشكيلة من المنظّمات، بدءًا من المستشفيات والمؤسسات العالمية غير الربحية المعنية بالصحة، وانتهاءً بالحكومة الأميركية، حيث يعمل مستشارًا خاصا في شأن فيروس "كورونا" لدى مساعد الأمين العام لـ "قسم التأهب والاستجابة". وبين حين وآخر، يعود إلى منزله لينضم إلى عائلته في ولاية كولورادو -حيث يعمل بالهاتف والحاسوب المحمول- ويقطع عليه عملَه (كما يحدث مع كل الناس خلال الحجر الصحي) نباحُ كلبه، أو طفله الذي بحاجة إلى من يصلح له درّاجته، والدعوة الأبدية إلى متابعة المهام المنزلية المملّة المهملة.

اختار كالاهان هذه المسيرة المهنية بسبب فترة عمل قاسية كان قد أمضاها لدى مخيّمات اللاجئين في شرق الكونغو الديمقراطية في أواخر تسعينيات القرن الماضي. إذ كان قد تعلّم خلالها أن أي مرض معدٍ في العالم النامي هو "مصيبة تتجلّى تدريجيًا، وتمكث إلى أجلٍ غير مسمّى. فأصبحتُ مدفوعًا بشدّة لمواجهة كل هذه المآسي القاسية"، على حد تعبير كالاهان. كما علّمته خبرته اللاحقة مع إيبولا وغيرها من الأمراض المتفشّية في غرب إفريقيا أن معالجة كل حالة على حدة ليست كافية. بل يَجدر توفير التدريب أو اللوازم للطواقم الطبية المحلية؛ ما من شأنه أن "يؤدي إلى تغييرات إيجابية كبيرة في أي قرية أو مجتمع محلي أو مستشفى. وتلك التغييرات ستدوم طويلًا بعد مغادرتنا". أصبحت تلكَ فلسفة كالاهان التي يسير على هديها. وبعمله في برنامجٍ تديره وزارة الخارجية الأميركية، ســاعد أطبــاء وعلماء كانوا قد سُرّحوا من العمل في برامــج للأسلحــة الكيميــائيــة والبيولوجية في روســيا مــا بعـــد العهــد السوفيــتي، عـــلى إعــادة التأهّـل ليصبـحوا باحثين سلميين في مجـال الأمـراض المعدية. وقد أدى بــه ذلك العمـل إلى قضـاء نحو عقــد من الزمن لدى "وكالة مشروعــات البحــوث المتــطورة الدفاعيـة الخاصــة بالبنــتاغون". وفيها طوّر برنامجًا يحمل اسم "Prophecy" (النبوءة) للتنبّؤ بالأمراض الناشئة واستباقها.
إن الخبرة التي يمتلكها كالاهان قد أتاحت له نظرة معمّقة غير اعتيادية إلى الكيفية التي يمكننا بها التأقلم مع مرض "كوفيد19-"، وما سيتبعه من أمراض ناشئة. ويرى أن حماية صحتنا قد تعتمد على إيجاد طرق لمساعدة دول أخرى على تأمين حاجاتها هي، حتى وإن كانت الحكومة الوطنية لذلك البلد تُظهر العداء وقد يبدو أن تلك الحاجات لا تخدم دائمًا مصالحنا الوطنية. فالمسألة تتعلّق بمكاسب بعيدة الأجل. ففي إندونيسيا مثلًا، أدى الإفراط في صيد السمك إلى تدمير مخزون سواحل البلد من الغذاء البحري. ولمّا كان أكل لحم الخنزير محرمًا بموجب الشريعة الإسلامية، أصبح توفير مخزون آمن من البروتين مشكلة كبيرة؛ لا سيما بعد أن تسبّب تفشٍّ لإنفلونزا الطيور بخسائر فادحة في تجارة الدواجن. وعليه، فقد ركّز برنامج "Prophecy" بدايةً على صون المتوفّر من الدجاج. وكان من بين الإجراءات التي وفّرها البرنامج، إمكانية محليــة لتحـديد تسلسـل المورّثات؛ مــا أتاح لإندونيسيا حصر عوامل المرض بنفسها، مقلّصةً اعتمادها على الدول الغربية. كانت هذه المبادرة من النوع الذي قد يتعرّض بسهولة لجلسة مساءلة في "الكونغرس" الأميركي، أو من النقاد أنصار الانعزالية. لكن في إندونيسيا، يقول كالاهان، أدت المبادرة إلى "رفع مقام الولايات المتحدة هناك، وقد تمكّنا من الوصول إلى النفائس"، قاصدًا بذلك نجاحهم في مراقبة عوامل الأمراض البشرية. وفي المحصلة، "صارت 'داربـا' شريكًا مرحّبًا به، بعدما كانت ستبقى في نظر الإندونيسيين مجرّد وكالة عسكرية سرية".
أما الاستراتيجية الأخرى التي اتبعها برنامج "Prophecy" فهي العثور على شباب أطباء متخصّصين في الأمراض المعدية بالدول النامية، وبناء علاقات معهم تمتـد مــدى العمــر. وقــد يتطلـب ذلك تجهيزهم بتقنيات جديدة وإحضارهم إلى كليات الطب الأميركية لتلقّي مزيد من التدريب، أو توفير منح لهم لإجراء بحوث جديدة. يقول كالاهان في شرح الاستراتيجيــة: ".. وبـدعم الشـركاء الأجـانب، يرتقي هؤلاء في المراتب، ويصبحون قادة في مجـال تخصـصهم؛ فينـتج عن ذلك أمران: ينشأ لديهـم مصدر مستـدام لتمـويـل بحوثـهم في بلدهم الأم، ونحصل نحن على مبعوث شديد الامتنان لنا قد بلغ الأوج.. في الاستخبارات الخاصة بعوامل المرض". من بين هؤلاء الشركاء الأجانب، باحثٌ روسي كان كالاهان قد ساعده على تحقيق النقلة من العمل في مجال الأسلحة البيولوجيـة إلى مجـال رصـد الأمراض. وفي عـام 2005، رصـد مختبر ذاك الباحث تفشيًّا لإنفلونزا "إتش 5 إن 1"، وهي إنفلونزا تصيب الطيور وتستطيع تدمير الدواجن والطيور البرية. كما أنها قادرة على الانتقال إلى البشر وقتل الأطفال الصغار بتدمير رئاتهم. كان هذا الوباء حينها يتحرك باتجاه الشمال الشرقي إلى حيث تتقاطع خطوط هجرة الطيور الآسيوية والأميركية في منطقة "مضيق بيرنغ". وأتاح ذلك التحذير المبكر للعلماء الأميركيين إطلاق برنامج لفحص الطيور المهاجرة إلى ألاسكا ومنع المرض من دخول القارة. وقد انتهى برنامج "Prophecy" قبل بضعة أعوام، بعد انتهاء عمل كالاهان لدى وكالة "داربـا". (تقول الوكالة إنه من المقرر أن يستحدث كالاهان برامج جديدة من دون أن يشرف عليها. لكن بعض الأدوات التي أوجدها البرنامج قد ساعد فيما بعد على تطوير لقاحات جديدة وكذلك على التنبّؤ بالأطوار التي تصير فيها الأمراض مقاومة للمضادّات الحيوية). وقد مالت الحكومات في مختلف أنحاء العالم ميلًا كبيرا نحو التقليل من شأن خطر الجوائح، وإلى الشح في تمويل البرامج الخاصة باتقائها. لذا كانت الحكومة الأميركية قد سمحت في أكتوبر الماضي بإنهاء برنامج "Predict"، وهو برنامج آخر ينصبّ تركيزه على الأمراض الناشئة. ولم يمضِ شهر بعدها حتى ظهرت أول حالة إصابة بمرض "كوفيد19-" في الصين. فما لبث الضحايا الأميركيون أن انضمّوا إلى صفوف قتلى المرض في العالم.

وما لا شك فيه أن الجائحة الحالية ستعزز الجهود الرامية إلى التنبؤ بالجوائح والسيطرة عليها؛ حتى إن لم يدم ذلك سوى بعض الوقت. ولكن لا أحد يعلم الشكل الذي ستتخذه إجراءات الوقاية ضد المرض، ولا كلفتها، ولا الكيفية التي ستدفع بها الاقتصادات المدمَّرة كلفة هذه الإجراءات. هل ستشارك الأمم في عملية التعاون الدولي ذات المكاسب بعيدة الأجل؟ أم أن الاتجاه نحو المصالح الوطنية الذاتية قصيرة المدى سيصبح هو الغالب؟ هل سيقبل مجتمعٌ إنفاق مبالغ كبيرة لمنع الجوائح من الحدوث؟ وهل سنظل ننفق إلى أجلٍ غير مسمّى حتى وإن كان ذلك المنع يعني شيئًا غير ملموس نحصل عليه لقاء أموالنا تلك: ألا وهو معرفتنا أن الكارثة التي كنا نخشاها لم تقع؟
لقد دخلنا عالمًا جديدا مخيفا؛ أو لعلّنا عدنا إلى عالم أجدادنا القديم المبتلى بالأمراض. أما العبرة الأهم التي يجب أن نستخلصها من التاريخ فهي أنه: عندما تُرفع عنا هذه الجائحة في نهاية المطاف، فإن نسيان ما حدث سيكلّفنا كثيرًا. إذ لا يمكننا أن نمضي هكذا وكأن شيئًا لم يكن. ففي مكانٍ ما من كوكبنا، تتأهّب الجائحة التالية.. يتأهّب مَـلَـك الدمار التالي لأن يبسط جناحيه قبل أن ينطلق.

هكـذا تُغيّـرنا الجـوائـح..

يخزَّن تابوتٌ يضم جثة شخص أجنبي كان قد مات خلال جائحة "كوفيد19-" في مستودع للجثث بمدينة ميلانو الإيطالية، إلى أن يصبح من الممكن إرساله إلى بلد الشخص المتوفّى. وقد امتلأت مستودعات الجثث في إقليم لومبارديا الإيطالي إلى درجة استدعت إرسال بعض الجثث إلى...
فهل سنذكر الدروس التي تعلّمناها بعـد أن يُرفـع عـنا البـلاء؟ ما الذي تعلّمناه من التـاريـخ؟ وما الذي يعنيه ذلك لنا اليوم؟في يوم أحدٍ مطلعَ شهر مارس، وبينما كانت جائحة "كوفيد19-" تتفشّى بسرعة مجتاحةً العالم، كان مركب لخفر السواحل الأميركي يحمل اسم...
فهل سنذكر الدروس التي تعلّمناها بعـد أن يُرفـع عـنا البـلاء؟ ما الذي تعلّمناه من التـاريـخ؟ وما الذي يعنيه ذلك لنا اليوم؟

في يوم أحدٍ مطلعَ شهر مارس، وبينما كانت جائحة "كوفيد19-" تتفشّى بسرعة مجتاحةً العالم، كان مركب لخفر السواحل الأميركي يحمل اسم "بـايك" يتأرجح وهو في طريقه إلى السفينة السياحية "غراند بـرينسـس" التي كانت تنتظر في عرض البحر على بعد 23 كيلومترًا عن ساحل كاليفورنيا. كان المركب في مَهمّة لإيصال فريق طبي متخصص في الكوارث لفرز الأشخاص المرضى عن الذين بدوا أصحّاء من بين ركّاب السفينة البالغ عددهم 3500 شخص؛ وذلك استعدادًا لإيصالهم إلى اليابسة. وعلى متن المركب "بـايك"، كان "مايكل كالاهان"، خبير أمراض مُعْدية يجرّ وراءه عقودًا من الخبرة في بؤر الأوبئة بشتى أنحاء العالم، ينتظر مع فريقه وقد استبد به القيء من جرّاء دوار البحر. وقُبيل الغروب، اقترب المركب من قارب أُنزل من السفينة. في تلك اللحظة، كان "كالاهان" (وعمره 57 عامًا) وفريقه ما يزالون يعانون دوار البحر، وكانوا محدودي السمع والبصر وهم مرتدين لباس الاحتواء البيولوجي الكامل. وثبوا إلى القارب، الواحد تلو الآخر، ومن ثم تسلقوا سلَّمًا أفضى بهم إلى بدن السفينة السياحية البالغ طولها 57 مترًا، للشروع في عملهم.
كان العالم برمّته حينها يثب نحو المجهول؛ أو بالأحرى، نحو المنسيّ من الماضي. إذ لطالما ابتُـلي البشر بالأوبئة، وبعدها بالجوائح مذ بدأنا نجول في أرجاء المعمورة. ولقد علّمتنا دروسًا مهمة؛ يا ليتنا نتمكن من تذكّرها بعد زوال هذه المعاناة ورفع البلاء. وللجوائح الجديدة، مثل "كوفيد19-"، أسلوبٌ خاص لجعلنا نتذكر مدى سهولة أن يُعدي بعضنا بعضًا، وبخاصة أن نعدي أحباءنا؛ وكيف يفرّقنا الخوف من العدوى؛ ومدى التأثير المدمّر للعزلة؛ وكيف أن المرضى، مع ذلك، كثيرًا ما يموتون بائسين وحدَهم بلا مؤنس. لكن أهم ما ذكّرتنا به الجائحة الجديدة هو أننا لطالما عوّلنا على قلة من الأشخاص الشجعان من أمثال "كالاهان" (وسنتابع قصّته لاحقًا) الذين يخاطرون بحياتهم لمكافحة الأمراض. ولطالما ظلت عيوب هؤلاء الأشخاص الكثيرة، بوصفهم بشرًا عاديين، حاجزًا أمام تصنيفهم أبطالًا بالمفهوم التقليدي. وخلال الجوائح السابقة، كان أغلبهم مستعدًّا لتجاهل أنماط التفكير التقليدي، أو للتعلّم من أدلة صغيرة قد تبدو معدومة الأهمية، أو للاستماع إلى أشخاص غير متوقعين. وكانوا مستعدين للتسليم بأن ما يحدث هناك في حيّ موحش أو ركن منسيّ من العالم، قد يحدث بسهولة هنا كذلك. ولنفهم هؤلاء الأشخاص الذين يُسهمون في إنهاء الجوائح، فإن أفضل منطلق هو أحد أسوأ الأمراض في تاريخ البشرية.

إيجـاد عـلاج
خلال محاضرة في بوسطن في أوائل عام 1721، أعلن "كاتن ماثر"، وكان كاهنًا يتبع المذهب التطهيري البروتستانتي ويُكثر من تحذير أتباعه من نار جهنّم، مجيء "مَـلَـك الدمار"؛ مشيرًا إلى مرض مرعب سينقض على مدينة بوسطن. أما إنجلترا فكان المرض يحاصرها سلفًا. وكان قد سبق لـ "العالم الجديد" أن خَبرَ آثاره الفظيعة من قبل؛ إذ كان ينتقل إلى المستعمرات البريطانية في أمواج لا يمكن التنبّؤ بها على مرّ 200 سنة، مصيبًا المستوطنين بالرعب والبؤس، وماحيًا مجتمعات أميركية أصلية بالكامل من الوجود. ولكن في العام المذكور، كانت قد مرّت 19 سنة مُذْ شهدت بوسطن آخر وباء، وهو زمن كافٍ لنشوء جيل جديد من الضحايا. وعندما كانت تظهر أولى البقع الحمراء الفاتحة على بشرة شخصٍ ما، كان يُطمئنُ نفسه بالقول إن ما أصابه ليس إلا الحصبة. ولكن البقع كانت تتحوّل إلى نتوءات مملوءة بسائل، وتبرز على سطح الجلد كما لو أنها جزر بركانية. وكان يَحدث أن تسدّ مئات من هذه البثور كلًّا من العينين، والمجاري التنفسية، وتنتشر على كامل الجسم، جاعلةً مجرّد التنفّس عذابًا. وكانت تفوح من البثور رائحة اللحم الفاسد. وكثيرًا ما كان المرض يعمي الناجين منه أو يعيقهم أو يشوّههم بشدّة. (وفي هذا السياق، كان رجل قد أمر طبيبًا يعتني بامرأة بريطانية قائلًا له: "حافظ على جمالها، أو اقتلها"). في أبريل من ذلك العام، تسلّل مرض الجدري بهدوء إلى ميناء بوسطن.
في البداية، تجاهل الناس تفشّي المرض، وفي ذلك كانوا يتصرّفون إلى حدٍّ بعيد كما يتصرّف الناس في زمننا هذا. ولكنْ بدءًا من عام 1721، علّم الجدري دول الغرب درسًا جديدا مهمًا للغاية، مفاده أن بمقدور البشر منع الجوائح من الحدوث. إذ نستطيع منع انتشارها، ونستطيع أحيانًا القضاء عليها، عند توفّر العزيمة لدينا. وكان ثلاثة أشخاص غير محتملين قد حملوا لواء الحرب على الجوائح ذلك العام في بوسطن. كان بينهم عبد إفريقيّ المولد يدعى "أونيسيموس" (وهي تسمية إنجيلية كان الكاهن "ماثر" قد أطلقها عليه)، وطبيب وجرّاح مبتكر اسمه "زابدييل بويلستون". لكن أقل الشخصيات الثلاث احتمالًا للاضطلاع بهذا الدور كان "ماثر" نفسه، إذ كان يتمتع بشخصية مضطربة، ومغرورة، وغير مستقرة عاطفيًا؛ وعلاوة على ذلك كان مكروهًا على نطاق واسع بوصفه أحد الأطراف الظالمة الفاعلة التي كانت وراء حملات مطاردة الساحرات وإعدامهن في مدينة "سالم" قبل 29 عامًا من ذلك. ولكن عندها، بدا الوضع كما لو أن ماثر كان يُعِـدّ العدّة طيلة حياته لتلك اللحظة؛ وللتكفير عن ذنبه. فقد كان طالبَ عِلم وطبّ نجيبًا منذ الصغر، ولا شك أن كفاحه ضد الجدري كان كفاحًا شخصيًا كذلك. إذ كان قد فقد زوجتين تواليًا و 13 ولدًا من أولاده الخمسة عشر أمام عينيه؛ كثيرٌ منهم تُوفيّ من جراء أمراض مُعدية. لذا كان يقرأ الدوريات العلمية البريطانية ويَدرس الممارسات الطبية لسكان أميركا الأصليين. كما أنه أصغى جيدًا إلى "خادمه" أونيسيموس الذي وصفه بأنه "مناصر ذكي" عندما أخبره عن طريقة متّبعة في إفريقيا للاحتراز من الجدري وأراه الندوب التي تخلّفها. ثم إن تفاصيل عن تلك الطريقة كانت تُتداول في إنجلترا، بناءً على تقارير من تركيا.
وبينما أخذ الجدري يتفشّى، لفت ماثر انتباه الأطباء في بوسطن إلى ما وصفه بأنه "طريقة رائعة مستعملة في الآونة الأخيرة في عدد من أنحاء العالم" لوضع حدّ للمرض. وكانت الطريقة تتلخّص في أخذ مريض مصاب بالجدري وثقب إحدى بثوره الناضجة لسحب القيح أو ما سمّاه "المادّة الجدريّة" منها. ثم كان يُوضع جزء من هذه المادة في جرح مفتَعل في جلد شخص ما زال بكامل صحّته. وكان وعد "التجدير" -أو التطعيم- يتمثّل في أنه يوَلّد المناعة بعد أن يعيش الخاضع للعلاج حالة طفيفة من هذا المرض الذي كان من أكثر الأمراض فتكًا بالبشر على وجه الأرض. ووجد ماثر إفادات وندوبًا مؤيّدة لمسعاه في ما وصفه بأنه "عدد كبير" من أبناء بوسطن المولودين في إفريقيا. لكن الأوساط الطبية في المدينة انكمشت رعبًا من اقتراحه. على أن الطبيب بويلستون كان قد عايش سلفًا الرعب المقترن بالجدري، إذ كـاد يفقد حياته بسببه قبل 19 عامًا من ذلك، وكان يخشى أن يتعرّض أولاده الثمانية إلى "خطر يومي" بسبب عمله في مجال الطبّ. لذا قرّر في 26 يونيو 1721، بعد أن فحص الدلائل الطبية على نجاعة التطعيم، أن يجري أول عملية تجدير له على ابنه الذي كان في ربيعه السادس، وكذلك على اثنين من عبيده. فكانت النتيجة "حالة من الجدري لطيفة ومبشّرة بالنجاح"؛ فأخذ يطعّم المرضى الساعين إلى حماية أنفسهم ضد هذا المرض في شكله التام.
في بادئ الأمر، رأى بعض أهالي المدينة أن العلاج لا يقلّ رعبًا عن المرض نفسه. وكانوا يخشون أن يكون المرضى المعالجون بالتجدير ممن لم يتعافوا تمامًا منه ما زالوا مُعدين. واعترض الأطباء على الإجراء مُدَّعينَ أنه يعارض الممارسات الطبّية السائدة التي ظلّت ثابتًة طيلة 2000 سنة والتي تفيد أن المرض هو نتيجة خلل في توازن "أخلاط" الجسم الأربعة، والذي كثيرًا ما تتسبب به روائحٌ خبيثة و"لوثاتٌ" لم يكن تعريفها واضحًا، أو هواء فاسد. لم يكن بمقدور الباعة والعمّال تحمّل تكاليف حماية عوائلهم بسبب الثمن الباهظ للتطعيم وما ترتّب عليه من عناية طبية بعده وقبله. وكان الرعب والاستياء الطبقي، فضلًا عن شبح حملات مطاردة الساحرات وإعدامهن، قد أسهمت جميعًا في استهداف ماثر. وذات ليلة، رُميت قنبلة نارية داخل منزله عبر نافذة غرفة النوم. ولكن فتيلها سقط عنها مصادفةً فبلغت الأرض من غير أن تُلحق أي ضرر بالمكان. وما يثير الاهتمام كذلك، هو أن ورقةً كانت مربوطة بالقنبلة حملت الرسالة التالية: "كاتن ماثر، أيها الكلب، عليك اللعنة! سأطعّمك بهذه.. ليأخذ الجدري حياتك!".

وبحلول الوقت الذي انتهى فيه الوباء أخيرًا، كان نحو 6000 مواطن -أي أكثر من نصف سكّان بوسطن آنذاك- قد أصيبوا بالجـدري، توفّي منـهم بالمـرض 844 شخـصا، أي نحـو 15 بالمئة منهـم. بالمقـابـل، لم يـمت مـن بين أولئك الذين خضعوا لعملية التجدير سوى 2 بالمئة. وما لبث إدخال تحسينات على الطريقة أن قلّــص النسبة إلى ما دون نصــفٍ بالمئة؛ فغدا التجدير إجراءً متّبعًا. وعنـدما أصـيبت بوسـطن بموجـة ثانيـة من وبـاء الجـدري عـام 1792، كـان التجـاوب قد انقلب تمامًا؛ إذ تم تطعيم 9200 من السكان المحليـين، ولم يُصَب منهم بالجدري الطبيعي سوى 232 شخصًا. المفارقة هي أنه لم يكن أحد من بين الشخصيات الثلاث التي أدخلت التجدير إلى أميركا الشمالية، قد حظي بتكريم يُذكر. إذ اختفى أونيسيموس من سجلاّت التاريخ بعد أن اشترى حريّته، وتجاهل المؤرّخون بذلك المساهمة الإفريقية في القضاء على الوباء. أما بويلستون فلم يعد يذكره إلا قليل من الناس. وصحيحٌ أن الاسم "بويلستون" قد أُطلق على شوارع وأبنية في بوسطن وعلى بلدة مجاورة لها، لكن التسمية كانت في الواقع تشريفًا لحفيده الذي كان تاجرًا ثريًا. وأخيرًا، فإن كاتن ماثر لم يفز بغفران أهالي بوسطن. لكنه استمر في التفكير بمسائل طبية، وكتب في المحصلة عن السبب الحقيقي لجميع الأوبئة؛ إذ لخّصه كما يلي: في الظروف الأنسب، فإن كائنات حية دقيقة -وكانت قد بدأت للتو تُشاهَد بالمجهر- "تتضاعف بسرعة تضاعفًا هائلًا؛ وقد يكون لها نصيبٌ أكبر في نشوء أمراض أكثر مما يتصوره الناس عامة"، على حد قوله. لكن مخطوطته تلك، المليئة بالغرابة ما عدا ملاحظته بشأن سبب الأوبئة، لم تُنشَر. وتطلّب إدراك العلماء الدورَ الحاسمَ للكائنات الحية الدقيقة بوصفها عواملَ لنقل المرض، مرورَ 150 سنة أخرى.
وقد ولّد السعي إلى تطبيق التجدير في أميركا الشمالية وأوروبا تأثيرًا آخر غير متوقع. ففي عام 1757، في بلدة صغيرة بجنوب إنجلترا، خضع للتجدير "طفلٌ معافًى أحمر الوجنتين" في ربيعه الثامن. وكانت تجربة مريرة، لأن الأطباء المحكومين بالتقاليد طالبوا بتطبيق إجراء تحضيري من النزف والتطهير. وعندما غدا الطفل نفسه طبيبًا ريفيًا، كتب عن "رأي مشوَّش سائد" لدى منتجي الألبان مفاده أن مرضًا يصيب الأبقار، يدعى جدري البقر، قد يكون "مانعًا من الإصابة بمرض الجدري [البشري]". وترك احتمالُ إيجاد طريقة أفضل للوقاية ضد مرض الجدري انطباعًا قويًا في نفس ذاك الطبيب، وكان اسمه "إدوارد جينر". ولكن، مرّت عقود من غير أن يحظى ذلك العلاج المقترَح بالتطبيق، إلى أن وجد جينر نفسُه فرصتَه أخيرًا.
ففي 14 مايو 1796، طبّق جينر ما بدا كما لو أنه تجدير على طفل كان كذلك في ربيعه الثامن، واسمه "جيمز فيـبس"، لكن باستعمال مادة من شابّة أصيبت بجدري البقر. فكان ذلك بداية التلقيح الحديث، والذي اشتقّ مصطلحه الإنجليزي "vaccination" مـــن كلمــة "vacca" اللاتيــنية التي تعــني "بقرة". وعلى الفور ظهر معارضو التلقيح الأوائل في مظاهرة غاضبة. إذ كان هؤلاء يخشون أشياء كثيرة، من بينها أن تظهر في الناس المعالَجين بالتلقيح نزعات شبيهة بنزعات البقر، أو أن يصابوا بأمراض حيوانية، أو أن ينمو لهم قرنان. ولكن ثبت أن التلقيح آمَن وأكثر فاعلية من التجدير؛ ما أدى إلى انتشاره سريعًا على امتداد المعمورة. ظل الجدري يحصد أرواح البشر؛ إذ قتل في القرن العشرين وحده ما يُقدَّر بـ 300 مليون إنسان. ولكن في مايو من عام 1980، أعلنت "منظمة الصحة العالمية" القضاء على الجدري بفضل حملة تلقيح عالمية حثيثة. فبحلول ذلك التاريخ، كان لقاح جينر قد أصبح النموذج المتّبع لعدد كبير من اللقاحات الأخرى. وقد خلّصت هذه اللقاحات حياتنا من أمراض معدية كثيرة للغاية إلى درجة أننا عشنا مرحلةً قصيرة فاصلة من السعادة حسبنا خلالها أن زمن أشياء مثل الجوائح قد ولّى إلى غير عودة.

عندما غيّرت الكوليرا المدن

لم يكن الناس راغبين بتقبّل الدرس التالي المهم في مجال القضاء على الجوائح، لولا انتشار مرض من أكثر الأمراض التي عرفوها رعبًا. فعندما سُلِّط سوط العذاب هذا على البشرية عام 1817 انطلاقًا من مدينة جيسور -التي تقع في ما أصبح اليوم بنغلادش- صدمت شدّته الجديدة حتى سكانها؛ مع أنهم كانوا قد عاشوا أهواله في موجات تفشٍّ سابقة.
كتب مسؤول إقليمي واصفًا هجمة المرض بأنها "كانت مفاجئة ومروّعة بشدّة إلى درجة أن" السكان المذهولين "فرّوا في جماعات إلى الريف لكونه الوسيلة الوحيدة للنجاة من الموت المحدق بهم". لا عجب؛ ففي بضعة أسابيع لا غير، كان 10 آلاف شخص قد ماتوا في هذا الإقليم وحده. وكانت مبادلات تجارية مزدهرة قد حملت التفشّي الجديد برًّا وقطعت به المحيطات ليتحوّل بذلك إلى جائحة. وكان بمقدور قرّاء الصحف متابعة التقارير الواردة من المناطق التي كانت تواجه الجائحة تباعًا وهي تزحف باتجاههم. لم تقتصر فداحة المرض على أنه كان يقتل نصف المصابين وأنه يقتلهم بسرعة فظيعة؛ فما كان مرعبًا على وجه الخصوص، الطريقة التي كان الناس يموتون بها، إذ إن شخصًا مصابا قد يبدو للحظة في مقتبل الشباب وإذا به في اللحظة التالية يميع ويسيل قيئًا وإسهالًا لا يمكن السيطرة عليهما. وكانت عضلات المصاب تلتوي في حالات من الشدّ والتشنّجات. وصار تنفّسه "استجداءً للهواء" في شهقات يائسة. وكانت الضحايا تموت وهي تبدو بكامل وعيها، وهي محدّقة، مشدوهة، والسائل المائي ما زال يُعتصَر من أمعائها.
وعندما كان الناس يتجادلون بشأن سبب هذا الخطر، كانت "اللَّوثات" والروائح الكريهة موضع الاشتباه الأول. وركّز جميع المصلحين الصحّيين في معظمهم بهوسٍ على الروائح، وكان ذلك يعود في جانبٍ منه إلى وجودها في كل مكان. فقد كانت الروائح الواخزة تفوح من المعامل، وحظائر الخنازير المجاورة للمنازل، وأطنان روث الخيول والماشية، والمدابغ، ومقابر الموتى الضحلة؛ وهذا طبعًا فضلًا عن البراز البشري المنتشر في كل مكان. ففي نظر الحركة الصحية، كانت "الزفرات النتنة" هي أصل المرض. في القرن التاسع عشر، إذ أخذ الناس يغادرون المزارع قاصدين المدن حيث كانوا يقفون في طوابير للحصول على وظيفة في هذا المعمل أو ذاك، كانت البشرية ما تزال بحاجة ماسة إلى دروس في كيفية العيش معًا من غير أن تموت. والممارسات التي كانت تبدو غير مؤذية في المزارع، مثل انعدام صرفٍ صحيّ للفضلات، تبيّن أنها قاتلة في المدن. وهكذا فإن العوائل التي اجتمعت في مساكن بعضها فوق بعض ضمن الأحياء الفقيرة القذرة للمدن، كانت تسري فيها حمّى التيفوئيد والزحار والسل والكوليرا وغيرها من الأمراض المعدية.. ثم ما تلبث أن تسري فيها من جديد.
أما أعظم معلّم في مجال الإصلاح الصحّي، فكان "إدوين تشاويك"، وهو موظف حكومي بريطاني يوحي شكلُه بأنه من شخصيات الروائي "تشارلز ديكنز". إذ كان بيروقراطيا طويل القامة مستدير الوجه، يغطّي صلعته التي خلّفها شعره المنحسر بخصلات من جانبي رأسه، ويرمق الناس من عينيه ثقيلتي الجفون بنظراتٍ تجمع بين الازدراء وإصدار الأحكام. وقد وصفه أحد كتّاب السِّيَر بأنه كان "مثالًا بارزا لشخصية مملّة.. في زمنٍ ازدهرت فيه المخلوقات البشرية المملة". لكنه في الوقت نفسه، اكتسب سمعة بوصفه بارعًا في تعلّم حقائق أي مشكلة كان يدرسها، إذ يتفانى في العمل لحل تلك المشكلة.
وفي عام 1842، كتب تشادويك تقريرًا نشرته الحكومة البريطانية ولقي رواجًا كبيرًا حينها؛ وهو يُعرف الآن باسم "التقرير الصحّي". فاستنادًا إلى إفادات جُمعت في أنحاء شتى من بريطانيا، وصف التقرير بتفصيل دقيق عالمًا حضريًا للطبقة العاملة لا بد أنه بدا لمعظم مثقفي بريطانيا في ذلك العصر غريبًا ومستبعدًا. إذ رصد التقرير وجود سراديب بلغت فيها الفضلات البشرية ارتفاع متر بسبب المجاري الطافحة، ومنازل "يجب أن تغطى فيها الأطعمة" كي لا تكتسب "مذاق المزابل القوي" الذي كان يحمله الذباب المنزلي. ووصف تشادويك كذلك مُدنًا "تطفو فيها النفايات السائلة" المتدفقة من السجون "فتهبط إلى الشوارع العامة كل يومين أو ثلاثة"، حيث تختلط بالدماء السائلة من المسالخ المحلية. وكان تشادويك يؤمن بما يُدعى "نظرية القذارة" وبقدرة الروائح الكريهة على القتل. ومن قبيل المصادفة الحسنة أن توصياته المفصلة تلك حملت في طياتها إجراءات وقائية ضد الأسباب الحقيقية للمرض.
كان الرعب الذي أثاره "التقرير الصحّي" قد نبّه السياسيين المترددين إلى ضرورة فعل شيء ما. فكان أن أسست الحكومة البريطانية عام 1848 إحدى السلطات المعنية بالصحة الوطنية العامة الأولى في العالم، وبرئاسة تشادويك. وفي العام الذي تلا ذلك، كان تفشٍّ للكوليرا الحافزَ غيرَ المتوقّع للعمل باتجاه الإصلاح الصحّي. وما لبث تشادويك أن أطلق حملة على امتداد البلد لدفع المدن والبلدات إلى إشناء نُظم مركزية عامة لتوفير المياه النظيفة للمنازل، مع شبكات صرف صحّي مخطـطة عـلى أسـس سليـمـة لحمـل الفضـلات البشـرية بعيدًا عنها. كان ذلك مشروعًا مكلفا للغاية لكنه حقق تحسينات كبيرة في الأوضاع الصحية للناس ومعدّلات أعمارهم. عندها حذت دول أخرى حذو بريطانيـا؛ ولأول مرة.. أصبحت المدن صالحة للعيش حقًّا.

لم يحدث أيٌّ من ذلك في عصور سحيقة. فالتحوّل من المزرعة إلى المدينة بدأ مع الثورة الصناعية، لكن النوع البشري لم يصبح في معظمه حضريًا أول مرة إلا في عام 2008. وتقدّر "الأمم المتحدة" أن 68 بالمئة من سكان العالم سيعيشون بالمدن مع حلول منتصف هذا القرن؛ ما يعني أن العديد من الناس يحتاجون مجددًا إلى أن يتعلموا أن الانتقال من المزرعة إلى المدن يغيّر طريقة حياتهم. كما أنهم يحتاجون إلى نُظم تجعل نقلتهم تلك آمنة. لكن كثيرًا من الدول النامية لا يمتلك المال الكافي لدفع كلفة الإصلاح الصحّي.
واليوم يفتقر 2.1 مليار إنسان إلى إمدادات مياه آمنة في منازلهم، ويفتقر 4.5 مليار إلى مرافق صحية تُدار بأمان. وكان غياب كلتا الميزتين العاملَ الأساسي الذي أمدّ وباء كوليرا بأسباب الحياة في الآونة الأخيرة في هاييتي، فأمرض فيها ما لا يقل عن 800 ألف شخص وحصد أرواح 10 آلاف على مرّ تسع سنين. على حين، يعيش ضحايا آخرون في مدن آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية الكبرى. وفي أجزاء واسعة من هذه المدن، فإن تلوّث المياه بالبراز شائعٌ كشيوعه في لندن عام 1848، أما حصول سكان تلك الأحياء على الرعاية الطبية الأساسية فيكاد يكون معدومًا. لذا فهم ما زالوا يصابون بأمراض قديمة، مثل الالتهاب الرئوي، وإسهال الأطفال، والسل الذي قتل وحده 1.5 مليون إنسان عام 2018؛ كما أنهم يعانون الأمراض الحديثة نسبيًا مثل الإيدز، الذي يقتل 770 ألف إنسان كل عام. أما الشيء الأكثر شؤمًا، فهو وجود كثير من هذه المدن الضخمة إلى جانب مناطق تسكنها حيوانات برية شديدة التنوّع وتتمتع بمخزون كبير من عوامل المرض المحتملة التي يمكنها الانتقال إلى البشر؛ ما يمثّل وصفة لنشوء جوائح جديدة. لعلّ ويلات جائحة "كوفيد19-" -كحال الكوليرا في لندن زمن "تشادويك"- ستصبح الدافع الذي يحفّز الحكومات على تطبيق إصلاح صحي لكل مجتمع حضري محلّي، بوصفه إجراءً احترازيًا ضمن مجموعة إجراءات لمنع تلك الجوائح من الحدوث.

نظرية الجراثيم.. تغيّر كل شيء

طيلة 200 سنة، طرحت جوقة من الأصوات المجتمعة صيغًا مبدئية لفكرة مفادها أن "حُوَيّانات" (animalcules)، أو جراثيم، تسبب الأمراض. لكن أنصار نظرية طب الأخلاط، ونظرية القذارة، تمكّنوا لبعض الوقت من إخراسهم بالاعتراض بشدّة على فكرتهم. ولكن في القرن التاسع عشر، إذ أصبحت المجاهر أقوى وموزّعة على نطاق أوسع، أخذ باحثون آخرون ينفتحون على عالم الكائنات الحية الدقيقة. وهكذا غدت فكرة أن كائنات حية دقيقة بعينها قد تسبّب أمراضًا معدية محدّدة، بل حتى تبيد مجتمعات بشرية، أكثر إقناعًا.
ويميل التاريخ اليوم لتشريف رجلين هما "لويس بـاستور" و"روبرت كوخ"، بوصفهما أبوَي نظرية الجراثيم، وينسى تلك الجوقة التي شكل عملُها أساسَ عمل هذين الرجلين. ومَردّ ذلك إلى أن الطبيعة البشرية تنجذب إلى بضعة أسماء عظيمة أكثر من انجذابها إلى الطريقة التراكمية والتضافرية التي يحدث بها جل الاكتشافات. ولكن، للإنصاف، علينا أن نذكر كذلك أن بـاستور وكوخ كانا سيدين من سادة العلم التجريبي، وكانا دقيقين في الأساليب التي اتّبعاها، ومتألّقين في اختيار المسار الصحيح من تجربة إلى أخرى. كانا يكرهان بعضهما بعضًا لكونهما ندّين في مجال الاكتشاف نفسه (وبذلك تبرز الطبيعة البشرية مرة أخرى)؛ بيد أن الكراهية بينهما كانت كذلك لأن كلًّا منهما كان شخصًا وطنيا في زمن اقتتل فيه بلداهما: فرنسا وألمانيا. ولكن الفتوحات العلمية التي حقّـقاها حملت البشرية إلى عالم نظرية الجراثيم الزاخر بالأعاجيب. كان بـاستور عالم كيمياء، لا طبيبًا؛ ما أكسبه منظور شخص دخيل ثبُتت فائدته في تلافي المعتقدات الطبية التقليدية. وكانت إحدى دراساته في خمسينيات القرن التاسع عشر قد بدأت بمَهمّة مُضجرة، تتمثل في مساعدة مُصنّع خمور محلي على تحديد سبب مذاق فاسد في بعض دفعات خمر الشمندر. ووجد باستورُ الجانيَ سريعًا، وكان نوعًا من البكتيريا، وأوصى بتسخين عصير الشمندر لمنع ذلك من الحدوث مجددًا. ويمكن القول إنه كان بذلك قد بدأ عملية "البسترة". وبغريزة بـاستور المميزة في حرصه الدائم على البحث أكثر من غيره، مضى في تدوين كل مرحلة من مراحل التخمّر. ولم تكن عملية كيميائية محضة، كما كان يعتقد كثير من المفكّرين "العصريين" آنذاك، بل عملية بيولوجية. فالخميرة، وهي كائن حيّ، استهلكت المواد الغذائية في النقيع وحوّلتها إلى كحول ومنتجات أخرى. وقد تَشجَّع بـاستور بفضل بحثه هذا في مجال التخمّر على رؤية الكائنات الحية في كل مكان وتبيان أنها ناتجة عن تكاثر بيولوجي عادي، لا عن تولّد عفوي. ثم مضى ليحقق قفزة حدسية رائعة، مفادها: إذا كانت الكائنات الحيّة الدقيقة قد سبّبت التخمّر -وبإمكان كائنات حية غير متوقّعة إفساد مجموعة خمور- فإنها قد تسبب كذلك أمراضًا معدية. وكان بـاستور مروّجًا متحمسًا لنفسه. (بل إن بعض المؤرخين العصريين يقولون إنه استخدم أعمال غيره من دون أن ينسبها إليهم، وأنه كان يغالي في تأكيد أهمية أدلّته، وأنه راوغ بشأن طرائق عمله). وكان يعرض مكتشفاته بلغة جريئة، ويحشد الدعم لعمله من ذوي النفوذ في الوسط العلمي الفرنسي. كما أنه انخرط في هجمات شرسة على أي شخص غامر بمخالفته الرأي في أي شيء، وبخاصة نظرية الجراثيم. لكن إثبات صحة حدس بـاستور الرائع تطلّب مساهمة روبرت كوخ، الذي كان آنذاك طبيبًا من بلدة صغيرة يعمل وحيدًا في مختبره المنزلي.
وما يدعو للاستغراب، هو أن كوخ ما زال غير معروف إلى اليوم في أنحاءَ من العالم (مثل الولايات المتحدة) إلا على نطاق ضيّق؛ على حين أن جل الناس قد يستذكر بسرعة اسم مساعد له أقل شأنًا يدعى "يوليوس ريتشارد بيتري"، وهو مخترع "طبق بيتري". ولعلّ مشاعر العداء للألمان التي سادت في القرن الثاني عشر هي التي جعلـت النزعــة إلى تعـظيـم الأفراد تنحرف بعيدًا عن كوخ. كمـا أنـه خسـر بعـض معجَبيه عنـدما طلّـق زوجتـه ليـرتبط بممثلة شابة جميلة، ولأنه في ذلك الزمن نفسه تقريبًا كان قد وعد بإيجاد علاج للسلّ ولم يفِ بوعده. لكن كوخ يستحق تقـديرًا أكبـر. عنـدما كـان طبيـبًا شـابا في أواســط سبيعيـنيات القـرن التاسع عشر بمنطقة ريفية في ما أصبح اليوم بولندا، كان قد أفرد جزءًا من غرفة المعاينة ليكون مختبرًا صغيرا. وهناك، في الأوقات التي لم يكن يعاين فيها مريضًا، درس عيّنات مجهرية من العالم الطبيعي. من بينها دمٌ لخروف كان قد نفق بسبب مرض الجمرة الخبيثة. وبالملاحظة المتأنية المتواصلة، كشف الرجلُ شيئًا فشيئا لغزًا خفيا يتعلق بهذا المرض الذي يصيب الحيوانات بالدرجة الأولى، ويتسبب أحيانًا في موت البشر.

تتكاثر البكتيريا عادةً بالانقسام الزوجي. وفي الظروف المناسبة، يمكن للتضاعف المتكرر لعاملٍ من عوامل المرض -مثل بكتيريا الجمرة الخبيثة- أن يُفضي بحيوانٍ مضيِّفٍ إلى النفوق السريع. وما لم يكن أحدٌ يعلمه قبل كوخ، هو أنه عندما تكون الظروف غير مناسبة لبكتيريا الجمرة الخبيثة، فإنها تستطيع كذلك إنتاج نوع من حُجيرات -أو أبواغ- النجاة. ويمكن لهذا البوغ، المغلّف بقشرة قاسية، أن يظل -على مرّ أجيال- على حاله سالمًا في التراب وهو بحالة سبات، مشَكلًا لُغمًا بيولوجيًا. وشكل ذلك جوابًا محتملًا عن كيفية ظهور الجمرة الخبيثة من العدم أحيانًا، من غير أن تدخل دابة جديدة في القطيع، وعندما لا تكون حالات من هذا المرض قد حدثت طيلة أعوام أو حتى عقود. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يخترع كوخ طريقة لاستنبات البكتيريا في مستنبت مصنَّع، على قطعة من الزجاج يستطيع فحصها بمجهره. وفيها استطاع مراقبة ظهور الأبواغ، ورأى كيف كانت تتحوّل إلى بكتيريا حيّة من جديد، لتنتج تلك البكتيريا في وقت لاحق جيلًا ثانيًا من الأبواغ. ولتِبيان كيف تؤثر الأبواغ في الحيوانات بعد فترة من السبات، قام بحقنها في فئران بريّة (إذ لم تكن فئران التجارب معتمَدة حينها في المختبرات)، فظهرت سريعًا مجموعةٌ جديدة ومُميتة من بكتيريا الجمرة الخبيثة.
نُشــرت دراســة كوخ عن الجمـرة الخبيــثة في أكتــوبر 1876، وشكّلت منعطفاً مهما في تـاريخ البشـرية. فبنـجاحه في إنتـاج أعـراض الجـمرة الخبيثة إنتاجًا متكـررا ومتـنبّأً به في حيوانات التجارب، أثبت الحقيقة التي لطالما طُعن فيها وأثبت أن العصويّـة الجمرية (Bacillus anthracis) هي العامل المسبب للعـدوى. وباختصار، فإن ما أثبته كوخ، كان نظرية المرض بالجراثيم. لم يكن هناك مفرّ من أن يعتمد بـاستور وكوخ على عمل كلٍّ منهما، في الوقت نفسه الذي كان كلٌّ منهما يهاجم الآخر في العلن. فقد ابتكر بـاستور اللقاحات الجديدة الأولى، منذ أوجدَ جينر لقاح الجدري قبل 85 عامًا، شملت لقاحًا للجمرة الخبيثة وآخر لداء الكَلَب. أما كوخ، فصحيحٌ أنه لم يعالج أي مرض، لكنه مضى في مسيرته ليحدد عوامل المرض التي تسبّب بعضًا من أكثر الأمراض المعروفة للبشرية رعبًا، من بينها الكوليرا والسل؛ ولذلك كُرّم بجائزة نوبل عام 1905. كما أنه مهّد الطريق لعلاج كثير من الأمراض باختراعه أدوات خاصة بالأحياء الدقيقة ما زال علماء آخرون يستعملونها إلى اليوم، لتحديد مجموعة ضخمة مذهلة من عوامل المرض المميتة. وبذلك أصبح ممكنًا لأول مرة توفير علاج موجَّه لأي مرضٍ ضمن الأغلبية الساحقة من الأمراض المعدية ومنع حدوثه.

اليوم

كان "مايكل كالاهان"، خبير الأمراض المعدية، قد أصبح عارفًا بجائحة "كوفيد19-" حتى قبل صعوده على متن السفينة "غراند بـرينسـس" في بداية شهر مارس من عام 2020. إذ خَبرَ هذا المرض أول مرة في شهر يناير عندما تبادل مع أعضاء في شبكة شديدة الترابط من الزملاء الخبراء ملاحظات عن عامل المرض الذي ظهر في مدينة ووهان الصينية. وعاين مرضى في سنغافورة أثناء تفشّي المرض فيها، وأَعلَم مسؤولي الحكومة الأميركية في واشنطن بالأماكن التالية التي قد يظهر فيها المرض. وساعد على إخلاء سفينة سياحية في مدينة يوكوهاما اليابانية. ثم أخذ يعالج أوائل الضحايا بوصول المرض إلى بوسطن، حيث يعمل طبيبًا لدى "مستشفى ماساتشوسيتس العام". وإذ شرع الرجلُ يشاهد ويعمل ويتبادل الآراء مع زملائه بشأن المشكلات الخاصة بأجهزة التنفس الصناعي، شهد كيف كان المرض يكشف عن "عدوانه الباهر"؛ أي قدرته على الجثوم "كما لو أنه قنبلة ذكية صغيرة صامتة في مجتمع ما"، إلى أن يجد شخصًا ما "ويصرعه ببساطة". ويستطرد كالاهان قائلًا: "عندما عاينت مريضي الخمسمئة، أُصبت بالرعب. إذ تأكد لي أن هذا الفيروس عدوّ ساكن يتربّص بنا إلى أن تحين فرصة انقضاضه".
ظل كالاهان منذ عقود وجهًا مألوفا على الخطوط الأمامية في مواجهة الجوائح بجميع أنحاء العالم؛ إذ يعمل على إنهاء تفشّيات كلٍّ من إيبولا وسارس و"إتش 5 إن 1"، وفيروسات بحروف أخرى تشكّل جميعًا حساء حروفٍ مميتًا. يصف الرجلُ الخبراءَ الذين يحضرون على مسرح التفشّيات الجديدة بأنهم "نزِقون وسريعو الحركة ويتحدثون باقتضاب"؛ وهو وصف ينسحب عليه شخصيًا. هاتَفتُه لأحصل منه على إجابات عن أسئلتي بشأن التحقيق الذي بين أيديكم، فألقى عليّ أجوبة مطوّلة معقّدة في دفقات مشحونة بالطاقة، مع ميلٍ لأن يقفز بطريقة مربكة بين عالمي الطب والجغرافيا. ولكن كالاهان يبرز حتى بين زملائه الماهرين المندفعين بشدّة للعمل، بفضل قدرته على جمع المعلومات وتأليفها خلال الأزمات للحصول بسرعة على أفضل خيار متاح. لذا تجده على قائمة الاتصال السريع لتشكيلة من المنظّمات، بدءًا من المستشفيات والمؤسسات العالمية غير الربحية المعنية بالصحة، وانتهاءً بالحكومة الأميركية، حيث يعمل مستشارًا خاصا في شأن فيروس "كورونا" لدى مساعد الأمين العام لـ "قسم التأهب والاستجابة". وبين حين وآخر، يعود إلى منزله لينضم إلى عائلته في ولاية كولورادو -حيث يعمل بالهاتف والحاسوب المحمول- ويقطع عليه عملَه (كما يحدث مع كل الناس خلال الحجر الصحي) نباحُ كلبه، أو طفله الذي بحاجة إلى من يصلح له درّاجته، والدعوة الأبدية إلى متابعة المهام المنزلية المملّة المهملة.

اختار كالاهان هذه المسيرة المهنية بسبب فترة عمل قاسية كان قد أمضاها لدى مخيّمات اللاجئين في شرق الكونغو الديمقراطية في أواخر تسعينيات القرن الماضي. إذ كان قد تعلّم خلالها أن أي مرض معدٍ في العالم النامي هو "مصيبة تتجلّى تدريجيًا، وتمكث إلى أجلٍ غير مسمّى. فأصبحتُ مدفوعًا بشدّة لمواجهة كل هذه المآسي القاسية"، على حد تعبير كالاهان. كما علّمته خبرته اللاحقة مع إيبولا وغيرها من الأمراض المتفشّية في غرب إفريقيا أن معالجة كل حالة على حدة ليست كافية. بل يَجدر توفير التدريب أو اللوازم للطواقم الطبية المحلية؛ ما من شأنه أن "يؤدي إلى تغييرات إيجابية كبيرة في أي قرية أو مجتمع محلي أو مستشفى. وتلك التغييرات ستدوم طويلًا بعد مغادرتنا". أصبحت تلكَ فلسفة كالاهان التي يسير على هديها. وبعمله في برنامجٍ تديره وزارة الخارجية الأميركية، ســاعد أطبــاء وعلماء كانوا قد سُرّحوا من العمل في برامــج للأسلحــة الكيميــائيــة والبيولوجية في روســيا مــا بعـــد العهــد السوفيــتي، عـــلى إعــادة التأهّـل ليصبـحوا باحثين سلميين في مجـال الأمـراض المعدية. وقد أدى بــه ذلك العمـل إلى قضـاء نحو عقــد من الزمن لدى "وكالة مشروعــات البحــوث المتــطورة الدفاعيـة الخاصــة بالبنــتاغون". وفيها طوّر برنامجًا يحمل اسم "Prophecy" (النبوءة) للتنبّؤ بالأمراض الناشئة واستباقها.
إن الخبرة التي يمتلكها كالاهان قد أتاحت له نظرة معمّقة غير اعتيادية إلى الكيفية التي يمكننا بها التأقلم مع مرض "كوفيد19-"، وما سيتبعه من أمراض ناشئة. ويرى أن حماية صحتنا قد تعتمد على إيجاد طرق لمساعدة دول أخرى على تأمين حاجاتها هي، حتى وإن كانت الحكومة الوطنية لذلك البلد تُظهر العداء وقد يبدو أن تلك الحاجات لا تخدم دائمًا مصالحنا الوطنية. فالمسألة تتعلّق بمكاسب بعيدة الأجل. ففي إندونيسيا مثلًا، أدى الإفراط في صيد السمك إلى تدمير مخزون سواحل البلد من الغذاء البحري. ولمّا كان أكل لحم الخنزير محرمًا بموجب الشريعة الإسلامية، أصبح توفير مخزون آمن من البروتين مشكلة كبيرة؛ لا سيما بعد أن تسبّب تفشٍّ لإنفلونزا الطيور بخسائر فادحة في تجارة الدواجن. وعليه، فقد ركّز برنامج "Prophecy" بدايةً على صون المتوفّر من الدجاج. وكان من بين الإجراءات التي وفّرها البرنامج، إمكانية محليــة لتحـديد تسلسـل المورّثات؛ مــا أتاح لإندونيسيا حصر عوامل المرض بنفسها، مقلّصةً اعتمادها على الدول الغربية. كانت هذه المبادرة من النوع الذي قد يتعرّض بسهولة لجلسة مساءلة في "الكونغرس" الأميركي، أو من النقاد أنصار الانعزالية. لكن في إندونيسيا، يقول كالاهان، أدت المبادرة إلى "رفع مقام الولايات المتحدة هناك، وقد تمكّنا من الوصول إلى النفائس"، قاصدًا بذلك نجاحهم في مراقبة عوامل الأمراض البشرية. وفي المحصلة، "صارت 'داربـا' شريكًا مرحّبًا به، بعدما كانت ستبقى في نظر الإندونيسيين مجرّد وكالة عسكرية سرية".
أما الاستراتيجية الأخرى التي اتبعها برنامج "Prophecy" فهي العثور على شباب أطباء متخصّصين في الأمراض المعدية بالدول النامية، وبناء علاقات معهم تمتـد مــدى العمــر. وقــد يتطلـب ذلك تجهيزهم بتقنيات جديدة وإحضارهم إلى كليات الطب الأميركية لتلقّي مزيد من التدريب، أو توفير منح لهم لإجراء بحوث جديدة. يقول كالاهان في شرح الاستراتيجيــة: ".. وبـدعم الشـركاء الأجـانب، يرتقي هؤلاء في المراتب، ويصبحون قادة في مجـال تخصـصهم؛ فينـتج عن ذلك أمران: ينشأ لديهـم مصدر مستـدام لتمـويـل بحوثـهم في بلدهم الأم، ونحصل نحن على مبعوث شديد الامتنان لنا قد بلغ الأوج.. في الاستخبارات الخاصة بعوامل المرض". من بين هؤلاء الشركاء الأجانب، باحثٌ روسي كان كالاهان قد ساعده على تحقيق النقلة من العمل في مجال الأسلحة البيولوجيـة إلى مجـال رصـد الأمراض. وفي عـام 2005، رصـد مختبر ذاك الباحث تفشيًّا لإنفلونزا "إتش 5 إن 1"، وهي إنفلونزا تصيب الطيور وتستطيع تدمير الدواجن والطيور البرية. كما أنها قادرة على الانتقال إلى البشر وقتل الأطفال الصغار بتدمير رئاتهم. كان هذا الوباء حينها يتحرك باتجاه الشمال الشرقي إلى حيث تتقاطع خطوط هجرة الطيور الآسيوية والأميركية في منطقة "مضيق بيرنغ". وأتاح ذلك التحذير المبكر للعلماء الأميركيين إطلاق برنامج لفحص الطيور المهاجرة إلى ألاسكا ومنع المرض من دخول القارة. وقد انتهى برنامج "Prophecy" قبل بضعة أعوام، بعد انتهاء عمل كالاهان لدى وكالة "داربـا". (تقول الوكالة إنه من المقرر أن يستحدث كالاهان برامج جديدة من دون أن يشرف عليها. لكن بعض الأدوات التي أوجدها البرنامج قد ساعد فيما بعد على تطوير لقاحات جديدة وكذلك على التنبّؤ بالأطوار التي تصير فيها الأمراض مقاومة للمضادّات الحيوية). وقد مالت الحكومات في مختلف أنحاء العالم ميلًا كبيرا نحو التقليل من شأن خطر الجوائح، وإلى الشح في تمويل البرامج الخاصة باتقائها. لذا كانت الحكومة الأميركية قد سمحت في أكتوبر الماضي بإنهاء برنامج "Predict"، وهو برنامج آخر ينصبّ تركيزه على الأمراض الناشئة. ولم يمضِ شهر بعدها حتى ظهرت أول حالة إصابة بمرض "كوفيد19-" في الصين. فما لبث الضحايا الأميركيون أن انضمّوا إلى صفوف قتلى المرض في العالم.

وما لا شك فيه أن الجائحة الحالية ستعزز الجهود الرامية إلى التنبؤ بالجوائح والسيطرة عليها؛ حتى إن لم يدم ذلك سوى بعض الوقت. ولكن لا أحد يعلم الشكل الذي ستتخذه إجراءات الوقاية ضد المرض، ولا كلفتها، ولا الكيفية التي ستدفع بها الاقتصادات المدمَّرة كلفة هذه الإجراءات. هل ستشارك الأمم في عملية التعاون الدولي ذات المكاسب بعيدة الأجل؟ أم أن الاتجاه نحو المصالح الوطنية الذاتية قصيرة المدى سيصبح هو الغالب؟ هل سيقبل مجتمعٌ إنفاق مبالغ كبيرة لمنع الجوائح من الحدوث؟ وهل سنظل ننفق إلى أجلٍ غير مسمّى حتى وإن كان ذلك المنع يعني شيئًا غير ملموس نحصل عليه لقاء أموالنا تلك: ألا وهو معرفتنا أن الكارثة التي كنا نخشاها لم تقع؟
لقد دخلنا عالمًا جديدا مخيفا؛ أو لعلّنا عدنا إلى عالم أجدادنا القديم المبتلى بالأمراض. أما العبرة الأهم التي يجب أن نستخلصها من التاريخ فهي أنه: عندما تُرفع عنا هذه الجائحة في نهاية المطاف، فإن نسيان ما حدث سيكلّفنا كثيرًا. إذ لا يمكننا أن نمضي هكذا وكأن شيئًا لم يكن. ففي مكانٍ ما من كوكبنا، تتأهّب الجائحة التالية.. يتأهّب مَـلَـك الدمار التالي لأن يبسط جناحيه قبل أن ينطلق.