تجـارة المـوتى
كشفت ورشة تحنيط اكتُشفـت على مقربـة من القاهـرة أن الكهنـة كانـوا متعهـدي أعمال ذوي حنكـة ودرايـة يقدمـون مجموعـة متنـوعة من خدمات الدفن التي تتناسب مع القدرات المالية لمختلف شرائح المجتمع.تَصدَّر هذا الاكتشافُ عناوينَ الأخبار حول العالم يومَ أُعلن أول...
كشفت ورشة تحنيط اكتُشفـت على مقربـة من القاهـرة أن الكهنـة كانـوا متعهـدي أعمال ذوي حنكـة ودرايـة يقدمـون مجموعـة متنـوعة من خدمات الدفن التي تتناسب مع القدرات المالية لمختلف شرائح المجتمع.
تَصدَّر هذا الاكتشافُ عناوينَ الأخبار حول العالم يومَ أُعلن أول مرة في يوليو 2018. فلقد اكتشف علماء الآثار "دارًا لتجهيز الجنائز" تعود إلى عهد قدماء المصريين، في عمق رمال "سقارة"، وهي مدينة موتى مترامية الأطراف تقع على ضفاف نهر النيل على بعد نحو 20 كيلومترًا جنوب القاهرة. وخلال العامين التاليين لذلك الحدث، أُجري تحليل شامل للُّقى الأثرية والاكتشافات الجديدة التي عُثر عليها في مدفن سِردابي مجاور ممتلئ بالقبور. أسفر التحليل عن كَمّ هائل من المعلومات بشأن "تجارة الموت" في مصر القديمة. فقد ظل التنقيب الأثري في أرض الكنانة منصبًّا منذ قرون على سبر أغوار النقوش والقطع الأثرية بالمدافن الملكية، بدلًا من كشف تفاصيل الحياة اليومية. ولربما كانت ورشات التحنيط موجودة في المقابر القديمة بجميع أنحاء مصر، لكن أجيال المنقبين المتعاقبة أغفلت العديد منها إذ هُرعت للوصول إلى القبور التي ترقد تحتها.
أما اليوم، فإن الوضع يسير نحو التغير، مع الاكتشافات المسجلة في سقارة؛ إذ يَجري التوثيق المفصل -للمرة الأولى- لأدلة أثرية تشير إلى صناعة هائلة في مجال تجهيز الجنائز بمصر القديمة. يقول "رمضان حسين"، عالم المصريات لدى "جامعة توبينغن" بألمانيا: "إن الأدلة التي اكتشفناها تُظهر أن المحنِّطين كانوا يمتلكون حسًّا تجاريا قويا؛ إذ كانوا يقَدمون لعُملائهم خياراتَ دفن تنم عن ذكاء حاد". فإذا لم يكن بوسع المرء دفع تكاليف قناع دفن فاخر من الذهب والفضة، فيمكنه اختيار عرض آخر، على حد قول حسين، قوامه "الجص الأبيض والرقائق الذهبية". أما إذا لم يكن للمرء ما يكفي من المال لحفظ أحشائه في أوعية من المرمر المصري اللامع، فيمكن أن تُعرَض عليه مجموعة بديعة من الطين المطلي. يقول حسين: "لطالما قرأنا عن هذا الأمر في النصوص [القديمة]، لكن يمكننا الآن تحديد سياق تجارة الموت بدقة".
بدأ حسين العمل في سقارة عام 2016 بحثًا عن قبور مخفية تحت الأرض يعود تاريخها إلى عام 600 قبل الميلاد على وجه التقريب. وكانت المدافن السردابية العميقة قد لقيت تجاهلا كبيرًا من علماء المصريات الأوائل، الذين كانوا يركزون في الغالب على المدافن التي يعود تاريخها إلى فترات أقدم في التاريخ المصري. وقد عُرض عمل فريقه في سلسلة من أربعة أجزاء أعدتها قناة "ناشيونال جيوغرافيك" حديثًا بعنوان "مملكة المومياوات". فبينما كان حسين وفريقه ينقبون في منطقة يعود آخر تنقيب فيها إلى أواخر القرن التاسع عشر، اكتشفوا سردابًا محفورا في القاعدة الصخرية كان مليئا بالرمل والحطام. وبعد إزالة 38 طنًا من الرمال، وصل هؤلاء العلماء إلى قاع المدفن السردابي البالغ طوله 12 مترًا، فوجدوا حُجرة فسيحة عالية السقف. كانت الرمال والجلاميد قد تراكمت داخل الحجرة، فاضطروا لإزالتها. وكان من بين الركام آلاف القطع الفخارية المكسورة التي وثق الفريق لكلٍّ منها وحفظَها بعناية. وقد امتدت عملية التنقيب المُضنية شهورًا.
وبعدما أُفرغت الحُجرة في نهاية المطاف، فوجئ الفريق بأنها ليست مدفنًا. فقد كان فيها موضع مرتفع يشبه الطاولة، وقنوات ضحلة حُفرت في القاعدة الصخرية على طول قاعدة أحد الجدران. ولَمَحوا في أحد أركان الحُجرة وعاءً بحجم البرميل كان غاصًّا بالفحم والرماد والرمل الداكن. وكان نفق قديم (جزء من شبكة من الممرات المتعرجة داخل الصخور أسفل سقارة) ينقل الهواء البارد عبر المكان. واستنتج حسين من هذه الدلائل أن الحُجرة كانت ورشة تحنيط مجهَّزة بمبخرة متينة الصنع، وقنوات لتصريف سوائل الأجساد، ونظام للتهوية. يقول حسين: "كانت عملية نزع الأحشاء في ذلك المكان تستدعي دخول الهواء للتخلص من الحشرات. فالمرء يحتاج إلى تيار هواء ثابت عند التعامل مع الجثث".
وخلال عام 2019، تمكن خبراء الفخار من تجميع القطع المكسورة، حتى أعادوا تشكيل المئات من الأوعية الصغيرة؛ وكان كل واحد منها يحمل تسمية معينة. يقول حسين: "كُتب على كل كوب أو وعاء اسم المادة التي كان يحملها" والوقت الذي كان يُستخدم فيه خلال عملية التحنيط. ثم يضيف قائلا: "كُتبَت التعليمات مباشرة على المواد".
وما فتئ هذا الاكتشاف يشكل نعمةً للعلماء الذين يدرسون ممارسات الدفن لدى قدماء المصريين؛ إذ قدم نظرة فريدة إلى الطقوس المقدسة -والظروف الصعبة- التي تحيط بعملية التحنيط. فلقد ظل من الصعب الحصول على أدلة أثرية تؤكد ذلك، على الرغم من وجود مصادر قديمة توثق بإسهاب لهذه العملية الدقيقة، بل وحتى الصور الفنية المجسِّدة لها على جدران المدافن المصرية. ويقول "دييتريش راو"، أمين المتحف المصري لدى "جامعة لايبزيغ": "لم يجر التنقيب على نحو سليم إلا في عدد قليل جدًا من الورشات التي كانت مخصصة لهذه العملية؛ ما يترك فجوة كبيرة في معرفتنا".
وها هي ذي الاكتشافات في سقارة تُسهم في سد تلك الفجوة، على حد تعبير حسين، الذي يستطرد قائلًا: "أصبح بإمكاننا للمرة الأولى التحدث عن علم آثار التحنيط". وكان قدماء المصريين، بحكم اعتقادهم بضرورة بقاء الجسد سليمًا لإيواء الروح خلال الحياة الآخرة، يرون في التحنيط مزيجًا من الطقوس المقدسة والإجراءات الطبية. فقد كانت هذه العملية تجري وفق مراسم دقيقة وتتخللها طقوس وصلوات معينة تؤدى في كل يوم من الأيام السبعين التي تستغرقها عملية تحويل جسد الميت إلى مومياء. في البداية، كانت تُنزع الأعضاء الداخلية وتوضع في أوعية يُطلق عليها علماء الآثار اسم "الجِرار الكانوبية". وبعد ذلك، تُجفَّف الجثة باستخدام أملاح خاصة مثل النطرون، وتُدهن بالزيوت العطرية وتُلف في لفائف الكتان. ثم تُدس التمائم والتعويذات بين ثنايا القماش. وفي الأخير، توضع المومياء في لَحْدٍ مع المؤونة اللازمة للحياة الآخرة بالقدر الذي تسمح به إمكانيات الهالك المادية.
وما أهرامات الفراعنة الشاهقة والذهب اللامع من قبر "الملك توت عنخ آمون" إلا شواهد ناطقة تُذكّرنا بالحد الذي مضى إليه المصريون الأكثر ثراءً في سعيهم لضمان قضاء حياتهم الأبدية في بحبوحة ورغد. إذ يقول حسين: "لقد كانت تلك صناعةً ضخمة".
على أنَّ رحلة المومياء لم تكن تتوقف عند التحنيط والدفن؛ ولم يكن مورد الدخل ليتوقف كذلك. فقد كان المحنطون المصريون يعملون بوصفهم كهنة ومتعهدين فضلًا عن نشاطهم في بيع العقارات. وإذا كان الفراعنة وصفوة المجتمع المصري يحنَّطون ويُدفنون في توابيت مزخرفة بشكل متقن ومدافن واسعة تغص بالمتاع والمؤن الجنائزية، فقد أظهر بحث حسين أن متعهدي التحنيط القدماء كانوا يقدمون عروضًا مخفَّضة السعر تتناسب مع مختلف القدرات المالية لشرائح المجتمع. فقد كانوا -وفق لغة الأعمال التجارية الحالية- متكاملين عموديًا؛ إذ كانوا يقدمون خدمات في كل شيء، بدءًا من نزع أحشاء الجثث والمدافن إلى رعاية أرواح المتوفين وصيانتها.. وكل ذلك -بطبيعة الحال- لقاءَ رسوم محدَّدة. وكانت القبور الأكثر بذخًا ووجاهة توجد في قاع المدفن السردابي، أي على عمق يبعد 30 مترًا عن السطح، حيث كانت الأماكن أكثر تكلفة بالنظر إلى قربها من العالم السفلي. هناك دُفنت امرأة داخل تابوت من الحجر الجيري يزن زُهاء سبعة أطنان. وفي حُجرة مجاورة، دُفنت امرأة كان وجهها مغطى بقناع مصنوع من الفضة والذهب؛ كان أول قناع من نوعه يُكتَشف في مصر منذ أكثر من نصف قرن.
لكن هذا المجمَّع كان يضم أيضًا مصريين من الطبقة المتوسطة أو الطبقة العاملة، دُفنوا في توابيت خشبية عادية أو اكتُفي بوضعهم في لفافات كتان داخل حفر رملية. وقد تمكن حسين، باستخدام أدوات رسم الخرائط ثلاثية الأبعاد، من تحديد الكيفية التي كانت تُنسَّق بها المدافن. وتتطابق النتائج التي توصل إليها مع ما أشارت إليه وثائق البرديات المُكتشَفة في سقارة منذ أكثر من قرن، من أن متعهدي التحنيط كانوا يملؤون المدفن السردابي بعشرات الجثث، ومن ثم يحصِّلون أجورهم من أهالي الموتى أو يَعرضون عليهم مبادلة خدمات الصيانة الروحية لكل مومياء، بقطع أرضية. وقد ضم المجتمع المصري القديم فئة كاملة من الكهنة الذين كرّسوا خدماتهم لرعاية أرواح الموتى. وكان توصيفهم المهني يتضمن صيانة المدافن والصلاة من أجل أصحابها المتوفين. وكان بعضهم يمتلك عشرات المدافن التي يضم كلٌّ منها مئات المومياوات.
وتعليقًا على ذلك، يقول "كوين دونكر فان هيل"، عالم المصريات لدى "جامعة لايدن" الذي أمضى سنوات في دراسة العقود القانونية التي كان الكهنة يوقعونها مع عوائل الموتى: "كان الناس يُحضرون عطايا أسبوعية للموتى لإبقائهم على قيد الحياة. فالميت يعني المال؛ وهذا هو أساس المسألة كلها". وتؤكد هذه الأدلة الأثرية للمرة الأولى ما ظل إلى حدود اليوم مجرد تخمينات، وذلك استنادًا إلى النقوش والوثائق القانونية القديمة التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. فرؤى متعمقة ومستنيرة كهذه تضفي على حفريات سقارة طابعًا مميزًا. وتمثل أيضا جزءًا من التحول الذي يشهده علم المصريات؛ إذ أصبح الباحثون ينظرون بعمق في التفاصيل التي تلقي الضوء على حياة المصريين القدماء العاديين بدلًا من التركيز على أفخم المدافن. وفي ذلك، يقول دييتريش راو: "إن حسين ما فتئ يحصل على كثير من المعلومات التي فُقدت في الماضي. فقد وُجدت بِنية تحتية كاملة فوق سطح الأرض، لكنها أزيلت من دون التوثيق لها".
ويعني ذلك أن المستقبل يمكن أن يحمل مزيدًا من هذه الاكتشافات للمنقبين الذين يتحلّون بما يكفي من الصبر. فقد أدرك حسين أثناء تمعّنه في تقارير تنقيب قديمة أن السرداب المُفضي إلى ورشة التحنيط كان على بعد أقل من متر واحد عن الموضع الذي توقف فيه المنقبون الفرنسيون والمصريون عن التنقيب في عام 1899. ولم تكن الحُجرة ومحتوياتها مخفية إلا بالرمال التي جرفوها جانبًا وهم في عجلة من أمرهم. يقول حسين: "ربما ينبغي لنا أن نعود إلى المواقع التي سبق استكشافها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لننقِّبَ فيها من جديد".
تجـارة المـوتى
- آندرو كاري
كشفت ورشة تحنيط اكتُشفـت على مقربـة من القاهـرة أن الكهنـة كانـوا متعهـدي أعمال ذوي حنكـة ودرايـة يقدمـون مجموعـة متنـوعة من خدمات الدفن التي تتناسب مع القدرات المالية لمختلف شرائح المجتمع.تَصدَّر هذا الاكتشافُ عناوينَ الأخبار حول العالم يومَ أُعلن أول...
كشفت ورشة تحنيط اكتُشفـت على مقربـة من القاهـرة أن الكهنـة كانـوا متعهـدي أعمال ذوي حنكـة ودرايـة يقدمـون مجموعـة متنـوعة من خدمات الدفن التي تتناسب مع القدرات المالية لمختلف شرائح المجتمع.
تَصدَّر هذا الاكتشافُ عناوينَ الأخبار حول العالم يومَ أُعلن أول مرة في يوليو 2018. فلقد اكتشف علماء الآثار "دارًا لتجهيز الجنائز" تعود إلى عهد قدماء المصريين، في عمق رمال "سقارة"، وهي مدينة موتى مترامية الأطراف تقع على ضفاف نهر النيل على بعد نحو 20 كيلومترًا جنوب القاهرة. وخلال العامين التاليين لذلك الحدث، أُجري تحليل شامل للُّقى الأثرية والاكتشافات الجديدة التي عُثر عليها في مدفن سِردابي مجاور ممتلئ بالقبور. أسفر التحليل عن كَمّ هائل من المعلومات بشأن "تجارة الموت" في مصر القديمة. فقد ظل التنقيب الأثري في أرض الكنانة منصبًّا منذ قرون على سبر أغوار النقوش والقطع الأثرية بالمدافن الملكية، بدلًا من كشف تفاصيل الحياة اليومية. ولربما كانت ورشات التحنيط موجودة في المقابر القديمة بجميع أنحاء مصر، لكن أجيال المنقبين المتعاقبة أغفلت العديد منها إذ هُرعت للوصول إلى القبور التي ترقد تحتها.
أما اليوم، فإن الوضع يسير نحو التغير، مع الاكتشافات المسجلة في سقارة؛ إذ يَجري التوثيق المفصل -للمرة الأولى- لأدلة أثرية تشير إلى صناعة هائلة في مجال تجهيز الجنائز بمصر القديمة. يقول "رمضان حسين"، عالم المصريات لدى "جامعة توبينغن" بألمانيا: "إن الأدلة التي اكتشفناها تُظهر أن المحنِّطين كانوا يمتلكون حسًّا تجاريا قويا؛ إذ كانوا يقَدمون لعُملائهم خياراتَ دفن تنم عن ذكاء حاد". فإذا لم يكن بوسع المرء دفع تكاليف قناع دفن فاخر من الذهب والفضة، فيمكنه اختيار عرض آخر، على حد قول حسين، قوامه "الجص الأبيض والرقائق الذهبية". أما إذا لم يكن للمرء ما يكفي من المال لحفظ أحشائه في أوعية من المرمر المصري اللامع، فيمكن أن تُعرَض عليه مجموعة بديعة من الطين المطلي. يقول حسين: "لطالما قرأنا عن هذا الأمر في النصوص [القديمة]، لكن يمكننا الآن تحديد سياق تجارة الموت بدقة".
بدأ حسين العمل في سقارة عام 2016 بحثًا عن قبور مخفية تحت الأرض يعود تاريخها إلى عام 600 قبل الميلاد على وجه التقريب. وكانت المدافن السردابية العميقة قد لقيت تجاهلا كبيرًا من علماء المصريات الأوائل، الذين كانوا يركزون في الغالب على المدافن التي يعود تاريخها إلى فترات أقدم في التاريخ المصري. وقد عُرض عمل فريقه في سلسلة من أربعة أجزاء أعدتها قناة "ناشيونال جيوغرافيك" حديثًا بعنوان "مملكة المومياوات". فبينما كان حسين وفريقه ينقبون في منطقة يعود آخر تنقيب فيها إلى أواخر القرن التاسع عشر، اكتشفوا سردابًا محفورا في القاعدة الصخرية كان مليئا بالرمل والحطام. وبعد إزالة 38 طنًا من الرمال، وصل هؤلاء العلماء إلى قاع المدفن السردابي البالغ طوله 12 مترًا، فوجدوا حُجرة فسيحة عالية السقف. كانت الرمال والجلاميد قد تراكمت داخل الحجرة، فاضطروا لإزالتها. وكان من بين الركام آلاف القطع الفخارية المكسورة التي وثق الفريق لكلٍّ منها وحفظَها بعناية. وقد امتدت عملية التنقيب المُضنية شهورًا.
وبعدما أُفرغت الحُجرة في نهاية المطاف، فوجئ الفريق بأنها ليست مدفنًا. فقد كان فيها موضع مرتفع يشبه الطاولة، وقنوات ضحلة حُفرت في القاعدة الصخرية على طول قاعدة أحد الجدران. ولَمَحوا في أحد أركان الحُجرة وعاءً بحجم البرميل كان غاصًّا بالفحم والرماد والرمل الداكن. وكان نفق قديم (جزء من شبكة من الممرات المتعرجة داخل الصخور أسفل سقارة) ينقل الهواء البارد عبر المكان. واستنتج حسين من هذه الدلائل أن الحُجرة كانت ورشة تحنيط مجهَّزة بمبخرة متينة الصنع، وقنوات لتصريف سوائل الأجساد، ونظام للتهوية. يقول حسين: "كانت عملية نزع الأحشاء في ذلك المكان تستدعي دخول الهواء للتخلص من الحشرات. فالمرء يحتاج إلى تيار هواء ثابت عند التعامل مع الجثث".
وخلال عام 2019، تمكن خبراء الفخار من تجميع القطع المكسورة، حتى أعادوا تشكيل المئات من الأوعية الصغيرة؛ وكان كل واحد منها يحمل تسمية معينة. يقول حسين: "كُتب على كل كوب أو وعاء اسم المادة التي كان يحملها" والوقت الذي كان يُستخدم فيه خلال عملية التحنيط. ثم يضيف قائلا: "كُتبَت التعليمات مباشرة على المواد".
وما فتئ هذا الاكتشاف يشكل نعمةً للعلماء الذين يدرسون ممارسات الدفن لدى قدماء المصريين؛ إذ قدم نظرة فريدة إلى الطقوس المقدسة -والظروف الصعبة- التي تحيط بعملية التحنيط. فلقد ظل من الصعب الحصول على أدلة أثرية تؤكد ذلك، على الرغم من وجود مصادر قديمة توثق بإسهاب لهذه العملية الدقيقة، بل وحتى الصور الفنية المجسِّدة لها على جدران المدافن المصرية. ويقول "دييتريش راو"، أمين المتحف المصري لدى "جامعة لايبزيغ": "لم يجر التنقيب على نحو سليم إلا في عدد قليل جدًا من الورشات التي كانت مخصصة لهذه العملية؛ ما يترك فجوة كبيرة في معرفتنا".
وها هي ذي الاكتشافات في سقارة تُسهم في سد تلك الفجوة، على حد تعبير حسين، الذي يستطرد قائلًا: "أصبح بإمكاننا للمرة الأولى التحدث عن علم آثار التحنيط". وكان قدماء المصريين، بحكم اعتقادهم بضرورة بقاء الجسد سليمًا لإيواء الروح خلال الحياة الآخرة، يرون في التحنيط مزيجًا من الطقوس المقدسة والإجراءات الطبية. فقد كانت هذه العملية تجري وفق مراسم دقيقة وتتخللها طقوس وصلوات معينة تؤدى في كل يوم من الأيام السبعين التي تستغرقها عملية تحويل جسد الميت إلى مومياء. في البداية، كانت تُنزع الأعضاء الداخلية وتوضع في أوعية يُطلق عليها علماء الآثار اسم "الجِرار الكانوبية". وبعد ذلك، تُجفَّف الجثة باستخدام أملاح خاصة مثل النطرون، وتُدهن بالزيوت العطرية وتُلف في لفائف الكتان. ثم تُدس التمائم والتعويذات بين ثنايا القماش. وفي الأخير، توضع المومياء في لَحْدٍ مع المؤونة اللازمة للحياة الآخرة بالقدر الذي تسمح به إمكانيات الهالك المادية.
وما أهرامات الفراعنة الشاهقة والذهب اللامع من قبر "الملك توت عنخ آمون" إلا شواهد ناطقة تُذكّرنا بالحد الذي مضى إليه المصريون الأكثر ثراءً في سعيهم لضمان قضاء حياتهم الأبدية في بحبوحة ورغد. إذ يقول حسين: "لقد كانت تلك صناعةً ضخمة".
على أنَّ رحلة المومياء لم تكن تتوقف عند التحنيط والدفن؛ ولم يكن مورد الدخل ليتوقف كذلك. فقد كان المحنطون المصريون يعملون بوصفهم كهنة ومتعهدين فضلًا عن نشاطهم في بيع العقارات. وإذا كان الفراعنة وصفوة المجتمع المصري يحنَّطون ويُدفنون في توابيت مزخرفة بشكل متقن ومدافن واسعة تغص بالمتاع والمؤن الجنائزية، فقد أظهر بحث حسين أن متعهدي التحنيط القدماء كانوا يقدمون عروضًا مخفَّضة السعر تتناسب مع مختلف القدرات المالية لشرائح المجتمع. فقد كانوا -وفق لغة الأعمال التجارية الحالية- متكاملين عموديًا؛ إذ كانوا يقدمون خدمات في كل شيء، بدءًا من نزع أحشاء الجثث والمدافن إلى رعاية أرواح المتوفين وصيانتها.. وكل ذلك -بطبيعة الحال- لقاءَ رسوم محدَّدة. وكانت القبور الأكثر بذخًا ووجاهة توجد في قاع المدفن السردابي، أي على عمق يبعد 30 مترًا عن السطح، حيث كانت الأماكن أكثر تكلفة بالنظر إلى قربها من العالم السفلي. هناك دُفنت امرأة داخل تابوت من الحجر الجيري يزن زُهاء سبعة أطنان. وفي حُجرة مجاورة، دُفنت امرأة كان وجهها مغطى بقناع مصنوع من الفضة والذهب؛ كان أول قناع من نوعه يُكتَشف في مصر منذ أكثر من نصف قرن.
لكن هذا المجمَّع كان يضم أيضًا مصريين من الطبقة المتوسطة أو الطبقة العاملة، دُفنوا في توابيت خشبية عادية أو اكتُفي بوضعهم في لفافات كتان داخل حفر رملية. وقد تمكن حسين، باستخدام أدوات رسم الخرائط ثلاثية الأبعاد، من تحديد الكيفية التي كانت تُنسَّق بها المدافن. وتتطابق النتائج التي توصل إليها مع ما أشارت إليه وثائق البرديات المُكتشَفة في سقارة منذ أكثر من قرن، من أن متعهدي التحنيط كانوا يملؤون المدفن السردابي بعشرات الجثث، ومن ثم يحصِّلون أجورهم من أهالي الموتى أو يَعرضون عليهم مبادلة خدمات الصيانة الروحية لكل مومياء، بقطع أرضية. وقد ضم المجتمع المصري القديم فئة كاملة من الكهنة الذين كرّسوا خدماتهم لرعاية أرواح الموتى. وكان توصيفهم المهني يتضمن صيانة المدافن والصلاة من أجل أصحابها المتوفين. وكان بعضهم يمتلك عشرات المدافن التي يضم كلٌّ منها مئات المومياوات.
وتعليقًا على ذلك، يقول "كوين دونكر فان هيل"، عالم المصريات لدى "جامعة لايدن" الذي أمضى سنوات في دراسة العقود القانونية التي كان الكهنة يوقعونها مع عوائل الموتى: "كان الناس يُحضرون عطايا أسبوعية للموتى لإبقائهم على قيد الحياة. فالميت يعني المال؛ وهذا هو أساس المسألة كلها". وتؤكد هذه الأدلة الأثرية للمرة الأولى ما ظل إلى حدود اليوم مجرد تخمينات، وذلك استنادًا إلى النقوش والوثائق القانونية القديمة التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. فرؤى متعمقة ومستنيرة كهذه تضفي على حفريات سقارة طابعًا مميزًا. وتمثل أيضا جزءًا من التحول الذي يشهده علم المصريات؛ إذ أصبح الباحثون ينظرون بعمق في التفاصيل التي تلقي الضوء على حياة المصريين القدماء العاديين بدلًا من التركيز على أفخم المدافن. وفي ذلك، يقول دييتريش راو: "إن حسين ما فتئ يحصل على كثير من المعلومات التي فُقدت في الماضي. فقد وُجدت بِنية تحتية كاملة فوق سطح الأرض، لكنها أزيلت من دون التوثيق لها".
ويعني ذلك أن المستقبل يمكن أن يحمل مزيدًا من هذه الاكتشافات للمنقبين الذين يتحلّون بما يكفي من الصبر. فقد أدرك حسين أثناء تمعّنه في تقارير تنقيب قديمة أن السرداب المُفضي إلى ورشة التحنيط كان على بعد أقل من متر واحد عن الموضع الذي توقف فيه المنقبون الفرنسيون والمصريون عن التنقيب في عام 1899. ولم تكن الحُجرة ومحتوياتها مخفية إلا بالرمال التي جرفوها جانبًا وهم في عجلة من أمرهم. يقول حسين: "ربما ينبغي لنا أن نعود إلى المواقع التي سبق استكشافها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لننقِّبَ فيها من جديد".