يعتمد نهر "السند"، وهو من الأنهار الجبّارة في العالم، على الأنهار الجليدية لجبال الهيمالايا والسلاسل الجبلية المجاورة لها، والتي تمده بتدفق مستمر من الجليد الذائب ربيعًا وصيفًا. يوفر هذا النهرُ الماءَ لزُهاء 270 مليون شخص. ولكن احترار المناخ ما فتئ يقلّص الأنهار الجليدية، التي يُتوقَّع تراجع صبيبها في النهر بدءًا من عام 2050 أو نحو ذلك؛ ما سيعرض ملايين الناس للخطر ويزيد من حدة التوترات بين الهند وباكستان والصين.
مـن مكـان قـرب جبـل "كانغرينبوك" فـي التيبـت، تنبع أربعة أنهار رئيسة تمتد شرقًا وغربًا عبر منطقة الهيمالايا وصولًا إلى البحر، مثل إلهةِ مياهٍ مبجَّلة تنشر أطرافها الأربعة. وحيثما تجري، فإنها تحدد معالم هذه الحضارات والأمم: التيبت وباكستان وشمال الهند ونيبال وبنغلادش. ولطالما اعتمدت أوجه استهلاك مياه هذه الأنهار على السكان الذين يعيشون عند ضفافها؛ فيما يعتمد تَجَدد منسوبها على أمرين اثنين: الأمطار الموسمية وذوبان جليد الأنهار الجليدية. ظلت هاتان الظاهرتان معًا في حِمى الآلهة منذ آلاف السنين؛ وها هما اليوم قد صارتا بأيدي البشر أيضًا.
تتغذى الأنهار النابعة من شرق الهيمالايا، مثل "براهمابوترا"، من الأمطار الموسمية الصيفية في الغالب؛ ومن المرجح أن يزيد منسوبها مع استمرار المناخ المحتر في ملء الغلاف الجوي بالرطوبة. لكن معظم المياه في نهر "السند"، والذي يجري إلى الغرب من جبل كانغرينبوك، يأتي من الثلوج والأنهار الجليدية في جبال الهيمالايا و"كاراكورام" و"هندوكوش". وتُعد الأنهار الجليدية على نحو خاص "خزانات مياه": فهي تخزن ثلوج فصل الشتاء على شكل جليد، عاليًا في الجبال، ومن ثم تصرفها مياهًا ذائبة في فصلَي الربيع والصيف؛ وبهذه الطريقة، توفر منسوبًا ثابتا يغـذي البشــر والنظـم البيئية. وعند المصب، في سهول باكستان وشمال الهند، يعتمد أكبر نظام للزراعة المروية في العالم على نهر السند؛ وتشكل الأنهار الجليدية التي تغذيه شريان حياة لزهاء 270 مليون شخص. معظم تلك الأنهار الجليدية يتقلص الآن. في البداية، سيؤدي ذلك إلى زيادة منسوب المياه في نهر السند؛ ولكن إذا ارتفعت الحرارة على النحو المتوقع، واستمرت الأنهار الجليدية في الانحسار، فسوف يصل نهر السند إلى "ذروته المائية" في أفق عام 2050. وبعد ذلك، يتراجع منسوبه. ويستخدم البشر فعليًا 60 بالمئة من نهر السند، وينمو سكان حوضه بوتيرة سريعة. وفي الآونة الأخيرة، نشر فريق دولي من العلماء (مدعومًا من "الجمعية الجغرافية الوطنية" الأميركية) في دورية (Nature)، دراسة تحليلية لخزانات المياه الجليدية على صعيد العالم؛ فخلص إلى أن وضع نهر السند هو الأصعب. فبالنظر إلى "الاستغلال المفرط لمياه المنطقة ومحدودية النجاعة الحكومية فيها"، فإنه "من المستبعد أن نهر السند يمكن أن يتحمل هذا الإجهاد". وستعاني باكستان أكثر من غيرها.
من عام 2003 إلى عام 2006، سافرت على طول نهر السند البالغ 3200 كيلومتر، من بحر العرب إلى منبعه في التيبت؛ من أجل توثيق كتابي المعنون: "إمبراطوريات نهر السند". هنالك، كان واضحًا أن النهر يعاني الإجهاد. فلقد تغير ولم يعد يحمل وصف النهر الجبار الذي أطلقه عليه المستعمر البريطاني. إذ تضاءل منسوبه بفعل متطلبات الري والصناعة والحياة اليومية. وبسبب السدود والحواجز المائية، لم يعد النهر يصل إلى البحر، وكانت دلتا الغابات المكسوة بأشجار المنغروف تنفق. أما بحيراته فكانت ملوثة بالنفايات والصرف الصحي. صدمتني حقيقة أن نهر السند، الذي كان يتغنى به الهنود القدامى في تراتيل سنسكريتية مقدسة، صار يُعامَل بوصفه مجرد مَورد وليس موضوع تقديس كما كان. كان جميع ممّن قابلتهم، من الفلاحين إلى السياسيين، يقولون إن النهر يُساء تدبيره؛ إذ تحدثوا عن مشروعات هندسية فاسدة أو غير فعالة، وقِسمة ضيزى للمياه، ونُظُم بيئية تُدمَّر استنادًا إلى ذريعة تحقيق الأرباح. في ذلك الوقت، لم يكن كثيرٌ من الناس يتحدثون عن تأثير الاحترار العالمي في نهر السند. إذ لم يتضح نطاق المشكلة حتى عام 2010؛ من خلال الفيضانات الشديدة وليس نقص المياه. وإذا كان مستقبل إجمالي التساقطات المطرية في منطقة الهيمالايا متقلبًا وغير مؤكد، فإن الأمطار الشديدة ظلت تسجل حدوثا متزايدًا. وعلى سبيل المثال، كان نهر السند في أغسطس 2010 قد امتلأ بالمياه الذائبة صيفًا، إذ ضربته أمطار موسمية غريبة الأطوار. تسببت تلك الأمطار الطوفانية (وبلغت كميتها في أماكن بعينها خلال بضع ساعات، ما يهطل في عام كامل) بحدوث فيضان النهر على ضفافه الممتدة على مجراه الجنوبي. توفي أكثر من 1600 شخص، وبلغت الأضرار 10 مليارات دولار. وتعليقًا على ذلك، قال "عثمان قاضي"، خبير غوث المنكوبين لدى "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، ويقيم في مدينة إسلام آباد: "لم نشهد قَط فيضانات من ذلك القبيل. لكنها ستصبح أكثر شيوعا؛ فالفيضانات المرتبطة بالتغير المناخي من أكبر المخاطر في هذا البلد".
وإليكم الاختلاف الأبرز منذ أن ألفت كتابي ذاك: إنه شبح التغير المناخي الذي يخيم الآن على جميع المناقشات بشأن مستقبل نهر السند. وقد أصبح هذا التحدي أعقد إلى أبعد حد، لأن السند وخمسة من روافده تشترك فيها الهند وباكستان، وهما جاران وعدوان منذ عام 1947، فيما تسيطر الصين على المنبع. عندما وصلت إلى التيبت عام 2006، صُدمت لمّا اكتشفت عدم وجود مياه في نهر السند: إذ كانت الصين قبل زمن قصير قد شيّدت سدودًا على روافد النهر العليا. لدى كل من الهند وباكستان والصين ساكنة ضخمة العدد، وأسباب جمّة لحماية مواردها المائية. ولدى البلدان الثلاثة سلاح نووي. نحن نتصور أن التغير المناخي يحدث على نحو تراكمي وبشكل غير محسوس تقريبًا؛ ولكنه على طول نهر السند، يمكن أن يؤدي إلى صراع يغير العالم بين عشية وضحاها.
مضى زمن كان البشر فيه ممتنين للغاية للأنهار، بل اتّخذوا منها آلهة وحسبما ورد في سِفر "الريجا فيدا"، أقدم نص باللغة السنسكريتية في الهند، فإن السند هو النهر الوحيد الذي كان يُعبَد بصفته إلهًا وإلهة معًا، أبًا وأمًا؛ ربما لأنه في هذا المكان -في "وادي السند"- أخذت الهندوسية شكلها الأول، كما يعتقد الخبراء. إلى الشمال من كانغرينبوك، ينبجس هذا النهر العظيم بهدوء من الأرض في شكل فقاعات، كما لو كانت تلك الإلهة ذات الأذرع الأربع تتنفس. يمتد السند غربًا عبر الجبال، على طول الجزء الأعلى للهند، وعبر الحدود المتنازع عليها، ليلج باكستان. وحيث تلتقي سلسلة الهيمالايا مع كاراكورام وهندوكوش، في كتلة من الحجر والجليد، ينعطف النهر بحدة يسارًا ليتدفق جنوبًا، على امتداد 1600 كيلومتر عبر سهول البنجاب والسند ليصب في بحر العرب. على بعد نحو 60 كيلومترًا إلى الشمال من ذلك المنعطف، في وادي "هونزا" وهو أحد روافد نهر السند، مشيت نحو "غولكين"، وهو نهر جليدي يحوي بساتين وقرى في كلا جانبيه. كان مسودًّا بفعل الأتربة والركام الذي يأتي من الجبال. وطأت قدماي شقوقًا ينبعث منها صرير؛ وبأصابعي لمست الجسم الجليدي لغولكين نفسه. من القمة، كان المنظر مبهجًا. قطع النهر البني الغزير طريقه عبر الوادي؛ وكانت الطريق السفلية المؤدية إليه مفروشة بحقول خضراء نضرة وبساتين بهيجة تُروى كل ورقة فيها بقنوات ري متصلة على نحو مباشر بذلك النهر الجليدي.
في شمال باكستان، تتعايش عقيدة التوحيد الإسلامية مع تبجيل الشامان قوةَ الأنهار الجليدية. قيل لي مرات عديدة أن غولكين كان نهرا جليديا ذكرًا، "يشق طريقه أسفل الوادي بحثًا عن شريكة" -أي: نهرًا جليديًا أنثى في طور الانحسار- وهو يؤدي رقصات غزل حبلى بالأسرار. قال أهالي المنطقة إن الأنهار الجليدية تمضي قدمًا على طول الوادي لأنها تزداد زخما وتكبر حجما. هذا صحيح؛ ولكن كما علمت لاحقًا من "بيثان ديفيز"، خبير جيولوجيا الأنهار الجليدية لدى "جامعة رويال هولواي" في لندن، يمكن أيضًا أن ينزلق نهر جليدي أسفل سفح تلة مثل زلاجة طفل، إذ يبدأ في الذوبان فيفقد تماسكه. قد يكون ذلك ما حدث في عام 2018 لِـ "شيشبر"، وهو نهر جليدي آخر مجاور؛ إذ طفق فجأة في الانزلاق نحو بلدة "حسن آباد"، متقدمًا بسرعة بلغت 37 مترًا في اليوم الواحد. "لقد بدا كالقطار"، على حد وصف "ديدار كريم"، عالم جيولوجيا من المنطقة. تدحرج شيشبر فوق قنوات الري واصطدم بجسر. وحين رأيته في شهر أكتوبر الماضي، كان قد تباطأ في تقدمه ليبلغ 30 سنتيمترًا في اليوم؛ وهو مع ذلك معدل سريع بالنسبة إلى نهر جليدي. في "حوض السند" الأعلى، لم تعد الأنهار الجليدية تتقدم أو تتراجع على نحو طبيعي. وقد انحسر نهرا "هوبر" و"باربو" الجليديان بسرعة كبيرة إلى درجة جُففت فيها منابع المستوطنات البشرية وشبكات الري التي شُيّدت بمشقة كبيرة. إذ تُرى منازل مهجورة على سفح الجبل وقد اكتست باللون البني الناعم نفسه للتلال الجافة. "كانوا يزرعون الحقول والأشجار هناك عندما كنت طفلا"، يقول "نيات علي"، جندي سابق عمره اليوم 60 عامًا. كشف هذا الأخير عن قائمة بأسماء المستوطنات المهجورة: شيشكين، هابا كون، حمدار، باربو غيرام.
يمثل ذوبان الأنهار الجليدية أيضًا تهديدًا أشد حدة. ففي بعض الأحيان تتجمع المياه الذائبة خلف سد من الركام الصخري أو الجليد، والذي يمكن أن ينفجر فيطلق "الفيضان المفاجئ للبحيرات الجليدية" (ويُعرف اختصارًا في اللغة الإنجليزية باسم "GLOF"). ففي عام 2018، في "وادي إشكومان"، غمر فيضانٌ قريتَي "باد سوات" و"بيلهانز". هنالك شعر "ناياب خان" -وعمره 48 عامًا- بأن الأرض تهتز؛ إذ "جلبت المياه الجلاميدَ الضخمة. وكانت هذه الجلاميد تتصادم. استمر ذلك 12 يومًا". خنق الركام نهر "إيميت"، مشَكلًا بحيرة جديدة بعمق ستة أمتار، دمرت منزله و 41 منزلا آخر. أسهم التغير المناخي في تعريض سبعة ملايين شخص في شمال باكستان لخطر تلك الفيضانات. قال "أشرف خان"، مُزارع تفاح ومعلم: "إن الأنهار الجليدية الثلاثة بالقرب من قرية 'باسو' هي التنانين الثلاثة. ونحن نعيش في أفواهها". في عام 2008، أطلق أحد هذه التنانين فيضانًا من نوع (GLOF) في فصل الشتاء، حين "يكون في العادة كل شيء متجمدا". وفي أغسطس الماضي، جرفت المياه الذائبة الصيفية فندقًا ومبنى تابعًا للمخابرات العسكرية الباكستانية وبستانًا. يمكن لأهالي قرية باسو، مثل جميع الناس في الشمال، رؤية المناخ وهو يتغير رأي العين. فالصيف حار جدا الآن إلى درجة أنهم ولأول مرة في حياتهم باتوا يشترون المراوح. أما شهور الشتاء فأكثر اعتدالا، وهو أمر يبدو أن جلهم يستحسنه. أما الباحثون عن الذهب ممن يهاجرون إلى هونزا موسميًا ويعيشون في خيام على طول النهر، فيستحسنون الطقس الأدفأ بل حتى الفيضانات. وأوضح "محبوب خان" أن "الفيضانات تستخرج معادن كثيرة من الصخور". كان هذا الرجل ينخل الرمال من مياه النهر المتجمدة، ثم يلفها بالزئبق السام في كفه لاستخراج شذرات الذهب. لم يكن يكترث للتغير المناخي.
ولقد دُهشت من قلة عدد الأشخاص الذين قابلتهم في شمال باكستان ممن يعرفون ما يُذيب أنهارهم الجليدية أو يلومون بقية العالم. لكن في أقصى الجنوب -حيث المدن الكبرى- يتبلور شعور بالظلم. تحتل باكستان، وهي دولة نامية يبلغ تعداد سكانها زهاء 230 مليون نسمة، المرتبة 144 فقط من أصل 192 دولة في نصيب الفرد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وتعليقًا على ذلك، قال لي "مالك أمين أسلم"، وزير التغير المناخي في باكستان: "ليس ذلك بسببنا، ولكننا نعاني تبعاته".
عندما تم إعلان الاستقلال في عام 1947، وأسفر تقسيم المستعمرة البريطانية القديمة عن إنشاء دولتي الهند وباكستان، حصلت كل منهما على حصة من نهر السند أقل مما كانت تطلب. يقع الامتداد الطويل المتدفق غربًا في الشمال بولاية جامو الأميرية السابقة وكشمير؛ وكلتا الدولتين الجديدتين أرادت كل ذلك. ولا تزال حدود كشمير مثار نزاع حاد بينهما. وباتجاه المصب في سهول البنجاب الخصبة، كان البريطانيون قد شيدوا سدودًا وحواجز مائية على نهر السند وروافده وقاموا بتحويل المياه من هذه المصادر إلى شبكة واسعة من قنوات الري. في البنجاب، اخترقت الحدود الجديدة خمسة روافد، مانحة باكستان جل المستوطنات الزراعية حوالي القنوات، ولم تترك للهند سوى المصادر المائية في فيروزبور، على نهر "سوتليج".
بسط المسؤولون من الجانب الهندي سلطتهم على الفور في ربيع عام 1948؛ إذ أغلقوا بوابات المصادر المائية. وقد قلل ذلك كثيرًا من تدفق المياه إلى باكستان. أعيد فتح البوابات بعد بضعة أسابيع. ولكن، كما أخبرني "ماجد أختر"، الجغرافي لدى "كلية كينغز" في لندن، فإن تلك التجربة من الإرادة الهندية الأحادية هي "منبع العنف" لدى المسؤولين الباكستانيين. في أكتوبر الماضي، هدد رئيس الوزراء الهندي، "ناريندرا مودي"، بقطع التدفق مرة أخرى. حصلت باكستان على تطمينات في عام 1960، عندما أقنع "البنك الدولي" البلدين بالتوقيع على "معاهدة مياه السند". قسمت المعاهدة حوض النهر، ومنحت مياه نهر السند ورافدين غربيين لباكستان، فيما حصلت الهند على الروافد الشرقية الثلاثة. ودفع المجتمع الدولي البلدين لبناء مزيد من السدود والقنوات. أكملت باكستان بناء "خزان تاربيلا" في عام 1976؛ وأتمت الهند "قناة إنديرا غاندي" -التي يبلغ طولها 640 كيلومترًا- في عام 1987، لنقل المياه والثورة الخضراء من البنجاب جنوبًا وحتى "صحراء ثار" في راجستان. يتفق المحللون في كلا البلدين على أن القنوات، بتوفيرها المياه الغزيرة بتكلفة منخفضة بشكل مصطنع، تشجع على الهدر. "إننا نزرع الأرز في الصحراء!"، يقول "علي توقير شيخ"، عضو "المجلس الوطني الباكستاني للتغير المناخي". ولكن "بعد مرور 100 عام، لا يمكننا الاستمرار في إلقاء اللوم على البريطانيين". وأضاف أن كبار المزارعين هم "النخبة السياسية ويرفضون ببساطة تسعير المياه". يصل نقص المياه على جانبي الحدود إلى مستويات الأزمة. في البنجاب بالهند، يدفع الدَّين زهاء ألف مزارع إلى الانتحار كل عام. فضخُّ المياه الجوفية باهض التكلفة؛ ويضطرون في كل عام إلى حفر آبار أعمق إذ يغور منسوب المياه الجوفية إلى 120 مترًا في بعض الأماكن. وزراعة الأرز هي سبب استنزاف المياه الجوفيـة، لأنه محصول متعطش للماء. وفي الوقت نفسه، يتم نقل مياه النهر بعيدا إلى أماكن تبلغ حتى راجستان.
عبـر حدود راجستـان، في إقليم السند الباكستـاني، سافرت إلى منطقة مروية بقناة في صحراء ثار. كـانت مياه الري هذه تأتي من مسافة تبعد نحو 300 كيلومتر؛ من حاجز مائي في "سوكور" على نهر السند، والذي بناه البريطانيون عام 1932. هنا، عند نهاية نظام هذه القناة، كانت النساء والأطفال في الحقول يحصدون الفلفل الباكستاني الأحمر الحار الشهير. في السوق المفتوحة للفلفل الحار في "كونري" -وهي الأكبر في باكستان- تهيجت عيناي وأنا أشاهد جبالا من هذا المحصول الأحمر الزاهي المعروض للبيع بالمزاد العلني. لكن الغلة في عام 2019 كانت هزيلة، كما أوضح ذلك "ميان سليم"، رئيس "جمعية مزارعي الفلفل الأحمر في السند"؛ إذ خفض الطقس الشديد الغلةَ بمقدار الثلثين. في شهر مايو وصلت درجة الحرارة إلى 47، فأدت إلى ذبول المحصول. قال سليم: "خلال 40 عامًا، لم أشعر بحرارة كهذه قَط". ثم شهدت "المطر في أكتوبر أول مرة في حياتي". تأخر القطف، ففسدت حبوب الفلفل. في قرية "رانو خان رحيمون"، تحدثت إلى مزارعين لا يمتلكون أرضًا، من الهندوس والمسلمين الذين يعيشون جنبًا إلى جنب في منازل مطلية ذات جدران طينية. يزرعون الفلفل الحار ومحاصيل تجارية، وكانوا يتحدثون ببلاغة عن مشكلتهم الكبرى: الماء. قال "أتام كومار"، وعمره 28 عامًا: "أحيانًا تأتي مياه القناة، وأحيانًا أخرى لا تأتي". استطـرد كومار قائلا: "إن المشكلة ثلاثية: ندرة مياه القناة، والأمطـار الموسمية الغزيرة غير المعتادة، وهذه المياه الجوفية المسمومــة التي نضـطر لشـربها". وأضـاف أن الآبـار تلـوثت بمياه الصرف من الحقول المسمَّدة. قام كومار بسحب قميص "سلام"، وهو صبي عمره 11 عامًا، ليريني ندبة من جراحة أجراها لاستئصال كلية. وقد خضع أربعة من أهالي القرية -البالغ تعدادهم 150 نسمة- لعملية إزالة كلية. قال كومار: "إن هذا السم يُقصّر حياتنا".
في صباح اليوم التالي، تناولت الشاي مع مالك أرض ووزير فدرالي سابق، ثم تحدثت إلى مدير مزرعة لفاكهة المانجو تبلغ مساحتها 2400 هكتار، حيث كان الخدم يروون بستان ورود في الصحراء. تأسف الرجلان على ما صار عليه الطقس من عدم انتظام في الآونة الأخيرة وهما يفتحان قنينات مياه من شركة "إيفيان". لكنهما لم يكونا قلقين بشأن نقص مياه القناة؛ فقد كان لهما من النفوذ ما يتيح لهما الحصول على كل حاجتهما من الماء. بعد غداء شهي في مزرعة المانجو، توقفت عند مستشفى القرية، حيث التقيت الطبيبة، "موال وقار". كانت تشعر باليأس من عدد مرضى الكلى وحصى المرارة. وكما يفعل المزارعون، فقد ألقت اللوم على مياه الشرب غير المفلترة والملوثة بالأسمدة. وتساءلَت: "مَن هنا يستطيع شراء قنينات المياه المعدنية؟".
تنتشر الميـاه المسمومـة على نطاق واسـع في باكستـان. وقد أفاد فريق بقيادة "جويل بودغورسكي"، من "المعهد الفدرالي السويسري للعلوم والتقنية المائية" في عام 2017، أن ما يصل إلى 60 مليون شخص في حوض السند ربما يشربون المياه الجوفية الملوثة بالزرنيخ. ويوجد الزرنيخ بشكل طبيعي في التربة؛ وقد يأتي أيضًا من الأسمدة إذ يتسرب إلى المياه الجوفية عن طريق الري الكثيف. قال "حسن عباس"، عالم الجيولوجيا المائية في البنجاب: "إن المناطق المروية بيئة ملائمة تمامًا للتسمم بالزرنيخ. ولقد سممنا أحد أكبر احتياطيات المياه الجوفية في العالم".
يوجد في باكستان أيضا أحد أعلى معدلات سوء التغذية لدى الأطفال في العالم؛ إذ يعاني ما لا يقل عن ثلث الأطفال في البلد هذه الحالة. وقال "دانيش مصطفى"، الجغرافي الباكستاني لدى "كلية كينغز" في مدينة لندن، إن أعلى المعدلات في هذا البلد على الإطلاق تسجَّل "في المناطق المروية"، حيث تعطي الممارسات الزراعيــة أولويــة للمحاصيـل الموجَّهة للتصدير على حساب الأمن الغذائي. وتعود كل هذه المشاكل إلى طريقة استخدام المياه في سهول السنـد. فقد جعـلت الســدودُ والحواجــز والقنوات المياهَ وفيرةً ورخيصة، على حين تحتجز كميات كبيرة من طمي النهر المشبع بالسماد في الخزانات. وجلبت الثورة الخضراء في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته المحاصيل الهجينة الأكثر تعطشا للمياه، إلى جانب الأسمدة الكيميائية ومبيدات الآفات. ويتطلب الري الفيضي الكثير من كليهما، لأن المياه الراكدة هي ناقل للآفات الحشرية، ولأن الماء يصرّف المواد الكيميائية بعيدا إلى المياه الجوفية. والنتيجة -حسبما يقول عباس- هي أننا "نأخذ الآن مياهًا من النهر أكثر بعشرة أضعاف من حاجتنا الفعلية" وقد أصبحت المياه شحيحـة وملوثـة في أرض كانت فيها وفيرة ونظيفة ذات زمن مضى.
وعلى غرار العديد من خبراء المياه الذين تحدثت إليهم، يدعو عباس إلى إجراء إصلاح جذري للنظام المائي. فلكل من باكستان والهند تقاليد قديمة في استغلال المياه، تتكيف مع إيقاعات النهر والأمطار؛ لكنها ظلت تُتَجاهل منذ الوجود البريطاني. وبدلًا من ذلك، ركز البلدان على المشروعات الهندسية الضخمة: السدود والقنـوات. ولـدى كـل منهـما خطـط لبناء سدود جـديـدة في حوض السند. يرى عباس أن التغير المناخي قد يكون نعمة لباكستان بوصفه حافزًا لإعادة التفكير في النظام المائي. يمكن أن يتحول البلد من السدود الكهرومائية باهظة الثمن إلى الطاقة الشمسية الرخيصة. ويمكنه أن يترك أسلوب الري الفيضي ويعتمد الري بالتنقيط من الأنابيب التي تستمد مياهها من طبقة مياه جوفية غير ملوثة تحت نهر السند. وأخيرًا، يمكنه استصلاح الأراضي الرطبة والغابات في ممر على طول نهر السند وروافده، والتي من شأنها امتصاص مياه الفيضانات، ومنه تجنب تكرار كارثة عام 2010، وفي الوقت نفسه إعادة ملأ طبقات المياه الجوفية. توفر السدود والخزانات لباكستان إمدادات لمدة 30 يوما فقط في فترة الجفاف؛ ويقول عباس إن طبقة المياه الجـوفية للسنـد تحـوي وحـدها كمـية كـافيـة مـن الماء لثلاثة أعوام. ويعتقد عباس أن جمع مياه الأمطار ومياه النهر قد يعيد ملء طبقة المياه الجوفية تحت كراتشي، العاصمة التجارية لباكستان. وهي إذ تقع على حافة "دلتا السند"، فإنها واحدة من أكبر المدن في العالم التي تعاني الإجهاد المائي: إذ استنزف خمسة عشر مليون شخص طبقة مياهها الجوفية. وتعد "بحيرة كينجهار"، وهي خزان يتغذى من نهر السند ويبعد عن كراتشي 100 كيلومتر، أقرب مصدر مياه للمدينة.
ما إن اقترب النهر من البحر حتى صار غير موجود تقريبا. في زقاق بقرية "القوط إبراهيم حيدري"، وهي قرية لصيد الأسماك بالقرب من كراتشي، مررت بصف من النساء ينتظرن بأوعيتهن الفارغة شاحنة ذات صهريج. قلن لي إنهن ينتظرن ههنا منذ ثلاثة أيام. هذه المشاهد شائعة في الأحياء منخفضة الدخل هنا. فالأغنياء يأخذون حصة الأسد من المياه العذبة من نهر السند وبحيراتها، وغالبا ما يشترونها بصفة غير قانونية. أما الفقراء فينتظرون في الطابور أو يشترون المياه المالحة رخيصة الثمن. كثيرٌ من سكان تلك القرية هم مهاجرون من الدلتا. وقد دُمر موطن أجدادهم من اتجاهين اثنين. فمنذ بناء "سد غلام محمد" عام 1955، تدفق نهر السند إلى البحر بشكل ضعيف ومتقطع؛ وفي المقابل -بفعل التغير المناخي- ارتفع منسوب البحر ليلتقي بالنهر ويجعله مالحًا في أماكن أبعد فأبعد باتجاه منبع النهر.
عند غروب الشمس، وقفت لدى البحر أرقب مراكب الصيد الخشبية الجميلة وهي تصل إلى الميناء. وكمثل الشاحنات الباكستانية، فقد طُليت المراكب بفوضى من الألوان، وزينتها رسوم الزهور والأسماك. نشأ "محمد علي شاه"، رئيس "منتدى الصيادين الباكستانيين"، هنا وسبح في هذا البحر عندما كان طفلًا. قال إنه لن يدع أحفاده يفعلون ذلك؛ فالمياه ملوثة للغاية. يقود هذا المنتدى حملة من أجل سن قانون يمنح الشخصية -والحقوق- لنهر السند. أراني شاه مسودة من القانون ورد فيها أن السند "أعجوبة بيئية" ذات "قيمة، بصرف النظر عن فائدتها للبشر". وتشير المسودة إلى أن القرآن الكريم يقول إن الأرض كلها "مسجد"، وتقترح افتحاص المشروعات المائية، ومراقبة ضوابط التلوث، وإنشاء صندوق لاستصلاح النهر. إن مشروع القانون هذا جذري للغاية، لذا يُستبعَد أن يصبح قانونًا فعليًا. لكنّ شيئًا ما يحتاج إلى التحول على طول نهر السند؛ فشيء مثل التقديس القديم ينبغي أن يعود. أما البديل الحالي، الذي يستمر فيه تبديد النهر وتزيد فيه آلهة الطقس الجديدة الطين بلة، فهو مخيف جدا إلى درجة لا يمكن حتى تصور مآلها.